أدلة التقية وأصولها التشريعية
المبحث الاَول
أدلة التقية من القرآن الكريم
لا شكّ أنَّ من قال بالقرآن الكريم صدَق ، ومن حكم به عَدَل ، ومن عمل به أُجِر ، ومن دعا إليه هُدِي إلى صراط مستقيم .
وكيف لا ، وهو يهدي للتي هي أقوم ، مع كونه بياناً للناس وهدىً وموعظة للمتقين ؟
ومع هذه الحقيقة الناصعة التي طفحت بها آيات الكتاب ، وأكدتها السُنّة النبوية بأعظم التأكيد ، إلاّ إنّك قد تجد من يسيء إلى المفاهيم القرآنية الواضحة فيه أبلغ الاساءة كمفهوم التقية ، فيدّعي أنها من النفاق !
وهذا يكشف عن كون اتخاذ القرار في التخطيط لاَية مسألة فكرية تتصل بعقيدة المسلمين ، أو الاَحكام الشرعية وفهمها فهماً دقيقاً لا يناط أبداً بغير المخلص الكفوء ، خشيةً من الوقوع في الانحراف الفكري عن قصد أو بدون قصد .

( 32 )
والعجب إنّك ترى تلك الاساءة ممن يدّعي العلم والفهم وتلاوة القرآن الكريم ، وكأنه لم يمر ـ في تلاوته ـ أبداً على ما سنتلوه عليك من آيات بينات وما قاله المفسرون بشأنها .
إنَّ الآيات القرآنية الدالة على اليسر ونفي الحرج وعدم إلقاء النفس إلى التهلكة ، أو المشيرة إلى أنّ المُكرَه أو المضطر إلى المحرم لا جرم عليه ، غير خافية على أحد ، ولا ينكرها إلاّ الجاهل المتعسف أو المعاند الصلف، وكلامنا ليس مع هذا الصنف ، بل مع من يعي أن نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بعث بالحنيفية السمحة ثم يشتبه عليه أمر التقية .
ونحن إذ نتعرض هنا للاَدلة القرآنية الدالة على مشروعية التقية ، نود التذكير بأن الدليل الواحد المعتبر الدال على صحة قضية يكفي لاثباتها ، فكيف لو توفّرت مع إثباتها أدلة قرآنية كثيرة ، لم يُختَلَف في تفسيرها ؛ لاَنّها محكمة يُنبىء ظاهرها عن حقيقتها ولا مجال لمتأوّلٍ فيها ؟
ومع هذا سوف لا نكتفي بدليل قرآني واحد ، بل سنذكر أربع آيات مباركة ، من بين الآيات القرآنية الكثيرة الدالة على مشروعية التقية .
والسبب في هذا الحصر والانتقاء ، إنّا وجدنا القرآن الكريم قد تعرض إلى بيان تقية المؤمنين في الاُمم السالفة بآيتين صريحتين ، كما وجدناه قد أمضى تلك التقية بتشريعاته الخالدة في أكثر من آية ، انتقينا منها آيتين فقط ، لما فيهما من وضوح تام حول امتداد ظل ذلك التشريع العظيم إلى وقت مبكر من عمر الرسالة الخاتمة .
ومن هنا قسّمنا الاَدلة المذكورة على قسمين : أحدهما ، ما اتصل بالتقية قبل الاِسلام ، والآخر : ما اتصل بها عند انطلاق دعوة الحق من
( 33 )
البيت العتيق ، واليك التفصيل :
أولاً : الاَدلة القرآنية الدالة على التقية قبل الاِسلام .
الآية الاُولى : حول تقية أصحاب الكهف .
قال تعالى : ( وَكَذلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبثْنَا يَوماً أو بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابعَثُوا أحَدَكُمْ بِوَرَقِكُمْ هذِهِ إلى المَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أيُّها أزكى طَعَاماً فلْيأتِكُمْ بِرِزقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أحَداً * إنَّهُمْ إنْ يَظْهَرُوا عَلَيكُمْ يِرْجُمُوكُمْ أوْ يُعِيدُوكُمْ في مَلَّتِهم وَلَن تُفلِحُوا إذاً أبداً ) (1).
في هاتين الآيتين المباركتين أصدق تعبير على أنّ التقية كانت معروفة وجائزة في شرع ما قبلنا (نحن المسلمين) وهي صريحة في تقية أصحاب الكهف رضي الله تعالى عنهم ، وقد أفاض المفسرون في بيان قصتهم وكيف أنّهم كانوا في ملّة كافرة وأنهم كانوا يكتمون إيمانهم قبل أن يدعوهم ملكهم إلى عبادة الاَصنام ، فلجأوا إلى الكهف بدينهم (2).
ولكن قد يقال بأنَّ الله عزَّ وجلَّ أورد من نبأهم ما يدل على عدم تقيتهم، كقوله تعالى : ( وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِم إذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمواتِ والاَرضِ لَنْ نَدْعُوا مِن دُونِهِ إلهاً لَقَدْ قُلْنَا إذاً شَطَطاً ) (3)وهذا القول
____________
1) سورة الكهف : 18 | 19 ـ 20 .
2) راجع : تفصيل قصتهم في مجمع البيان| الطبري 5 : 697 ـ 698 . وزاد المسير | ابن الجوزي 5 : 109 ـ 110 . والجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 10 : 357 ـ 359 . وتفسير الطبري 15 : 50 . والدر المنثور | السيوطي 5 : 373 . والتفسير الكبير | الفخر الرازي 21 : 97 . وتفسير أبي السعود 6 : 209 . وقد وردت قصتهم عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة وغيرهم .
3) سورة الكهف : 18 | 14 .

( 34 )
دالٌ على عدم تقيتهم .
وقولهم : ( رَبُّنَا رَبُّ السَّمواتِ وَالاَرضِ لَنْ نَدْعُوا مِنْ دُونِهِ إلهاً ) ، هو قول من لا يرى التقية أصلاً ، فاين تقية أصحاب الكهف إذن ؟!
والجواب : إنَّ ما صدر عنهم من أقوال معبِّرة عن عدم تقيتهم إنّما صدر بعد انكشاف أمرهم ، إذ كانوا قبل ذلك يكتمون إيمانهم عن ملكهم كما في لسان قصتهم ، على أن في القصة ذاتها ما يعبر بوضوح عن إيصائهم لمن بعثوه بعد انتهاء رقدتهم بالتقية ، كما يفهم من عبارة (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أحَداً ) .
ومن هنا قال الفخر الرازي : (وقوله : ( وَلْيَتَلَطَّفْ ) أي : يكون ذلك في سر وكتمان ، يعني دخوله المدينة وشراء الطعام) (1).
وأوضح من هذا ما صرّح به القرطبي المالكي بشأن توكيل أصحاب الكهف لاَحدهم بشراء الطعام مع إيصائه بالتقية من القوم الكافرين باخفاء الحقيقة عنهم بالتكتم عليها ، فقال ما هذا نصه :
(في هذه الآية نكتة بديعة ، وهي أن الوكالة إنّما كانت مع التقية خوف ان يشعر بهم أحد لما كانوا عليه من خوف على أنفسهم ، وجواز توكيل ذوي العذر متفق عليه) (2).
إذن ، تقية أصحاب الكهف لا مجال لانكارها في جميع الاَحوال سواء قبل تصميمهم على ترك المداراة مع القوم واللجوء إلى الكهف ، أو بعد
____________
1) التفسير الكبير | الفخر الرازي 21 : 103 .
2) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 10 : 376 ـ 377 .

( 35 )
انتهاء رقدتهم ، ولكن الحق ، أن تقيتهم الاُولى كانت قاسية على نفوسهم لما فيها من مجاهدة نفسية عظيمة ؛ لا سيّما إذا علمنا أنهم من أعيان القوم ومن المقربين إلى الملك الكافر دقيانوس قبل أن ينكشف أمرهم .
ولا ريب بان تقية المسلم من المسلم لا تكون مثل تقية المسلم من الكافر ، بل وما يُكرَه عليه المسلم من كافر مرة واحدة أو مرات لا يُقاس بمعاناة الفتية الذين آمنوا بربهم ، لاَنهم قضوا شطراً من حياتهم بين قوم عكفوا على عبادة الاَصنام والاَوثان .
ولهذا ورد عن الاِمام الصادق عليه السلام قوله : « ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف ، إنْ كانوا ليشهدون الاَعياد ، ويشدّون الزنانير ، فأعطاهم الله أجرهم مرتين »(1).
أقول : كيف لا يشدّون الزنّار على وسطهم وهم عاشوا في أوساطهم ؟ وكيف لا يشهدون أعيادهم وهم من أعيانهم ؟
الآية الثانية : حول تقية مؤمن آل فرعون .
قال تعالى : ( وقالَ رَجُلٌ مُؤمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَونَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُم بالبَيِّناتِ مِن رَبِّكُم وإنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وإنْ يَكُ صَادِقاً يُصبكُمْ بَعْضُ الّذي يَعِدُكُمْ إنَّ اللهَ لا يَهدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) (2).
هذه الآية المباركة هي الاُخرى تحكي مشروعية التقية قبل بزوغ شمس الاِسلام بقرون .
____________
1) اُصول الكافي 2 : 174 ـ 175 | 14 و 19 كتاب الاِيمان والكفر باب التقية ، المكتبة الاِسلامية ، طهران | 1388 هـ .
2) سورة غافر : 40 | 28 .

( 36 )
وعلى الرغم من وضوح دلالة الآية على التقية سوف نذكر طائفة من أقوال المفسرين بشأنها ؛ ليُعلم اتفاقهم على مشروعية التقية قبل الاِسلام ، وسيأتي تصريحهم ببقائها إلى يوم القيامة . وفي هذا الصدد ، نقل الماوردي في تفسيره عن الحسن البصري ، أنّ هذا الرجل كان مؤمناً قبل مجيء موسى عليه السلام ، وكذلك امرأة فرعون ، فكتم إيمانه .
وأورد عن الضحاك ، بأنّه كان يكتم إيمانه للرفق بقومه ، ثم أظهره فقال ذلك في حال كتمه (1).
ولا شكّ أنَّ ما يعنيه كتمان الاِيمان هو التقية لا غير ؛ لاَنه إخفاء أمر ماخشية من ضرر إفشائه ، والتقية كذلك .
وأورد ابن الجوزي عن مقاتل بشأن مؤمن آل فرعون : (إنّه كتم إيمانه من فرعون مائة سنة) (2).
لقد بيّن لنا القرآن الكريم ـ قبل الآية المذكورة ـ السبب الذي دفع مؤمن آل فرعون إلى قوله المذكور ، وهو رغبة فرعون بقتل موسى عليه السلام ، قال تعالى : ( وقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُوني أقتُل موسى وَليَدَعُ رَبَّهُ إنِّي أخَافُ أنْ يُبدِّلَ دِينَكُمْ أوْ أن يُظهِرَ في الاَرضِ الفَسَادَ ) (3).
وهنا قد يقال ـ كما في تفسير الرازي ـ : (إنّه تعالى حكى عن ذلك المؤمن أنّه كان يكتم إيمانه ، والذي يكتم إيمانه كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون ؟) .
____________
1) النكت والعيون | الماوردي 5 : 153 ، دار الكتب العلمية ، بيروت .
2) زاد المسير | ابن الجوزي 7 : 312 .
3) سورة غافر : 40 | 26 .

( 37 )
وقد بيّن الرازي أن في المسألة قولين :
الاَول : إنّ هذا المؤمن لما سمع قول فرعون : ( ذَرُوني أقْتُلْ مُوسى ) لم يصرح بأنه على دين موسى عليه السلام بل أوهم أنه مع فرعون وعلى دينه ، مبيّناً ان المصلحة تقتضي ترك قتله ، لاَنه لم يرتكب ذنباً وإنما كان يدعو إلى الله عزَّ وجلَّ ، وهذا لا يوجب القتل .
الثاني : إنّه كان يكتم إيمانه ، ولما علم بقول فرعون المذكور أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى وشافه فرعون بالحق (1).
على أن تقيته واضحة جداً حتى على القول الثاني ؛ لاَنّه رضي الله عنه كان قد أظهر إيمانه وشافه فرعون بالحق بعد أن كتمه بتصريح القرآن الكريم ، وكتمان الحق وإظهار خلافه هو التقية بعينها .
وهذا الرجل العظيم لم يصفه القرآن الكريم بالنفاق ، ولا بالمحتال المخادع ، بل وصفه بأشرف الصفات وأعظمها عند الله عزَّ وجل ، صفة الاِيمان .
وكيف كان ، فقد أخرج المتقي الهندي في كنز العمال ، عن ابن النجار ، عن ابن عباس ؛ وعن أبي نعيم في الحلية ، وابن عساكر ، عن ابن أبي ليلى مرفوعاً قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « الصديقون ثلاثة : حبيب النجار مؤمن آل ياسين ، ومؤمن آل فرعون الذي قال : ( أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبِّي اللهُ ) ، والثالث : علي بن أبي طالب ، وهو أفضلهم» (2).
____________
1) التفسير الكبير | الرازي 27 : 60 .
2) كنز العمال | المتقي الهندي 11 : 601 | 32897 و 32898 ، ط5 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت . وفي

=


( 38 )
وفي تفسير المحرر الوجيز : قال الجوهري : (وقد أثنى الله على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسرّه ، فجعله الله تعالى في كتابه ، وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر) (1).
وفي تفسير القرطبي في تفسيره الآية المذكورة قال : (إن المكلف إذا نوى الكفر بقلبه كان كافراً وإن لم يتلفظ بلسانه ، وأما إذا نوى الاِيمان بقلبه فلا يكون مؤمناً بحال حتى يتلفظ بلسانه ، ولا تمنعه التقية والخوف من أن يتلفظ بلسانه فيما بينه وبين الله تعالى ، إنما تمنعه التقية من أن يسمعه غيره، وليس من شرط الاِيمان أن يسمعه الغير في صحته من التكليف ، وإنّما يشترط سماع الغير له ؛ ليكف عن نفسه وماله) (2).
وبالجملة ، فإنّ جميع المفسرين الذين وقفت على تفسيرهم اعترفوا بتقية مؤمن آل فرعون ، ولولا خشية الاطالة لاَوردنا المزيد من أقوالهم ، ويكفي أن الخوارج الذين زعم بعضهم بأنهم ينكرون التقية قد صرّح أباضيتهم بالتقية في تفسيرهم لهذه الآية :
قال المفسر الاباضي محمد بن يوسف اطفيش عن الرجل المؤمن : (فمعنى كونه من آل فرعون أنه فيهم بالتقية مظهراً أنّه على دينهم ، وظاهر قوله ( ياقَوم ) أنّه منهم ـ إلى أن قال ـ واستعمل الرجل تقية على نفسه ، ما ذكر الله عزَّ وجلَّ عنه بقوله : ( وإنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيهِ كَذِبُهُ ) (3).
____________

=

حاشية كشف الاستار | محمد حسين الجلال : 98 مؤسسة الاَعلمي ، بيروت | 1405 هـ ، قال : (وحسّنه السيوطي) .
1) المحرر الوجيز | ابن عطية 14 : 132 ، تحقيق المجلس العلمي بفاس | 1407 هـ .
2) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 15 : 307 .
3) تيسير التفسير | محمد بن يوسف بن اطفيش الاَباضي 1 : 343 ـ 345 .

