المسيح الطبيب المعلم

لم يفتتح المسيح خدمته في الجليل بالمعجزات، بل كان يكرز في مجامعهم بالخبر السار، بشارة ملكوت الله. ولم تكن لهجة كرازته لهجة التخويف والتأنيب، بل لهجة المخلِّص المحب الذي أتى من السماء ليعلن محبة الله للخطاة، ويؤسس ملكوت البر والسلام والفرح، فمجَّده الجميع رغم علمهم بأصله الفقير.

وقد وعظ المسيح عن »اكتمال الزمان« إشارة إلى النبوات القديمة التي تختصُّ بظهوره. وهو »ملء الزمان« الذي ذكره الرسول بولس (غلاطية 4:4). ولذلك اتفق وعظه مع وعظ المعمدان. »قد اقترب ملكوت السموات. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل«. أي بالبشارة بمجيء المسيح ملك هذا الملكوت.

شفاء ابن خادم الملك

»فَجَاءَ يَسُوعُ أَيْضاً إِلَى قَانَا الْجَلِيلِ، حَيْثُ صَنَعَ الْمَاءَ خَمْراً. وَكَانَ خَادِمٌ لِلْمَلِكِ ابْنُهُ مَرِيضٌ فِي كَفْرِنَاحُومَ. هذَا إِذْ سَمِعَ أَنَّ يَسُوعَ قَدْ جَاءَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجَلِيلِ، انْطَلَقَ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَنْزِلَ وَيَشْفِيَ ابْنَهُ لِأَنَّهُ كَانَ مُشْرِفاً عَلَى الْمَوْتِ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: »لَا تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!« قَالَ لَهُ خَادِمُ الْمَلِكِ: »يَا سَيِّدُ، انْزِلْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ابْنِي«. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: »اذْهَبْ. اِبْنُكَ حَيٌّ«. فَآمَنَ الرَّجُلُ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي قَالَهَا لَهُ يَسُوعُ، وَذَهَبَ. وَفِيمَا هُوَ نَازِلٌ اسْتَقْبَلَهُ عَبِيدُهُ وَأَخْبَرُوهُ قَائِلِينَ: »إِنَّ ابْنَكَ حَيٌّ«. فَاسْتَخْبَرَهُمْ عَنِ السَّاعَةِ الَّتِي فِيهَا أَخَذَ يَتَعَافَى، فَقَالُوا لَهُ: »أَمْسٍ فِي السَّاعَةِ السَّابِعَةِ تَرَكَتْهُ الْحُمَّى«. فَفَهِمَ الْأَبُ أَنَّهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ الَّتِي قَالَ لَهُ فِيهَا يَسُوعُ إِنَّ ابْنَكَ حَيٌّ. فَآمَنَ هُوَ وَبَيْتُهُ كُلُّهُ. هذِهِ أَيْضاً آيَةٌ ثَانِيَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ لَمَّا جَاءَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجَلِيلِ« (يوحنا 4:4

54).

وبعد سنة كرّر المسيح زيارته لقانا الجليل محل معجزته الأولى، حيث صنع معجزته الثانية. نقول إنه أجرى المعجزة الثانية في قانا، ولكن الذي نال الشفاء لم يكن في قانا، فإن المسيح وهو في قانا شفى إنساناً في كفر ناحوم على بُعْد يوم كامل. فقد جاء إلى المسيح ذات يوم إلى قانا أحد رجال بلاط الملك هيرودس أنتيباس وكان يسكن في كفر ناحوم التي تبعد ساعات قليلة عن العاصمة طبرية. ومع أن المسيح لم يكن قد صنع بَعْدُ معجزة شفاء في الجليل، إلا أنه لما اشتدَّ مرض ابن هذا الرجل، وأشرف على الموت، وفرغت كل الوسائط لشفائه، افتكر في المسيح، واستعلم عن محل وجوده، فلما عرف أنه في قانا صعد إليه، وطلب منه أن ينزل معه إلى كفر ناحوم ليشفي ابنه.

