أقسام التقية وأهميتها والفرق بينها وبين النفاق

المبحث الاَول
أقسام التقية

للتقية أقسام متعددة باعتبارات وحيثيات مختلفة ؛ ولهذا سوف نتناول تلك الاَقسام بثلاثة اعتبارات ، وهي :
أولاً : باعتبار الحكم .
ثانياً : باعتبار الاَركان .
ثالثاً : باعتبار الاَهداف والغايات .
وجدير بالذكر هو ما اعتاده الفقهاء في بحث التقية ـ بلحاظ حكمها ـ من تناولهم لها تارة : باعتبار حكمها التكليفي ، واخرى باعتبار حكمها الوضعي ، ونظراً لتعلق الاَول منهما بأقسام التقية دون الثاني المختص ببيان ما يترتب عليه من الصحة والبطلان ، لذا سيكون الحديث عن تلك الاَقسام ـ باعتبار الحكم ـ تحت عنوان :
( 94 )
أولاً : أقسام التقية باعتبار حكمها التكليفي :
تقسم التقية ـ بهذا الاعتبار ـ على خمسة أقسام ، وهي :
القسم الاَول : التقية الواجبة :
وهي ما كانت لدفع ضرر واجب فعلاً ، متوجه إلى نفس المتقي ، أو عرضه ، أو ماله ، أو إخوانه المؤمنين ، بحيث يكون الضرر جسيماً ، ودفعه بالتقية ـ التي لا تؤدي إلى فساد في الدين أو المجتمع ـ ممكناً ، وإنّه لا يمكن دفع ذلك الضرر إلاّ بالتقية .
ومن أمثلة ذلك إفطار الصائم في اليوم الاَخير من شهر رمضان إذا ما أُعلِن أنه عيدٌ من قبل قضاة الحاكم الجائر استناداً إلى شهادة من لا تقبل شهادته مع عدم ثبوت رؤية هلال شوال ، وبشرط أن يكون الصائم تحت نظر الظالم أو رعيته ، وأنّه يعلم أو يظن بأنه إذا ما استمر بصيامه لحقه ضرر لا يطاق عادة . فهنا يجب عليه الافطار تقية على أن يقضي ذلك اليوم مستقبلاً ، ومثل ذلك افطاره تقية في يوم شكٍ وهو عالم بأنّه من شهر رمضان . وقد حصل هذا فعلاً للاِمام الصادق عليه السلام مع أبي العباس السفاح أول ملوك بني العباس (1).
ومنه أيضاً التظاهر أمام الظالم عند سؤاله إياه عن شخص مؤمن يريد قتله ، بمظهر من لا يعرفه وإن كان صديقه ، حتى وان تطلب الاَمر أن يحلف بالله على عدم معرفته شخص ذلك المؤمن ، وجب عليه الحلف تقية لاَجل انقاذ أخيه المؤمن من القتل . وقد مرَّ ما يدل عليه في أحاديث
____________
1) فروع الكافي 4 : 82 ـ 83 | 7 و9 باب 9 من كتاب الصيام . وتهذيب الاَحكام 4 : 317 | 965 باب الزيادات من كتاب الصيام .

