الفصل الثالث

الأقوال والآراء في أهل السنّة
حول التحريف وأحاديثه



( 214 )



( 215 )


لقد تقدّم ذكر الأحاديث الدالّة على التحريف ... وعرفت من خلال ذلك أنّ القول بنقصان القرآن مضاف إلى جماعة كبيرة من صحابة رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وعلى راسهم :
عمر بن الخطّاب ، عثمان بن عفّان ، عبدالله بن العبّاس ، عبدالله بن عمر ، عبدالرحمن بن عوف ، اُبيّ بن كعب ، عبدالله بن مسعود ، زيد بن ثابت ، أبو موسى الأشعري ، خديفة بن اليمان ، جابر بن عبدالله ، زيد بن أرقم ، عائشة بنت أبي بكر ، حفصة بنت عمر ...
ومن مشاهير التابعين ... وعلى رأسهم :
سعيد بن جبير ، عكرمة ، الضحّاك ، سعيد بن المسّيب ، عروة بن الزبير ، محمد بن مسلم الزهري ، زرّ بن حبيش ، مجاهد ، الحسن البصري ...
وعرفت أنّ تلك الاحاديث مخرجة في أهمّ كتب أهل السنّة وأسفارهم ، ومن أشهرها :
الموطّأ ، صحيح البخاري ، صحيح مسلم ، صحيح الترمذي ، صحيح النسائي ، صحيح ابن ماجة ، المصنّف لابن أبي شيبة ، المسند لأحمد ، المستدرك للحاكم ، الجوامع الثلاثة للطبراني ، المسند لأبي يعلى ، السنن للبيهقي ، جامع الاصول ، فتح الباري ، إرشاد الساري ، المصاحف لابن الأنباري ، الدرّ المنثور ، كنز العمّال ، تاريخ دمشق ، تفسير الطبري ، تفسير الرازي ، تفسير القرطبي ، تفسير البغوي ، تفسير الخازن ، الكشّاف ، البحر المحيط تفسير ابن كثير ، مشكل


( 216 )


الآثار ، التسهيل لعلوم التنزيل ، البرهان في علوم القرآن ، مناهل العرفان في علوم القرآن ، الإتقان في علوم القرآن ، وغيرها من الكتب في الحديث والفقه والتفسير ...

موقف علماء الشيعة من هذه الأخبار والآثار :
أمّا علماء الشيعة فإنّ موقفهم من هذه الأحاديث والآثار المنقولة عن الصحابة نفس الموقف الذي اتّخذوه تجاه الأحاديث المرويّة في كتبهم أنفسهم ... فإنّهم بعدما قالوا بعدم تحريف القرآن ـ للأدلّة القائمة عليه كتاباً وسنّة وإجماعاً ـ حملوا ما أمكن حمله من أحاديثهم المعتبرة سنداً على بعض الوجوه ، وطرحوا كل خبر غير معتبر سنداً أو غير قابل للتأويل ... كما عرفت في ( الباب الأول ) بالتفصيل .
وهذا هو النهج الذي ينبغي اتّباعه بالنسبة إلى أحاديث التحريف في كتب أهل السنّة ... وبه يتمّ الجمع بين الإعتقاد بعدم التحريف والإعتقاد بصحّة أخبار الصحيحين وغيرهما ... على اصول أهل السنّة ...
إنّ التأويل إمّا الحمل على التفسير ، وإمّا الحمل على اختلاف القراءة ، وإمّا الحمل على نسخ التلاوة . لكنّ التأويل على الوجهين الأوّلين لا يتمّ إلاّ بالنسبة إلى قليل جدّاً من الأحاديث ، والحمل على نسخ التلاوة غير تامّ صغروياً وكبروياً ، كما ستعرف في « الفصل الرابع » .
فلا مناص من الردّ والتكذيب ... ولا مانع ، إلاّ ما اشتهر بينهم من عدالة جميع الصحابة وصحّة أخبار الصحيحين وأمثالها ... لكنّ هذين المشهورين لا أصل لهما ... كما ستعرف في « الفصل الخامس » .


( 217 )


هذه خلاصة الطريقة الصحيحة لعلاج هذه الأحاديث ، وعليها المحقّقون من أهل السنّة ، كما سيظهر في هذا الفصل والفصلين اللاحقين .

موقف أهل السنّة من هذه الأحاديث والآثار :
وأمّا أهل السنّة فالرواة لهذه الأحاديث منهم من يلتزم بصحّتها كأصحاب الصحاح الستّة وأمثالهم من أرباب الكتب المشهورة والمسانيد ، ومنهم من لا ندري رأيه فيها ... كما لا ندري أنّ القائلين بالحصّة يحملون تلك الآيات المحكيّة في هذه الأحاديث على النسخ ، أو يقولون بالتحريف تبعاً لمن قال به من الصحابة والتابعين ...
وفي المقابل طائفتان من المحدّثين والعلماء ؛ طائفة تقول بالتحريف صراحة ، أخذاً بالأحاديث الظاهرة فيه ، واقتداءاً بالصحابة المصرّحين به ، وطائفة تقول ببطلان الأحاديث وتردّها الردّ القاطع ...
فأهل السنّة بالنسبة إلى أحاديث التحريف على ثلاثة طوائف :

طائفة يروون التحريف ولا نعلم رأيهم فيه
وهم المحدّثون والعلماء الّذين يروون أحاديث التحريف وينقلونها في كتبهم الحديثية وغيرها ، ولا سبيل لنا إلى الوقوف على آرائهم في تلك الأحاديث ، فهل يقولون بصحّتها أولا ؟ وعلى الأول هل يحملونها على النسخ ؟ أو يقولون بالتحريف حقيقة ؟
وهؤلاء كثيرون ، بل هم أكثر رجال الحديث والمحدّثين والعلماء الرواة


( 218 )


والناقلين لهذه الأحاديث ...

طائفة يروونه ويقولون به :
وهم الّذين أوردوا الأحاديث والآثار الظاهرة أو الصريحة في نقصان القرآن من غير جواب أو تأويل ، وهؤلاء عدّة من العلماء وليس عددهم بقليل ...
فمثلاً :
يقول ابن جزي الكلبي في تفسيره : « والصابئون . قراءة السبعة بالواو ، وهي مشكلة ، حتى قالت عائشة : هي من لحن كتاب المصحف » (1) .
ـ « والمقيمين » منصوب على المدح بإضمار فعل ، وهو جائز كثيراً في الكلام ، وقالت عائشة : هو من لحن كتّاب المصحف ، وفي مصحف ابن مسعود : ( والمقيمون ) على الأصل » (2) .
ـ « إنّ هذان لساحران » قرىء : إنّ هذين ، بالياء ، ولا إشكال في ذلك ... وقالت عائشة رضي الله عنها : هذا ممّا لحن فيه كتاب المصحف » (3) .
ويقول الخطيب الشربيني في تفسيره :
« وحكي عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ وأبان بن عثمان : أنّ ذلك غلط من الكتاب ، ينبغي أن يكتب « والمقيمون الصلاة » . وكذلك قوله في سورة
____________
(1) التسهيل لعلوم التنزيل 1 : 173 وابن جزي الكلبي المالكي وصفه الداودي في طبقات المفسرين 1 : 101 بقوله : كان شيخاً جليلاً ورعاً زاهداً عابداً متقلّلاً من الدنيا وكان فقيهاً مفسّراً وله تفسير القرآن العزيز ، توفّي في حدود العشرين وستمّائة .
(2) التسهيل لعلوم التنزيل 1 : 164 .
(3) التسهيل لعلوم التنزيل 3 : 15 .


( 219 )


المائدة : ( إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والصابئون والنصارى ) وقوله تعالى : ( إنّ هذان لساحران ) قالا : ذلك خطأ من الكاتب ، وقال عثمان : إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها ، فقيل له : ألا تغيّره ؟! فقال : دعوه فإنّه لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً . وعامّة الصحابة وأهل العلم على أنّه صحيح » (1) .
وإذا ما قارنت بين هذا الموقف وموقف الطائفة الثالثة من هذه الأحاديث ، وأساليبهم في ردّها ، أمكنك نسبة القول بالتحريف إلى هذين العالمين الجليلين وأمثالهما من أهل السنّة ...

التصريح بوقوع التحريف
بل في علماء أهل السنّة من يعتقد بتحريف القرآن الكريم وينادي به بأعلى صوته ... إمّا اعتماداً على ما روي في كيفية جمع القرآن ، وإمّا اعتقاداً بصحّة كل ما اخرج في كتابي البخاري ومسلم ، وإمّا إنكاراً لنسخ التلاوة ... وعلى كلّ حال ... فقد ذهب جماعة منهم إلى القول بسقوط شيء من القرآن ، قال الرافعي ما نصّه : « ... فذهب جماعة من أهل الكلام ـ ممّن لا صناعة لهم إلاّ الظّن والتأويل واستخراج الأساليب الجدليّة من كلّ حكم وكلّ قول ـ إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيء ، حملاً على ما وصفوا من كيفيّة جمعه » (2) .
وقال القرطبي : « قال أبو عبيد : وقد حدّثت عن يزيد بن زريع ، عن عمران بن جرير ، عن أبي مجلز ، قال : طعن قوم على عثمان رحمه الله ـ بحمقهم ـ
____________
(1) السراج المنير 1 : 345 لمحمد بن أحمد الخطيب الشربيني الفقيه الشافعي المفسّر ، توفي سنة 977 ، له ترجمة في الشذرات 8 : 384 .
(2) إعجاز القرآن : 41 .


( 220 )


جمع القرآن ، ثمّ قرأوا بما نسخ » (1) .
وقال : « قال أبو عبيد : لم يزل صنيع عثمان ـ رضي الله عنه ـ في جمعه القرآن يعدّ له بأنّه من مناقبه العظام ، وقد طعن عليه فيه بعض أهل الزيغ ، فانكشف عواره ووضحت فضائحه » (2) .
وقال أيضاً : « قال الإمام أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الأنباري : ولم يزل أهل الفضل والعقل يعرفون من شرف القرآن وعلوّ منزلته ما يوجب الحقّ والإنصاف والديانة ، وينفون عنه قول المبطلين وتمويه الملحدين وتحريف الزائغين ، حتى نبغ في زماننا هذا زائغ زاغ عن الملّلة وهجم على الامّة بما يحاول به إبطال الشريعة التي لا يزال الله يؤيّدها ويثبت اسّها وينمي فرعها ويحرسها عن معايب اولي الجنف والجور ومكائد أهل العداوة والكفر .
فزعم أنّ المصحف الذي جمع عثمان رضي الله عنه ـ باتّفاق أصحاب رسول الله [ صلّى الله عليه وآله وسلّم ] على تصويبه فيما فعل ـ لا يشتمل على جميع القرآن ، إذ كان قد سقط منه خمسمائة حرف ، قد قرأت ببعضها وسأقرأ ببقيّتها ، فمنها [ والعصر ـ ونوائب الدهر ـ ] فقد سقط من القرآن على جماعة المسلمين « ونوائب الدهر » ومنها [ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّيّنت وظنّ أهلها أنّهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس ـ وما كان الله ليهلكها إلاّ بذنوب أهلها ـ ] فادّعى هذا الإنسان أنّه سقط عن أهل الإسلام من القرآن « وما كان الله ليهلكها إلاّ بذنوب أهلها » وذكر ممّا
____________
(1) الجامع لأحكام القرآن 1 : 84 .
(2) الجامع لأحكام القرآن 1 : 84 .