( 39 )
ثانياً : الاَدلة القرآنية الدالة على امضاء التقية في الاِسلام :
الآية الاُولى : حول جواز الكفر بالله تقيةً :
ويدل عليه قوله تعالى : ( مَنْ كَفَرَ باللهِ مِنْ بَعْدِ إيمانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلبُهُ مُطْمَئنٌ بالاِيمانِ وَلكِن مَنْ شَرَحَ بالكُفرِ صَدْرَاً فَعَلَيهِمْ غَضَبٌ مَنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (1).
نزلت هذه الآية المباركة باتفاق جميع المفسرين في مكة المكرمة وفي البدايات الاُولى من عصر صدر الاِسلام ، يوم كان المسلمون يعدون بعدد الاَصابع ، ومن مراجعة ما ذكروه بشأن هذه الآية يُعلم أن التقية قد أُبيحت للمسلمين أيضاً في بدايات الاِسلام الاَولى ، وانها أُبقيت على ما كانت عليه في الاَديان السابقة ولم تنسخ في الاِسلام ، بل جاء الاِسلام ليزيدها توكيداً ورسوخاً لكي يتترس بها أصحاب الدين الفتي أمام طغيان أبي سفيان وجبروت أبي جهل كما تترس بها ـ من قبل ـ أهل التوحيد أمام ظلم المشركين فيما اقتص خبره القرآن الكريم ، وصرّح به سائر المفسرين .
فقد أخرج ابن ماجة بسنده عن ابن مسعود ما يؤكد نزول الآية بشأن عمار بن ياسر وأصحابه الذين أخذهم المشركون في مكة وأذاقوهم ألوان العذاب حتى اضطروا إلى موافقة المشركين على ما أرادوا منهم .
وقد علّق الشيخ محمد فؤاد عبدالباقي على هامش حديث ابن ماجة المذكور ، بقوله (أي : وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية ، والتقية في مثل هذه الحال جائزة ، لقوله تعالى : ( إلاَّ مَنْ أُكرِهَ وَقَلبُه مُطمئنٌ
____________
1) سورة النحل : 16 | 106 .

( 40 )
بالاِيمان) (1).
وقال الجصاص الحنفي : (هذا أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الاكراه ، والاكراه المبيح لذلك هو أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أُمِر به ، فأبيح له في هذه الحال أن يُظهِر كلمة الكفر) (2).
وفي تفسير الماوردي : (إنّ الآية نزلت في عمار بن ياسر وأبويه ياسر وسمية وصهيب وخباب ، أظهروا الكفر بالاكراه وقلوبهم مطمئنة بالاِيمان)(3).
وبالجملة ، فان جميع ما وقفت عليه من كتب التفسير وغيرها متفق على نزول الآية بشأن عمار بن ياسر وأصحابه الذين وافقوا المشركين على ما أرادوا وأعذرهم الله تعالى بكتابه الكريم ، على أن بعضهم لم يكتف ببيان هذا ، بل توسع في حديثه عن التقية ، مبيناً مشروعيتها ، مع الكثير من أحكامها بكل صراحة (4).
____________
1) سنن ابن ماجة 1 : 53 ، 150 باب 11 في فضل سلمان وأبي ذر والمقداد ، دار إحياء الكتب العربية ، وانظر التعليق عليه في الهامش رقم (1) من الصفحة المذكورة .
2) أحكام القرآن | الجصاص 3 : 192 ، دار الفكر ، بيروت .
3) تفسير الماوردي (النكت والعيون) 3 : 215 ، دار الكتب العلمية ، بيروت .
4) اُنظر : تفسير الواحدي الشافعي 1 : 466 مطبوع بهامش تفسير النووي المسمى بـ (مراح لبيد) دار إحياء الكتب العربية ، مصر ، والمبسوط للسرخسي 24 : 25 . وأحكام القرآن للكياالهراسي 3 : 246 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1405 هـ . والكشاف | الزمخشري 2 : 449 ـ 550 ، دار المعرفة ، بيروت . والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز | ابن عطية الاَندلسي 10 : 234 ـ 235 تحقيق المجلس العلمي بفاس | 1407 هـ . وأحكام القرآن | ابن العربي 2 : 1177 ـ 1182 دار المعرفة ، بيروت (وفيه كلام طويل عن التقية) . وزاد المسير في علم التفسير | ابن الجوزي 4 :

=


( 41 )
الآية الثانية : حول موالاة الكافرين تقيةً :
ويدل عليه قوله تعالى : ( لا يَتَّخِذِ المُؤمِنُونَ الكافِرينَ أوليَاءَ مِنْ دُونِ المُؤمِنينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ في شيءٍ إلاَّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وإلى اللهِ المَصيرُ ) (1).
____________

=

496 ، ط4 ، المكتب الاِسلامي ، بيروت | 1407 هـ . والتفسير الكبير | الفخر الرازي 20 : 121 ، ط3 . والمغني | ابن قدامة 8 : 262 و10 : 97 مسألة 7116 ، ط1 ، دار الفكر، بيروت| 1404 هـ . والجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 10 : 181 ، دار إحياء التراث العربي . وأنوار التنزيل وأسرار التأويل | البيضاوي 1 : 571 ، ط2 ، مصر | 1388 هـ . وتفسير الخازن | علي بن محمد الخازن الشافعي 1 : 277 . وتفسير ابن جزي الكلبي : 366 ، دار الكتاب العربي ، بيروت | 1403 هـ . وتفسير البحر المحيط | أبو حيان الاَندلسي 5 : 538 ، ط2 ، دار الفكر ، بيروت | 1403 هـ . وتفسير القرآن العظيم| ابن كثير 2 : 609 ، ط1، دار الخير، دمشق | 1990 م . وغرائب القرآن | النيسابوري 14 : 122 مطبوع بهامش تفسير الطبري ، ط2 ، دار المعرفة ، بيروت | 1392 هـ . وفتح الباري شرح صحيح البخاري | ابن حجر العسقلاني 12 : 262 ـ 263 ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت | 1406 هـ . ومنهاج الطالبين | النووي الشافعي 4 : 137 ، 174 دار الفكر ، بيروت . وانظر تعليق الشربيني عليه في مغني المحتاج في شرح المنهاج 4 : 137 مطبوع بهامش منهاج الطالبين. وروح البيان | البرسوي الحنفي 5 : 84 ، ط7 ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت | 1405 هـ . وفتح القدير | الشوكاني 3 : 197 ، دار المعرفة ، بيروت . وتفسير النووي (مراح لبيد) 1 : 466 . ومحاسن التأويل | القاسمي 10 : 165 ، ط2 ، دار الفكر ، بيروت | 1398 هـ . وتيسير التفسير | محمد بن يوسف أطفيش الاَباضي 7 : 97 ، طبعة وزارة التراث القومي والثقافي في سلطنة عمان . وتفسير المراغي 14 : 146 ، ط2 ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت| 1985 م . وصفوة التفاسير | محمد علي الصابوني الوهابي ،ط1 ، عالم الكتب ، بيروت | 1406 هـ .
أقول : إنما ذكرنا هذه القائمة الطويلة من مصادرتفسر الآية ـ وكلها مصادر غير شيعية ـ لكي يعلم من مراجعتها اتفاقهم جميعاً على مشروعية التقية في حالة الاكراه عليها ، ولكن بعض المتطفلين على من الكلام الذي ليس له في ميزان العلم أي وزن ولا اعتبار .
1) سورة آل عمران : 3 | 28 .

( 42 )
هذه الآية المباركة ما أصرحها بالتقية ، وقد مرّ في تعريف التقية لغةً بأنه لا فرق بين علماء اللغة بين (التقاة) و (التقية) فكلاهما بمعنى واحد ، ومن هنا قرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والضحاك ، وأبو حيوة ، وسهل ، وحميد بن قيس ، والمفضل عن عاصم ، ويعقوب ، والحسن البصري ، وجابر بن يزيد : (تَقِيَّةَ) (1).
وقد أخرج الطبري في تفسير هذه الآية ، من عدة طرق ، عن ابن عباس، والحسن البصري ، والسدي ، وعكرمة مولى ابن عباس ، ومجاهد ابن جبر ، والضحاك بن مزاحم جواز التقية في ارتكاب المعصية عند الاكراه عليها كاتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين في حالة كون المتقي في سلطان الكافرين ويخافهم على نفسه ، وكذلك جواز التلفظ بما هو لله معصية بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالايمان ، فهنا لا أثم عليه (2).
هذا مع اعتراف سائر المسلمين بأن الآية لم تنسخ فهي على حكمها منذ نزولها وإلى يوم القيامة ، ولهذا كان الحسن البصري يقول : (إنَّ التقية جائزة إلى يوم القيامة) . حكاه الفقيه السرخسي الحنفي ، وقال معقباً : (وبه نأخذ ، والتقية أن يقي نفسه من العقوبة بما يظهره وإن كان يضمر خلافه) (3).
واحتج إمام المذهب المالكي (مالك بن أنس) بهذه الآية ، على أن
____________
1) اُنظر : حجة القراءات | أبو زرعة : 160 . ومعاني القرآن | الزجاج 1 : 205 . وتفسير الرازي 8 : 12 . والنشر في القراءات العشر 3 : 5 . والجامع لاَحكام القرآن 4 : 57 . والبحر المحيط 2 : 424 . وفتح القدير 1 : 303 .
2) تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) 6: 313 ـ 317 ، ط2 ، دار المعرفة ، بيروت | 1392 هـ .
3) المبسوط | السرخسي 24 : 45 من كتاب الاكراه .

( 43 )
طلاق المكره تقية لا يقع ، ونسب هذه الفتيا إلى ابن وهب ورجال من أهل العلم ـ على حد تعبيره ـ ثم ذكر اسماء الصحابة الذين قالوا بذلك أيضاً ، ونقل عن ابن مسعود قوله : (ما من كلام يدرأ عني سوطين من سلطان إلاّ كنت متكلماً به) (1).
وقال الزمخشري في تفسير : ( إلاَّ أنْ تَتَّقُوا مَنْهُم تُقَاةً ) : (إلاّ أن تخافوا أمراً يجب اتقاؤه تقية.. رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة : مخالفة ومعاشرة ظاهرة ، والقلب بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع) (2).
وأما الفخر الرازي فقد بين في تفسير الآية أحكام التقية ، قائلاً : (إعلم أن للتقية أحكاماً كثيرة ، إلى أن قال :
الحكم الرابع : ظاهر الآية يدل على أن التقية إنّما تحلّ مع الكفار الغالبين ، إلاّ أن مذهب الشافعي : إنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلّت التقية محاماة على النفس .
الحكم الخامس : التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال ؟
يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » ، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « من قتل دون ماله فهو شهيد » ، ولاَن الحاجة إلى المال شديدة ، والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء ، وجاز الاقتصار على التيمم رفعاً لذلك القدر من نقصان المال ! فكيف لا يجوز هاهنا ؟) .
____________
1) المدونة الكبرى | مالك بن أنس 3 : 29 ، مطبعة السعادة ، مصر .
2) الكشاف | الزمخشري 1 : 422 .

( 44 )
ثم رجّح بعد هذا قول الحسن البصري (التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة) على قول من قال بأنّها كانت في أول الاِسلام ، وقال : (هذا القول أولى ؛ لاَن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الامكان) (1).
هذا وقد نقل أبو حيان الاَندلسي المالكي في البحر المحيط ، في تفسير الآية المذكورة قول ابن مسعود : (خالطوا الناس وزايلوهم وعاملوهم بما يشتهون ، ودينكم فلا تثلموه) .
وقول صعصعة بن صوحان لاُسامة بن زيد : (خالص المؤمن وخالق الكافر ، إنّ الكافر يرضى منك بالخُلق الحسن) .
وقول الاِمام الصادق عليه السلام : « إن التقية واجبة ، إني لاَسمع الرجل في المسجد يشتمني فأستتر منه بالسارية لئلا يراني » . ثم قال بعد ذلك ما هذا نصّه :
(وقد تكلم المفسرون هنا في التقية إذ لها تعلق بالآية ، فقالوا : أمّا الموالاة بالقلب فلا خلاف بين المسلمين في تحريمها ، وكذلك الموالاة بالقول والفعل من غير تقية ، ونصوص القرآن والسُنّة تدل على ذلك .
والنظر في التقية يكون : فيمن يتقى منه ، وفيما يبيحها ، وبأي شيء تكون من الاَقوال والاَفعال ؟
فأما من يتقى منه : فكل قادر غالب يكره يجوز منه ، فيدخل في ذلك الكفار ، وجورة الرؤساء ، والسلابة ، وأهل الجاه في الحواضر .
وأمّا ما يبيحها : فالقتل ، والخوف على الجوارح ، والضرب بالسوط ،
____________
1) التفسير الكبير | الفخر الرازي 8 : 13 .

( 45 )
والوعيد ، وعداوة أهل الجاه الجورة .
وأمّا بأي شيءٍ تكون ؟ من الاَقوال : فبالكفر فما دونه ، من بيع ، أو هبة وغير ذلك . وأمّا من الاَفعال : فكل محرم.. وقال مسروق : إن لم يفعل حتى مات دخل النار ، وهذا شاذ) (1).
ما يدل على جواز التقية بين المسلمين أنفسهم :
وجدير بالاشارة هنا ، هو ما صرّح به فقهاء الفريقين ومفسروهم من جواز التقية بين المسلمين أنفسهم استناداً إلى طائفة اُخرى من الآيات الكريمة من قبيل قوله تعالى : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) (2). فهو : (يدل على حرمة الاقدام على ما يخاف الاِنسان على نفسه أو عرضه أو ماله) (3).
وقد استدل الفخر الرازي بهذه الآية على وجوب التقية في بعض الحالات ، لقوله بوجوب إرتكاب المحرم بالنسبة لمن اُكره عليه بالسيف ، وعدّ امتناع المكره حراماً ؛ لاَنّه من القاء النفس إلى التهلكة ، مع أن صون النفس عن التلف واجب استناداً إلى هذه الآية (4)، ولا معنى لوجوب ارتكاب المكره للمحرم غير التقية .
ومن ذلك ، قوله تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) (5)، والحرج هو الضيق لغة ، والتقية عادة ما يكون صاحبها في حرج شديد ،
____________
1) تفسير البحر المحيط | أبو حيان 2 : 424 .
2) سورة البقرة : 2 | 195 .
3) مواهب الرحمن | السيد السبزواري في تفسير الآية المذكورة .
4) التفسير الكبير | الفخر الرازي 20 : 21 في تفسير الآية 106 من سورة النحل .
5) سورة الحج : 23 | 78 .

( 46 )
ولا يسعه الخروج من ذلك الحرج بدونها .
ومنه أيضاً ، قوله تعالى : ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) (1).
فقد جاء تفسيرها عن الاِمام الصادق عليه السلام بالتقية ، فقال عليه السلام : « التي هي أحسن : التقية» (2).
إلى غير ذلك من الآيات الاُخرى المستدل بها على جواز التقية بين المسلمين أنفسهم فضلاً عن جوازها للمسلمين مع غيرهم (3)، زيادة على ما سيأتي في أدلتها الاُخرى كالسنة المطهّرة ، والاجماع ، والدليل العقلي القاضي بعدم الفرق في تجنب الضرر سواء كان الضرر من مسلم أو كافر .

المبحث الثاني
أدلة التقية من السُنّة المطهّرة


القسم الاَول : الاَحاديث النبوية الدالة على التقية .
توطئة في أنه هل تجوز التقية على الاَنبياء عليهم السلام ؟
إنَّ نظرة سريعة في كتب الصحاح والسنن والمسانيد تكفي للخروج بالقناعة الكاملة على ورود التقية في أحاديث غير قليلة في تلك المصادر
____________
1) سورة فصلت : 41 | 34 .
2) اُصول الكافي 2 : 218 | 6 باب التقية .
3) راجع : جامع أحاديث الشيعة 18 : 371 ـ 372 باب وجوب التقية ، فقد ذكر في أول الباب عشر آيات ، يستفاد من بعضها جواز التقية بين المسلمين أنفسهم .