وبما أن رجل البلاط الملكي يكون مرعيَّ الجانب، معتاداً أن يحصل على مطالبه بسهولة، تصوَّر أن المسيح سيلبّي طلبه حالاً بكل احترام، ويحسبه شرفاً عظيماً أن يدعوه رجلٌ مثله ليشفي ابنه، وظن أن المسيح يتمنَّى فرصة كهذه ليُظهر فيها قوته العجيبة. أما أفكار المسيح فليست هكذا، فقد قاد الرجل إلى التذلُّل وانكسار القلب لأجل الخير، لأن البركات الإلهية هي للمتواضعين. وقصد أيضاً أن يعزّز مكانه كممثل الإله العظيم، وإنْ كانت أحواله الخارجية خالية من إمارات العظمة، فقال للرجل: »لا تؤمنون إنْ لم تروا آيات وعجائب«. أي أنه لا يريد الإيمان الناتج عن رؤية العجائب، بل الذي يأتي نتيجة ما يرونه فيه ويسمعونه من التعليم والصفات والأعمال الحسنة الطبيعية.

أما رجل البلاط فلم يأته صبرٌ على هذا الكلام، لأن ابنه كان مشرفاً على الموت، فألحَّ عليه قائلاً: »يا سيد، انزل قبل أن يموت ابني«. فاستجاب المسيح جوهر طلبه لا حرفيّته، لم ينزل معه لكنه شفى ابنه. وبدلاً من الذهاب معه قال له »اذهب، ابنك حي«. فآمن الأب إيماناً عجيباً بأن المسيح يقدر أن يشفي شخصاً عن بُعد، دون أن يلمسه أو يكلمه أو يراه، فاتَّجه إلى بيته. وبينما هو في الطريق لاقاه عبيده المسرعون إليه إلى قانا، وبشَّروه بشفاء ابنه الفجائي في كفر ناحوم. ولما دقَّق الأب في معرفة موعد شفاء ولده، اتَّضح له أن ابنه شُفي »في تلك الساعة التي قال له فيها يسوع إن ابنك حي«. فزاد إيمانه، وشاركه كل أهل بيته في إيمانه الجديد، لأن التأثير الديني عندما يكون قوياً لا بد أن يتجاوز من المؤمن إلى أعضاء أسرته.

تحوّلت مصيبة هذا الرجل في مرض ابنه الشديد إلى بركة روحية عظيمة جداً. ومن قلب مصيبته خرج خلاص أبدي له ولأهل بيته، لأن الآب السماوي في حكمته وحبه يريد أن تأتي كل المصائب بالبركات.