( 221 )


يدّعي حروفاً كثيرة ... » (1) .
ولقد نسب هذا القول إلى الحشوية من أهل السنّة والجماعة ـ وهم أصحاب أبي الحسن البصري ـ فإنّهم ذهبوا إلى وقوع التحريف في القرآن تغييراً ونقصاناً (2) .
وفي كلام النحّاس : إنّ العلماء تنازعوا حديث عائشة في الرضاع ، فردّه جماعة وصحّحه آخرون ، قال :
« وأمّا قول من قال : إنّ هذا كان يقرأ بعد وفاة رسول الله ـ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ـ فعظيم ... » وستأتي عبارته كاملة .
ومن الواضح : أنّه إذا كان يقرأ بعد وفاته ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في أصل القرآن وأنّه لا نسخ بعده ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بالإجماع ... فهو إذاً ساقط من القرآن ، فالقرآن محرّف ... ومن ثمّ استعظم النّحّاس هذا القول .
وأمّا توجيه البيهقي لهذا الحديث : فإقرار منه بأنّ هذا كان من القرآن حتى بعد وفاة النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وكان المسلمون يتلونه في أصل القرآن .
وزعمه : أنّ الآية كانت منسوخة على عهده ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وأنّ الذّين كانوا يتلونها لم يبلغهم النسخ ، عارٍ عن الصحّة ولا دليل يدلّ عليه ، على أنّا نقطع بأنّه كما كان النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ينشر سور القرآن وآياته ويأمر بقراءتها بمجّرد نزولها ، فإنّه كان عليه ـ على فرض وجود النسخ بصورة عامّة ـ أن يذيع ذلك بين الامّة ويبلّغهم جميعاً ليطّلع الكلّ على ذلك ، كما
____________
(1) الجامع لأحكام القرآن 1 : 81 ـ 82 .
(2) مجمع البيان وغيره .


( 222 )


كان يفعل بالنسبة إلى نشر الآيات والسور النازلة .
على أنّ كلامه يستلزم أن تكون الآية من القرآن وأن لا تكون منه في وقت واحد ، وهو باطل ... وسيأتي مزيد بحث حوله في « الفصل الرابع » .
وقال الشعراني (1) : « ولو لا ما يسبق للقلوب الضعيفة ووضع الحكمة في غير أهلها لبيّنت جميع ما سقط من مصحف عثمان » (2) .
وقال الزرقاني ـ في بيان الأقوال في معنى حديث نزول القرآن على سبعة أحرف ـ ما نصّه : « وهو : أنّ المراد بالأحرف : السبعة أوجه من الألفاظ المختلفة في كلمة واحدة ومعنى واحد ، وإن شئت فقل : سبع لغات من لغات العرب المشهورة في كلمة واحدة ومعنى واحد ، نحو : هلمّ وأقبل وتعال وعجّل وأسرع وقصدي ونحوي ، فهذه ألفاظ سبعة معناها واحد هو : طلب الإقبال .
وهذا القول منسوب لجمهور أهل الفقه والحديث ، منهم : سفيان ، وابنه وهب ، وابن جرير الطبري ، والطحاوي » .
قال : « إنّ أصحاب هذا القول ـ على جلالة قدرهم ونباهة شأنهم ـ قد وضعوا أنفسهم في مأزق ضيق ، لأنّ ترويجهم لمذهبهم اضطرّهم إلى أن يتورّطوا في أمور خطرها عظيم ، إذ قالوا : إنّ الباقي الآن حرف واحد من السبعة التي نزل عليها القرآن ، أمّا الستّة الاخرى فقد ذهبت ولم يعد لها وجود ألبتّة ، ونسوا أو تناسوا تلك الوجوه المتنوّعة القائمة في القرآن على جبهة الدهر إلى اليوم .
ثمّ حاولوا أن يؤيّدوا ذلك فلم يستطيعوا أن يثبتوا للأحرف السّتة التي
____________
(1) الشيخ عبد الوهاب بن أحمد الشعراني ، من فقهاء الحنفية ومن علماء المتصوّفين ، له مؤلفات كثيرة في الحديث والمواعظ والتراجم وغيرها من العلوم ، توفّي سنة 973 ، وله ترجمة في الشذرات : 8 : 372 وغيرها .
(2) الكبريت الاحمر ـ المطبوع على هامش اليواقيت والجواهر : 143 .


( 223 )


يقولون بضياعها نسخاً ولا رفعاً ، وأسلمهم هذا العجز إلى ورطة اخرى هي : دعوى إجماع الامّة على أن تثبت على حرف واحد وأن ترفض القراءة بجميع ما عداه ما الاحرف الستّة ، وأنّى يكون لهم هذا الإجماع ولا دليل عليه ؟!
هنالك احتالوا على إثباته بورطة ثالثة وهي : القول بأنّ استنساحخ المصاحف في زمن عثمان ـ رضي الله عنه ـ كان إجماعاً عن الامّة على ترك الحروف الستذة والإقتصار على حرف واحد هو الذي نسخ عثمان المصاحف عليه .
إلاّ إنّ هذه ثغرة لا يمكن سدّها ، وثلمة يصعب جبرها ، وإلاّ فكيف يوافق أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على ضياع ستّة حروف نزل عليها القرآن دون أن يبقوا عليها مع أنّها لم تنسخ ولم ترفع ؟!
وقصارى القول : إنّنا نربأ بأصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أن يكونوا قد وافقوا أو فكّروا فضلاً في أن يتآمروا على ضياع أحرف القرآن الستّة دون نسخ لها ، وحاشا عثمان ـ رضي الله عنه ـ أن يكون قد أقدم على ذلك وتزعّمه ... » (1) .
قلت : ومثل هذا كثير ، يجده المتتبّع لكلماتهم وآرائهم في كتب الفقه والحديث والتفسير والقراءات .
وعن الثوري (2) أنّه قال : « بلغنا أنّ ناساً من أصحاب النبي ـ صلًى الله عليه وآله وسلّم ـ كانوا يقرأون القرآن اصيبوا يوم مسيلمة فذهبت حروف من
____________
(1) مناهل العرفان 1 : 244 .
(2) سفيان بن سعيد الثوري ، الملقّب عندهم بـ « أمير المؤمنين في الحديث » والموصوف بـ « سيّد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى » وغير ذلك . أنظر ترجمته في حلية الأولياء 6 : 356 ، تهذيب التهذيب 4 : 111 ، تاريخ بغداد 9 : 151 ، وغيرها .


( 224 )


القرآن » (1) .
وقال ابن الخطيب في كتابه ( الفرقان ) (2) تحت عنوان « لحن الكتّاب في المصحف » : « وقد سئلت عائشة عن اللحن الوارد في قوله تعالى : ( إنّ هذان لساحران ) وقوله عزّ من قائل : ( والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ) وقوله جلّ وعزّ : ( إنّ الذّين آمنوا والّذين هادوا والصابئون ) . قالت : هذا من عمل الكتّاب ، أخطأوا في الكتاب .
وقد ورد هذا الحديث بمعناه بإسناد صحيح على شرط الشيخين .
وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي خلف ـ مولى بني جمع ـ أنّه دخل على عائشة فقال : جئت أسألك عن آية في كتاب الله تعالى كيف يقرؤها رسول الله ؟ قالت : أيّة آية ؟ قال : الّذين يأتون ما أتوا . أو : الّذين يؤتون ما آتوا ! قالت : أيّهما أحبّ إليك ؟ قال : والذي نفسي بيده ، لإحداهما أحبّ إليّ من الدنيا جميعاً . قالت : أيّتهما ؟ قال : الّذين يأتون ما أتوا . فقالت : أشهد أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كذاك كان يقرأها وكذلك انزلت ، ولكنّ الهجاء حرّف .
وعن سعيد بن جبير ، قال : في القرآن أربعة أحرف لحن : والصّابئون .
____________
(1) الدرّ المنثور 5 : 179 .
(2) طبع هذا الكتاب بمطبعة دار الكتب المصرية سنة 1367 ـ 1948 ، وصاحبه من الكتاب المصريّين المعاصرين ، وهو يشتمل على بحوث قرآنية في فصول تناول فيها بالبحث مسالة القرءآت ، والناسخ والمنسوخ ، ورسم المصحف وكتابته ، وترجمة القرآن إلى اللغات . إلى غير ذلك ، وله في هذا الكتاب آراء وأفكار أهمّها كثرة الخطأ في القرآن ووجوب تغيير رسمه وجعل ألفاظه كما ينطق بها اللسان وتسمعها الآذان ، فطلب علماء الأزهر من الحكومة مصادرة هذا الكتاب ، فاستجابت له وصادرته ، وسنذكر رأينا في خصوص ما ذكره حول خطأ الكتّاب ، في بحوثنا الآتية .


( 225 )


والمقيمين . فاصّدّق وأكن من الصالحين . إنّ هذان لساحران .
وقد سئل أبان بن عثمان كيف صارت : ( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ) ما بين يديها وما خلفها رفع وهي نصب ؟ قال :من قبل الكاتب ، كتب ما قبلها ثمّ سأل المملي : ما أكتب ؟ قال : أكتب المقيمين الصلاة ، فكتب ما قيل له لا ما يجب عربّيةً ويتعيّن قراءةً .
وعن ابن عبّاس في قول تعالى : ( حتى تستأنسوا وتسلّموا ) قال : إنّما هي خطأ من الكاتب ، حتى تستأذنوا وتسلّموا .
وقرأ أيضاً : أفلم يتبيّن الّذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً . فقيل له : إنّها في المصحف : ( أفلم ييأس ) ؟ فقال : أظنّ أن الكاتب قد كتبها وهو ناعس .
وقرأ أيضاً : ووصّى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه وكان يقول : إنّ الواو قد التزقت بالصاد .
وعن الضحّاك : إنّما هي : ووصّى ربّك ، وكذلك كانت تقرأ وتكتب ، فاستمدّ كاتبكم فاحتمل القلم مداداً كثيراً فالتزقت الواو بالصاد ، ثمّ قرأ : ( ولقد وصّينا الّذين اوتوا الكتاب من قبلكم وإيّاكم أن اتّقوا الله ) . ( ووصّينا الإنسان بوالديه ) . وقال : لو كانت « قضى » من الربّ لم يستطع أحد ردّ قضاء الربّ تعالى . ولكنّها وصيّة أوصى بها عباده .
وقرأ ابن عبّاس أيضاً : ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء . ويقول : خذوا الواو من هنا واجعلوها ها هنا عند قوله تعالى : ( الّذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم


( 226 )