( 47 )
المعتبرة عند العامّة التي نسبت التقية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القول والفعل معاً.
وهنا ، قد يتوهم البعض فيزعم أن التقية غير جائزة على الاَنبياء مطلقاً ! وهذا غير صحيح قطعاً ، لاَنَّ غير الجائز عليهم صلوات الله عليهم هو ما بلغ من التقية درجة الكفر بالله عزَّ وجلَّ ، أو كتمان شيء من التبليغ المعهود اليهم ونحو هذا من الاُمور التي لا تنسجم وعصمتهم عليهم السلام بحال من الاَحوال ؛ لاَنها من نقض الغرض والاِغراء بالقبيح وهم عليهم السلام منزهون عن كل قبيح عقلاً وشرعاً ، إذ لا يؤتمن على الوحي إلاّ المصطفون الذين لا يخشون في الله لومة لائم .
ومن هنا قال السرخسي الحنفي في معرض حديثه عن تقية عمار بن ياسر باظهار كلمة الكفر بعد الاكراه عليها مع اطمئنان قلبه بالايمان : (إلاّ أن هذا النوع من التقية يجوز لغير الانبياء والرسل عليهم السلام ، فأما في حق المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين فما كان يجوز ذلك فيما يرجع إلى أصل الدعوة إلى الدين الحق) (1).
ويفهم من كلامه جواز التقية على الاَنبياء والمرسلين فيما لا يمس أصل دعوتهم ، أما إنكارها ، أو كتمانها عن الخلق ، أو تكذيب أنفسهم ونحو هذا فهو مما لا يجوز عليهم .
وجملة القول : إنّ كل شيء لا يعلمه البشر ـ على واقعه ـ إلاّ من جهة المعصوم عليه السلام نبياً كان أو إماماً لا تجوز التقية فيه على المعصوم ، وأما مايجوز له فيه التقية فهو كل مالا يتنافى ومقام التبليغ والتعليم والهداية إلى الحق حتى ولو انحصر وصول الحق إلى طائفة دون اُخرى ، كما لو
____________
1) المبسوط | السرخسي 24 : 25 .

( 48 )
اتقى المعصوم عليه السلام في ظرف خاص من شرار الناس تأليفاً لقلوبهم ـ كما سيأتيك مثاله في صحيح البخاري ـ ونحو هذا من المصالح العائدة إلى نفس المعصوم أو دعوته ، وبشرط أن يبين وجه الحق لاَهل بيته ، أو لمن يثق به من أصحابه ، أو على أقل تقدير لمن لا يخشى من مغبة مفاتحته بالحقيقة ؛ لكي لا يكون ما خالفها هو السُنّة المتبعة .
هذا ، وقد ذهب ابن قتيبة الدينوري (ت | 276 هـ) إلى أبعد من ذلك فجوّز التقية على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في مقام التبليغ أيضاً ، فقال عن آية تبليغ الولاية من قوله تعالى : ( يا أيُّها الرسولُ بَلِّغ ما أُنزِلَ إليكَ مِنْ رَبِّك وإنْ لم تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إنّ اللهَ لا يهدي القومَ الكافرينَ) (1)ما هذا نصه :
(والذي عندي في هذا أنّ فيه مضمراً يبينه ما بعده ، وهو إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوقّى بعض التوقّي ، ويستخفي ببعض ما يُؤمر به على نحو ما كان عليه قبل الهجرة ، فلمّا فتح الله عليه مكّة وأفشى الاِسلام ، أمرَهُ أنْ يُبلِّغ ما أُرسِل إليه مجاهراً به غير متوقٍّ ولا هائبٍ ولا متألّف . وقيل له : إن أنت لم تفعل ذلك على هذا الوجه لم تكن مبلّغاً لرسالات ربِّك . ويشهد لهذا قوله بَعدُ : ( واللهُ يَعصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) أي : يمنعك منهم .
ومثل هذه الآية قوله : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمَرْ وأعرِضْ عَنِ المُشركِين)(2)(3) .
والذي نراه : أنّ ابن قتيبة خلط في هذا بين التقية في التبليغ ، وبين
____________
1) سورة المائدة : 5 | 67 .
2) سورة الحجر : 15 | 94 .
3) المسائل والاَجوبة في الحديث والتفسير| ابن قتيبة : 222 ، ط1 ، دار ابن كثير | 1410 هـ .

( 49 )
التقية لاَجله ، والاَول من كتمان الحقّ المنزّه عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والثاني لاريب فيه ، وهو الذي نعتقده في خصوص آية التبليغ ، وبيان ذلك :
إنّ الوعيد والانذار الموجه إلى النبي الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى : ( وإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بلَّغْتَ رسَالَتَهُ ) ظاهره الوعيد والانذار وحقيقته معاتبة الحبيب لحبيبه على تريثه بخصوص الولاية ، وليس المقصود من الآية تهاون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمر الدين أو عدم الاكتراث بشأن الوحي وكتمانه ، فحاشا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك ، ولا يقول هذا إلاّ زنديق أو جاهل .
نعم ، آية التبليغ تدل على تريث النبي الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم بعض التريث لجسامة التبليغ الذي جعله الله تعالى موازياً لثقل الرسالة كلّها ، ريثما يتم له صلى الله عليه وآله وسلم تدبير الاَمر بتهيئة مستلزماته ، كجمع حشود الصحابة الذين رجعوا من حجة الوداع وكانوا يزيدون على مائة ألف صحابي ، مع تمهيد السبيل أمام هذه الحشود الكثيرة لكي تقبل مثل هذا التبليغ الخطير ، خصوصاً وإنّ فيهم الموتورين بسيف صاحب الولاية أمير المؤمنين عليه السلام ، فضلاً عن المنافقين ، والذين في نفوسهم مرض والاَعراب الذين أسلموا ولمّا يدخل الاِيمان في قلوبهم ، ولا شكّ أن وجود تلك الاَصناف في مكان واحد مدعاة للخشية على حاضر ذلك التبليغ ومستقبله .
فالتريث ـ أو سمِّه التقية إن شئت ـ لم يكن خوفاً على النفس من القتل ، بل كان تقية لاَجل التبليغ نفسه والحرص على كيفية أدائه بالوجه الاَتم ، إذ تفرّس النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وجوه تلك الاَصناف من الصحابة مخالفته ، فأخّر التبليغ إلى حين ، ليجد له ظرفاً صالحاً وجواً آمناً تنجح فيه دعوته ولايخيب مسعاه ، فأخذ صلى الله عليه وآله وسلم يعدّ للاَمر أُهبته ، ومنها طلب الرعاية الالهية لنصرة هذا التبليغ نفسه من تلك الجراثيم المحدقة ، كما يدل عليه
( 50 )
قوله تعالى : ( واللهُ يَعْصِمُكَ من الناس ) . ومما يدل على وجود تلك الخشية جملة من الاَخبار المروية في كتب العامّة أنفسهم .
فقد أخرج الحاكم الحسكاني الحنفي في شواهد التنزيل ، بسنده عن ابن عباس وجابر بن عبدالله الاَنصاري ، أنهما قالا : (أمر الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يُنَصِّب عليّاً للناس ليخبرهم بولايته ، فتخوّف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقولوا: حابا ابن عمه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله إليه : (ياأيُّها الرَّسُولُ بَلِّغ... ) الآية ، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بولايته يوم غدير خم) (1).
وأخرج بسنده عن أبي هريرة : (إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسرَّ أمر الولاية ، فأنزل الله تعالى : ( يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغ... ) (2).
وأخرج بسنده عن ابن عباس هذا المعنى قائلاً : (فكره أن يحدّث الناس بشيء منها ـ أي : الولاية ـ إذ كانوا حديثي عهد بالجاهلية... حتى كان يوم الثامن عشر أنزل الله عليه : ( يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغ... ) إلى أن قال ـ فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الغد فقال : « يا أيُّها الناس إنّ الله أرسلني إليكم برسالة وإنّي ضقت بها ذرعاً مخافة أن تتهموني وتكذّبوني حتى عاتبني ربي فيها بوعيد أنزله عليَّ بعد وعيد ، ثم أخذ بيد عليٍّ فرفعها حتى رأى الناس بياض إبطيهما ثم قال : أيُّها الناس ، الله مولاي وأنا مولاكم ، فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللّهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من
____________
1) شواهد التنزيل | الحسكاني الحنفي 1 : 255 | 249 في الشاهد رقم 35 ، وأورده الآلوسي في روح المعاني عند تفسيره للآية 67 من سورة المائدة ، فراجع .
2) شواهد التنزيل 1 : 249 | 244 .

( 51 )
نصره ، وأخذل من خذله ، وأنزل الله : (اليوم أكملت لكم دينكم ) (1) » (2) .
وأخرج بسنده عن أبي جعفر محمد بن علي (الاِمام الباقر عليه السلام ) أنّه قال : « إنّ جبريل هبط على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال له : إنّ الله يأمرك أن تدل أُمتك على صلاتهم.. إلى أن قال ـ إنّ الله يأمرك أن تدل أُمتك على وليهم على مثل ما دللتهم عليه من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجهم ليلزمهم الحجة من جميع ذلك . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا رب إن قومي قريبو عهد بالجاهلية ، وفيهم تنافس وفخر... الخبر» (3).
وقال السيوطي في تفسير آية التبليغ في الدر المنثور : (أخرج أبو الشيخ ، عن الحسن أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « إنّ الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً وعرفت أن الناس مكذبي ، فوعدني لاَبلغن أو ليعذبني » ، فأنزل : (يا أيُّها الرَّسُولَ بلِّغ.. ) ثم قال : (وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ؛ عن مجاهد ، قال : لما نزلت ( يا أيُّها الرَّسُولَ بَلِّغ ما أُنزِلَ إليكَ مِنْ ربِّكَ ) ، قال : « يارب ! إنّما أنا واحد ، كيف أصنع ليجتمع عليَّ الناس » فنزلت : ( وإنْ لَمْ تَفْعَلْ فما بلَّغْتَ رِسَالتَهُ.. ) (4).
وهذا هو الموافق لما ورد في بعض كتب الشيعة الاِمامية أيضاً ، فقد ذكر الطبرسي وجود هذه الاَخبار ونظائرها في كتب الفريقين مصرحاً بأن هذا هو المشهور عند أكثر المفسرين ثم قال : (وقد اشتهرت الروايات عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام إنّ الله أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يستخلف
____________
1) سورة المائدة : 5 | 3 .
2) شواهد التنزيل 1 : 256 ـ 258 | 250 .
3) شواهد التنزيل 1 : 253 ـ 255 | 248 .
4) الدر المنثور 3 : 117 في تفسير الآية 67 من سورة المائدة ، طبع دار الفكر ، بيروت .

( 52 )
عليّاً عليه السلام ، فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه) (1).
وفي كشف الغمة ، أورد سبب نزول الآية (يا أيُّها الرَّسُولَ بلِّغ.. ) ، عن زيد بن علي ، أنّه قال : (لما جاء جبريل عليه السلام بأمر الولاية ضاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، بذلك ذرعاً، وقال : قومي حديثوا عهد بالجاهلية، فنزلت) (2).
وسوف يأتي قريباً ما يؤيد قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن القوم حديثو عهد بالجاهلية كما في صحاح القوم وسننهم ومسانيدهم .
ومن كل ما تقدم يعلم أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ـ بعد تريثه لتدبير أمر تبليغ الولاية العامة ـ بتبليغ عاجل ، مبيناً له أهمية هذا التبليغ ، ووعده العصمة من الناس ولا يهديهم في كيدهم ، ولا يدعهم يقلبوا له أمر الدعوة بالتكذيب بعد أن يعي الولاية من يعيها ويعقلها من المؤمنين ، ولن يضر الحقيقة الالتفاف حولها بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم كما حصل في السقيفة المشؤومة ( لِيَهلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحيَى مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (3).
وهكذا تم التبليغ بخطبة وداع بعيدة عن أجواء التقية التي استخدمها من حضر الغدير لكتمان ما سمعه يوم ذاك بأذنيه وشاهده بعينيه وأدركه بلبه ووعاه بأُذنه كما سيوافيك .
فالتقية هنا وإن اتصلت بالتبليغ إلاّ أنها لاَجله ، ولم تكن لاَجل الخوف على النفس الذي هو من أشد ما يخاف عليه الاِنسان عند الاِكراه ، ومن يزعم بخلاف هذا فان القرآن الكريم يكذبه ، إذ امتدح رسل الله وانبياءه
____________
1) مجمع البيان 3 : 223 في تفسير الآية 67 من سورة المائدة، طبع دار إحياء التراث العربي ، بيروت.
2) كشف الغمة 1 : 436 ، نشر أدب الحوزة ، ط2 ، قم .
3) سورة الانفال : 8 | 42 .

( 53 )
ـ ونبينا العظيم أشرفهم وأكرمهم وأحبهم وأقربهم درجة عند الله عزَّ وجل ـ بقوله تعالى : ( الَّذينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ ويَخشَونَهُ ولا يَخشَونَ أحداً إلاّ اللهَ وكفى باللهِ حَسيباً ) (1).
نعم هي تقية لاَجل التبليغ ، تقية مؤقتة ممن كان المترقب من حالهم أنهم سيخالفونه مخالفة شديدة قد تصل إلى تكذيبه صلى الله عليه وآله وسلم .
ونظير هذا هو ما حصل في بدايات أمر الدعوة إلى الدين الجديد في مكة ، فقد اتفق الكل على بدء الدعوة إلى الاِسلام سراً ، وصرّح أرباب السِّير وغيرهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجهر بالدعوة إلى الاِسلام إلاّ بعد ثلاث سنوات على نزول الوحي ، لان الخوف من قائد المشركين أبي سفيان وأعوانه من الشياطين كأبي جهل ونظرائه كان قائماً على أصل الدعوة وأنصارها في ذلك الحين ، فكان من الحكمة أن تمر الدعوة إلى الاِسلام بهذا الدور الخطير (2)، وفي الحديث : « إنّ الاِسلام بدأ غريباً وسيعود
____________
1) سورة الاحزاب : 33 | 39 .
2) اُنظر: السيرة النبوية| ابن هشام 1 : 280 . والسيرة النبوية| ابن كثير 1 : 427 . والسيرة الحلبية| ابن برهان 1 : 283 . والسيرة النبوية | دحلان 1 : 282 مطبوع بهامش السيرة الحلبية . واُنظر كذلك تاريخ الطبري 1 : 541 . والكامل في التاريخ | ابن الاثير 2 : 60 . والبداية والنهاية | ابن كثير 3 : 37 .
وإن شئت المزيد فراجع كتب التفسير في تفسير قوله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمَر واعرض عن المشركين ) . سورة الحجر : 15 | 94 ، وقوله تعالى : ( وأنذِر عَشِيرَتَكَ الاَقرَبِينَ ) . سورة الشعراء : 26 | 214 .
وفي عناوين تاريخ الخميس للدياربكري 1 : 287 هذا العنوان : «ذكر ما وقع في السنة الثانية والثالثة من اخفاء الدعوة» وقد أخرج تحت هذا العنوان عن ابن الزبير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لايظهر الدعوة إلاّ للمختصين ، وإنّه صلى الله عليه وآله وسلم أظهرها لعامّة الناس بعد ثلاث سنين عندما نزل قوله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمَر.. ) . سورة الحجر : 15 | 94 .

