المبحث الثالث
الاِجماع ودليل العقل
أولاً
: الاِجماع :
يعتبر الاِجماع ـ في أصح
أقوال المسلمين ـ أداة كاشفة عن وجود دليل
متين وقويم كآية من كتاب الله عزَّ وجل أو
حديث شريف ينطق بالحكم المجمع عليه ، وان
اعتبره فريق منهم دليلاً قائماً بنفسه
تماماً كالكتاب والسُنّة ، وهو بهذا المعنى
يستحيل في حقّه الخطأ ويكون معصوماً كعصمة
الكتاب والسُنّة المطهّرة ، وان من ردَّ
عليه هو كمن ردّ قول الله عزَّوجل وسُنّة
رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم .
ومع هذا فلم يختلف اثنان من
المسلمين في أن أهم مصادر التشريع في
الاِسلام هما : القرآن الكريم ، والسُنّة
المطهّرة القطعية ، وانه لا يوجد مصدر
تشريعي آخر يبلغ شأوهما في الحجية .
والحق ، ان ما تقدم من أدلة
التقية يغني عمّا سواه ، خصوصاً مع اتفاق
المفسرين والمحدثين على عدم وجود الناسخ
لتلك الاَدلة ، مع انعدام الشك في ما دلت
عليه من جواز التقية عند الخوف الشخصي أو
النوعي ، ولهذا لم يناقش أحد منهم في ذلك ،
وعليه سيكون الحديث عن الاجماع على مشروعية
التقية حديثاً زائداً عند من لا يراه دليلاً
مستقلاً وقائماً بنفسه .
ولهذا سنكتفي بقول من يراه
دليلاً مستقلاً كالكتاب والسُنّة ، إذ سيكون
ذلك أبلغ في دحض حجة كون التقية نفاقاً كما
يزعم بعض أتباع القول باستقلالية الاِجماع
الذي ادعاه غير واحد من علماء العامّة كما
يفهم من
( 87 )أقوالهم
وإليك نموذجاً منها :
1 ـ قال أبو بكر الجصاص الحنفي (ت
| 370 هـ) : (ومن امتنع من المباح كان قاتلاً
نفسه متلفاً لها عند جميع أهل العلم)
(1).
2 ـ ابن العربي المالكي (ت | 543 هـ)
ذكر في كلامه عن حديث الرفع ـ كما مرّ ـ اتفاق
العلماء على صحة معناه ، وانهم حملوا فروع
الشريعة عليه وهذا يكشف عن اجماعهم على أن ما
استُكرِه عليه الاِنسان فهو له ، وهذا هو
معنى التقية
(2).
3 ـ عبدالرحمن المقدسي الحنبلي (ت
| 624 هـ) قال : (أجمع العلماء على إباحة الاَكل
من الميتة للمضطر وكذلك سائر المحرمات التي
لا تزيل العقل)
(3) .
والاكراه داخل في المفهوم العام
للضرورة كماسبق التأكيدعليه،كما أن
الاضطرارإلىأكل الميتةكماقديكون بسبب
المخمصة،فقديكون بسبب الاكراه من ظالم
أيضاً .
4 ـ القرطبي المالكي (ت | 671 هـ)
قال : (أجمع أهل العلم على أن من أُكرِه على
الكفر حتى خشي على نفسه القتل انه لا إثم
عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالايمان)
(4).
5 ـ ابن كثير الشافعي (ت | 774 هـ)
قال : (اتفق العلماء على أن المكره
____________
1) أحكام القرآن | الجصاص 1 :
127 .
2) أحكام القرآن | ابن العربي 3 : 1179 .
3) العدة في شرح العمدة | عبدالرحمن المقدسي :
464 ، نشر مكتبة الرياض الحديثة .
4) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 10 : 180 .
( 88 )على
الكفر يجوز له ان يوالي أيضاً لمهجته ، ويجوز
له أن يأبى)
(1).
6 ـ ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت
| 852 هـ) قال : (قال ابن بطال ـ تبعاً لابن
المنذر ـ : أجمعوا على أن من أُكره على الكفر
حتى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئن
بالايمان ، أنه لا يحكم عليه بالكفر)
(2).
7 ـ الشوكاني (ت | 1250 هـ) قال : (أجمع
أهل العلم على أن من أُكرِه على الكفر حتى
خشي على نفسه القتل ، إنّه لا إثم عليه إن كفر
وقلبه مطمئن بالايمان ، ولا تبين منه زوجته ،
ولا يحكم عليه بحكم الكفر)
(3).
8 ـ جمال الدين القاسمي الشامي (ت
| 1332 هـ) قال : (ومن هذه الآية : (
إلاَّ أنْ تَتَّقُوا مَنهُم تُقَاةً )
استنبط الاَئمة مشروعية التقية عند الخوف ،
وقد نقل الاجماع على جوازها عند ذلك الاِمام
مرتضى اليماني)(4).