الوكيل ) يريد بذلك أن تقرأ : والّذين قال لهم الناس .
وقرأ أيضاً : مثل نور المؤمن كمشكاة ، وكان يقول : هي خطأ من الكتاب ، هو تعالى أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة .
وذكر ابن أشتة بأنّ جميع ما كتب خطأ يجب أن يقرأ على صحّته لغةً لا على رسمه ، وذلك كما في « لا أوضعوا ، لا أذبحنّه » بزياده ألف في وسط الكلمة . فلو قرء ذلك بظاهر الخطّ لكان لحناً شنيعاً يقلب معنى الكلام ويخلّ بنظامه ، يقول الله تعال : ( إنّا نحن الذكر وإنّا له لحافظون ) .
ومعنى حفظ القرآن : إبقاء شريعته وأحكامه إلى يوم القيامة وإعجازه أبد الدهر ، بحيث يظلّ المثل الأعلى للبلاغة والرصانة والعذوبة ، سهل النطق على اللسان ، جميل الوقع في الآذان ، يملك قلب القارئ ولبّ السامع .
وليس ما قدّمنا من لحن الكتّاب في المصحف بضائره أو بمشكّك في حفظ الله تعالى له ، بل إنّ ما قاله ابن عبّاس وعائشة وغيرهما من فضلاء الصحابة وأجلاّء التابعين أدعى لحفظه وعدم تغييره وتبديله . وممّا لا شك فيه أنّ كتّاب المصحف من البشر ، يجوز عليهم ما يجوز على سائرهم من السهو والغفلة والنسيان . والعصمة لله وحده ، ومثل لحن الكتّاب كلحن المطابع ، فلو أنّ إحدى المطابع طبعت مصحفاً به بعض الخطأ ـ وكثيراً ما يقع هذا ـ وسار على ذلك بعض قرّاء هذا المصحف ، لم يكن ذلك متعارضاً مع حفظ الله تعالى له وإعلائه لشأنه » (1) .
قال : « وإنّما الذي يستسيغه العقل ويؤيّده الدليل والبرهان أنّه إذا تعلّم فرد الكتابة في امّة اميّة ، فإنّ تعلّمه لها يكون محدوداً ويكون عرضة للخطأ في وضع
____________
(1) الفرقان : 41 ـ 46 ملخصاً .


( 227 )


الرسم والكلمات ، ولا يصحّ والحال كما قدّمنا أن يؤخذ رسمه هذا انموذجاً تسير عليه الامم التي ابتعدت عن الاميّة بمراحل ، وأن نوجب عليها أخذه على علاّته وفهمه على ما فيه من تناقض ظاهر وتنافر بيّن ، وذلك بدرجة أنّ العلماء الّذين تخصّصوا في رسم المصحف لم يستطيعوا أن يعلّلوا هذا التباين إلاّ بالتجائهم إلى تعليلات شاذة عقيمة » (1) .
هذا ... ومن المناسب أن ننقل في المقام ما ذكره الحجّة شرف الدين بهذا الصدد ، فقد قال ما نصه :
« وما أدري ـ والله ـ ما يقولون فيما نقله عنهم في هذا الباب غير واحد من سلفهم الأعلام كالإمام أبي محمد بن حزم ، إذ نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري في ص 207 من الجزء الرابع من ( الفصل ) أنّه كان ويقول :
إنّ القرآن المعجز إنّما هو الذّي لم يفارق الله عزّ وجلّ قطّ ، ولم يزل غير مخلوق ولا سمعناه قطّ ولا سمعه جبرائيل ولا محمد عليهما السلام قطّ ، وإلى آخر ما نقله عن الإمام الأشعري وأصحابه ـ وهم جميع أهل السنّة ـ حتى قال في ص 211 ما هذا لفظة :
« وقالوا كلّهم : إنّ القرآن لم ينزل به قطّ جبرائيل على قلب محمد عليه الصلاة والسلام ، وإنّما نزل عليه شيء آخر هو العبارة عن كلام الله ، وإنّ القرآن ليس عندنا ألبتّة إلاّ على هذا المجاز ، وإنّ الذي نرى في المصاحف ونسمع من القرآن ونقرأ في الصلاة ونحفظ في الصدور ليس هو القرآن ألبتّة ، ولا شيء منه كلام الله ألبتة بل شيء آخر ، وإنّ كلام الله تعالى لا يفارق ذات الله عزّ وجلّ » .
ثمّ استرسل في كلامة عن الأشاعرة حتى قال في ص 210 : « ولقد أخبرني
____________
(1) الفرقان : 58 .


( 228 )


علي بن حمزة المرادي الصقلي : أنّه رأى بعض الأشعرية يبطح المصحف برجله ، قال : فأكبرت ذلك وقلت له : ويحك ! هكذا تصنع بالمصحف وفيه كلام الله تعالى ؟! فقال لي : ويلك ! والله ما فيه إلاّ السخام والسواد ، وأمّا كلام الله فلا » .
قال ابن حزم : « وكتب إليّ أبو المرحي بن رزوار المصري : أنّ بعض ثقات أهل مصر من طلاّب السنن أخبره : أنّ رجلاً من الأشعرية قال له مشافهة : على من يقول : إنّ الله قال : قل هو الله أحد الله الصمد ، ألف لعنة » إلى آخر ما نقله عنهم ، فراجعه من ص 204 إلى ص 226 من الجزء الرابع من ( الفصل ) ... » (1) .

طائفة يروون ويردّون أو يؤوّلون
وهم الّذين لم يأخذوا بما دلّت عليه تلك الأحاديث ولم يتّبعوا الصحابة فيما تحكيه عنهم تلك الآثار ، وهم بين رادّ عليها الردّ القاطع ، وبين مؤوّل لها على بعض الوجوه ... وقد انصبّت كلمات الردّ والنقد ـ في الأغلب ـ على الآثار المحكيّة ـ التي ذكرنا بعضها في الفصل الأول تحت عنوان « كلمات الصحابة والتابعين في وقوع الحذف والتغيير والخطأ في القرآن المبين » ـ بالطعن في الراوي أو الرواية أو الصحابي ... على تفاوت فيما بينها في المرونة والخشونة ...

ردّ أحاديث الخطأ في القرآن
قال الطبري بعد ذكر مختاره : « وإنّما اخترنا هذا على غيره لأنّه قد ذكر أنّ ذلك في قراءة اُبيّ بن كعب ( والمقيمين ) وكذلك هو في مصحفه فيما ذكروا ، فلو كان
____________
(1) أجوبة مسائل جار الله : 36 .


( 229 )


ذلك خطأ من الكاتب لكان الواجب أن يكون في كلّ المصاحف غير مصحفنا الذي كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابه بخلاف ما هو في مصحفنا ، وفي اتّفاق مصحفنا ومصحف اُبيّ ما يدلّ على أنّ الذي في مصحفنا من ذلك صواب غير خطأ . مع أنّ ذلك لو كان خطأ من جهة الخطّ لم يكن الّذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يعلّمون من علّموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن ، ولأصلحوه بالسنتهم ولقّنوه للامّة تعليماً على وجه الصواب ، وفي نقل المسلمين جميعاً ذلك ـ قراءة على ماهو به في الخطّ مرسوماً ـ أدلّ دليل على صحّة ذلك وصوابه ، وأن لا صنع في ذلك للكاتب » (1) .
وقال الداني : « فإن قال قائل : فما تقول في الخبر الذي رويتمره عن يحيى ابن يعمر وعكرمة مولى ابن عبّاس عن عثمان أنّ المصاحف لمّا نسخت عرضت عليه فوجد فيها حروفاً من اللحن ، فقال : أتركوها فإنّ العرب ستقيمها ـ أو ستعربها ـ بلسانها . إذ ظاهره يدلّ على خطأ في الرسم .
قلت : هذا الخبر عندنا لا يقوم بمثله حجّة ، ولا يصحّ به دليل من جهتين ، إحداهما : أنّه ـ مع تخليط في إسناده واضطراب في ألفاظه ـ مرسل ، لأنّ ابن يعمر وعكرمة لم يسمعا من عثمان شيئاً ، ولا رأياه ، وأيضاً ، فإنّ ظاهر ألفاظه ينفي وروده عن عثمان ، لما فيه من الطعن عليه ، مع محلّة من الدين ومكانه من الإسلام ، وشدّة اجتهاده في بذل النصيحة ، واهتباله بما فيه الصلاح للأمّة . فغير متمكّن أن يقول لهم ذلك وقد جمع المصحف مع سائر الصحابة الأخيار الأتقيار الأبرار نظراً لهم ليرتفع الإختلاف في القرآن بينهم ، ثمّ يترك لهم فيه مع ذلك لحناً وخطأً يتولّى تغييره من يأتي بعده ، ممّن لا شكّ أنّه لا يدرك مداه ولا يبلغ غايته ولا غاية من
____________
(1) تفسير الطبري 6 : 19 .


( 230 )


شاهد . هذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله ، ولا يحلّ لأحد أن يعتقده .
فإن قال : فما وجه ذلك عندك لو صحّ عن عثمان ؟
قلت : وجهه أن يكون عثمان أراد باللحن المذكور في التلاوة دون الرسم » (1) .
وقال الزمخشري : « ( والمقيمين ) نصب على المدح لبيان فضل الصلاة وهو باب واسع قد ذكره سيبويه على أمثله وشواهد ، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خطّ المصحف ، وربّما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الإختصاص من الإفتنان ، وغبّي عليه أنّ السابقين الأوّلين الّذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همّة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم ، وخرقاً يرفوه من يلحق بهم ... » (2) .
وقال الرازي : « وأمّا قوله : ( والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ) ففيه أقوال ؛ الأول : روي عن عثمان وعائشة أنّهما قالا : إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها . واعلم : أنّ هذا بعيد ، لأنّ هذا المصحف منقول بالنقل المتواتر عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه ؟! » (3) .
وقال الزمخشري في الآية ( ... حتى تستأنسوا ... ) بعد نقل الرواية عن ابن عبّاس فيها : « ولا يعول على هذه الرواية » (4) .
وقال الرازي فيها : « واعلم أنّ هذا القول من ابن عبّاس فيه نظر ، لأنّه
____________
(1) تاريخ القرآن ـ لمحمد طاهر الكردي ـ ص 65 عن المقنع .
(2) الكشّاف 1 : 582 .
(3) التفسير الكبير 11 : 105 ـ 106 .
(4) الكشاف 3 : 59 .


( 231 )


يقتضي الطعن في القرآن الذي نقل بالتواتر ، ويقتضي صحّة القرآن الذي لم ينقل بالتواتر ، وفتح هذين البابين يطرق الشكّ في كل القرآن ، وأنّه باطل » (1) .
وقال النيسابوري : « روي عن عثمان وعائشة أنّهما قالا : إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها ، ولا يخفى ركاكة هذا القول ، لأنّ هذا المصحف منقول بالتواتر عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه ؟! » (2) .
وقال ابن كثير في ( ... حتى تستأنسوا ... ) بعد نقل قول ابن عبّاس : « وهذا غريب جدّاً عن ابن عبّاس »(3) .
وقال الخازن في ( ... والمقيمين ... ) : « اختلف العلماء في وجه نصبه ، فحكي عن عائشة وأبان بن عثمان : أنّه غلط من الكتّاب ، ينبغي أن تكتب : والمقيمون الصلاة . وقال عثمان بن عفّان : إنّ في المصحف لحناً ستقيمه العرب بألسنتهم ، فقيل له : أفلا تغيّره ؟! فقال : دعوه ، فإنّه لا يحلّ حراماً ولا يحّرم حلالاً . وذهب عامّة الصحابة وسائر العلماء من بعدهم إلى أنّه لفظ صحيح ليس فيه خطأ من كاتب ولا غيره .
واجيب عمّا روي عن عثمان بن عفّان وعن عائشة وأبان بن عثمان : بأنّ هذا بعيداً جدّاً ، لأنّ الّذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والفصاحة والقدوة على ذلك ، فكيف يتركون في كتاب الله لحناً يصلحه غيرهم ، فلا ينبغي أن ينسب هذا لهم ، قال ابن الأنباري : ما روي عن عثمان لا يصحّ لأنّه غير متصل ، ومحال أن يؤخّر
____________
(1) التفسير الكبير 23 : 196 .
(2) تفسير النيسابوري 6 | 23 هامش الطبري .
(3) تفسير ابن كثير 3 : 280 .