( 54 )
غريباً فطوبى للغرباء» (1).
وهكذا كل دعوة إلى الحق في مجتمع متعسف ظالم ؛ لابدّ وأن تكون في بداياتها غريبة ، تلازمها التقية حتى لا يذاع سرها وتخنق في مهدها .
وعلى أيّة حال فان التقية الواردة في أفعال وأقوال النبي الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم بالنحو الذي ذكرناه أولاً مما لا مجال لانكاره ، واليك جملاً منه :
الحديث الاَول : تقية النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قريش :
أخرج البخاري في صحيحه بسنده ، عن الاسود بن يزيد ، عن عائشة ، قالت : (سألت النبي صلى الله عليه وسلم ، عن الجَدْرِ(2)أمِن البيت هو ؟
قال : « نعم .
فقلت : فما لهم لم يدخلوه في البيت ؟
قال : إنّ قومك قصرت بهم النفقة .
قلت : فما شأن بابه مرتفعاً ؟
قال : فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ، ولولا أنّ قومك حديث عهد بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أُدخِلَ الجَدْرَ في البيت وأن الصق بابه في الاَرض» ) (3).
____________
1) ورد الحديث بألفاظ متقاربة في صحيح مسلم 1 : 130 | 232 . وسنن ابن ماجة 2 : 1319 | 3986 . وسنن الترمذي 5 : 18 | 7629 . ومسند أحمد 1 : 74 .
2) الجَدْرُ والحِجْرُ بمعنى واحد ، والمراد : حِجْر الكعبة المشرفة .
3) صحيح البخاري 2 : 190| 1584 كتاب الحج ، باب فضل مكة وبنيانها ، ط1 ، دار الفكر |

 

 

وهذه المحاورة بين النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم وزوجه ، قد أخرجها غير البخاري كلٌّ بطريقه إلى الاَسود بن يزيد ، عن عائشة ، وهم :
مسلم في صحيحه من طريقين (1)، وابن ماجة بلفظ : (ولولا أنّ قومك حديث عهد بكفر مخافة ان تنفر قلوبهم) (2)، والترمذي ثم قال : (هذا حديث حسن صحيح) (3)، والنسائي (4)، وأحمد (5).
وأخرج البخاري أيضاً من طريق عبدالله بن مسيلمة ، أنّ عبدالله بن محمد بن أبي بكر أخْبَرَ عبدالله بن عمر أن عائشة قالت : أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لها : « ألم تَرَيْ أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم ؟
فقلت : يا رسول الله ! ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟
قال : لولا حِدْثان قومِكِ بالكفر لفعلت » (6).
____________

=

1411 هـ و2 : 179 ـ 180 ، ط دار التراث العربي ، وأعاد روايتها في الجزء التاسع ص106 باب ما يجوز من اللّوْ ، من كتاب الاَحكام .
1) صحيح مسلم 2 : 973 | 405 و 406 كتاب الحج ، باب جدر الكعبة وبابها ، ط2 ، دار الفكر ، 1398 هـ .
2) سنن ابن ماجة 2 : 985 | 2955 ، كتاب المناسك ، باب الطواف بالحجر ، دار إحياء الكتب العربية بمصر .
3) صحيح الترمذي 3 : 224 | 875 كتاب الحج ، باب ما جاء في كسر الكعبة ، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي دار إحياء التراث العربي .
4) سنن النسائي 5 : 215 ، دار الجيل ، بيروت .
5) مسند أحمد 6 : 176 ، دار الفكر ، بيروت و7 : 253 | 24910 ، ط2 ، دار احياء التراث العربي ، 1414 هـ .
6) صحيح البخاري 2 : 190 | 1583 من الباب السابق .

( 56 )
وقد أخرجه مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم بسنده ومتنه (1)وعنه النسائي في سننه (2)، وأخرجه أحمد في مسنده مرتين (3)وأخرجه ثالثة وفيه أن الذي أخبرَ ابنَ عمر هو عبدالرحمن بن محمد بن أبي بكر (4).
وأخرج البخاري أيضاً بسنده عن هشام المعني ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لولا حداثة قومِكِ بالكفر لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام ـ فإن قريشاً استقصرتْ بناءه ـ وجعلتُ له خَلْفاً ـ أي : باباً من الخلف ـ » (5) .
وقد رواه أحمد (6)، والنسائي (7).
وقريب من لفظه ما أخرجه البخاري في بابه المذكور بسنده عن عروة ابن الزبير ، عن عائشة (8)، ومثله النسائي (9).
هذا وقد أخرج أحمد في مسنده حديث عائشة بألفاظ متقاربة عن غير من ذكرناه . فقد أورده من رواية عبدالله بن الزبير بطريقين ، وعبدالله بن أبي ربيعة ، والحرث بن عبدالله ، كلهم ، عن عائشة (10).
____________
1) موطأ مالك : 233 | 813 كتاب الحج ، باب ما جاء في بناء الكعبة .
2) سنن النسائي 5 : 216 .
3) مسند أحمد 7 : 253 | 24912 و7 : 352 | 25569 ، والطبعة الاولى 6 : 147 و177 .
4) مسند أحمد 7 : 164 | 24306 ، والطبعة الاُولى 6 : 112 .
5) صحيح البخاري 2 : 190 | 1585 .
6) مسند أحمد 7 : 85 | 23776 ، والطبعة الاُولى 6 : 57 .
7) سنن النسائي 5 : 215 .
8) صحيح البخاري 2 : 190 | 1586 .
9) سنن النسائي 5 : 216 .
10) اُنظر : رواية ابن الزبير في مسند أحمد 7 : 257 | 24935 و24938 والطبعة الاُولى 6 : 179

=


( 57 )
وقد أخرج الحاكم حديث ابن الزبير ، عن عائشة بلفظ آخر مستدركاً به على البخاري ومسلم ، ثم قال : (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه هكذا) (1).
كما أخرج أبو داود بسنده عن علقمة ، عن أمه ، عن عائشة ، ما يؤكد ان قريشاً أخرجوا الحجر من البيت حين بنوا الكعبة (2).
ومن كل ما تقدم يعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتقي قومه في عدم رد الحِجْر إلى قواعد إبراهيم عليه السلام مخافة أن تنفر قلوبهم ، لحداثة عهدهم بالكفر وقربهم من شرك الجاهلية ، وعلى حد تعبير العلاّمة السندي في حاشيته على سنن النسائي : (إنّ الاِسلام لم يتمكن في قلوبهم ، فلو هُدّمت لربما نفروا منه !!) (3).
ولهذا نجد محاولة ابن الزبير في تهديم الكعبة وإعادة بنائها وإدخال الحجر في البيت ، قد باءت بالفشل ، إذ هدم عبدالملك بن مروان ما بناه ابن الزبير وأخرج الحجر من البيت ليعيده إلى ما كان عليه في عهد من لم يتمكن الاِسلام يوماً في قلوب أكثرهم (4).
هذا ، وقد يقال : إنّ هذا الحديث ونظائره الاُخرى لا علاقة لها بالتقية ، وإنّما هي من صغريات قانون التزاحم وتقديم الاَهم على المهم ، أو دفع
____________

=

و180 . ورواية ابن أبي ربيعة فيه 7 : 360 | 25620 والطبعة الاُولى 6 : 253 . ورواية الحرث فيه أيضاً 7 : 373 | 25724 والطبعة الاُولى 6 : 262 .
1) مستدرك الحاكم 1 : 479 ـ 480 ، دار الفكر ، بيروت | 1398 هـ .
2) سنن أبي داود 2 : 221 | 2028 ، كتاب المناسك ، باب في الحجر ، دار الجيل ، بيروت | 1412 هـ.
3) حاشية العلاّمة السندي مطبوع بهامش سنن النسائي 5 : 214 طبع دار الجيل ، بيروت .
4) راجع : مسند أحمد 7 : 360 | 25620 تجد التصريح بذلك في ذيل الحديث .

( 58 )
الاَفسد بالفاسد !
والجواب : إنّها كذلك ، ولكن لا يمنع من أن تصب بعض موارد التزاحم في التقية ومنها هذا المورد ، إذ كما يحصل التزاحم بين أمرين بلا اكراه كمن دخل في صلاته وشاهد تحريفاً في أنفاسه الاَخيرة ، فالواجب حينئذ هو قطع الصلاة وانقاذ الغريق أخذاً بقانون تقديم الاَهم على المهم ، فقد يحصل بالاكراه أيضاً كما لو أُكرِه شخص على قتل آخر أو سلب أمواله وإلاّ قتل ، فالواجب هنا أن يتقي بسلب الاَموال أخذاً بقانون دفع الاَفسد بالفاسد ، وحينئذ يتحقق التزاحم والتقية في آن واحد .
ومن مراجعة أمثلة التزاحم في كتب الاُصول (1)يعلم امكان دخول الكثير منها في دائرة التقية ، على ان السيد السبزواري قال عن التقية : (إنّها ترجع إلى القاعدة العقلية التي قررتها الشرائع السماوية ، وهي تقديم الاَهم على المهم ، فتكون التقية من القواعد العقلية الشرعية) (2).
الحديث الثاني : تقية النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فاحش :
أخرج البخاري من طريق قتيبة بن سعيد ، عن عروة بن الزبير ، أن عائشة أخبرته أن رجلاً استأذن في الدخول إلى منزل النبي فقال صلى الله عليه وآله وسلم : «إئذنوا له فبئس ابن العشيرة ، أو بئس أخو العشيرة ، فلما دخل ألان له الكلام ، فقلت له : يا رسول الله ! قلت ما قلت ثم ألِنتَ له في القول ؟ فقال : أي عائشة ، إنّ شرَّ الناس منزلة عند الله من تركه أو وَدَعَهُ الناس اتقاء
____________
1) راجع : مصباح الاُصول 3 : 361 و2 : 562 .
2) مواهب الرحمن في تفسير القرآن | السيد السبزواري 5 : 202 في تفسير الآية 28 من سورة آل عمران .

( 59 )
فحشه »(1).
ونظير هذا الحديث ما أخرجه الطبراني من حديث ابن بريدة ، عن أبيه، قال : (كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقبل رجل من قريش ، فأدناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقرّبه ، فلمّا قام ، قال : « يا بريدة أتعرف هذا » ؟
قلتُ : نعم ، هذا أوسط قريش حسباً ، وأكثرهم مالاً ؛ ثلاثاً ، فقلت : يارسول الله أنبأتك بعلمي فيه ، فأنت أعلم . فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « هذا ممن لايقيم الله له يوم القيامة وزناً » (2).
وهذان الحديثان يكشفان عن صحة ما سيأتي في تقسيم التقية ، وأنها غير منحصرة بكتمان الحق وإظهار خلافه خوفاً على النفس من اللائمة والعقوبة بسبب الاِكراه ، وإنّما تتسع التقية إلى أبعد من هذا ، فيدخل فيها ما ذكره المحدثون في باب المداراة ، سيّما إذا كان في خُلُقِ الشخص المدارى نوع من الفحش كما في هذا الحديث ، أو فيه نوع من الشكاسة كما كان في خُلُق مخرمة .
فقد أخرج البخاري نفسه من طريق عبدالوهاب ، عن أبي مليكة ، قال : (إنّ النبي صلّى الله عليه (وآله) وسلم أُهدِيَت له أقبية من ديباج مزررة بالذهب ، فقسمها في ناس من أصحابه ، وعزل منها واحداً لمخرمة ، فلما
____________
1) صحيح البخاري 8 : 38 كتاب الاكراه ، باب المداراة مع الناس . وسنن أبي داود 4 : 251 | 4791 و4792 و4793 . وسنن الترمذي 4 : 359 | 1996 باب 59 وقال (هذا حديث حسن صحيح) . ومسند أحمد 7 : 59 | 23856 ، والطبعة الاُولى 6 : 38 . واُنظر : اُصول الكافي 2 : 245 | 1 كتاب الايمان والكفر ، باب من يتقى شرّه .
2) المعجم الاَوسط | الطبراني 2 : 165 | 1304 . ومجمع الزوائد | الهيثمي 8 : 17 .

( 60 )
جاء ، قال : « خبأت هذا لك » (1).
قال الكرماني في شرح الحديث المذكور : (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبأت هذا لك . وكان ملتصقاً بالثوب وأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يري مخرمة أزاره ليطيب قلبه به ، لاَنّه كان في خلق مخرمة نوع من الشكاسة) (2).
وقد استخدم هذا الاسلوب من التقية بعض الصحابة أيضاً .
قال السرخسي الحنفي في المبسوط : (وقد كان حذيفة ممن يستعمل التقية على ما روي أنه يداري رجلاً ، فقيل له : إنّك منافق !!
فقال : لا ، ولكني اشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كلّه) (3).
وواضح من كلام هذا الصحابي الجليل ، أنّ ترك التقية ليس مطلقاً في كل حال وان عدم مداراة الناس تؤدي إلى نفرتهم ، وعزلته عنهم ، وربما ينتج عنها من الاضرار ما يذهب بالدين كلّه .
ومن هنا روي عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : « المؤمن الذي يخالط الناس ، ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم » (4).
ولا يخفى على عاقل ما في مخالطة الناس من أمور توجب مداراتهم سيما إذا كانت المخالطة مع قوم مرجت عهودهم واماناتهم وصاروا حثالة.
____________
1) صحيح البخاري 8 : 38 ، كتاب الاَدب ، باب المداراة مع الناس .
2) صحيح البخاري بشرح الكرماني 22 : 7 | 5756 ، كتاب الاَدب ، باب المداراة مع الناس .
3) المبسوط | السرخسي 24 : 46 ، من كتاب الاكراه .
4) سنن ابن ماجة 2 : 1338 | 4032 . وسنن البيهقي 10 : 89 . وحلية الاولياء | أبو نعيم 5 : 62 و7: 365 . والجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 10 : 359 .

( 61 )
فقد أخرج الهيثمي ، من طريق إبراهيم بن سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : « كيف أنتم في قوم مرجت عهودهم واماناتهم وصاروا حثالة ؟ وشبّك بين أصابعه ، قالوا : كيف نصنع ؟ قال : اصبروا وخالقوا الناس بأخلاقهم ، وخالفوهم بأعمالهم » (1).
وهذا الحديث أخرجه الطبراني في الاَوسط بسنده عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « يا أبا ذر كيف أنت إذا كنت في حثالة من الناس ـ وشبّك بين أصابعه ـ قلتُ : يا رسول الله ، ما تأمرني ؟ قال : صبراً ، صبراً ، خالقوا الناس بأخلاقهم ، وخالفوهم في أعمالهم » (2).
وأخرجه الهيثمي عن أبي ذر أيضاً (3).
أقول : إنّ أبا ذر سُيّر إلى الشام ، وبعد أن أفسد الشام على معاوية بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أُعيد إلى المدينة ، ثم نُفي ـ بعد ذلك ـ إلى الربذة ومات فيها غريباً وحيداً بلا خلاف بين سائر المؤرخين ، ومنه يعلم من هم الناس الذين وصفوا بالحثالة !
هذا ، وقد روى الشيخ المفيد في أماليه بسنده عن أمير المؤمنين الاِمام علي7 أنه قال : خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم ، وزايلوهم بقلوبكم وأعمالكم (4).
ولست أدري كيف تكون مخالقة حثالة الناس بأخلاقهم ومخالطتهم باللسان والمخالفة في الاَعمال والمزايلة بالقلوب من غير تقية ؟!
____________
1) كشف الاَستار | الهيثمي 4 : 113 | 2324 .
2) المعجم الاَوسط | الطبراني 1 : 293 | 473 .
3) مجمع الزوائد | الهيثمي 7 : 282 ـ 283 ، كتاب الفتن ، باب في أيام الصبر..
4) أمالي الشيخ المفيد : 131 | 7 المجلس الخامس عشر .