( 95 )
أهل البيت عليهم السلام .
القسم الثاني : التقية المستحبة :
وهي ما كان تركها مفضياً إلى الضرر تدريجياً ، ويكون استعمالها موجباً للتحرز من الضرر ولو مستقبلاً .
ومن أمثلتها ما مرّ من أحاديث المداراة والمعاشرة ، ومخالقة الناس بأخلاقهم ومخالفتهم بأعمالهم ؛ بحيث يؤدي ترك ذلك إلى المباينة المؤدية إلى العداوة التي تترتب عليها الاَضرار لاحقاً ، ولا يمكنه الانتقال بعيداً عنهم ، ولا مقاومتهم .
القسم الثالث : التقية المباحة :
وهي ما كان فيها التحرز من الضرر مساوياً لعدم التحرز منه في نظر الشارع المقدس ؛ لكون المصلحة المترتبة على استخدام التقية أو تركها متساويتين كما في إظهار كلمة الكفر إذا كان الاِكراه عليه بالقتل ، فإن في فعل التقية ـ هنا ـ مصلحة وهي النجاة من القتل ، وفي تركها مصلحة أيضاً وهي إعلاء كلمة الاِسلام .
ولا يخفى أن هذا يكون في حالة كون المتقي ليس قدوة للمسلمين ، وأما القدوة فعليه أن يوطن نفسه للقتل كما فعل حجر بن عدي ، ورشيد الهجري ، وميثم التمار رضوان الله تعالى عليهم ؛ لاَنّ ما يباح لعامّة الناس لا يباح ـ في مثل هذا الحال ـ لقدوتهم ، وسيأتي بعض التوضيح لهذا في قسم التقية المحرمة أيضاً ، مع التأكيد هنا على أن القدوة الذي يعلم بأن المصلحة المترتبة على بقائه لخدمة الاِسلام أعلى من مصلحة إعلاء كلمته عند الامتناع عن التقية ، فله أن يتقي لتفاوت المصلحتين ، والظاهر
( 96 )
أن ما فعله عمار بن ياسر وأصحابه من هذا القبيل ؛ لحاجة الاِسلام العزيز في ذلك الظرف إلى المؤمنين أكثر من أي شيء آخر .
والخلاصة : إنّ مسألة جواز التلفظ بكلمة الكفر والقلب مطمئن بالايمان يلاحظ فيها جملة من الامور ، وتكون بحسب الازمان والاشخاص والظروف ، ولا يمكن حملها على الجميع مطلقاً وبلا قيد وإن كان فيهم من فيهم .
ويؤيد هذا بعض المواقف البطولية التي سجلها التاريخ بأحرف من نور، نظير امتناع الصفوة من استخدام التقية في سب أمير المؤمنين عليه السلام بعد أن أكرههم الباغي اللقيط عليها ، وقدموا أنفسهم قرابين من أجل إعلاء كلمة الحق .
القسم الرابع : التقية المحرمة :
وهي ماترتب على تركها مصلحة عظيمة، وعلى فعلها مفسدة جسيمة.
والواقع أنّ هذا القسم يُعدُّ من أهمّ أقسام التقية بلحاظ حكمها ؛ لما فيه من خطورة ، زيادة على تشويه مفهوم التقية بهذا القسم من لدن بعض الجهلاء والمتعصبين ، وذلك بتعميمه على سائر موارد الاَقسام الاُخرى ، ولعل بعضهم يخفف من غلوائه فيزعم صحتها في غير موارد حرمتها إلاّ أنه يفتري على الشيعة الاِمامية ، فيزعم أنهم يجوزون التقية في كلِّ شيء حتى في ارتكاب الجرائم والموبقات كما نجده صريحاً في الموسوعة الميسرة في الاَديان والمذاهب المعاصرة (1)متناسين بذلك ما أباحه
____________
1) راجع: الموسوعة الميسرة في الاَديان والمذاهب المعاصرة: 302، الندوة العالمية للشباب الاِسلامي ، ط2 ، السعودية | 1409 هـ .