ثانياً
: الدليل العقلي :
وأما عن الدليل العقلي ،
فالواقع إنّه لم يكن للعقل البشري صلاحية
الاستقلال بالحكم عند جميع المسلمين بما في
ذلك المعتزلة ؛ إذ لم يثبت عنهم اعتبار العقل
حاكماً في المقام وتقديمه على حكم الشرع(5)،
____________
1) تفسير القرآن العظيم |
ابن كثير 2 : 609 .
2) فتح الباري | ابن حجر العسقلاني 12 : 264 .
3) فتح القدير | الشوكاني 3 : 197 .
4) محاسن التأويل | القاسمي 4 : 197 . واُنظر هذه
الاَقوال وغيرها من الاَقوال الاُخر
المصرحة باجماع علماء العامّة على مشروعية
التقية في كتاب واقع التقية | السيد ثامر
هاشم العميدي : 93 ـ 96 ، ط1 ، نشر مركز الغدير
للدراسات الاِسلامية ، 1416 هـ .
5) راجع مباحث الحكم عند الاصوليين | محمد
سلام مدكور 1 : 162 . فقد نقل عن كتاب مسلّم
الثبوت قوله : (في كتب بعض المشايخ : إنّ
المعتزلة يرون ان الحاكم هو العقل) ثم نقل في
ردّه عن
=
( 89 )والصحيح
من الاَقوال : إنّه الطريق الموصل إلى العلم
القطعي ، والسبيل إلى معرفة حجية القرآن
ودلائل الاَخبار
(1).
فالعقول وإن كان لها قابلية
الادراك ، إلاّ أن ادراكها يتناول الكليات
ولايتعدى إلى الجزيئات والفروع التي تحتاج
إلى نص خاص بها ، وهذا لا يمنع من أن يدرك
العقل السليم خصائص كثيرة في تفسير النصوص
بشرط أن لا يكون خاضعاً لتأثيرات اُخرى تصده
عن الوصول إلى الواقع ، كما لو ناقش في
الاَوليّات والبديهيات ولم يفرق بين قبح
الظلم وحسن العدل مثلاً .
كما لا يمنع أيضاً من أن يستقل
ببعض الاَحكام ، إذ لو عُزل العقل عن الحكم
لهدم أساس الشريعة ، غير أنّه لا يتعرض
للتفاصيل والاشياء الخارجية ولا يتخذ منها
موضوعات لاحكامه ، وإنما يحكم بأمور كلية
عامّة كما مرّ .
فهو مثلاً لا يحكم بوجوب الصوم
والصلاة ، وإنّما يحكم باطاعة الشارع المقدس
وامتثال أوامره التي منها الاَمر بالصوم
والصلاة .
وهو لا يتعرض للبيع والاِجارة
والزواج والطلاق ، بل يقرّ كل ما يصلح الجميع
ويحفظ النظام العام .
وهو لا يحلل هذا أو يحرم ذاك ،
وإنّما يحكم بقبح العقاب بلا بيان ، وبوجوب
دفع الضرر عن النفس ، وبحرمة ادخاله على
الغير .
فالعقل له القدرة في أن يحكم
بهذه الكليات العامة وما إليها حكماً
____________
=
محيط الزركشي قوله : (إنّ المعتزلة لا ينكرون
ان الله هو الشارع للاَحكام والموجب لها ،
والعقل عندهم طريق إلى العلم بالحكم الشرعي)
.
1) التذكرة باُصول الفقه | الشيخ المفيد : 28 ،
مطبوع ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد في
المجلد التاسع ، ط2 ، دار المفيد ، بيروت | 1414
هـ . وقد نقله عنه الكراجكي في كنز الفوائد 2 :
15 ، دار الاَضواء ، بيروت | 1405 هـ ، إذ أورد
فيه مختصر التذكرة باُصول الفقه للشيخ
المفيد .
( 90 )مستقلاً
، حتى وإن لم يرد فيها نص شرعي ، ونحن نكتشفها
ونطبقها على مواردها دون أيّة واسطة . وأما
ما جاء في لسان الشارع من الاَحكام في
الموارد التي استقل العقل بها فمحمول على
الارشاد والتأكيد لحكم العقل، لا على
التأسيس والتجديد ، ومن هذه الموارد :
1 ـ حكم العقل بالاحتياط :
كما لو كان لديك اناءان : أحدهما طاهر ،
والآخر نجس ، ولم تستطع التمييز بينهما ، أو
تيقنت أنه قد فاتك فرض العشاء أو المغرب ولم
تميز أحدهما . ففي مثل هذا الحال يحكم العقل
بوجوب الاحتياط باجتناب الانائين في المثال
الاَول ، وباداء الصلاتين في المثال الثاني .
ولهذا اشتهر عن الفقهاء قولهم : (العلم
باشتغال الذمة يستدعي العلم بفراغها) .
2 ـ حكم العقل البراءة : كما
لو كانت هناك قضية لدى الفقيه لا يعرف حكمها
هل هو الفعل أو الترك ؟ بعد أن استفرغ ما في
وسعه للبحث عنها في جميع أدلة الاحكام، ومع
هذا لم يجد شيئاً في خصوص تلك القضية .