( 62 )
الحديث الثالث : أمرُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمّار بن ياسر بالتقية :
وهو ما أشرنا إليه في قصة عمار وأصحابه الذين أظهروا كلمة الكفر بلسانهم وقلوبهم مطمئنة بالايمان .
فقد روى الطبري بسنده عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر ، أنه قال : (أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا ، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « كيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئناً بالايمان ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فان عادوا فعد » (1).
وفي تفسير الرازي أنه قيل بشأن عمار : (يا رسول الله ! إنّ عماراً كفر ! فقال : « كلاّ ، إنّ عماراً مليء إيماناً من فرقه إلى قدمه ، واختلط الاِيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبكي ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح عينيه ويقول : ما لكَ ؟ إن عادوا لك فعد لهم بما قلت » (2).
الحديث الرابع : النهي عن التعرّض لما لا يطاق :
ويدل عليه ما أخرجه الترمذي ـ وحسّنه ـ بسنده عن حذيفة قال : (قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : « لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ، قالوا : وكيف يذل نفسه ؟ قال : يتعرض من البلاء لما لا يطيق » (3).
وفي مسند أحمد بلفظ : « لا ينبغي لمسلم... » (4).
وأخرجه في كشف الاستار عن ابن عمر (5).
____________
1) تفسير الطبري 14 : 122 .
2) التفسير الكبير | الرازي 20 : 121 .
3) سنن الترمذي 4 : 522 | 2254 باب رقم 67 بدون عنوان .
4) مسند أحمد 6 : 562 | 22934 والطبعة الاُولى 5 : 405 .
5) كشف الاَستار | الهيثمي 4 : 113 | 2324 ، ط2 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت | 1404 هـ .

( 63 )
ووجه الاستدلال بهذا الحديث على مشروعية التقية أوضح من أن يحتاج إلى بيان ؛ لاَنّ ما يخافه المؤمن من تهديد ووعيد الكافر أو المسلم الظالم ؛ لا شكّ أنه يخلق شعوراً لديه بامتهان كرامته لو امتنع عن تنفيذ ما أُريد منه ، لاَنّه معرّض ـ في هذه الحال ـ إلى بلاء ، فان عزم على اقتحامه وهو لا يطيقه فقد أذلّ نفسه ، هذا مع أن بامكانه أن يخرج من هذا البلاء بالتقية شريطة أن لا تبلغ الدم ، لاَنّها شُرِّعت لحقنه .
قال الاِمام الباقر عليه السلام : « إنّما جُعِلَت التقيّة لِيُحقَن بها الدمُ ، فإذا بلغ الدم فليس تقية » (1) .
الحديث الخامس : في تقية المؤمن الذي كان يخفي إيمانه وقتله المقداد :
وهو ما رواه الطبراني ، بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية فيها المقداد بن الاَسود ، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا ، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح ، فقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، فأهوى إليه المقداد فقتله ، فقال له رجل من أصحابه : قتلت رجلاً قال : لا إله إلاّ الله ، والله ليذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم . فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قالوا : يا رسول الله ! إنَّ رجلاً شهد أن لا إله إلاّ الله فقتله المقداد ؟ فقال : « ادعوا لي المقداد ، فقال : يا مقداد قتلت رجلاً قال : لا إله إلاّ الله ، فكيف لك بـ (لا إله إلاّ الله) ؟ قال : فأنزل الله : ( يا أيُّها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن أُلقي اليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا * فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله
____________
1) اُصول الكافي 2 : 174 | 16 كتاب الايمان والكفر ، باب التقية . والمحاسن | البرقي : 259 | 310 كتاب مصابيح الظلم ، باب التقية . والظاهر : (إذا بلغت) وقد يكون في الكلام حذف ، والتقدير : (فإذا بلغ أمرها الدم) ، فلاحظ .

( 64 )
عليكم ) (1) .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « كان رجلاً مؤمناً يخفي إيمانه مع قوم من الكفار فقتلته ، وكذلك كنت أنت تخفي ايمانك بمكة » (2).
وقصة نزول هذه الآية أوردها البخاري مختصرة في صحيحه بسنده عن عطاء ، عن ابن عباس أيضاً ، ولم يذكر فيها المقداد بل جعل القاتل هو جماعة المسلمين (3).
وأخرجها بلفظ الطبراني الحارث بن أبي اُسامة في مسنده كما في المطالب العالية (4)، كما أخرجها الطبري في تفسيره من طريق وكيع (5).
وقد عرفت أن في هذا الحديث تصريحين من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدهما : ان المقتول كان مؤمناً يكتم ايمانه خوفاً من الكفار ، وهذا هو عين التقية .
والآخر : إنّ القاتل ـ وهو المقداد ـ كان حاله بمكة كحال المقتول .
الحديث السادس : إذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمحمد بن مسلمة وابن علاط السلمي بالتقية :
وهو حديث البخاري الذي أخرجه بسنده عن جابر بن عبدالله الاَنصاري رحمه الله قال : (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « مَنْ لكعب بن الاَشرف فإنّه قد آذى اللهَ ورسولَهُ ؟ فقام محمد بن مَسْلَمَةَ ، فقال : يا رسول الله ! أتُحبُّ أنْ أقتُلَهُ ؟ قال : نعم . قال فأذنْ لي أنْ أقول شيئاً . قال : قل .
____________
1) سورة النساء : 4 | 94 .
2) المعجم الكبير | الطبراني 12 : 24 ـ 25 | 12379 .
3) صحيح البخاري 6 : 59 ، كتاب التفسير ، باب سورة النساء .
4) المطالب العالية | ابن حجر 3 : 317 | 3577 في باب تفسير سورة النساء الآية : 94 .
5) تفسير الطبري 5 : 142 ، في تفسير الآية 94 من سورة النساء .

( 65 )
فأتاه محمد بن مسلمة ، فقال : إنّ هذا الرجلَ قد سألنا صدقةً وإنّه قد عنانا ، وإني قد أتيتك استسلفك.. الخبر) (1).
ثم ذكر البخاري تمام القصة التي انتهت بقتل ابن الاَشرف على يد محمد بن مسلمة وجماعته من الصحابة الذين أرسلوا معه .
وفي أحكام القرآن لابن العربي ، أن الصحابة الذين كلّفوا بقتل ذلك الخبيث ، وكان محمد بن مسلمة من جملتهم ، أنهم قالوا : (يا رسول الله أتأذن لنا أن ننال منك ؟) فأذن لهم (2).
ولا يخفى أن ما طُلب من الاِذن ، إنما هو لاَجل الحصول على ترخيص نبوي بالقول المخالف للحق بغية الوصول إلى مصلحة إسلامية لا تتحقق إلاّ من هذا الطريق ، فجاء الاِذن الشريف بأن يقولوا ما يشاؤون بهدف الوصول إلى تلك المصلحة .
ومنه يعلم صحة ما مرّ سابقاً بأن التقية كما قد تكون بدافع الاِكراه ، قد تكون أيضاً بغيره ، كما لو كان الدافع اليها غاية نبيلة ومصلحة عالية .
ونظير هذا الحديث بالضبط ما رواه أحمد في مسنده ، والطبري ، وعبدالرزاق ، وأبو يعلى ، والطبراني وغيرهم من حديث الصحابي الحجاج بن علاط السلمي وقصته بعد فتح خيبر ، إذ استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أن يذهب إلى مكة لجمع أمواله من مشركي قريش على أن يسمح له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول شيئاً يسرّ المشركين ، فأذن له النبي الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، وفعلاً قد ذهب إلى مكة ولما قَرُبَ منها رأى رجالاً من المشركين يتسمعون الاَخبار ليعرفوا ما انتهى إليه مصير المسلمين في غزوتهم
____________
1) صحيح البخاري 5 : 115 ، باب قتل كعب بن الاَشرف .
2) أحكام القرآن | ابن العربي المالكي 2 : 1257 .

( 66 )
الجديدة (خيبر) . فسألوا ابن علاط عن ذلك ـ ولم يعلموا باسلامه ـ فقال لهم : (وعندي من الخبر ما يسركم) !
قال : (فالتاطوا بِجَنْبَيْ ناقتي يقولون : إيه يا حجاج !
قال : قلت : هُزموا هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط) !!
ثم أخذ يعدد لهم كيف أنّ اليهود تمكنوا من قتل المسلمين ، وتتبع فلولهم ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقع أسيراً بأيديهم ، وأنهم أجمعوا على أن يبعثوه مقيداً بالحديد إلى قريش ليقتلوه بأيديهم وبين أظهرهم !!! .
هذا مع علمه علم اليقين كيف قلع أمير المؤمنين عليه السلام باب خيبر ، وكيف دُكّت حصون اليهود وولّوا الدُبر ، لكنه أراد بهذا أن يجمع أمواله من المشركين على أحسن ما يرام ، وقد تمّ له ذلك بفضل التقية التي شهد فصولها حينذاك العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي اغتمّ أولاً ثم استرّ بعد أن سرّه ابن علاط بحقيقة الخبر (1).
الحديث السابع : حديث الرفع المشهور :
صلة الحديث بالتقية :
يتصل حديث الرفع بالتقية من جهتين ، وقد تضمنهما الحديث نفسه ، وهما :
الاَولى : اشتماله على عبارة (وما أكرهوا عليه) ، والتقية غالباً ما تكون
____________
1) اُنظر : تقية الحجاج بن علاط في مسند أحمد 3 : 599 ـ 600 | 12001 والطبعة الاُولى 3 : 138ـ 139 . ومصنف عبدالرزاق 5 : 466 | 9771 . والمعجم الكبير | الطبراني 3 : 220 | 3196 . ومسند أبي يعلى الموصلي 3 : 399 ـ 403 | 3466 . وتاريخ الطبري 2 : 139 في حوادث سنة 7 هجرية . ومثله في الكامل | ابن الاثير 2 : 223 . والبداية والنهاية | ابن كثير 4 : 215 . والاصابة| ابن حجر 1 : 327 . وقال في مجمع الزوائد 6 : 155 : ورجال أحمد رجال الصحيح .

( 67 )
باكراه ، وقد بيّنا سابقاً صلة الاكراه بالتقية ، ونتيجة لتلك الصلة فقد علم جميع المفسرين بلا استثناء دلالة قوله تعالى : ( إلاّ من أُكره وقلبه مطمئن بالاِيمان ) على جواز التقية في الاِسلام ولم يناقش أحد منهم في ذلك .
الثانية : اشتمال الحديث ـ في بعض مصادره ـ على عبارة (وما اضطروا إليه) ، وقد تبين سابقاً ان من الاضطرار ما يكون بغير سوء الاختيار ، وان من أسبابه هو فعل الغير كما في الاكراه . كما تبين في أركان الاكراه ما يدلُّ على ان الاكراه الذي لا يضطر معه المكرَه إلى ارتكاب المحظور لا تجوز معه التقية إذ لم يعد الاكراه اكراهاً في الواقع لفقدانه أحد أركانه ، فيكون اكراهاً ناقصاً بخلاف التام الذي يولد اضطراراً أكيداً للمكره ، وإذا اتضح هذا اتضحت صلة العبارة بالتقية . ومما يقطع النزاع بتلك الصلة حديث الاِمام الصادق عليه السلام : « إذا حلف الرجل تقية لم يضره إذا هو أُكرِه واضطرَّ إليه»(1) ، على أن لهتين العبارتين آثارهما الواضحة في ادخال التقية في موارد كثيرة في فروع الفقه مع عدم ترتب آثارها الواقعية بفضل هاتين العبارتين من قبيل صحة التقية في طلاق المكره مع الحكم بعدم وقوع الطلاق ، وصحتها في بيع المكره ولكن مع فساد البيع وهكذا الحال في العتق والمباراة والخلع وغيرها كثير .
وزيادة على ذلك نورد ماقاله الشيخ الاَنصاري في بحث التقية ، قال : (ثم الواجب منها يبيح كل محظور من فعل الواجب وترك المحرم . والاَصل في ذلك أدلة نفي الضرر، وحديث : «رفع عن أمتي تسعة أشياء» ، ومنها : وما اضطروا إليه..) (2)وواضح من هذا الكلام صلة القواعد الفقهية
____________
1) وسائل الشيعة 23 : 228 | 29442 باب 12 من أبواب كتاب الاَيمان .
2) التقية | الشيخ الاَنصاري : 40 .

( 68 )
الخاصة بازالة الضرر بالتقية كما أشرنا إليه سابقاً ، كقاعدة لاضرر وغيرها .
وأما عن أصل الحديث ومصادره فهو معروف لدى الفريقين ، فقد أخرجه العامّة بلفظ : رفع الله من أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما اسْتُكِرهوا عليه » (1) . وعدّه السيوطي من الاَحاديث المشهورة (2)وصرح ابن العربي المالكي باتفاق العلماء على صحة معناه فقال عند قوله تعالى : (إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطمَئِنٌ بِالاِيمانِ ) : (لما سمح الله تعالى في الكفر به.. عند الاكراه ولم يؤاخِذ به ، حمل العلماء عليه فروع الشريعة ، فإذا وقع الاكراه عليها لم يؤاخذ به ، ولا يترتب حكم عليه ، وعليه جاء الاَثر المشهور عند الفقهاء : « رفع عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه » ، ـ إلى ان قال عن حديث الرفع ـ : (فإنّ معناه صحيح باتفاق من العلماء) (3).
والحديث المذكور رواه الصدوق في كتاب التوحيد بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ : « رفع عن أُمتي تسعة : الخطأ ، والنسيان، وما أكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في الخَلْق ما لم ينطق بشفة » (4).
وأورده مسنداً في (الخصال) ، مع تقديم كلمة (وما لا يعلمون) على
____________
1) مسند الربيع بن حبيب 3 : 9 ، نشر مكتبة الثقافة . وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 5 : 160 ـ 161 ، دار احياء التراث العربي ، بيروت | 1406 هـ . وكشف الخفاء | العجلوني 1 : 522 ، ط5 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت | 1405 هـ . وكنز العمال | المتقي الهندي 4 : 233 | 10307 ، ط5 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت | 1405 هـ .
2) الدرر المنتثرة في الاَحاديث المشتهرة | السيوطي : 87 ، ط1 ، مطبعة الحلي ، مصر .
3) أحكام القرآن | ابن العربي 3 : 1177 ـ 1182 وفيه تفصيل مطول عن الاَحكام المتصلة بحديث الرفع ، فراجع .
4) التوحيد | الصدوق : 353 | 24 باب الاستطاعة .

( 69 )
(وما لا يطيقون) (1).
وأرسله في (الفقيه) بهذه الصورة : « وضع عن أُمتي تسعة أشياء : السهو ، والخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، والطيرة ، والحسد ، والتفكر في الوسوسة في الخَلْق ما لم ينطق الانسان بشفة » (2).
كما أورده الشيخ الحر في (الوسائل) ، تارة عن الصدوق (3)، وأُخرى عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسى (4).
وهذا الحديث الذي تحدث عنه علماء الاصول من الشيعة الاِمامية في صفحات عديدة في باب البراءة من الاُصول العملية ، صريح برفع المؤاخذة عن المكره .
وقد نصّ القرآن الكريم في أكثر من آية على ذلك ، وهذا يدل على صحة ما تضمنه الحديث حتى مع فرض عدم صحته في نفسه ، ومن بين تلك الآيات زيادة على ما مرّ ، قوله تعالى : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن اردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فان الله من بعد اكراههن غفور رحيم ) (5).
____________
1) الخصال | الصدوق 2 : 417 | 9 باب التسعة .
2) من لا يحضره الفقيه | الصدوق 1 : 36 | 132 باب 14 .
3) وسائل الشيعة | الحر العاملي 15 : 369 | 20769 باب 65 من أبواب جهاد النفس ، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاِحياء التراث .
4) وسائل الشيعة 23 : 237 | 29466 باب 16 من أبواب كتاب الايمان . واُنظر : نوادر أحمد بن محمد بن عيسى : 74 | 157 .
5) سورة النور : 24 | 34 . واُنظر : سبب نزولها في صحيح مسلم 8 : 244 كتاب التفسير باب قوله تعالى : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ) .