( 97 )
اعلامهم من ارتكاب أبشع الموبقات تحت ستار التقية ، كسفك الدماء وهتك الاعراض وما جرى مجراهما ، كما سيوافيك في الفصل الاَخير من فصول هذا البحث . هذا في الوقت الذي صرّح فيه فقهاء وعلماء الشيعة الاِمامية بحرمة التقية في كثير من الموارد ، ومن جملتها ما ألصقته بها زوراً الموسوعة المذكورة ، ولهذا سوف نبين بعض تلك الموارد مع اعطاء قاعدة كلية لمعرفة ما هو محرم من التقية عند الشيعة الاِمامية ، كالآتي :
من موارد التقية المحرمة عند الشيعة الاِمامية :
1 ـ التقية في الدماء .
إنّ قتل المؤمن في مورد لا يستحق فيه القتل حرام بلا كلام ، والتقية في ذلك باطلة وعلى المتقي القصاص ؛ لاَنّ المؤمنين تتكافأ دماؤهم ، ووجوب حفظ دم أحدهم لا يوجب جعل دم الآخر منهم هدراً ؛ إذ سيؤدي ذلك إلى نقض الغرض الذي شرّعت التقية لاَجله ، وهو حقن دماء المؤمنين وصيانة أنفسهم ، وقد مرّ ما يدل على ذلك في أحاديث أهل البيت عليهم السلام .
2 ـ التقية في الافتاء .
يحرم افتاء المجتهد بحرمة ما ليس بحرام بذريعة التقية ، خصوصاً إذا كان ذلك المجتهد ممن يتبعه عموم الناس ، وإنّه لا يستطيع الرجوع عن فتياه طيلة حياته ، بحيث تبقى فتياه محل ابتلاء العموم ومورد عملهم . فهنا يجب الفرار من التقية بأي وجه ، حتى ولو أدّى تركها إلى قتله .
هذا ، وقد يُشتَبَه بما صدر عن أهل البيت عليهم السلام ما هو بخلاف الحكم الواقعي عند ضغط التقية ، فيُدَّعى أن فقهاء الشيعة تجوّز الافتاء المخالف
( 98 )
للحق تقية ! وليس الاَمر كذلك ؛ لاَنّ أهل البيت عليهم السلام كانوا حريصين جداً على بيان الحكم الواقعي لاصحابهم ، وتفهيم شيعتهم ومن يطمئنون إليه من عامة المسلمين بحقيقة الاَمر وواقعه ، وإنما اقتصروا في اصدار ما هو بخلاف الحكم الواقعي على حالات معينة كانت فيها عيون السلطة تتربص بهم عليهم السلام وبشيعتهم الدوائر ، ولنأخذ مثالين على ذلك ، وقس عليهما ما سواهما ، وهما :
المثال الاَول : الافتاء بحلية ما قتل البازي والصقر .
عن أبان بن تغلب ، قال : سمعتُ أبا عبدالله عليه السلام يقول : « كان أبي عليه السلام يفتي في زمن بني أُمية أن ما قتل البازي والصقر فهو حلال ، وكان يتقيهم ، وأنا لا أتقيهم ، وهو حرام ما قتل » (1).
ونظير هذا الحديث ما رواه الحلبي ، عن الاِمام الصادق عليه السلام : أنّه قال : «كان أبي عليه السلام يفتي ، وكان يتقي ، ونحن نخاف في صيد البزاة والصقور ، وأما الآن فانّا لا نخاف ولا نحل صيدها إلاّ أن ندرك ذكاته ، فإنّه في كتاب علي عليه السلام : إنّ الله عزَّ وجلّ يقول : ( وَمَا عَلَّمتُم مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبينَ ) ، في الكلاب » (2) ، أي : في كلاب الصيد لا في البزاة ولا في الصقور .
وإذا علمنا أن الاِمام الباقر عليه السلام عاش في فترة حكم أولاد عبدالملك بن مروان وهم : الوليد بن عبدالملك (ت | 96 هـ) ، وسليمان بن عبدالملك
____________
1) فروع الكافي 6 : 208 | 8 كتاب الصيد باب صيد البزاة والصقور . ومن لا يحضره الفقيه 3 : 204 | 932 . وتهذيب الاَحكام 9 : 32 | 129 . والاستبصار 4 : 72 | 265 .
2) فروع الكافي 6 : 207 | 1 من الباب السابق . وتهذيب الاَحكام 9 : 22 | 130 . والاستبصار 4 : 72 | 266 .

( 99 )
(ت | 99 هـ) ويزيد بن عبدالملك (ت 105 هـ) ، وأدرك تسع سنين من حكم طاغيتهم هشام بن عبدالملك (ت | 125 هـ) ، اتضح لنا سرّ تلك الفتيا ، ومع هذا ، فقد أظهر الاِمام الباقر عليه السلام لشيعته ومواليه وجه الحق في تلك المسألة ، لكي لا يشتبه عليهم الحكم كما رواه عنه عليه السلام خلّص أصحابه كزرارة ونظرائه (1).
وجدير بالذكر ، هو أن المذاهب الاَربعة المالكية ، والحنفية ، والشافعية ، والحنبلية وان لم تكن موجودة أصلاً في حياة الاِمام الباقر عليه السلام إلاّ أن اتفاق أئمتهم : أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل على حلية ما قتل البازي والصقر (2)يعدُّ بحقيقته وواقعه انعكاساً لتلك الفترةالتي عاشها الاِمام الباقر وآباؤه عليهم السلام ، إذ استمدت تلك الفتوى ـ المجمع عليها عندهم ـ مقوماتها من روايات ذلك العهد الذي حاول فيه الطغاةاقصاء أهل البيت عليهم السلام وتحجيم دورهم .
ومن هنا كانا لاستدلال بفقه تلك المذاهب معبراً عن شيوع حليّة ما قتل البازي والصقر في عهد الاِمام الباقر عليه السلام ، خصوصاً وقد نسب بعض متأخري أعلامهم حليّة ذلك إلى ابن عباس ، وطاووس ، ويحيى بن كثير،
____________
1) راجع : ما روي عن الاِمام الباقر عليه السلام في حرمة ما قتل البازي والصقر في قرب الاسناد | الحميري : 51 . وفروع الكافي 6 : 407 | 4 من الباب السابق . وتهذيب الاَحكام 9 : 31 | 121 . والاستبصار 4 : 71 | 257 . وتفسير العياشي 1 : 295 | 29 . ووسائل الشيعة 23 : 354 ـ 355 | 29332 و29733 باب 10 من أبواب كتاب الصيد .
2) اُنظر : اتفاقهم على تلك الفتيا في المدونة الكبرى | مالك بن أنس 5 : 50 ـ 51 ، كتاب الشركة ، باب الرجلين يشتركان في السمك أو الطير في نصب الشرك وصيد البزاة والكلاب . وكتاب الام | الشافعي 2 : 227 باب صيد كل ما صيد به من وحش أو طير . والمبسوط| السرخسي الحنفي 11 : 223 . والمغني | ابن قدامة الحنبلي 11 : 11 ـ 12 | المسألتان : 7708 و7710 .