( 232 )

عثمان شيئاً فاسداً ليصلحه غيره . وقال الزمخشري في الكشّاف : ولا يلتفت إلى ما زعموا ... » (1) .
وقال في ( ... حتى تستأنسوا ... ) « وكان ابن عبّاس يقرأ : حتى تستأذنوا . ويقول : تستأنسوا خطأ من الكاتب ، وفي هذه الرواية نظر لأنّ القرآن ثبت بالتواتر » (2) .
وقال الرازي في الآية ( إن هذان لساحران ) :
« القرءة المشهورة إنّ هذان لساحران . ومنهم من ترك هذه القراءة ، وذكروا وجوهاً اخر [ فذكرها ووصفها بالشذوذ ، ثمّ قال : ] واعلم أنّ المحقّقين قالوا : هذا القراءات ال يجوز تصحيحها ، لأنّها منقولة بطريق الآحاد والقرآن يجب أن يكون منقولاً بالتواتر ، إذ لو جوّزنا إثبات زيادة في القرآن بطرق الآحاد لما أمكننا القطع بأنّ هذا الذي هو عندنا كل القرآن ، لأنّه لمّا جاز في هذه القراءات أنّه مع كونها من القرآن ما نقلت بالتواتر جاز في غيرها ذلك ، فثبت أنّ تجويز كون هذه القراءات من القرآن يطرق جواز الزيادة والنقصان والتغيير إلى القرآن ، وذلك يخرج القرآن عن كونه حجّة ، ولمّا كان ذلك باطلاً فكذلك ما أدّى إليه ، وأمّا الطعن في القراءة المشهورة فهو أسوأ ممّا تقدّم من وجوه :
أحدها : أنّها لمّا كان نقل هذه القراءة في الشهرة كنقل جميع القرآن فلو حكمنا ببطلانها جاز مثله في جميع القرآن ، وذلك يفضي إلى القدح في التواتر وإلى القدح في كلّ القرآن ، وأنّه باطل ، وإذا ثبت ذلك امتنع صيرورته معارضاً بخبر الواحد المنقول عن بعض الصحابة .
____________
(1) تفسير الخازن 1 : 422 .
(2) تفسير الخازن 3 : 323 .


( 233 )


وثانيها : أنّ المسلمين أجمعوا على أنّ ما بين الدفّتين كلام الله تعالى ، وكلام الله تعالى لا يجوز أن يكون لحناً وغلطاً ، فثبت فساد ما ينقل عن عثمان وعائشة أن فيه لحناً وغلطاً .
وثالثها : قال ابن الأنباري : إنّ الصحابة هم الأئمة والقدوة ، فلو وجدوا في المصحف لحناً لما فوّضوا إصلاحه إلى غيرهم من بعدهم ، مع تحذيرهم من الإبتداع وترغيبهم في الإتّباع .. » (1) .
وقال أبو حيّان الأندلسي في ( ... والمقيمين ... ) بعدما ذكر عن عائشة وأبان بن عثمان فيها : « ولا يصحّ عنهما ذلك ، لأنّهما عربيّان فصيحان » (2) .
وقال القنوجي : « وعن عائشة أنّها سئلت عن ( المقيمين ) وعن قوله ( إنّ هذان لساحران ) و ( الصابئون ) في المائدة ، قالت : يا ابن أخي ، الكتّاب أخطأوا .
وروي عن عثمان بن عفّان أنّه فرغ عن المصحف واتي به قال : أرى فيه شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنتها ، فقيل له : ألا تغيّره ؟! فقال : دعوه ، فإنّه لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً .
قال ابن الأنباري : وما روي عن عثمان لا يصحّ ، لأنّه غير متّصل ، ومحال أن يؤخّر عثمان شيئاً فاسداً ليصلحه غيره ، ولأنّ القرآن منقول بالتواتر عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه ؟!
وقال الزمخشري في الكشّاف : ولا يلتفت ... » (3) .
____________
(1) التفسير الكبير 22 : 74 .
(2) البحر المحيط 3 : 394 .
(3) فتح البيان 6 : 407 ـ 408 .


( 234 )


وقال في ( إنّ هذان لساحران ) : « فهذه أقوال تتضمّن توجيه هذه القراءة بوجه تصحّ به وتخرج به عن الخطأ ، وبذلك يندفع ما روي عن عثمان وعائشة أنّه غلط من الكاتب للمصحف » (1) .
وقال الآلوسي في ( والمقيمين ) : « ولا يلتفت إلى من زعم أنّ هذا من لحن القرآن وأنّ الصواب ( والمقيمون ) بالواو كما في مصحف عبدالله وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي ، إذ لا كلام في نقل النظم متواتراً فلا يجوز اللحن فيه أصلاً . وأمّا ما روي أنّه لمّا فرغ من المصحف أتي به إلى عثمان فقال : قد أحسنتم وأجملتم ... فقد قال السخاوي : إنّه ضعيف ، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع ، فإنّ عثمان جعل للناس إماماً يقتدون به ، فكيف يرى فيه لحناً ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها ، وقد كتب عدّة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلاً إلاّ فيما هو من وجوه القراءات . وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع ـ وهم هم ـ كيف يقيمه غيرهم ؟! » (2) .
أقول : فهذه كلمات في ردّ هذه الأحاديث ، ويلاحظ أنّ بعضهم يكتفي « بالاستبعاد » ، وآخر يقول : « فيه نظر » ، وثالث يقول : « لا يخفى ركاكة هذا القول » ، ورابع يقول : « لا يلتفت ... » ، وخامس يقول : « غريب » ...
ومنهم من يتجرّأ على التضعيف بصراحة فيقول : « لا يصحّ » وفي ( الإتقان ) عن ابن الانباري أنّه جنح إلى تضعيف هذه الروايات (3) وعليه الباقلاني في « نكت الإنتصار » (4) وجماعة .
____________
(1) فتح البيان 6 : 49 .
(2) روح المعاني 6 : 13 ـ 14 .
(3) الإتقان 2 : 329 .
(4) نكت الانتصار : 127 .


( 235 )


لكنّ بعضهم يستدلّ ويبرهن على بطلان هذه الأحاديث ، لأنّ القول بها يفضي إلى القدح في تواتر القرآن ، والطعن في الصحابة وخاصة في جامعي المصحف وعلى رأسهم عثمان ، فهذه الأحاديث باطلة لاستلزامها للباطل ...
وجماعة ذهبوا إلى أبعد من كل هذا ، وقالوا بوضع هذه الأحاديث واختلاقها ، من قبل أعداء الإسلام ...
فيقول الحكيم الترمذي (1) : « ... ما أرى مثل هذه الروايات إلاّ من كيد الزنادقة ... » (2) .
ويقول أبو حيّان الأندلسي : « ومن روى عن ابن عبّاس أنّ قوله : ( حتى تستأنسوا ) خطأ أو وهم من الكاتب ، وأنّه قرأ حتى ( تستأذنوا ) فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين ، وابن عبّاس بريء من هذا القول » (3) .
وهكذا عالج بعض العلماء والكتّاب المتأخّرين والمعاصرين هذه الأحاديث ، فنرى صاحب « المنار » يقول :
« وقد تجرّأ بعض أعداء الإسلام على دعوى وجود الغلط النحوي في القرآن ، وعدّ رفع « الصابئين » هنا من هذا الغلط . وهذا جمع بين السخف والجهل ، وإنّما جاءت هذه الجرأة من الظاهر المتبادر من قواعد النحو ، مع جهل أو تجاهل أنّ النحو استنبط من اللغة ولم تستنبط اللغة منه ... » (4) .
ويقول : « وقد عدّ مثل هذا بعض الجاهلين أو المتجاهلين من الغلط في
____________
(1) وهو الحافظ أبو عبدالله محمد بن علي ، صاحب التصانيف ، من أئمّة علم الحديث ، له ترجمة في تذكرة الحفّاظ 2 : 645 وغيرها .
(2) نوادر الاصول : 386 .
(3) البحر المحيط 6 : 445 .
(4) المنار 6 : 478 .

أصحّ كلام وأبلغه ، وقيل : إنّ ( المقيمين ) معطوف على المجرور قبله ... وما ذكرناه أولاً أبلغ عبارة وإن عدّة الجاهل غلطاً ولحناً . وروي أنّ الكلمة في مصحف عبدالله بن مسعود مرفوعة ، فإن صحّ ذلك عنه وعمّن قرأها مرفوعة كمالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي كانت قراءةً ، وإلاّ فهي كالعدم .
وروي عن عثمان أنّه قال : إنّ في كتابة المصحف لحناً ستقيمه العرب بألسنتها ، وقد ضعّف السخاوي هذه الرواية وفي سندها اضطراب وانقطاع . فالصواب أنّها موضوعة ، ولو صحّت لما صحّ أن يعدّ ما هنا من ذلك اللحن ، لأنّه فصيح بليغ ... » (1) .
وهو رأي الرافعي ومحمد أبو زهرة ، فقد وصف محمد أبو زهرة هذه الأحاديث المنافية لتواتر القرآن بـ : « الروايات الغريبة البعيدة عن معنى تواتر القرآن الكريم ، التي احتوتها بطون بعض الكتب كالبرهان للزركشي والإتقان للسيوطي ، التي تجمع كما يجمع حاطب ليل ، يجمع الحطب والأفاعي ، مع أنّ القرآن كالبناء الشامخ الأملس الذي لا يعلق به غبار » .
ثمّ استشهد بكلام الرافعي القائل : « ... ونحسب أنّ أكثر هذا ممّا افترته الملحدة » وقال : « وإنّ ذلك الذي ذكره هذا الكاتب الإسلامي الكبير حقّ لا ريب فيه » (2) .

تأويل أحاديث الخطأ في القرآن
فهذا موقف هؤلاء من هذا القسم من الأحاديث والآثار ، وعليه آخرون
____________
(1) المنار 6 : 64 .
(2) المعجزة الكبرى : 43 .