( 70 )
ومن هنا درأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحدَّ عن امرأة زنت كرهاً في عهده الشريف ، وأمر بإقامة الحد على من استكرهها (1).
وقد مرّ فيما سبق وحدة الملاك بين الاكراه والتقية في بعض صورها ، مما يعني أن دلالة حديث الرفع على مشروعية التقية لالبس فيه ولا خفاء.
ونكتفي بهذا القدر من الاَحاديث المروية عن النبي الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، في أصح كتب الحديث عند العامّة ؛ لننتقل بعد ذلك إلى تراث النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الذي حفظه أهل بيته عليهم السلام ـ وأهل البيت أدرى بالذي فيه ـ لنقتطف منه جزءاً يسيراً من أحاديث التقية المروية في كتب الحديث عند شيعتهم ، سيّما وقد علم الكل كيف أينعت مفاهيم الشريعة على أيديهم عليهم السلام ، وكيف أغدقت علومهم بفاكهة القرآن ؛ لاَنّهم صنوه الذي لن يفارقه حتى يردا على النبي الحوض (2)، وكيف فاح عطر الاِيمان وأريج الحق من بيوتهم التي أذن الله لها أن ترفع ويذكر فيها اسمه . فنقول :
القسم الثاني : أحاديث أهل البيت عليهم السلام في التقية :
إنّ الاَحاديث المروية عن أهل البيت عليهم السلام في التقية كثيرة وقد بلغ رواتها الثقات عدداً يزيد على الحد المطلوب في التواتر ، وفي تلك الاَحاديث تفصيلات كثيرة تضمنت فوائد التقية ، وأهميتها ، وكيفياتها ، وموارد حرمتها ، مع الكثير من أحكامها فيما يزيد على أكثر من ثلاثمائة حديث تجدها مجموعة في كتب الحديث المتأخرة كوسائل الشيعة
____________
1) صحيح الترمذي 4 : 155 كتاب الحدود ، باب ما جاء في المرأة إذا استكرهت على الزنا .
2) كما في حديث الثقلين المتواتر عند جميع المسلمين وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض » .

( 71 )
ومستدركه ، وجامع أحاديث الشيعة وذلك في أبواب كتاب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومن هنا أصبحت دراستها في بحث مختصر كهذا متعذرة ، بل حتى الاكتفاء بعرض نصوصها كذلك أيضاً ، ولما لم نجد بداً من التعرض السريع إليها ارتأينا جمع ما اشترك منها في معنىً واحدٍ تحت عنوان واحد، ومن ثم الاستدلال على ذلك العنوان ببعض أحاديثه لا كلّها سيما وان القدر المشترك في أحاديث كل عنوان يبلغ حد التواتر المعنوي ، وقد اكتفينا ببعض العناوين المهمة وتركنا الكثير منها ، إذ لم يكن الهدف سوى وضع صورة مصغرة عن التقية في الاَحاديث المروية عن أهل البيت عليهم السلام ، وبالنحو الآتي :
أولاً : الاَحاديث المستنبطة جواز التقية من القرآن الكريم :
هناك جملة وافرة من الاَحاديث التي فسّرت بعض الآيات القرآنية بالتقية ، نذكر منها :
1 ـ عن هشام بن سالم ، عن الاِمام الصادق عليه السلام ، في قول الله تعالى : (أولئِكَ يُؤتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرَّتَينِ بِمَا صَبَرُوا ) قال : « بما صبروا على التقية (ويدرؤنَ بالحَسَنَةِ السَّيِّئةَ ) (1)قال : الحسنة : التقية ، والسيئة : الاِذاعة»(2) .
2 ـ وعنه عليه السلام في قوله تعالى : ( ولا تستوي الحَسَنَةُ ولا السَّيِّئةُ ) قال : «الحسنة : التقية ، والسيئة : الاِذاعة » . وقوله عزَّ وجل : ( إدْفَعْ بالَّتي هيَ أحسَن ) ... قال : « التي هي أحسن : التقية ـ ثم قرأ عليه السلام ـ : ( فإذا الَّذي بَيْنَكَ
____________
1) سورة القصص : 28 | 54 .
2) اُصول الكافي 2 : 217 | 1 ، كتاب الاِيمان والكفر ، باب التقية .

( 72 )
وَبَيْنَهُ عَدَاوةٌ كأنَّهُ وليٌّ حَمِيمٌ ) » (1).
ولا يخفى : أن تفسير الحسنة بالتقية ، والسيئة بالاِذاعة ، هو من باب تفسير الشيء ببعض مصاديقه ، وهذا مما لا ينكر ، فلو توقف مثلاً صون دم مسلم على التقية فلا شك في كونها حسنة ، بل من أعظم القربات ، وأما لو ترتب على الاِذاعة سفك دم حرام ، فلا ريب بِعدِّ الاِذاعة سيئة بل من أعظم الموبقات .
هذا ، وقد تجد في هذا النمط من الروايات ما يدل على عمق تاريخ التقية في الحياة البشرية ، باعتبارها المنفذ الوحيد المؤدي إلى سلامة الاِنسان أزاء ما يعرضه للفناء ، أو يقف حجراً في طريق المصالح المشروعة ، كما حصل ذلك لبعض الاَنبياء عليهم السلام ، ومن تلك الروايات :
عن أبي بصير ، قال : (قال أبو عبدالله عليه السلام : « التقية من دين الله ، قلت : من دين الله ؟ قال : إي والله من دين الله ، ولقد قال يوسف : ( أيَّتُها العِيرُ إنَّكُم لَسارِقُونَ ) (2)والله ما كانوا سرقوا شيئاً . ولقد قال إبراهيم عليه السلام : ( إنّي سَقِيمٌ) (3) والله ما كان سقيماً » (4) .
ومما يجب التنبيه عليه هنا ، هو أن تقية يوسف عليه السلام إنّما هي من جهة قول المؤذن الآتي ، الذي صحت نسبته إلى يوسف عليه السلام باعتبار علمه به مع تهيئة مقدماته .
____________
1) اُصول الكافي 2 : 218 | 6 باب التقية . ومثله في المحاسن | البرقي : 257 | 297 . والآية من سورة فصلت : 41 | 34 .
2) سورة يوسف : 12 | 70 .
3) سورة الصافات : 37 | 89 .
4) اُصول الكافي 2 : 217 | 3 باب التقية . ومثله في المحاسن للبرقي 258 | 203 . وعلل الشرائع | الصدوق : 51 | 1 ، 2 .

( 73 )
فانظر إلى قوله تعالى : ( وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ ءَاوَى إليهِ أخَاهُ قالَ إنِّي أنا أخُوكَ فَلا تَبتَئسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِم جَعَلَ السِّقايةَ في رَحلِ أخِيهِ ثُمَّ أذَّنَ مؤذِّنٌ أيَّتُها العِيرُ إنَّكُم لَسَارِقُونَ ) (1).
ستعلم ان قول المؤذن كان بتدبير يوسف عليه السلام وعلمه ، وهو لم يكذب عليه السلام ، لان أصحاب العير كانوا قد سرقوه من أبيه وألقوه في غيابات الجب حسداً منهم وبغياً .
ومما يدل على صدق يوسف عليه السلام أن اخوته لما قالوا له بعد ذلك : (ياأيُّها العزِيزُ إنَّ لَهُ أباً شَيخاً كبيراً فَخُذْ أحَدَنا مَكانَه ) (2). لم يقل عليه السلام لهم بأنا لا نأخذ إلاّ من سرق متاعنا ، بل قال لهم : ( مَعَاذَ اللهِ أنْ نأخُذَ إلاّ مَنْ وَجَدْنا مَتَاعَنَا عَنْدَه.. ) (3).
وبالجملة فان تقية النبي يوسف عليه السلام إنّما هي من جهة ظهوره بمظهر من لا يعرف حال اخوته مع اخفاء الحقيقة عنهم مستخدماً التورية في حبس أخيه . وعليه تكون تقيته هنا ليست من باب الاحكام وتبليغ الرسالة حتى يُزعم عدم جوازها عليه ، بل كانت لاَجل تحقيق بعض المصالح العاجلة كاحتفاظه بأخيه بنيامين ، والآجلة كما يكشف عنها قوله لهم بعد إن جاءوا من البدو : ( ادْخُلُوا مَصْرَ إنْ شاءَ اللهُ آمنينَ ) (4).
وجدير بالذكر أن البخاري قد أخرج في صحيحه بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ من طريقين ـ أنه قال :« .. ولو لبثت في السجن ما لبث
____________
1) سورة يوسف : 12 | 69 ـ 70 .
2) سورة يوسف : 12 | 78 .
3) سورة يوسف : 12 | 79 .
4) سورة يوسف : 12 | 99 .

( 74 )
يُوسُفَ لاَجِبتَ الدَّاعي » (1)!!
ولا أعلم فريّة تجوّز على أشرف الاَنبياء والرسل صلى الله عليه وآله وسلم التقية في ارتكاب ما أبى عنه يوسف عليه السلام واستعصم فيما لو جُعل صلى الله عليه وآله وسلم مكانه عليه السلام من هذه الفرية التي ليس بها مرية .
هذا ، وأما عن تقية إبراهيم عليه السلام ، فهي نظير تقية يوسف عليه السلام ، وذلك باعتبار أنه أخفى حاله واظهر غيره بهدف تحقيق بعض المصالح العالية التي تصب في خدمة دعوة أبي الاَنبياء عليه السلام إلى التوحيد ونبذ الشرك ، مثل تكسير الاَصنام وتحطيمها ، وليس في قوله : ( إنّي سقيمٌ ) أدنى كذبٍ ، لاَنّه ورّى عما سيؤول إليه حاله مستقبلاً ، بمعنى أنه سيسقم بالموت ، فتكون تقيته عليه السلام في موضوع لا في حكم حتى يُتأمَّل فيها .
ومن هنا كانت كلمة أهل البيت عليهم السلام قاطعة في صدق إبراهيم عليه السلام في تقيته. ولكن أبى البخاري إلاّ أن يكذّب إبراهيم عليه السلام ، فقد أخرج في صحيحه من طريقين عن أبي هريرة نفسه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : «لم يكذب إبراهيم إلاّ ثلاثاً» وفي لفظ آخر : «لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلاّ ثلاث كذبات» (2).
ولم يكتف البخاري بهذا ، بل أخرج بسنده عن أبي هريرة نفسه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (.. إنّ الله يجمع يوم القيامة الاَولين والآخرين في صعيد واحد... فيأتون إبراهيم فيقولون : أنتَ نبيُ الله وخليله من الاَرض اشفع لنا إلى ربّك، فيقول ـ فذكر كذباته ـ : نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى موسى) .
____________
1) صحيح البخاري 6 : 97 باب سورة يوسف ، من كتاب التفسير .
2) صحيح البخاري 4 : 171 باب قول الله تعالى : ( واتَّخَذَ اللهُ إبراهِيمَ خَلِيلاً ) من كتاب بدء الخَلق .

( 75 )
ثم قال البخاري : (تابعه أنسٌ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) (1)!!
أقول : معاذ الله أن نصدّق بهذه الاَكاذيب وان قالوا بوثاقة رواتها !، وكيف لا نكذّبهم وقد رموا من قد رفع الله محلّه ، وارسله من خلقه رحمة للعالمين وحجة للمجتهدين ؟
وفي هذا الصدد قال الفخر الرازي في تفسيره عن خبر أبي هريرة : (ماكذب إبراهيم إلاّ ثلاث كذبات) قال : (قلت لبعضهم : هذا الحديث لاينبغي أن يقبل ؛ لاَنّ نسبة الكذب إلى إبراهيم عليه السلام لا تجوز ، وقال ذلك الرجل : فكيف يحكم بكذب الرواة العدول ؟ فقلت : لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبته إلى الخليل عليه السلام ، كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى) (2).
ثانياً : الاَحاديث الدالة على أن التقية من الدين :
دلّت جملة من الاَحاديث المروية عن أهل البيت عليهم السلام بأن التقية من دين الله عزَّ وجل ومن الاِيمان وان من يتركها في موارد وجوبها فهو غير مكتمل التفقه في الدين ، من ذلك :
1 ـ عن أبي عمر الاعجمي ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « يا أبا عمر ، ان تسعة أعشار الدين في التقية ، ولا دين لمن لا تقية له » (3).
وهذا الحديث لا شكَّ فيه ، فهو ناظر من جهة إلى كثرة ما يبتلى به المؤمن في دينه ولا يخرج من ذلك إلاّ بالتقية خصوصاً إذا كان في مجتمع يسود أهله الباطل .
____________
1) صحيح البخاري 4 : 172 باب يَزِفُّونَ النَّسَلانُ في المشي من كتاب بدء الخَلق .
2) التفسير الكبير | الفخر الرازي 16 : 148 .
3) اُصول الكافي 2 : 172 | 2 . والمحاسن | البرقي : 359 | 309 . والخصال | الصدوق : 22| 79 .

( 76 )
ومن جهة اُخرى إلى قلة أنصار الحق وكثرة أدعياء الباطل حتى لكأن الحق عشر ، والباطل تسعة أعشار ، وعليه فلا بدَّ لاَهل الحق من مماشاة أهل الباطل في حال ظهور دولتهم ليسلموا من بطشهم .
على أن وصف الحق بالقلة والباطل بالكثرة وكذلك أهلهما صرّح به القرآن الكريم في أكثر من آية ، كقوله تعالى : ( وما أكثرُ النَّاسِ وَلو حَرصْتَ بمُؤمِنِينَ ) (1)وقوله تعالى : ( إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الَّصالِحَاتِ وَقَليلٌ مَّا هُمْ) (2).
كما أن الحديث لا يدل على نفي الدين عمّن لا يتقي بل يدل بقرينة أحاديث أُخر أنه غير مكتمل التفقه ، بل ليس فقيهاً في دينه ، وهكذا في فهم نظائره الاُخر . ومما يدل عليه ما رواه عبدالله بن عطاء قال : قلتُ لابي جعفر الباقر عليه السلام : رجلان من أهل الكوفة أُخذا ، فقيل لاَحدهما : ابرأ من أمير المؤمنين ، فبرىء واحد منهما وأبى الآخر ، فَخُلِّيَ سبيل الذي برىء وقُتل الآخر ؟
فقال عليه السلام : « أما الذي برىء فرجل فقيه في دينه ، وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجَّل إلى الجنة » (3).
هذا ، ولا يمنع أن يكون الحديث دالاً أيضاً على سلب الاِيمان والدين حقيقة ممن لا يتقي في موارد وجوب التقية عليه ، كما لو أُكره مثلاً على أن يعطي مبلغاً زهيداً ، وإلاّ عرّض نفسه إلى القتل ، فامتنع حتى قتل ، فهذا لاشكّ أنه من إلقاء النفس بالتهلكة ، وقد مرّ تصريح علماء العامّة بأن مصير
____________
1) سورة يوسف : 12 | 103 .
2) سورة ص : 38 | 24 .
3) اُصول الكافي 2 : 175 | 21 ، باب التقية .