تعليم في الناصرة

»وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ حَيْثُ كَانَ قَدْ تَرَبَّى. وَدَخَلَ الْمَجْمَعَ حَسَبَ عَادَتِهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَامَ لِيَقْرَأَ، فَدُفِعَ إِلَيْهِ سِفْرُ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ. وَلَمَّا فَتَحَ السِّفْرَ وَجَدَ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ مَكْتُوباً فِيهِ: »رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لِأَنَّهُ مَسَحَنِي لِأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لِأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لِأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالْإِطْلَاقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ«. ثُمَّ طَوَى السِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْخَادِمِ وَجَلَسَ. وَجَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْمَجْمَعِ كَانَتْ عُيُونُهُمْ شَاخِصَةً إِلَيْهِ. فَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: »إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ«. وَكَانَ الْجَمِيعُ يَشْهَدُونَ لَهُ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ كَلِمَاتِ النِّعْمَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ فَمِهِ، وَيَقُولُونَ: »أَلَيْسَ هذَا ابْنَ يُوسُفَ؟« فَقَالَ لَهُمْ: »عَلَى كُلِّ حَالٍ تَقُولُونَ لِي هذَا الْمَثَلَ: أَيُّهَا الطَّبِيبُ اشْفِ نَفْسَكَ. كَمْ سَمِعْنَا أَنَّهُ جَرَى فِي كَفْرِنَاحُومَ، فَافْعَلْ ذلِكَ هُنَا أَيْضاً فِي وَطَنِكَ، وَقَالَ: »الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ مَقْبُولاً فِي وَطَنِهِ. وَبِالْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ أَرَامِلَ كَثِيرَةً كُنَّ فِي إِسْرَائِيلَ فِي أَيَّامِ إِيلِيَّا حِينَ أُغْلِقَتِ السَّمَاءُ مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ، لَمَّا كَانَ جُوعٌ عَظِيمٌ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا، وَلَمْ يُرْسَلْ إِيلِيَّا إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا، إِلَّا إِلَى أَرْمَلَةٍ، إِلَى صِرْفَةِ صَيْدَاءَ. وَبُرْصٌ كَثِيرُونَ كَانُوا فِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِ أَلِيشَعَ النَّبِيِّ، وَلَمْ يُطَهَّرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلَّا نُعْمَانُ السُّرْيَانِيُّ«. فَامْتَلَأَ غَضَباً جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْمَجْمَعِ حِينَ سَمِعُوا هذَا، فَقَامُوا وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ، وَجَاءُوا بِهِ إِلَى حَافَّةَِ الْجَبَلِ الَّذِي كَانَتْ مَدِينَتُهُمْ مَبْنِيَّةً عَلَيْهِ حَتَّى يَطْرَحُوهُ إِلَى أَسْفَلُ. أَمَّا هُوَ فَجَازَ فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى« (لوقا 4:16-30).

عاد المسيح من قانا إلى الناصرة، بعد غيابه عنها نحو سنة وربع. وقد جرت خلال هذه الأشهر حوادث غيّرت هيئته وحركاته تغييراً ظاهراً، فرآه مواطنوه كأنه شخص جديد. ولأنهم قد سمعوا خبر معجزاته في بلاد أخرى، توقَّعوا أن يفعل مثلها، وأكثر منها في بلده وبين الأقرباء والأصدقاء. أما هو فما كان يهتم بالمعجزات بل بالتعليم، فقدّم عظته الأولى أمام جمهور في مجمعهم في يوم سبت. قال البشير إنه: »دخل المجمع حسب عادته«. لأن زيارته في المجمع في بلده مدة نحو ثلاثين سنة تُعَدُّ بالألوف. ولما دخل المجمع رأى الهيئة المألوفة وسمع الصلاة القانونية. لكن لما جاء وقت القراءة من الأسفار النبوية، وقف إعلاناً لاستعداده أن يقرأ، إنْ سمح له رئيس المجمع. وقد كان، فأعطوه الدَّرْجَ المقدس الذي فيه سفر إشعياء النبي... نرجّح أن الجزء الذي فتحه وقرأه هو الذي كان معيّناً لذلك اليوم، وأن ملائمة هذا الجزء لمقصده كان من تدبير العناية الإلهية. دارت نبوَّة هذا الجزء عن غرض مجيء المسيح وعن طبيعة ملكوته الذي نادى باقترابه منهم. وأشار أولاً إلى المسحة التي تعطيه لقب المسيح، لأن الله مسحه نبياً وكاهناً وملكاً، فوظيفته كالمسيح هي أن يبشر المساكين ببشارة مضمونها شفاء منكسري القلوب، وإطلاق المأسورين، وتفتيح أعين العمي، وتحرير المنسحقين، والكرازة »بسنة الرب المقبولة«.

أما »سنة الرب المقبولة« فهي سنة اليوبيل التي تجيء مرة كل خمسين سنة، وربما اتّفق وقوعها في تلك السنة. وقد ظنَّ سامعوه أن إطلاق المأسورين وتحرير المنسحقين هو التخلُّص من النير الروماني والعبودية لملك وثني، أما عند المسيح فسنة الرب المقبولة ليست سنة واحدة من كل خمسين سنة، بل هي تشمل كل السنين.