( 237 )


ممن لم نذكر كلماتهم هنا اكتفاءً بمن ذكرناه ... وقد اغتاظ من هذا الموقف جماعة واستنكر بشدّة ... ومن أشهرهم الحافظ ابن حجر العسقلاني ، الذي تحامل على الزمخشري ومن كان على رأية قائلاً بعد الحديث عن ابن عبّاس « كتبها وهو ناعس » : « وأمّا ما أسنده الطبري عن ابن عبّاس فقد اشتدّ إنكار جماعة ممّن لا علم له بالرجال صحّته ، وبالغ الزمخشري في ذلك كعادته ـ إلى أن قال ـ وهي والله فرية بلا مرية ، وتبعه جماعة بعده ، والله المستعان .
وقد جاء عن ابن عبّاس نحو ذلك في قوله تعالى : ( وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه ) أخرجه سعيد بن منصور بإسناد جيّد عنه .
وهذه الأشياء ـ وإن كان غيرها المعتد ـ لكن تكذيب المنقول بعد صحّته ليس من دأب أهل التحصيل ، فلينظر في تأويله بما يليق » (1) .
أقول : لكنّ العجب من ابن حجر لماذا أحال التأويل اللائق إلى غيره وقد كان عليه أن يذكره بنفسه وهو بصدد الدفاع عن الأحاديث الصحاح ؟!
نعم ، نظر بعضهم في تأويله وذكرت وجوه ، فقال الداني بالنسبة إلى ما روي عن عثمان ـ على فرض صحّته ـ : « وجهه أن يكون أراد باللحن المذكور في التلاوة دون الرسم » .
وأجاب ابن أشتة عن هذه الآثار كلّها بأنّ المراد : « أخطأوا في الإختيار وما هو الأولى للجمع عليه من الأحرف السبعة ، لا أنّ الذي كتب خطأ خارج عن القرآن .
فمعنى قول عائشة : « حرّف الهجاء » القي إلى الكاتب هجاء غير ما كان الأولى أن يلقى إليه من الأحرف السبعة ، وكذا معنى قول ابن عبّاس : « كتبها وهو
____________
(1) فتح الباري 8 : 301 .


( 238 )


ناعس » يعني : فلم : فلم يتدبّر الوجه الذي هو أولى من الآخر . وكذا سائرها » (1) .
وأتعب السيوطي نفسه في هذا المقام ، فإنّه بعد أن أورد الآثار بيّن وجه الإشكال فيها وتصدّى لتأويلها ... ولننفل عبارته كاملة لننظر هل جاء « بما يليق » ؟!
قال : « هذه الآثار مشكلة جدّاً ، وكيف يظنّ بالصحابة أولاً : أنّهم يلحنون في الكلام فضلاً عن القرآن ، وهم الفصحاء اللدّ ؟! ثمّ كيف يظنّ بهم ثانياً : في القرآن الذي تلقّوه من النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كما انزل ، وحفظوه وضبطوه واتقنوه ؟! ثم كيف يظنّ بهم ثالثاً : اجتماعهم كلّهم على الخطأ وكتابته ... ثمّ كيف ظنّ بهم رابعاً : عدم تنبّههم ورجوعهم عنه ؟ !
ثمّ كيف يظنّ بعثمان : أنّه ينهى عن تغييره ؟! ثمّ كيف يظنّ أنّ القراءة استمرّت على مقتضى ذلك الخطأ ، وهو مروي بالتواتر خلفاً عن سلف ؟! هذا ممّا يستحيل عقلاً وشرعاً وعادة .
وقد أجاب العلماء عن ذلك بثلاثة أجوبة :
أحدها : أنّ ذلك لا يصحّ عن عثمان ، فإنّ إسناده ضعيف مضطرب منقطع ، ولأنّ عثمان جعل للناس إماماً يقتدون به ، فكيف يرى فيه لحناً ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها ، فإذا كان الّذين تولّوا جمعه وكتابته لم يقيموا ذلك وهو الخيار فكيف يقيمه غيرهم ؟! وأيضاً : فإنّه لم يكتب مصحفاً واحداً بل كتب عدّة مصاحف .
فإن قيل : إنّ اللحن إن وقع في جميعها فبعيد اتّفاقها على ذلك ، أو في بعضها . فهو اعتراف بصحّة البعض ، ولم يذكر أحد من الناس أنّ اللحن كا في
____________
(1) الإتقان 2 : 329 .


( 239 )


مصحف دون مصحف ، ولم تأت المصاحف قطّ مختلفة إلاّ فيما هو من وجوه القراءة ، وليس ذلك باللحن .
الثاني : على تقدير صحّة الرواية ، فإنّ ذلك محمول على الرمز والإشارة .
الثالث : أنّه مؤوّل على أشياء خالف لفظها رسمها ... وبهاذا الجواب وما قبله جزم ابن اشتة في كتاب « المصاحف » .
وقال ابن الأنباري في كتاب ( الردّ على من خالف مصحف عثمان ) في الأحاديث المرويّة عن عثمان في ذلك : « لا تقوم بها حجّة ، لأنّها منقطعة غير متّصلة ، وما يشهد عقل بأنّ عثمان وهو إمام الامّة الذي هو إمام الناس في وقته وقدوتهم يجمعهم على المصحف الذي هو الإمام ، فيتبيّن فيه خللاً ويشاهد في خطّه زللاً فلا يصلحه ، كلاّ والله ما يتوهّم عليه هذا ذو إنصاف وتمييز ، ولا يعتقد أنّه أخّر الخطأ في الكتاب ليصلحه من بعده ، وسبيل الجائين من بعده البناء على رسمه والوقوف عند حكمه .
ومن زعم ـ أنّ عثمان أراد بقوله : أرى فيه لحناً : أرى في خطّه إذا أقمناه بألسنتنا كا الخطّ غير مفسد ولا محرّف من جهة تحريف الألفاظ وإفساد الإعراب ـ فقد أبطل ولم يصب ، لأنّ الخطّ منبئ عن النطق ، فمن لحن في كتبه فهو لاحن في نطقه ، ولم يكن عثمان ليؤخّر فساداً في هجاء ألفاظ القرآن من جهة كتبٍ ولانطق ، ومعلوم أنّه كان مواصلاً لدرس القرآن ، متقناً لألفاظه ، موفقاً على ما رسم في المصاحف المنفذة إلى الأمصار والنواحي ...
ثم قال ابن أشتة . أنبأت محمد بن يعقوب ، أنبأنا أبو داود سليمان بن الاشعث ، أنبأنا أحمد بن مسعدة ، أنبأنا إسماعيل ، أخبرني الحارث بن عبد الرحمن ، عن عبد الأعلى بن عبدالله بن عامر ، قال : لمّا فرغ من المصحف اتي به


( 240 )


عثمان فنظر فيه فقال : أحسنتم وأجملتم ، أرى شيئاً سنقيمه بألسنتنا .
فهذا الأثر لا إشكال فيه ، وبه يتّضح معنى ما تقدّم ، فكأنّه عرض عليه عقب الفراغ من كتابته فرأى فيه شيئاً كتب على لسان قريش ، كما وقع لهم في ( التابوة ) و( التابوت ) ، فوعد بأنّه سيقيمه على لسان قريش ، ثمّ وفى بذلك عند العرض والتقويم ، ولم يترك فيه شيئاً . ولعلّ من روى تلك الآثار السابقة عنه حرّفها ، ولم يتقن اللفظ الذي صدر عن عثمان ، فلزم منه ما لزم من الإشكال ، فهذا أقوى ما يجاب عن ذلك . ولله الحمد .
وبعد ، فهذه الأجوبة لا يصحّ منها شيء عن حديث عائشة .
أمّا الجواب بالتضعيف فلأنّ إسناده صحيح كما ترى ، وأمّا الجواب بالرمز وما بعده فلأنّ سؤال عروة عن الأحرف المذكورة يطابقه ، فقد أجاب عنه ابن أشته ـ وتبعه ابن جبارة في شرح الرائية ـ بأنّ معنى قولها « أخطأوا » أي في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه ، لا أنّ الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز ...
وأقول : هذا الجواب إنّما يحسن لو كانت القراءة بالياء فيها والكتابة بخلافها ، وأمّا والقراءة على مقتضى الرسم فلا .
وقد تكلّم أهل العربية عن هذه الأحرف ووجّهوها أحسن توجيه ، أمّا قول : ( إنّ هذان لساحران ) ففيه أوجه ... وأمّا قوله : ( والمقيمين الصلاة ) ففيه أيضاً أوجه ... وأمّا قوله : ( والصابئون ) ففيه أيضاً أوجه ... » (1) .
فهذا ما يتعلّق بـ « كلمات الصحابة والتابعين ... » .
____________
(1) الاتقان 2 : 320 ـ 326 .


( 241 )


أحاديث جمع القرآن بين الردّ والتأويل
وأمّا الأحاديث التي رووها حول جمع القرآن ، المتضاربة فيما بينها ، والتي اعترف بعضهم كمحمد أبو زهرة بوجود روايات مدسوسة مكذوبة فيها (1) فقد يمكن الجمع بينها ، ثمّ رفع التنافي بينها وبين أدلّة عدم التحريف والبناء على أنّ القرآن مجموع في عصر النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وبأمرٍ منه ... وإليك بيان ذلك بالتفصيل :

مراحل الجمع
لقد تضاربت روايات أهل السنّة حول جمع القرآن ، وعلى ضوئها اختلفت كلمات علمائهم ... والمتحصّل من جيمعها : أنّ الجمع للقرآن كان على مراحل ثلاث ؛ الاولى : على عهد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حيث كتب في الرقاع والعسب ... والثانية : على عهد أبي بكر ، وكان بانتساخه من العسب والرقاع وغيرها وجعله في مكان واحد ... والثالثة : على عهد عثمان ، والذي فعله ترتيبه وحمل الناس على قراءة واحدة ... هذا ما كادت تجمع عليه كلماتهم .
والجمع في عهد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كان « حفظاً » و « كتابة » معاً ، أمّا حفظاً فإنّ الّذين جمعوا القرآن في عهد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كثيرون (2) . وأمّا كتابةً فإنّ القرآن لم يكن كاملاً في الكتابة على عهده عند الّذين
____________
(1) المعجزة الكبرى : 33 .
(2) مباحث في علوم القرآن : 65 .


( 242 )


حفظوه كاملاً ، لكن كانت كتابته كاملة عند الجميع ، فهو مكتوب كلّه عند جميعهم ، وما ينقص من عند واحد يكمله ما عند الآخر ، إلاّ إنّه كان متواتراً كلّه عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في عصره حفظاً (1) .
فعمد أبو بكر إلى جمعه ، إذ أمر ـ بعد يوم اليمامة ـ بجمع تلك الكتابات وجمع القرآن منها بتأليفه وتدوينه (2) .
ثمّ لمّا كثرت فيه القراءات ووقعت في لفظه الإختلافات جمع عثمان المصاحف من أصحابها ، وحمل الناس على قراءة واحدة من بينها ، وأعدم سائر المصاحف المخالفة لها .

دفع الشبهات
لكنّ استخلاص هذه النتائج من تلك الأحاديث ، ودفع الشبهات التي تلحق بالقرآن ، يتوقف على النظر في ما ورد في هذا الباب سنداً ومتناً ، والجمع بينها بحمل بعضها على البعض بقدر الإمكان ، وهذا أمر لابدّ منه ... فنقول :
أوّلاً : لقد وردت عن بعض الصحابة أحاديث فيها حصر من جمع القرآن على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في عدد معيّن ، إتّفق عبدالله بن عمرو وأنس بن مالك على أنّهم « أربعة » على اختلاف بينهم في بعض أشخاصهم ...
فعن عبدالله بن عمرو أنّهم : عبدالله بن مسعود ، سالم ، معاذ بن جبل ، أبيّ
____________
(1) المعجزة الكبرى : 28 .
(2) الاتقان 1 | 62 ، مناهل العرفان 1 : 242 ، إعجاز القرآن : 236 .