( 77 )
مثل هذا يكون في جهنم ، ومن غير المعقول ان تكون جهنم مأوى المؤمن المتدين ، بل هي مأوى الكافرين والمنافقين وأمثالهم . ونظير هذا الحديث :
2 ـ عن معمر بن خلاد ، عن أبي الحسن عليه السلام قال : قال أبو جعفر عليه السلام : «التقية من ديني ودين آبائي ، ولا إيمان لمن لا تقية له » (1).
3 ـ عن أبان بن عثمان عن الاِمام الصادق عليه السلام قال : « لا دين لمن لا تقية له ، ولا إيمان لمن لا ورع له » (2).
4 ـ عن عبدالله بن أبي يعفور ، عن الاِمام الصادق عليه السلام قال : اتقوا على دينكم فاحجبوه بالتقية ، فإنّه لا إيمان لمن لا تقية له (3).
ثالثاً : الاَحاديث الواردة في بيان أهمية التقية :
وصِفت التقية في جملة من الاَحاديث بأنها ترس المؤمن ، وحرزه ، وجنته ، وإنّها حصنه الحصين ونحو هذه العبارات الكاشفة عن أهمية التقية .
وربما قد يستفاد من ذلك الوصف والتشبيه وجوبها في موارد الخوف أحياناً ، فكما أن استتار المؤمن ـ في سوح الوغى ـ بالترس من ضرب السيوف وطعن الرماح قد يكون واجباً أحياناً ، فكذلك استتاره بالتقية في موارد الخوف لحفظ النفس من التلف ، ومن هذه الاَحاديث :
1 ـ عن عبدالله بن أبي يعفور ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « التقية ترس المؤمن ، والتقية حرز المؤمن » (4).
2 ـ عن محمد بن مروان ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « كان أبي عليه السلام
____________
1) اُصول الكافي 2 : 219 | 12 ، باب التقية .
2) صفات الشيعة | الشيخ الصدوق : 3 | 3 .
3) اُصول الكافي 2 : 218 | 5 ، باب التقية .
4) اُصول الكافي 2 : 221 | 23 ، باب التقية .

( 78 )
يقول: وأي شيء أقر لعيني من التقية ؟ إن التقية جُنّة المؤمن » (1).
3 ـ وعن الاِمام الصادق عليه السلام أنّه قال للمفضل : « إذا عملت بالتقية لم يقدروا في ذلك على حيلة ، وهو الحصن الحصين وصار بينك وبين أعداء الله سداً لا يستطيعون له نقباً » (2).
رابعاً : الاَحاديث الدالة على عدم جواز ترك التقية عند وجوبها :
1 ـ من مسائل داود الصرمي للامام الجواد عليه السلام قال : قال لي : « يا داود ، لو قلت إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقاً » (3).
2 ـ أورد الشيخ الطوسي في أماليه بسنده عن الاِمام الصادق عليه السلام أنه قال: « ليس منا من لم يلزم التقية ويصوننا عن سفلة الرعية » (4).
3 ـ وعن أمير المؤمنين عليه السلام : « التقية من أفضل أعمال المؤمن يصون بها نفسه واخوانه عن الفاجرين » (5).
خامساً : الاَحاديث الدالة على أن التقية في كلِّ ضرورة ، وأنها تقدّر بقدرها وتحرم مع عدمها ، مع بعض مستثنياتها :
1 ـ ما رواه زرارة عن الاِمام الباقر عليه السلام قال : « التقية في كل ضرورة
____________
1) اُصول الكافي 2 : 220 | 14 ، باب التقية .
2) تفسير العياشي 2 : 351 | 86 . واُنظر : الوسائل 16 : 213 | 21389 باب 24 من أبواب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
3) وسائل الشيعة 16 : 211 | 21382 باب 24 من أبواب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، نقله عن مستطرفات السرائر ، وأورده الصدوق في الفقيه عن الاِمام الصادق عليه السلام . واُنظر : الفقيه 2 : 80 | 6 باب صوم يوم الشك .
4) أمالي الشيخ الطوسي 1 : 287 .
5) تفسير الاِمام العسكري عليه السلام : 320 | 163 .

( 79 )
وصاحبها أعلم بها حين تنزل به » (1).
2 ـ وعن إسماعيل الجعفي ، ومعمر بن يحيى بن سام ، ومحمد بن مسلم ، وزرارة كلهم قالوا : (سمعنا أبا جعفر عليه السلام يقول : « التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له » ) (2).
3 ـ وعن أبي عمر الاَعجمي ، عن الصادق عليه السلام أنّه قال : « ... والتقية في كل شيء إلاّ في النبيذ والمسح على الخفّين » (3).
4 ـ وفي مضمر زرارة ، قال : (قلتُ له : في مسح الخفين تقية ؟ فقال : «ثلاثة لا أتقي فيهن أحداً : شرب المسكر ، ومسح الخفين ، ومتعة الحج ») (4) .
وأورده الصدوق بلفظ : (وقال العالم عليه السلام) (5)ولا أثر لهذا الاضمار والوصف في تحديد اسم القائل على حجية الخبر ؛ لاَنّ قرينة (عليه السلام) كافية في تعيين كونه من الاَئمة الاثني عشر عليهم السلام ، وهو في المورد المذكور مردد بين الاِمامين الباقر والصادق عليهما السلام .
هذا ، وقد حمل زرارة المنع عن استخدام التقية في المسكر ، ومسح الخفين ، ومتعة الحج على شخص الاِمام عليه السلام ، لاَنه قال في ذيل الحديث برواية الكافي : (ولم يقل الواجب عليكم أن لا تتقوا فيهن أحداً)، فلاحظ .
____________
1) اُصول الكافي 2 : 219 | 13 ، باب التقية .
2) اُصول الكافي 2 : 220 | 18 ، باب التقية . ومثله في المحاسن للبرقي : 259 | 308 .
3) اُصول الكافي 2 : 217 | 2 ، باب التقية . ومثله في المحاسن : 259 | 309 . والخصال | الصدوق : 22 | 79 .
4) فروع الكافي 3 : 32 | 2 باب مسح الخفين من كتاب الطهارة .
5) من لا يحضره الفقيه 1 : 30 | 95 باب حد الوضوء وترتيب ثوابه .

( 80 )
وقد يكون السبب أن هذه الاُمور الثلاثة مما هي معلومة جداً من مذهبه عليه السلام ، وإن التقية فيها لا تجدي نفعاً لاَن كل من عاصر الاِمام الصادق عليه السلام يعلم رأيه في هذه الثلاثة ، فلا حاجة لان يتقي فيهن أحداً .
5 ـ وفي حديث آخر بالغ الاَهمية مع علو اسناده وصحته ، عن مسعدة ابن صدقة قال : (سمعتُ أبا عبدالله عليه السلام يقول وسئل عن إيمان من يلزمنا حقه واخوَّته كيف هو وبما يثبت وبما يبطل ؟ فقال عليه السلام : « إنّ الاِيمان قد يتخّذ على وجهين : أما أحدهما : فهو الذي يظهر لك من صاحبك ، فإذا ظهر لك منه مثل الذي تقول به أنت ، حقت ولايته وأخوّته إلاّ ان يجيء منه نقض للذي وصف من نفسه وأظهره لك ، فإنّ جاء منه ما تستدل به على نقض الذي أظهر لك ، خرج عندك مما وصف لك وأظهر ، وكان لما أظهر لك ناقضاً إلاّ أن يدّعي أنّه إنما عمل ذلك تقية ، ومع ذلك ينظر فيه :
فإن كان ليس مما يمكن أن تكون التقية في مثله ، لم يقبل منه ذلك ؛ لاَن للتقية مواضع ، من أزالها عن مواضعها لم تستقم له . وتفسير ما يتقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله ، فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز » (1).
سادساً : الاَحاديث الدالة على حرمة استخدام التقية في الدماء :
1 ـ عن محمد بن مسلم ، عن الاِمام الباقر عليه السلام قال : « إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم ، فإذا بلغ الدم فليس تقية » (2).
____________
1) اُصول الكافي 2 : 168 | 1 باب فيما يوجب الحق لمن انتحل الايمان وينقضه ، من كتاب الايمان والكفر .
2) اُصول الكافي 2 : 220 | 16 . والمحاسن : 259 | 310 .

( 81 )
2 ـ وعن أبي حمزة الثمالي ، عن الاِمام الصادق عليه السلام : « ... إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم ، فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية » (1).
وجدير بالذكر ، إنّ بعض فقهاء العامّة جوّز التقية في الدماء وهتك الاَعراض كما سيوافيك مفصلاً في محلّه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
سابعاً : الاَحاديث المبيّنة لحكم التقية في بعض الموارد :
ونذكر من هذه الموارد ما يأتي :
1 ـ ما دلَّ على مخالطة أهل الباطل ومداراتهم بالتقية :
أ ـ عن إسماعيل بن جابر ، واسماعيل بن مخلد السراج ، كلاهما عن الاِمام الصادق عليه السلام ، في رسالته إلى أصحابه : « وعليكم بمجاملة أهل الباطل ، تحملوا الضيم منهم ، وإياكم ومماظتهم ، دينوا فيما بينكم وبينهم إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعتموهم الكلام ، فإنّه لا بدَّ لكم من مجالستهم ومخالطتهم ومنازعتهم الكلام بالتقية التي أمركم الله أن تأخذوا بها فيما بينكم وبينهم..» (2).
ب ـ وعن هشام الكندي ، عن الاِمام الصادق عليه السلام ، قال : إياكم ان تعملوا عملاً يعيّرونا به ، فإن ولد السوء يُعيّر والده بعمله ، كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً ولا تكونوا عليه شيناً ، صلوا في عشائرهم ، وعودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير فانتم أولى به منهم ، والله ما عُبد الله بشيء أحب إليه من الخبء .
____________
1) تهذيب الاَحكام | الشيخ الطوسي 6 : 172 | 335 باب النوادر ، من كتاب الجهاد وسيرة الاِمام عليه السلام .
2) روضة الكافي 8 : 2 | 1 .

( 82 )
قلتُ : وما الخبء ؟ قال : التقية » (1).
جـ ـ وعن أبي بصير قال : قال أبو جعفر عليه السلام : « خالطوهم بالبرانية ، وخالفوهم بالجوانية إذا كانت الاِمرة صبيانية » (2).
وقد مرّ هذا المعنى أيضاً في رواية الشيخ المفيد في أماليه بسنده عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : « خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم ، وزايلوهم بقلوبكم وأعمالكم » .
كما مرّ أيضاً ما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتب العامّة ، أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال : «كيف أنتم في قوم مرجت عهودهم وأماناتهم وصاروا حثالة ؟ وشبك بين أصابعه ، قالوا : كيف نصنع ؟ قال : اصبروا وخالطوا الناس بأخلاقهم ، وخالفوهم في أعمالهم » (3).
وقد مرّ في حديث مسعدة بن صدقة عن الاِمام الصادق عليه السلام ما يدل عليه .
وبالجملة ، فان مخالطة أهل الباطل عند غلبتهم ضرورة لا بدّ منها وقد نهجها من قبل مؤمن آل فرعون وأصحاب الكهف كما مرّ في الاَدلة القرآنية، فراجع .
2 ـ ما دلَّ على عدم الحنث والكفارة على من حلف تقية :
ويدل عليه ما رواه الاَعمش ، عن الاِمام الصادق عليه السلام قال : «...واستعمال التقية في دار التقية واجب ، ولا حنث ولا كفارة على من
____________
1) اُصول الكافي 2 : 219 | 11 باب التقية .
2) اُصول الكافي 2 : 220 | 20 باب التقية .
3) اُنظر ما ذكرناه حول الحديث الثاني في هذا الفصل .

( 83 )
حلف تقية يدفع بذلك ظلماً عن نفسه (1).
أقول : سيأتي إن شاء الله تعالى جواز الحلف تقية عند العامّة ولا أثر يترتب عليه عندهم .
3 ـ ما دلَّ على حكم التقية في شرب الخمر :
عن درست بن منصور ، قال : (كنت عند أبي الحسن موسى عليه السلام ، وعنده الكميت بن زيد ، فقال للكميت : أنت الذي تقول :
فالآن صرت إلى أُميّة * والاُمور لها مصائر ؟
قال : قلت ذاك ، والله ما رجعت عن إيماني ، وإني لكم لموالٍ ، ولعدوكم لقالٍ ، ولكني قلته على التقية .
قال : « أما لئن قلت ذلك ، إن التقية تجوز في شرب الخمر » (2).
وقد فُسِّر هذا الحديث عند بعضهم بعدم جواز التقية في شرب الخمر، بتقريب : إنّ الاِمام عليه السلام لم يقتنع بعذر الكميت ، وأجابه : بأن باب التقية لو كان واسعاً بهذه السعة لجازت التقية حتى في شرب الخمر ! ومعنى هذا أنه لا تجوز التقية فيه (3).
ولكن في هذا التفسير تأمل ؛ لاَنّ اللام في قوله عليه السلام (لئن قلت هذا...) هي اللام الموطئة للقسم و (إن) شرطية ، وجواب الشرط محذوف يمكن تقديره بالاِباحة أي : والله لئن قلت ذلك فهو مباح لك أن تقول مثل هذا القول الباطل المحرّم كما أُبيح شرب الخمر تقية على عظمة حرمته .
____________
1) الخصال | الصدوق : 607 | 9 .
2) رجال الكشي 2 : 465 | 364 .
3) القواعد الفقهية | ناصر مكارم الشيرازي 3 : 417 .

( 84 )
وبهذا تكون جملة : (إن التقية تجوز في شرب الخمر) جملة ابتدائية لاصلة لها بجواب الشرط ، ويدل عليه عدم اقترانها بالرابط .
وأما لو وجد الرابط ، لكان جواب القسم الذي سدَّ مسد جواب الشرط هو (فأن التقية تجوز في شرب الخمر) وعندها سيكون المعنى على طبق التفسير المتقدم .
والحق : إنّ مسألة تحريم التقية في شرب الخمر وإن لم تثبت بهذه الرواية ، لاِمكان الخدش في دلالتها ، إلاّ أنّه يمكن الاستدلال بروايات أُخر على التحريم .
كرواية الصدوق في (الخصال) في حديث الاَربعمائة ، بسنده عن أمير المؤمنين عليه السلام ، قال : « ليس في شرب المسكر والمسح على الخفين تقية ».
ورواية (دعائم الاِسلام) عن الاِمام الصادق عليه السلام قال : « التقية ديني ودين آبائي إلاّ في ثلاث : في شرب المسكر ، والمسح على الخفين ، وترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم » .
وفي (فقه الاِمام الرضا عليه السلام ) ، عن العالم عليه السلام : « ولا تقية في شرب الخمر، ولا المسح على الخفين ، ولا تمسح على جوربك إلاّ من عدوّ أو ثلج تخاف على رجليك » .
وفي (الهداية) للصدوق : «ولا تقية في ثلاث أشياء : شرب المسكر ، والمسح على الخفين ، ومتعة الحج» (1)، والمعروف أن فتاوى الصدوق في سائر كتبه منتزعة من نصوص الاَخبار .
ومن كل ما تقدم يُعلَم عدم صحة تأويل زرارة المتقدم ؛ لعدم تقييد
____________
1) اُنظر هذه الموارد في جامع أحاديث الشيعة 2: 391 ـ 392| 22 ـ 25 باب 26 من أبواب الوضوء.