( 100 )
والحسن البصري ، وغيرهم ، مع ادعاء اجماع الصحابة على ذلك (1).
إذن لا معنى لوقوف الاِمام الباقر عليه السلام بوجه السلطة واعلان أن الصحابة العدول بزعمهم كانوا يأكلون الميتة من غير ضرورة ، زيادة على الطعن بفقهاء السلاطين ، إلاّ التهلكة المحققة ، وفي أقل تقدير سيكون افتاء الخصم بواقع الاَمر هواءً في شبك لا يغيّر ما اعتادوه شيئاً ، والدليل عليه هو ان فقه أهل البيت عليهم السلام كان ولا زال موجوداً ميسّراً لمن أراده ، ولكن مخالفته بالقياس ونظائره لم تزل قائمة إلى اليوم .
هذا ، وأما عن تصريح الاِمام الصادق عليه السلام بواقع الحال وعدم خشيته في تلك الفتيا ، إنّما يؤول إلى كونه عليه السلام عاش في ظل فترتين سياسيتين وجد فيهما متسعاً ومجالاً نسبياً للانطلاق في أرحب الميادين العلمية ، وهما فترة تداعي الدولة الاموية ، ثم تلاشيها على أيدي بني العباس ، وفترة انشغال الدولة الجديدة بتثبيت أقدامها ، ولكن لم تلبث تلك الدولة بعد توطيد أركانها أن حملت إمام الحق على التقية كما يُعلم من قواعد الترجيح بين الاَخبار المتعارضة التي بيّنها الاِمام الصادق عليه السلام نفسه .
المثال الثاني : وهو ما حصل في قصة علي بن يقطين في مسألة تجويز الاِمام الكاظم عليه السلام له في مسألة الوضوء البدعي الذي ما أنزل الله به من سلطان إذ كان يخشى عليه من طاغية زمانه هارون ، ثم تنبيهه عليه السلام لعلي بن يقطين بالعودة إلى سنة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في الوضوء بعد زوال الخطر عليه(2).
____________
1) المبسوط | السرخسي 11 : 223 .
2) كما في الارشاد | الشيخ المفيد 2 : 227 ـ 229 . والخرائج والجرائح | الراوندي 1 : 335 | 26 . ومناقب ابن شهر آشوب 4 : 288 . وأعلام الورى | الطبرسي : 293 .

 

 