( 243 )


ابن كعب (1) .
وعن أنس بن مالك ـ في حديث عن قتادة عنه ـ هم : اُبيّ بن كعب ، معاذ ابن جبل ، زيد بن ثابت ، أبو زيد . قال : من أبو زيد ؟ قال : أحد عمومتي (2) .
وفي آخر ـ عن ثابت عنه ـ قال : « مات النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ ولم يجمع القرآن غير أربعة : أبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد » .
فأيّ توجيه صحيح لحصر جمّاع القرآن في أربعة ؟ وكيف الجمع بين ما روي عن الصحابّيين ، ثمّ بين الحديثين عن أنس ؟
قال السيوطي : « قد استنكر جماعة من الأئمّة الحصر في الأربعة ، وقال المازري : لا يلزم من قول أنس « لم يجمعه غيرهم » أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك ... قال : وقد تمسّك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة ولا مستمسك لهم فيه ، فإنّا لا نسلّم حمله على ظاهره » ثمّ ذكر السيوطي كلاماً للقرطبي ونقل عن الباقلاّني وجوهاً من الجواب عن حديث أنس ثمّ قال : « قال ابن حجر : وفي غالب هذه الإحتمالات تكلّف » (3) .
ثانياً : قد اختلفت أحاديثهم في « أوّل من جمع القرآن » ففي بعضها أنّه « أبو بكر » وفي آخر « عمر » وفي ثالث « سالم مولى أبي حذيفة » وفي رابع « عثمان » .
وطريق الجمع بينها أن يقال : إنّ أبا بكر أول من جمع القرآن أي دوّنه تدويناً ، وأنّ المراد من : « فكان [ عمر ] أول من جمعه في المصحف » أي : أشار
____________
(1) صحيح البخاري 6 : 102 ، صحيح مسلم 7 : 149 .
(2) صحيح البخاري 6 : 102 . واختلف في اسم أبي زيدٍ هذا . انظر الاتقان 1 : 74 .
(3) الاتقان 1 | 244 ـ 247 .


( 244 )


على أبي بكر أن يجمعه ، وأنّ المراد فيما ورد في « سالم » : أنّه من الجامعين للقرآن بأمر أبي بكر ، وأمّا « عثمان » فجمع الناس على قراءة واحدة .
ثالثاً : في بيان الأحاديث الواردة في كيفية الجمع وخصوصيّاته في كلّ مرحلة . أمّا في المرحلة الأولى ، فقد رووا عن زيد قوله : « كنّا على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ولم يكن القرآن جمع شيء » (1) وأنّه قال لأبي بكر لمّا أمره بجمع القرآن : « كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله ؟! » (2) .
إلاّ أنّه يمكن الجمع بين هذه الأخبار بحمل النافية على عدم تأليف القرآن وجمعه بصورة كاملة في مكان واحد ، بل كان كتابته كاملة عند الجميع ...
وهكذا تندفع الشبهة الاولى .
وأمّا في المرحلة الثانية : فإنّه وإن كان أمر أبي بكر بجمع القرآن وتدوينه بعد حرب اليمامة ، لكنّ الواقع كثرة من بقي بعدها من حفّاظ القرآن وقرّائه ، مضافاً إلى وجود القرآن مكتوباً على عهد النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ ... فلا تطرق الشبهة من هذه الناحية في تواتره . وأمّا الحديث : « إنّ عمر سأل عن آيةٍ من كتاب الله كانت مع فلان قتل يوم اليمامة ... » فإسناده منقطع (3) .
فالشبهة الثانية مندفعة كذلك .
وأمّا جمع القرآن من العسب واللخاف وصدور الرجال ـ كما عن زيد ـ فإنّه لم يكن لأنّ القرآن كان معدوماً ، وإنّما كان قصدهم أن ينقلوا من عين المكتوب بين يدي النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ ولم يكتبوا من حفظهم . وأمّا قوله :
____________
(1) المستدرك 2 : 662 .
(2) الاتقان 1 : 202 .
(3) الاتقان 1 : 59 .


( 245 )


وصدور الرجال : فإنّه كتب الوجوه السبعة التي نزل بها القرآن ، فكان يتتبّعها من صدور الرجال ليحيط بها علماً (1) .
وأمّا قول أبي بكر لعمر وزيد : « اقعدا على باب المسجد فمن جاءكم بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه » فقد قال الشيخ أبوالحسن السخاوي في ( جمال القراء ) : معنى هذا الحديث ـ والله أعلم ـ من جاءكم بشاهدين على شيء من كتاب الله الذي الذي كتب بين يدي رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وإلاّ فقد كان زيد جامعاً للقرآن . ويجوز أن يكون معناه : من جاءكم بشاهدين على شيء من كتاب الله تعالى . أي : من الوجوه السبعة التي نزل بها القرآن ولم يزد على شيء ممّا لم يقرأ أصلاً ولم يعلم بوجه آخر (2) .
وأمّا معنى قوله في الآية التي وجدها عند خزيمة ، فقال ابن شامة : « ومعنى قوله : فقدت آية كذا فوجدتها مع فلان ؛ أنّه كان يطلّب نسخ القرآن من غير ما كتب بأمر النبي ، فلم يجد كتابة تلك الآية إلاّ مع ذلك الشخص ، وإلاّ فالآية كانت محفوظة عنده وعند غيره . وهذا المعنى أولى ممّا ذكره مكّي وغيره (3) : إنّهم كانوا يحفظون الآية لكنّهم نسوها ، فوجدوها في حفظ ذلك الرجل فتذاكروها واثبتوها ، لسماعهم إيّاها من النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ » (4) .
وأمّا أنّ عمر أتي بآية الرجم فلم يكتبها لأنّها كان وحده ، فهي رواية مخالفة للمعقول والمنقول (5) وإن أمكن تأويلها ببعض الوجوه .
____________
(1) المرشد الوجيز : 57 .
(2) المرشد الوجيز : 75 .
(3) كالزركشي في البرهان 1 : 234 .
(4) المرشد الوجيز : 75 .
(5) الجواب المنيف في الردّ على مدّعي التحريف : 121 .


( 246 )


وهكذا تندفع الشبهة الثالثة .
وأمّا في المرحلة الثالثة : فإن عثمان ـ عندما اختلف المسلمون في القراءة ـ أرسل إلى حفصة يطلب منها ما جمع بأمر أبي بكر قائلاً : « أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثمّ نردّها عليك . فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد ابن ثابت و ... فنسخوها في المصاحف ... »(1) .
هذا هو الواقع في هذه المرحلة ، وما خالفه يطرح أو يؤوّل كالحديث الذي روي : أنّه كان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شاهدان . أوّله ابن حجر على أنّ المراد من « الشاهدين » هو « الحفظ والكتابة » ، وناقش البيهقي في سنده وتبعه ابن شامة وصبحي الصالح (2) ، قال ابن شامة بعد أن رواه : « وأخرج هذا الحديث الحافظ البيهقي في كتاب المدخل بمخالفة لهذا في بعض الألفاظ وبزيادة ونقصان فقال : جلس عثمان على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : إنّما عهدكم بنبيّكم ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ منذ ثلاث عشرة سنة ، وأنتم تختلفون في القراءة ، يقول الرجل لصاحبه : والله ما تقيم قراءتك . قال : فعزم على كل من كان عنده شيء من القرآن إلاّ جاء به ، فجاء الناس بما عندهم ، فجعل يسألهم عليه البيّنة أنّهم سمعوه من رسول الله . ثمّ قال : من أعرب الناس ؟ قالوا : سعيد بن العاص ، قال : فمن أكتب الناس ؟ قالوا : زيد بن ثابت كاتب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ، قال : فليمل سعيد وليكتب زيد قال : فكتب مصاحف ففرّقها في الأجناد ، فلقد سمعت رجالاً من أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يقولون : لقد أحسن .
قال البيهقي : فيه انقطاع بين مصعب وعثمان . وقد روينا عن زيد بن ثابت
____________
(1) صحيح البخاري 6 : 225 ـ 226 .
(2) مباحث في علوم القرآن : 76 .


( 247 )


أنّ التأليف كان في زمن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وروينا عنه أنّ الجمع في الصحف كان في زمن أبي بكر والنسخ في المصاحف كان في زمن عثمان ، وكان ما يجمعون أو ينسخون معلوماً لهم ، فلم يكن به حاجة إلى مسألة البيّنة .
قلت : لم تكن البيّنة على أصل القرآن ، فقد كان معلوماً كما ذكروا ، إنّما كانت على ما أحضروه من الرقاع المكتوبة ، فطلب البيّنة عليها أنّها كانت كتبت بين يدي رسول الله ، وبإذنه على ما سمع من لفظه على ما سبق بيانه ، ولهذا قال : فليمل سعيد . يعني من الرقاع التي احضرت ، ولو كانوا اكتبوا من حفظهم لم يحتج زيد فيما كتبه إلى من يمليه عليه .
فإن قلت : كان قد جمع من الرقاع في أيّام أبي بكر ، فأيّ حاجة إلى استحضارها في أيّام عثمان ؟
قلت : يأتي جواب هذا في آخر الباب » (1) .
قال أبو شامة : « وأمّا ما روي من أنّ عثمان جمع القرآن أيضاً من الرقاع كما فعل أبو بكر فرواية لم تثبت ، ولم يكن له إلى ذلك حاجة وقد كفيه بغيره ... ويمكن أن يقال : إنّ عثمان طلب إحضار الرقاع ممّن هي عنده وجمع منها وعارض بما جمعه أبو بكر أو نسخ ممّا جمعه أبو بكر ، وعارض بتلك الرقاع أو جمع بين النظر في الجميع حالة النسخ ، ففعل كل ذلك أو بعضه استظهاراً ودفعاً لوهم من يتوهّم خلاف الصواب ، وسدّاً لباب القالة : إنّ الصحف غيّرت أو زيد فيها أو نقص » (2) .
وأمّا ما رووا عن ابن مسعود من الطعن في زيد بن ثابت فكلّه موضوع (3) .
____________
(1) المرشد الوجيز : 58 ـ 59 .
(2) المرشد الوجيز : 75 .
(3) مباحث في علوم القرآن : 82 .


( 248 )


وإنّ عمل زيد لم يكن كتابةً مبتدأةً ولكنّة إعادة لمكتوب ، فقد كتب في عصر النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، وإنّ عمله له يكن عملاً احادياً بل كان عملاً جماعياً (1) .
وأمّا المصاحف التي أمر بتحريقها ـ قال بعضهم ـ : « فإنّها ـ والله أعلم ـ كانت على هذا النظم أيضاً ، إلاّ أنّها كانت مختلفة الحروف على حسب ما كان النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ سوّغ لهم في القراءة بالوجوه إذا اتّفقت في المعنى ـ وإن اختلفت في اللفظ ـ » (2) .
قال : « ويشهد بذلك ما روي عن محمد بن كعب القرظي ، قال : رأيت مصاحف ثلاثة : مصحفاً فيه قراءة ابن مسعود ، ومصحفاً فيه قراءة اُبيّ ، ومصحفاً فيه قراءة زيد . فلم أجد في كلّ منها ما يخالف بعضها بعضاً » (3) .
وهكذا تندفع الشبهة الرابعة .