( 85 )
النهي في هذه الاَخبار بشخص المعصوم عليه السلام . هذا فيما إذا كان الاكراه على شرب الخمر بما دون القتل ، وأما مع القتل فلا شك في جوازه عندهم .
4 ـ ما دلَّ على جواز اظهار كلمة الكفر تقيةً :
وقد مرّ ما يدل عليها في الدليل القرآني ، وأما من الحديث فيدل عليه ما رواه مسعدة بن صدقة عن الاِمام الصادق عليه السلام في حديث طويل ذكر فيه قصة عمار بن ياسر وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمار : « ياعمار، إن عادوا فعد » (1).
5 ـ ما دلَّ على جواز التقية في الوضوء البدعي :
ويدل عليه ما أخرجه العياشي بسنده عن صفوان ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام في غسل اليدين ، قال : (قلتُ له : يُردُّ الشعر ؟ فقال عليه السلام : « إن كان عنده آخر فعل وإلاّ فلا » ) (2).
والمراد بـ (الآخر) هو من يتقى شرّه ، وأما ردّ الشعر ، فهو كناية لطيفة عن الوضوء البدعي المنكوس ؛ لاَنّ ردّ الشعر من لوازمه .
أقول : لا يخفى على الفطن ما في هذا الحديث من دلالة واضحة على انشائه تقية فضلاً عن كونه في التقية ، إذ كان السائل فيه لبقاً وحذراً فجاء بالكناية المعبرة عن مراده ، كما كان الاِمام عليه السلام حذراً في جوابه إذ جاء تجويز الوضوء المنكوس تقية بلفظ متسق مع طبيعة السؤال من غير تصريح ، وهذا يكشف عن كون السؤال والجواب كانا في محضر من يتقى شرّه .
____________
1) اُصول الكافي 2 : 219 | 10 باب التقية ، وقد تضمن هذا المعنى الحديث رقم 15 و21 من الباب المذكور .
2) تفسير العياشي 1 : 300 | 54 .

 

 

المبحث الثالث

الاِجماع ودليل العقل

أولاً : الاِجماع :
يعتبر الاِجماع ـ في أصح أقوال المسلمين ـ أداة كاشفة عن وجود دليل متين وقويم كآية من كتاب الله عزَّ وجل أو حديث شريف ينطق بالحكم المجمع عليه ، وان اعتبره فريق منهم دليلاً قائماً بنفسه تماماً كالكتاب والسُنّة ، وهو بهذا المعنى يستحيل في حقّه الخطأ ويكون معصوماً كعصمة الكتاب والسُنّة المطهّرة ، وان من ردَّ عليه هو كمن ردّ قول الله عزَّوجل وسُنّة رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم .
ومع هذا فلم يختلف اثنان من المسلمين في أن أهم مصادر التشريع في الاِسلام هما : القرآن الكريم ، والسُنّة المطهّرة القطعية ، وانه لا يوجد مصدر تشريعي آخر يبلغ شأوهما في الحجية .
والحق ، ان ما تقدم من أدلة التقية يغني عمّا سواه ، خصوصاً مع اتفاق المفسرين والمحدثين على عدم وجود الناسخ لتلك الاَدلة ، مع انعدام الشك في ما دلت عليه من جواز التقية عند الخوف الشخصي أو النوعي ، ولهذا لم يناقش أحد منهم في ذلك ، وعليه سيكون الحديث عن الاجماع على مشروعية التقية حديثاً زائداً عند من لا يراه دليلاً مستقلاً وقائماً بنفسه .
ولهذا سنكتفي بقول من يراه دليلاً مستقلاً كالكتاب والسُنّة ، إذ سيكون ذلك أبلغ في دحض حجة كون التقية نفاقاً كما يزعم بعض أتباع القول باستقلالية الاِجماع الذي ادعاه غير واحد من علماء العامّة كما يفهم من
( 87 )
أقوالهم وإليك نموذجاً منها :
1 ـ قال أبو بكر الجصاص الحنفي (ت | 370 هـ) : (ومن امتنع من المباح كان قاتلاً نفسه متلفاً لها عند جميع أهل العلم) (1).
2 ـ ابن العربي المالكي (ت | 543 هـ) ذكر في كلامه عن حديث الرفع ـ كما مرّ ـ اتفاق العلماء على صحة معناه ، وانهم حملوا فروع الشريعة عليه وهذا يكشف عن اجماعهم على أن ما استُكرِه عليه الاِنسان فهو له ، وهذا هو معنى التقية (2).
3 ـ عبدالرحمن المقدسي الحنبلي (ت | 624 هـ) قال : (أجمع العلماء على إباحة الاَكل من الميتة للمضطر وكذلك سائر المحرمات التي لا تزيل العقل) (3) .
والاكراه داخل في المفهوم العام للضرورة كماسبق التأكيدعليه،كما أن الاضطرارإلىأكل الميتةكماقديكون بسبب المخمصة،فقديكون بسبب الاكراه من ظالم أيضاً .
4 ـ القرطبي المالكي (ت | 671 هـ) قال : (أجمع أهل العلم على أن من أُكرِه على الكفر حتى خشي على نفسه القتل انه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالايمان) (4).
5 ـ ابن كثير الشافعي (ت | 774 هـ) قال : (اتفق العلماء على أن المكره
____________
1) أحكام القرآن | الجصاص 1 : 127 .
2) أحكام القرآن | ابن العربي 3 : 1179 .
3) العدة في شرح العمدة | عبدالرحمن المقدسي : 464 ، نشر مكتبة الرياض الحديثة .
4) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 10 : 180 .

( 88 )
على الكفر يجوز له ان يوالي أيضاً لمهجته ، ويجوز له أن يأبى) (1).
6 ـ ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت | 852 هـ) قال : (قال ابن بطال ـ تبعاً لابن المنذر ـ : أجمعوا على أن من أُكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئن بالايمان ، أنه لا يحكم عليه بالكفر) (2).
7 ـ الشوكاني (ت | 1250 هـ) قال : (أجمع أهل العلم على أن من أُكرِه على الكفر حتى خشي على نفسه القتل ، إنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالايمان ، ولا تبين منه زوجته ، ولا يحكم عليه بحكم الكفر) (3).
8 ـ جمال الدين القاسمي الشامي (ت | 1332 هـ) قال : (ومن هذه الآية : ( إلاَّ أنْ تَتَّقُوا مَنهُم تُقَاةً ) استنبط الاَئمة مشروعية التقية عند الخوف ، وقد نقل الاجماع على جوازها عند ذلك الاِمام مرتضى اليماني)(4).
ثانياً : الدليل العقلي :
وأما عن الدليل العقلي ، فالواقع إنّه لم يكن للعقل البشري صلاحية الاستقلال بالحكم عند جميع المسلمين بما في ذلك المعتزلة ؛ إذ لم يثبت عنهم اعتبار العقل حاكماً في المقام وتقديمه على حكم الشرع(5)،
____________
1) تفسير القرآن العظيم | ابن كثير 2 : 609 .
2) فتح الباري | ابن حجر العسقلاني 12 : 264 .
3) فتح القدير | الشوكاني 3 : 197 .
4) محاسن التأويل | القاسمي 4 : 197 . واُنظر هذه الاَقوال وغيرها من الاَقوال الاُخر المصرحة باجماع علماء العامّة على مشروعية التقية في كتاب واقع التقية | السيد ثامر هاشم العميدي : 93 ـ 96 ، ط1 ، نشر مركز الغدير للدراسات الاِسلامية ، 1416 هـ .
5) راجع مباحث الحكم عند الاصوليين | محمد سلام مدكور 1 : 162 . فقد نقل عن كتاب مسلّم الثبوت قوله : (في كتب بعض المشايخ : إنّ المعتزلة يرون ان الحاكم هو العقل) ثم نقل في ردّه عن

=


( 89 )
والصحيح من الاَقوال : إنّه الطريق الموصل إلى العلم القطعي ، والسبيل إلى معرفة حجية القرآن ودلائل الاَخبار (1).
فالعقول وإن كان لها قابلية الادراك ، إلاّ أن ادراكها يتناول الكليات ولايتعدى إلى الجزيئات والفروع التي تحتاج إلى نص خاص بها ، وهذا لا يمنع من أن يدرك العقل السليم خصائص كثيرة في تفسير النصوص بشرط أن لا يكون خاضعاً لتأثيرات اُخرى تصده عن الوصول إلى الواقع ، كما لو ناقش في الاَوليّات والبديهيات ولم يفرق بين قبح الظلم وحسن العدل مثلاً .
كما لا يمنع أيضاً من أن يستقل ببعض الاَحكام ، إذ لو عُزل العقل عن الحكم لهدم أساس الشريعة ، غير أنّه لا يتعرض للتفاصيل والاشياء الخارجية ولا يتخذ منها موضوعات لاحكامه ، وإنما يحكم بأمور كلية عامّة كما مرّ .
فهو مثلاً لا يحكم بوجوب الصوم والصلاة ، وإنّما يحكم باطاعة الشارع المقدس وامتثال أوامره التي منها الاَمر بالصوم والصلاة .
وهو لا يتعرض للبيع والاِجارة والزواج والطلاق ، بل يقرّ كل ما يصلح الجميع ويحفظ النظام العام .
وهو لا يحلل هذا أو يحرم ذاك ، وإنّما يحكم بقبح العقاب بلا بيان ، وبوجوب دفع الضرر عن النفس ، وبحرمة ادخاله على الغير .
فالعقل له القدرة في أن يحكم بهذه الكليات العامة وما إليها حكماً
____________

=

محيط الزركشي قوله : (إنّ المعتزلة لا ينكرون ان الله هو الشارع للاَحكام والموجب لها ، والعقل عندهم طريق إلى العلم بالحكم الشرعي) .
1) التذكرة باُصول الفقه | الشيخ المفيد : 28 ، مطبوع ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد في المجلد التاسع ، ط2 ، دار المفيد ، بيروت | 1414 هـ . وقد نقله عنه الكراجكي في كنز الفوائد 2 : 15 ، دار الاَضواء ، بيروت | 1405 هـ ، إذ أورد فيه مختصر التذكرة باُصول الفقه للشيخ المفيد .

( 90 )
مستقلاً ، حتى وإن لم يرد فيها نص شرعي ، ونحن نكتشفها ونطبقها على مواردها دون أيّة واسطة . وأما ما جاء في لسان الشارع من الاَحكام في الموارد التي استقل العقل بها فمحمول على الارشاد والتأكيد لحكم العقل، لا على التأسيس والتجديد ، ومن هذه الموارد :
1 ـ حكم العقل بالاحتياط : كما لو كان لديك اناءان : أحدهما طاهر ، والآخر نجس ، ولم تستطع التمييز بينهما ، أو تيقنت أنه قد فاتك فرض العشاء أو المغرب ولم تميز أحدهما . ففي مثل هذا الحال يحكم العقل بوجوب الاحتياط باجتناب الانائين في المثال الاَول ، وباداء الصلاتين في المثال الثاني . ولهذا اشتهر عن الفقهاء قولهم : (العلم باشتغال الذمة يستدعي العلم بفراغها) .
2 ـ حكم العقل البراءة : كما لو كانت هناك قضية لدى الفقيه لا يعرف حكمها هل هو الفعل أو الترك ؟ بعد أن استفرغ ما في وسعه للبحث عنها في جميع أدلة الاحكام، ومع هذا لم يجد شيئاً في خصوص تلك القضية .
فهنا يلجأ الفقيه إلى العقل الذي يحكم في مثل هذه الحالة التي لم يصل بها بيان من الشارع بقبح العقاب بلا بيان ، وبناء على هذه القاعدة العقلية يحكم الفقيه بجواز الاَمرين : الفعل والترك .
ومن هنا يتضح أن الفرق بين الاحتياط والبراءة العقليين ، هو أن مورد الاحتياط هو الشك في المكلف به بعد العلم بوجود التكليف ، ومورد البراءة هو الشك في أصل وجود التكليف .
3 ـ حكم العقل بدفع الضرر : قسّم الفقهاء الضرر على قسمين ، وهما : الضرر الدنيوي كالمتعلق بالنفس والعرض والمال ، والضرر الاخروي كالعقاب على مخالفة الشارع .
( 91 )
والواقع ، إنّ وجوب دفع الضرر لا ينكره إلاّ الجاهل الغبي ، لاَنّه من أحكام الفطرة التي فُطرت عليها النفوس ، ومن ينكر ذلك فهو أقل رتبة من الحيوانات التي تعرف ذلك بفطرتها ، ألا ترى أنها تنفر من الضرر وتسعى الى النفع بفطرتها دون توسط حكم العقل بالحسن والقبح ؟
إنّ هذه القاعدة قاعدة التحسين والتقبيح العقليين اعتنى بها المتكلمون كثيراً ، وأما علماء الاصول فهم وان لم يخصصوا لها باباً مستقلاً ، إلاّ أنهم تكلموا عنها استطراداً في مباحث الظن والاحتياط والبراءة ، وتتلخص أقوالهم بأن الضرر إما أن يكون دنيوياً ، أو أخروياً ، وكل منهما إمّا أن يكون معلوم الوقوع أو مظنوناً أو محتملاً .
أما الضرر المعلوم ، فان العقل يحكم بوجوب دفعه مهما كان نوعه .
وأما المظنون والمحتمل ، فإنّ كان اخروياً ، وكان ناشئاً عن العلم بوجود التكليف والشك في المكلَّف به ، فهو واجب الدفع ؛ لاَنّه يعود إلى وجوب الاِطاعة فيدخل في باب الاحتياط .
وان كان الخوف من الضررالاخروي ناشئاً من الشك في أصل وجود التكليف ، فالعقل لا يحكم بوجوب الدفع ؛ لوجود المؤمِّن العقلي وهو قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان) أي : إنّ عدم البيان أمان من العقاب ، كما في قوله تعالى : (وَمَا كُنّا مُعَذِّبينَ حتّى نبعَث رسولاً)(1)زيادةعلىحديث الرفع المشهوركما تقدم ، وحديث السّعة في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام ، أنّه قال : ..هم في سعة حتى يعلموا(2)وقول الاِمام الصادق عليه السلام :
____________
1) سورة الاِسراء : 17 | 15 .
2) فروع الكافي 6 : 297 | 2 باب 48 من كتاب الاَطعمة .

( 92 )
«كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (1)، وقوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نص » (2)، وهذا يعني دخوله في باب البراءة .
أما الضرر الدنيوي المظنون والمحتمل ، فإنّ العقل يحكم بوجوب دفعه ولا فرق بينه وبين الضرر المعلوم من هذه الجهة ؛ لاَنّ الاِقدام على مالا يؤمَّن معه الضرر قبيح عقلاً . فأي منا مثلاً إذا تردد عنده سائل موجود في اناء بين كونه سماً أو ماءً ولا يحكم عقله بوجوب اجتناب ذلك السائل ؟
والخلاصة : إنّ الضرر الدنيوي يحكم العقل بوجوب الابتعاد عنه معلوماً كان أو مظنوناً أو محتملاً (3).
وواضح أنّ الاستدلال بالعقل على مشروعية التقية ، إنّما هو من جهة حرص العاقل على حفظ نفسه من التلف ، بل ومن كل ما يهدد كيانه بالخطر ، أو يعرّض شرفه إلى الانتهاك ، أو أمواله إلى الضياع .
والتقية ما هي إلاّ وسيلةٌ وقائيةٌ لحفظ هذه الامور وصيانتها عندما يستوجب الاَمر ذلك ، على أن لا يؤدي استخدامها إلى فسادٍ في الدين أو المجتمع كما لو أبيحت في الدماء مثلاً .
____________
1) من لا يحضره الفقيه 1 : 208 | 937 باب 45 .
2) عوالي الآلي 2 : 44 | 111 .
3) راجع في ذلك مقالات الشيخ محمد جواد مغنية : 250 ـ 253 ، ط2، دار ومكتبة الهلال ، بيروت | 1993 م .