ولم يكن النير الذي أتى المسيح ليخلّص الناس منه نيراً سياسياً زمنياً، بل نير إبليس الذي بسببه وقع عليهم نير الرومان. لأن عبيد إبليس لا يمكن أن يَسْلموا من العبودية الجسدية، إذْ هي نتيجة العبودية الروحية لإبليس. فإنْ أنقذهم مسيحهم من نير جسدي يعرفونه، فلا بد أن يقعوا تحت نيرٍ آخر أكبر منه. وإذْ كان المسيح يعلم هذا جيداً فقد جاء ليخلّصهم من نير إبليس أولاً، فإنْ قبلوه يخلّصهم أيضاً من نير الرومان، ومن كل نير إلا نيره الهيّن، ومن كل حمل إلا حمله الخفيف.

كانت العادة عند اليهود أن القارئ الذي يريد أن يشرح الجزء الذي قرأه يعلن ذلك بجلوسه أمام الجمهور، عند انتهائه من القراءة. فلما طوى المسيح السفر وسلّمه للخادم، جلس. فتحولت إليه أبصار الجمهور، لأنهم كانوا يعرفون ابن بلدتهم شخصياً. وقد زاد احترامهم له بسبب سماعهم عنه الأمور الكثيرة العظيمة مدة غيابه، فابتدأ وعظه بقوله: »اليوم قد تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم«. بهذا الكلام قدَّم ذاته لهم كمسيحهم، وفي الوقت ذاته لاشى كل آمالهم الزمنية إنْ قبلوه كمسيح. ثم تابع كلامه المؤثر. وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه، ويقولون: »أليس هذا ابن يوسف؟«.

من القول »كلمات النعمة« عرفنا نسق وعظه، فقد كان تعليمه كالماء البارد للظمآن، لأنه اهتم أن يعظ بالبشارة بملكوت جديد روحي جاء هو ليعلنه - وهو يعلم أن أفكار الجمهور لا تزال بعيدة عن أفكاره، وأن شهادتهم لكلمة النعمة من فمه شهادة سطحية، وأنهم يريدون الملكوت الزمني والمنافع المادية والمجد العالمي والاندهاش بمعجزاته، فأتاهم أولاً بمثليْن من الأمثال الدارجة بياناً لمعرفته أفكارهم، إذ قال: »على كل حال تقولون لي هذا المثل: أيها الطبيب اشْفِ نفسك«. يعني أن وطنك الناصرة أحقُّ من قانا الجليل ومن كفر ناحوم، فلماذا لا يتمتع بمعجزاتك المدهشة والخير الناتج عنها؟ لكن إلى الآن لم نر منك معجزة. ثم أشار إلى المثل الثاني: »ليس نبيٌّ مقبولاً في وطنه«. يعني خذ وعظك للذين يجهلون أصلك الحقير، ولا تنتظر منا خضوعاً لتعاليمك الجديدة.

وغضب أهل الناصرة على المسيح، فأخذوه إلى حافة الجبل الذي بُنيت عليه مدينتهم ليطرحوه إلى أسفل، فترك مدينته الناصرة، واتّجه إلى كفر ناحوم.

ولا بد أن المسيح حزن على أهل بلده، لأنهم لم يقبلوا بشارة النعمة ورفضوا مخلّصهم الوحيد. تُرى هل بكى على الناصرة وهو يتركها كما بكى على أورشليم؟ وكيف لا يحزن وهو يترك وطنه تركاً نهائياً، بعد كل أتعابه فيه، وبعد تأثير قدوته وكلامه بين قومه؟.. لم يأخذ تلميذاً واحداً من الناصرة، حتى ولا من إخوته.