فهنا يلجأ الفقيه إلى العقل
الذي يحكم في مثل هذه الحالة التي لم يصل بها
بيان من الشارع بقبح العقاب بلا بيان ، وبناء
على هذه القاعدة العقلية يحكم الفقيه بجواز
الاَمرين : الفعل والترك .
ومن هنا يتضح أن الفرق بين
الاحتياط والبراءة العقليين ، هو أن مورد
الاحتياط هو الشك في المكلف به بعد العلم
بوجود التكليف ، ومورد البراءة هو الشك في
أصل وجود التكليف .
3 ـ حكم العقل بدفع الضرر :
قسّم الفقهاء الضرر على قسمين ، وهما : الضرر
الدنيوي كالمتعلق بالنفس والعرض والمال ،
والضرر الاخروي كالعقاب على مخالفة الشارع .
( 91 )
والواقع ، إنّ وجوب دفع الضرر لا ينكره إلاّ
الجاهل الغبي ، لاَنّه من أحكام الفطرة التي
فُطرت عليها النفوس ، ومن ينكر ذلك فهو أقل
رتبة من الحيوانات التي تعرف ذلك بفطرتها ،
ألا ترى أنها تنفر من الضرر وتسعى الى النفع
بفطرتها دون توسط حكم العقل بالحسن والقبح ؟
إنّ هذه القاعدة قاعدة التحسين
والتقبيح العقليين اعتنى بها المتكلمون
كثيراً ، وأما علماء الاصول فهم وان لم
يخصصوا لها باباً مستقلاً ، إلاّ أنهم
تكلموا عنها استطراداً في مباحث الظن
والاحتياط والبراءة ، وتتلخص أقوالهم بأن
الضرر إما أن يكون دنيوياً ، أو أخروياً ،
وكل منهما إمّا أن يكون معلوم الوقوع أو
مظنوناً أو محتملاً .
أما الضرر المعلوم ، فان العقل
يحكم بوجوب دفعه مهما كان نوعه .
وأما المظنون والمحتمل ، فإنّ
كان اخروياً ، وكان ناشئاً عن العلم بوجود
التكليف والشك في المكلَّف به ، فهو واجب
الدفع ؛ لاَنّه يعود إلى وجوب الاِطاعة
فيدخل في باب الاحتياط .
وان كان الخوف من الضررالاخروي
ناشئاً من الشك في أصل وجود التكليف ، فالعقل
لا يحكم بوجوب الدفع ؛ لوجود المؤمِّن
العقلي وهو قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان) أي :
إنّ عدم البيان أمان من العقاب ، كما في قوله
تعالى : (
وَمَا كُنّا
مُعَذِّبينَ حتّى نبعَث رسولاً)(1)زيادةعلىحديث
الرفع المشهوركما تقدم ، وحديث السّعة في
الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام ، أنّه
قال : ..هم في سعة حتى يعلموا(2)وقول
الاِمام الصادق عليه السلام :
____________
1) سورة الاِسراء : 17 | 15 .
2) فروع الكافي 6 : 297 | 2 باب 48 من كتاب الاَطعمة
.
( 92 )«كل
شيء مطلق حتى يرد فيه نهي »
(1)، وقوله
عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نص »
(2)، وهذا يعني دخوله في باب البراءة .
أما الضرر الدنيوي المظنون
والمحتمل ، فإنّ العقل يحكم بوجوب دفعه ولا
فرق بينه وبين الضرر المعلوم من هذه الجهة ؛
لاَنّ الاِقدام على مالا يؤمَّن معه الضرر
قبيح عقلاً . فأي منا مثلاً إذا تردد عنده
سائل موجود في اناء بين كونه سماً أو ماءً
ولا يحكم عقله بوجوب اجتناب ذلك السائل ؟
والخلاصة : إنّ الضرر الدنيوي
يحكم العقل بوجوب الابتعاد عنه معلوماً كان
أو مظنوناً أو محتملاً
(3).
وواضح أنّ الاستدلال بالعقل على
مشروعية التقية ، إنّما هو من جهة حرص العاقل
على حفظ نفسه من التلف ، بل ومن كل ما يهدد
كيانه بالخطر ، أو يعرّض شرفه إلى الانتهاك ،
أو أمواله إلى الضياع .
والتقية ما هي إلاّ وسيلةٌ
وقائيةٌ لحفظ هذه الامور وصيانتها عندما
يستوجب الاَمر ذلك ، على أن لا يؤدي
استخدامها إلى فسادٍ في الدين أو المجتمع
كما لو أبيحت في الدماء مثلاً .
____________
1) من لا يحضره الفقيه 1 : 208 |
937 باب 45 .
2) عوالي الآلي 2 : 44 | 111 .
3) راجع في ذلك مقالات الشيخ محمد جواد مغنية :
250 ـ 253 ، ط2، دار ومكتبة الهلال ، بيروت | 1993 م .