ردّ أحاديث نقصان القرآن :
وأمّا أحاديث نقصان القرآن فالمعروف بينهم حملها على نسخ التلاوة ، لئلا يلزم ضياع شيء من القرآن ، ولا الطعن فيما أخرجه الشيخان وما رواه الأئمّة الأعيان ، وقد ذكروا لها أيضاً وجوهاً من التأويل سنذكرها .
ولكن ـ مع ذلك ـ نجد فيهم من يطعن في بعض تلك الأحاديث ، فعن ابن الأنباري في : « ابن آدم وادياً » ، ورواية عكرمة : « قرأ عليّ عاصم
____________
(1) المعجزة الكبرى : 33 .
(2) مقدّمتان في علوم القرآن : 45 .
(3) مقدّمتان في علوم القرآن : 47 .


( 249 )


( لم يكن ) ثلاثين آية هذا فيها » :
« إنّ هذا باطل عند أهل العلم ، لأنّ قراءتي ابن كثير وأبي عمرو متّصلتان بابيّ بن كعب لا يفرقان فيهما هذا المذكور في : لم يمكن » (1) .
وقال بعضهم في « آية الحميّة » : « روي عن عطيّة بن قيس ، عن أبي إدريس الخولاني : إنّ أبا الدرداء ركب إلى المدينة في نفر من أهل دمشق ومعهم المصحف ليعرضوه على ابيّ بن كعب وزيد وغيرهما ، فغدوا على عمر ، فلمّا قرؤوا بهذه الآية : إذ جعل الّذين كفروا في قلوبهم الحميّة ... قال عمر : ما هذه القراءة ؟ فقالوا : أقرأنا اُبيّ ... ، فهذه وما يشبهها أحاديث لم تشتهر بين نقلة الحديث ، وإنّما يرغب فيما من يكتبها طلباً للغريب » (2) .
وقال فيما ورد عن زرّ عن ابيّ بن كعب في عدد سورة الأحزاب (3) : « يحمل ـ إن صحّ ، لأنّ أهل النقل ضعّفوا سنده ـ على أنّ تفسيرها ... » (4) .
وقال الطحاوي في « آية الرضاع » : « هذا ممّا لا نعلم أحداً رواه كما ذكرنا غير عبدالله بن أبي بكر ، وهو عندنا وهم منه ، أعني ما فيه ممّا حكاه عن عائشة أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ توفي وهنّ ممّا يقرأ من القرآن . لأنّ ذلك لو كان كذلك لكان كسائر القرآن ، ولجاز أن يقرأ به في الصلوات ، وحاشا لله أن يكون كذلك ، أو يكون قد بقي من القرآن ما ليس في المصاحف التي قامت بها الحجّة علينا ... ونعوذ بالله من هذا القول ممّن يقوله .
ولكن حقيقة هذا الحديث عندنا ـ والله أعلم ـ ما قد رواه من أهل العلم
____________
(1) مقدّمتان في علوم القرآن : 85 .
(2) مقدّمتان في علوم القرآن : 92 .
(3) في لفظ رواية كتاب « مقدّمتان في علوم القرآن » : « الأعراف » .
(4) مقدّمتان في علوم القرآن : 82 .


( 250 )


عن عمرة من مقداره في العلم وضبطه له فوق مقدار عبدالله بن أبي بكر وهو القاسم بن محمد بن أبي بكر ... فهذا الحديث أولى من الحديث الذي ذكرناه قبله ... لأنّ محالاً أن يكون عائشة تعلم أن قد بقي من القرآن شيء لم يكتب في المصاحف ، ولا تنبّه على ذلك من اغفله ...
وممّا يدلّ على فساد ما قد زاده عبدالله بن أبي بكر على القاسم بن محمد ويحيى بن سعيد في هذا الحديث : أنّا لا نعلم أحداً من أئمة أهل العلم روى هذا الحديث مع عبدالله بن أبي بكر غير مالك بن أنس . ثمّ تركه مالك فلم يقل به وقال بضدّه ، وذهب إلى أنّ قليل الرضاع وكثيره يحرّم . ولو كان ما في هذا الحديث صحياً أنّ ذلك في كتاب الله لكان ممّا لا يخالفه ولا يقول بغيره » (1) .
وقال النحّاس بعد ذكر حديث آية الرضاع : « فتنازع العلماء هذا الحديث لما فيه من الإشكال ، فمنهم من تركه وهو مالك بن أنس وهو راوي الحديث ... وممّن تركه أحمد بن حنبل وأبو ثور ...
وفي الحديث لفظة شديدة الإشكال ، وهو قولها : فتوفي رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، وهنّ ممّا يقرأ في القرآن . فقال بعض أجلّة أصحاب الحديث : قد روى هذا الحديث رجلان جليلان أثبت من عبدالله بن أبي بكر ، فلم يذكرا أنّ هذا فيما ، وهما : القاسم بن محمد بن أبي بكر ، ويحيى بن سعيد الأنصاري . وممّن قال بهذا الحديث وأنّه لا يحرم إلاّ بخمس رضعات : الشافعي .
وأمّا القول في تأويل « وهنّ ممّا يقرأ في القرآن » فقد ذكرنا ردّ من ردّه ، ومن صحّحه قال : الذي يقرأ من القرآن : ( وأخواتكم من الرضاعة ) .
وأمّا قول من قال : إنّ هذا كان يقرأ بعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ
____________
(1) مشكل الآثار 3 : 7 ـ 8 .


( 251 )


فعظيم ، لأنّه لو كان ممّا يقرأ لكانت عائشة قد نبّهت عليه ، ولكان قد نقل إلينا في المصاحف التي نقلها الجماعة الّذين لا يجوز عليهم الغلط . وقد قال الله تعالى : ( إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون ) وقال : ( إنّ علينا جمعه وقرآنه .. ) ولو كان بقي منه شيء لم ينقل إلينا لجاز أن يكون ممّا لم ينقل ناسخاً لما نقل ، فيبطل العمل بما نقل ، ونعوذ بالله من هذا فإنّه كفر » (1) .
وقال السرخسي : « والدليل على بطلان هذا القول قوله تعالى : ( إنّا نحن نزّلنا الذكر ) ... وبه يتبيّن أنّه لا يجوز نسخ شيء منه بعد وفاته ـ صّى الله عليه وآله ـ وما ينقل من أخبار الآحاد شاذّ لا يكاد يصحّ شيء منها ، وحديث عائشة لا يكاد يصحّ » (2) .
وقال الزركشي في الكلام على آية الرضاع : « وحكى القاضي أبو بكر في الإنتصار عن قوم إنكار هذا القسم ، لأنّ الأخبار فيه أخبار آحاد ، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجّيّة فيها » (3) .
وقال صاحب المنار : « وروي عنها أيضاً أنّها قالت : كان فيما نزل من القرآن : ( عشر رضعات معلومات يحرمن ) ثمّ نسخن بـ ( خمس رضعات معلومات يحرمن ) فتوفي النبي وهي فيما يقرأ من القرآن . وقد اختلف علماء السلف والخلف في هذه المسألة ... ورواية الخمس هي المعتمدة عن عائشة وعليها العمل عندها ... قال الذاهبون إلى الإطلاق أو إلى التحريم بالثلاث فما فوقها : إنّ عائشة نقلت آية الخمس نقل قرآن لا نقل حديث ، فهي لم تثبت قرآناً لأنّ القرآن
____________
(1) الناسخ والمنسوخ : 10 ـ 11 .
(2) الاصول 2 : 78 .
(3) البرهان في علوم القرآن 2 : 39 ـ 40 .


( 252 )


لا يثبت إلاّ بالتواتر ، ولم تثبت سنّة فتجعلها بياناً للقرآن ، ولابدّ من القول بنسخها لئلاّ يلزم ضياع شيء من القرآن ، وقد تكفّل الله بحفظه وانعقد الإجماع على عدم ضياع شيء منه ، والأصل أن ينسخ المدلول بنسخ الدالّ لا أن يثبت خلافه . وعمل عائشة به ليس حجّة على إثباته . وظاهر الرواية عنها أنّها لا تقول بنسخ تلاوته فيكون من هذا الباب .
ويزاد على ذلك أنّه لو صحّ أنّ ذلك كان قرآناً يتلى لما بقي علمه خاصّاً بعائشة ، بل كانت الروايات تكثر فيه ويعمل به جماهير الناس ويحكم به الخلفاء الراشدون ، وكل ذلك لم يكن ، بل المرويّ عن رابع الخلفاء وأول الأئمة الأصفياء القول بالإطلاق كما تقدّم ، وإذا كان ابن مسعود قد قال بالخمس فلا يبعد أنّه أخذ ذلك عنها ، وأمّا عبدالله بن الزبير فلا شك في أنّ قوله بذلك اتّباع لها ، لأنّها خالته معلّمته ، واتّباعه لها لا يزيد قولها قوّة ولا يجعله حجّة .
ثمّ إنّ الرواية عنها في ذلك مضطربة ، فاللفظ الذي الذي أوردناه في أول السياق رواه عنها مسلم وكذا أبو داود ولانسائي ، وفي رواية لمسلم : نزل في القرآن عشر رضعات معلومات ثمّ نزل أيضاً خمس معلومات . وفي رواية الترمذي : نزل في القرآن عشر رضعات معلومات فنسخ من ذلك خمس رضعات إلى خمس رضعات معلومات ، فتوفي رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ والأمر على ذلك . وفي رواية ابن ماجة : كان فيما أنزل الله ـ عزّ وجلّ ـ من القرآن ثمّ سقط : لا يحرّم إلاّ عشر وضعات أو خمس رضعات .
فهي لم تبيّن في شيء من هذه الروايات لفظ القرآن ولا السورة التي كان فيها ، إلاّ أن يراد برواية ابن ماجة أنّ ذلك لفظ القرآن ...
ـ ثمّ قال بعد إيراد تأويلٍ قاله « الجامدون على الروايات من غير


( 253 )


تمحيص » كما وصفهم ـ :
إنّ ردّ هذه الرواية عن عائشة لأهون من قبولها مع عدم عمل جمهور من السلف والخلف بها كما علمت . فإن لم نعتمد روايتها فلنا اسوة بمثل البخاري وبمن قالوا باضطرابها ، خلافاً للنووي ، وإن لم نعتمد معناها فلنا اسوة بمن ذكرنا من الصحابة والتابعين ومن تبعهم في ذلك كالحنفية . وهي عند مسلم من رواية عمرة عن عائشة . أو ليس ردّ رواية عمرة وعدم الثقة بها أولى من القول بنزول شيء من القرآن لا تظهر له حكمة ولا فائدة ، ثمّ نسخة أو سقوطه أو ضياعه ، فإنّ عمرة زعمت أنّ عائشة كانت ترى أنّ الخمس لم تنسخ ؟! وإذاً نعتدّ بروايتها » (1) .
وأبطل صاحب الفرقان الأحاديث الواردة في « الرضاع » و « الرجم » و « لو كان لابن آدم ... » ونصّ على « دسّ الأباطيل في الصحاح » (2) .
وقال بعض المعاصرين : « نحن نستبعد صدور مثل هذه الآثار بالرغم من ورودها في الكتب الصحاح ... وفي بعض هذه الروايات جاءت العبارات التي لا تنّفق ومكانه عمر ولا عائشة ، ممّا يجعلنا نطمئنّ إلى اختلاقها ودسّها على المسلمين » (3) .
وقال آخر في خبر ابن أشبة في المصاحف : إنّ عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها زيد لأنّه كان وحده : « هذه الرواية مخالفة للمعقول والمنقول » (4) .
وتنازع العلماء حديث إنكار ابن مسعود الفاتحة والمعوّذتين ، ففي ( الإتقان ) عن الفخر الرازي : « نقل في بعض الكتب القديمة أنّ ابن مسعود كان ينكر كون
____________
(1) المنار4 : 471 ـ 474 .
(2) الفرقان : 157 .
(3) النسخ في القرآن 1 : 283 .
(4) الجواب المنيف في الردّ على مدّعي التحريف : 121 .


( 254 )


سورة الفاتحة والمعوّذتين من القرآن . وهو في غاية الصعوبة ، لأنّا إن قلنا : إنّ النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة يكون ذلك من القرآن ، فإنكاره يوجب الكفر ، وإن قلنا : لم يكن حاصلاً في ذلك الزمان فيلزم أنّ القرآن ليس بمتواتر في الأصل . قال : والأغلب على الظنّ أنّ نقل هذا المذهب عن ابن مسعود نقل باطل ، وبه يحصل الخلاص عن هذه العقدة » .
قال السيوطي : « وكذا قال القاضي أبو بكر : لم يصحّ عنه أنّها ليست من القرآن ولا حفظ عنه ، وإنّما حكّها وأسقطها من مصحفه إنكاراً لكتابتها لا حجداً لكونها قرآناً ...
وقال النووي في شرح المهذّب : أجمع المسلمون على أنّ المعوّذتين والفاتحة من القرآن ، وأنّ من جحد منها شيئاً كفر . وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح .
وقال ابن حزم في المحلّى : هذا كذب على ابن مسعود وموضوع ، وإنّما صحّ عنه قراءة عاصم ، عن زّر ، عنه ؛ وفيها المعوّذتان والفاتحة » .
قال السيوطي : « وقال ابن حجر في شرح البخاري : قد صحّ عن ابن مسعود إنكار ذلك ، فأخرج أحمد وابن حبّان عنه : أنّه كان لا يكتب المعوّذتين في مصحفه . وأخرج عبدالله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني وابن مردويه من طريق الأعمش عن أبي إسحاق عن عبدالرحمن بن يزيد النخعي ، قال : كان عبدالله بن مسعود يحكّ المعوّذتين من مصحفه ويقول : إنّهما ليستا من كتاب الله . وأخرج البزّار والطبراني من وده آخر عنه أنّه : كان يحكّ المعوّذتين من المصحف ويقول : إنّما أم النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أن يتعوّذ بهما وكان لا يقرأ بهما . أسانيده صحيحة . قال البزّار : لم يتابع ابن مسعود على ذلك أحد من


( 255 )


الصحابة ، وقد صحّ أنّه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قرأ بهما في الصلاة .
قال ابن حجر : فقول من قال : إنّه كذب عليه مردود ، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل ، بل الروايات صحيحة والتأويل محتمل » (1) .
أقول : لكن لم نر من ابن حجر تأويلاً لهذه الأحاديث ، فهو إحالة إلى غيره كما فعل بالنسبة إلى الأحاديث السابقة !!

تأويل أحاديث نقصان القرآن
قال السيوطي : « وقد أوّله القاضي وغيره على إنكار الكتابة كما سبق . وهو تأويل حسن ، إلاّ إنّ الرواية الصريحة التي ذكرتها تدفع ذلك ، حيث جاء فيها : ويقول : إنّهما ليستا من كتاب الله » .
قال : ويمكن حمل لفظ كتاب الله على المصحف فيتمّ التأويل المذكور .
لكن من تأمّل سياق الطرق المذكورة إستبعد هذا الجمع .
وقد أجاب ابن الصبّاغ بأنّه لم يستقرّ عنده القطع بذلك ثمّ حصل الاتّفاق بعد ذلك ، وحاصله : أنّهما كانتا متواترتين في عصره لكنّهما لم يتواترا عنده .
وقال ابن قتيبة في « مشكل القرآن » : « ظنّ ابن مسعود أنّ المعوّذتين ليستا من القرآن ، لأنّه رأى النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ يعوّذ بهما الحسن والحسين ، فأقام على ظنّه ، ولا نقول : إنّه أصاب في ذلك وأخطأ المهاجرون والأنصار » .
قال السيوطي : « وأمّا إسقاطه الفاتحة من مصحفه فليس لظنّه أنّها ليست من القرآن ، معاذ الله ، ولكنّه ذهب إلى أنّ القرآن إنّما كتب وجمع بين اللوحين
____________
(1) الاتقان في علوم القرآن 1 : 270 ـ 272 .


( 256 )


مخافة الشكّ والنسيان والزيادة والنقصان ، ورأى أنّ ذلك مأمون في الحمد لقصرها ووجوب تعلّمها على كلّ واحد » (1) .
أقول : هذه وجوه التأويل في حديث إنكار ابن مسعود كون الفاتحة والمعوّذتين من القرآن ، ولهم في حمل الأحاديث الاخرى وجوه :

1 ـ الحمل على التفسير :
وقد حمل بعضهم عليه عدداً من الأحاديث ، من ذلك ما ورد حول ما أسميناه بآية الجهاد فقال : يحمل على التفسير . والمراد من « أسقط من القرآن » أي : أسقط من لفظه فلم تنزل الآية بهذا اللفظ ، لا أنّها كانت منزلة ثمّ اسقطت ، وإلاّ فما منع عمر وعبد الرحمن من الشهادة على أنّ الآية من القرآن وإثباتها فيه ؟! (2) .
ومن ذلك : ما ورد حول آية المحافظة على الصلوات عن عائشة وحفصة من إلحاق كلمة « وصلاة العصر » بقوله تعالى : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) بأنّ الكلمة ادرجت على سبيل التفسير والإيضاح (3) .
ومن ذلك : ما ورد عن أبي موسى الأشعري حول سورة كانوا يشبّهونها في الطول والشدّة بسورة براءة ، فقد ذكر بعضهم له وجوهاً منها : أنّه يجوز أن يكون تفسيراً ، وحفظ منها أي من تفسيرها ومعناها (4) .
____________
(1) الاتقان في علوم القرآن 1 : 272 .
(2) مقدّمتان في علوم القرآن : 100 .
(3) البرهان في علوم القرآن 1 : 215 ، مباحث في علوم القرآن : 112 ، الناسخ والمنسوخ : 15 .
(4) مقدّمتان في علوم القرآن : 97 .


( 257 )


ومن ذلك : ما ورد عن زرّ بن حبيش ، عن اُبيّ بن كعب ، أنّه قال له : « كم تقرأ سورة الأعراف (1) ؟ قلت : ثلاثاً وسبعين آية ... » : فقد قيل : « يحمل إن صحّ ـ لأنّ أهل النقل صعّفوا سنده ـ على أنّ تفسيرها كان يوازي سورة البقرة ، وأنّ في تفسيرها ذكر الرجم الذي وردت به السنّة » (2) .

2 ـ الحمل على السنّة
وهذا وجه آخر اعتمد عليه بعض العلماء بالنسبة إلى عدد من الأحاديث :
ومن ذلك : قول أبي جعفر النحّاس وبعضهم في آية الرجم : « إسناد الحديث صحيح ، إلاّ أنّه ليس حكمه حكم القرآن الذي نقله الجماعة عن الجماعة ، ولكنّها سنّة ثابتة ... وقد يقول الإنسان : « كنت أقرأ كذا » لغير القرآن ، والدليل على هذا أنّه قال : ولولا أني أكره أن يقال : زاد عمر في القرآن ، لزدته » (3) .
ومن ذلك : قول بعضهم حول آية : « لو كان لابن آدم ... » : « إنّ هذا معروف في حديث النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على أنّه من كلام الرسول لا يحكيه عن ربّ العالمين في القرآن ... ويؤيده حديث روي عن العبّاس بن سهل ، قال : سمعت ابن الزبير على المنبر يقول : قال رسول الله : لو أنّ ابن آدم اعطي واديان ... » (4) .
وهو قال العلاّمة الزّبيدي حيث ذكره في كتابه في الأحاديث المتواترة قال : « الحديث الرابع والأربعون : لو أنّ لابن آدم وادياً من ذهب لأحبّ ... رواه
____________
(1) كذا ، والذي نقلناه سابقاً عن الدرّ المنثور عن طائفة من أهمّ مصادرهم : « الأحزاب » .
(2) مقدّمتان في علوم القرآن : 83 .
(3) الناسخ والمنسوخ : 8 ، مقدّمتان في علوم القرآن : 78 .
(4) مقدّمتان في علوم القرآن : 85 .


( 258 )

من الصحابة خمسة عشر نفساً : أنس بن مالك وابن الزبير وابن عبّاس وابن كعب وبريدة بن الخصيب وأبو سعيد الخدري وسمرة بن جندب وعائشة وجابر بن عبد الله وزيد بن أرقم وأبو موسى الأشعري وسعد بن أبي وقّاص وأبو واقد الليثي وأبو امامة الباهلي وكعب بن عياض الأشعري ... » (1) .

3 ـ الحمل على الحديث القدسي :
وعليه حمل بعضهم آية الرضاع حيث قال : « يحمل على الحكم النازل سنّة لا على جهة القرآنية ، وإلاّ لما أكله الداجن ، والله يقول : ( إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون ) ولو كان من القرآن لما اجتمع فيه الناسخ والمنسوخ في آية واحدة ، بل كانت الآية الناسخة تتأخّر عن المنسوخة ، كما لا يجوز أن يجتمع حكمان مختلفان في وقت واحد وحال واحدة . وكيف يجوز أن يكون قرآن يتلى على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على ما أخبرت به عائشة ـ ولا يحفظه واحد من الصحابة » (2) قال : « ويدلّ على ذلك قوله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : أوتيت القرآن ومثله معه ، إنّه الحكمة » (3) .
وكذا حمل عليه آية الرجم ، قال : « وهو الذي اعتمده ، شيخي أبو جعفر محمد بن أحمد بن جعفر » (4) .
____________
(1) مقدّمتان في علوم القرآن : 87 ـ 88 .
(2) مقدّمتان في علوم القرآن : 81 .
(3) مقدّمتان في علوم القرآن : 85 ـ 86 .
(4) مقدّمتان في علوم القرآن : 86 .


( 259 )


4 ـ الحمل على الدعاء
وهذا ما قاله بعضهم في ما سمّي بـ « سورة الحفد » و « سورة الخلع » فقال : « وأمّا ما ذكر عن اُبيّ بن كعب أنّه عدّ دعاء القنوت : اللهمّ إنّا نستعينك ... سورةً من القرآن ، فإنّه ـ إن صحّ ذلك ـ كتبها في مصحفه لا على أنّها من القرآن ، بل ليحفظها ولا ينساها احتياطاً ، لأنّه سمع النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ كان يقنت بها في صلاة الوتر ـ وكانت صلاة الوتر أوكد السنن ... » (1) .
____________
(1) مقدّمتان في علوم القرآن : 75 .