تمييز خبر التقية عن غيره :
وهنا يجب التأكيد على مسألة في غاية الاَهمية ، وهي أن جملة من الاخبار التي صدرت تقية عن أهل البيت عليهم السلام لم يصل إلينا إعلام منهم عليهم السلام بأنها كانت كذلك وإن كان المقطوع به أنّهم أعلموا المقربين إليهم بواقع الحال ، لكنّه لم يصل هذا الاِعلام إلينا .
ولاَجل تمييز تلك الاحاديث عن غيرها أصبح الرجوع إلى فقهائنا الاقدمين رضي الله تعالى عنهم كافياً في المقام ؛ لاَن عدم عملهم بجملة من الاخبار المعتبرة الاسناد دال بطبيعته على أن أخبار التقية هي من ضمن المجموعة التي أعرض عنها الفقهاء ، ومعنى هذا انتفاء وجود علم اجمالي بوجود أخبار التقية ضمن الاخبار المعمول بها فعلاً في استنباط الاحكام ، كما أن حصول الوثوق في بعض الاَخبار بعدم صدورها لبيان الحكم الواقعي بسبب شهرة الاِعراض عنها ـ مع سلامة سندها ـ يسقطها عن الاعتبار لانها مسوقة في دائرة التقية .
هذا ، زيادة على وجود جملة من الاُسس والقواعد المستفادة بصورة أو اُخرى من كلمات أهل البيت عليهم السلام في تمييز الاَخبار ونقدها ومعرفة ماصدر منها تقية عما صدر بنحو الاِرادة الجدية ، ومن بين تلك الاُسس والقواعد ملاحظة ما يتعلق بالخبر من الامور الخارجية عند التعارض ، إذ يعرف خبر التقية الذي لا بدّ وان يكون معارضاً لما صدر في قباله في بيان الحكم الواقعي من خلال وجوه الترجيح : كاعتضاد أحدهما بدليل آخر معتبر ، أو بلحاظ الاجماع على العمل باحدهما ، أو شهرة العمل به ، وشذوذ الخبر الآخر وعدم شهرته ، أو بموافقة أحدهما للعامّة ، ومخالفة الآخر .
( 102 )
ولا شكّ أن هذه الوجوه ونحوها كفيلة بالكشف عن أيّ من الخبرين صدر تقية ، وبهذا يتضح أنّه لا أصل للشبهة التي أثارها خصوم الشيعة .
وخلاصتها : أنّ أئمة الشيعة كانت ظروفهم غير ملائمة للافتاء بما يريدون فاضطروا إلى التقية ، وتسرب ذلك إلى كتب الشيعة وإنّ عدم القدرة على التمييز بين ما صدر تقية عن غيره ، يقتضي طرح ما في كتب الشيعة من روايات ؛ لاحتمال تطرق التقية إلى أي حديث فيها (1).
أقول : إنّ في طيات هذه الشبهة أمرين أود التنبيه عليهما وهما :
الاَول : إنّ هذه الشبهة ، ليست شبهة في الواقع ، بل مكيدة خبيثة ، رام مروّجها أن يحول دون التمسك بأقوال أهل البيت عليهم السلام ، والاَخذ بالقياس والاستحسان ونحوهما .
الثاني : دلالة هذه المكيدة على غباء أصحابها ؛ لاَنّها بمثابة الطلب من الشيعة ترك العمل بأخبار العامّة ؛ لاَن خبر التقية في أدق وصف له إنّما هو خبر عامّي فرضته السياسة الجائرة على لسان أهل البيت عليهم السلام ، ولا ينبغي لعامي فَهِم عاقل أن يتقدم بمثل هذا الطلب إلى الشيعة ؛ لاَنّه سالب بانتفاء موضوعه .
3 ـ التقية في القضاء :
إنّ حكم القضاة بخلاف ما أنزل الله تعالى في كتابه العزيز ، له صور متعددة ، منها : أن يكون حكم القاضي موجباً لقتل مسلم بريء ، فهنا
____________
1) آثار هذه الشبهة محمد عبدالستار التونسوي في كتابه بطلان عقائد الشيعة : 87 نشر المكتبة الامدادية ، مكة المكرمة ، طبعة دار العلوم ، القاهرة | 1983 م .

( 103 )
لايجوز الحكم بحال والتقية فيه حرام بلا كلام .
ومنها : أن يدفع القاضي بحكمه المخالف للحق ضرراً عن نفسه فيوقعه ظلماً بالآخرين ، وهذا الحكم باطل أيضاً ولا تجوز التقية فيه ؛ لعدم جواز دفع الضرر عن النفس بالحاقه بالغير .
وبالجملة ، فإنّ الافتاء والقضاء المخالف لما أنزل الله عزَّ وجل خطير جداً ، وقد وصف سبحانه من يحكم بغير ما أنزل الله ، تارة بالكافرين ، وأُخرى بالظالمين ، وثالثة بالفاسقين (1).
4 ـ التقية المؤدية إلى فساد الدين أو المجتمع :
لا ينبغي الشك في حرمة استخدام التقية المؤدية إلى فساد الدين أو المجتمع ، كما لو كانت سبباً في هدم الاِسلام ، أو النيل من مفاهيمه وأحكامه المقدسة ، أو محو بعض آثاره .
لقد نادى فقهاء وأعلام التشيع بهذا عالياً ، وكانوا النموذج الاَمثل للتضحية والفداء واعلان الحق في المواقف الحرجة ، ولا نقول هذا جزافاً فنظرة واحدة إلى كتاب شهداء الفضيلة تكفي دليلاً على ما نقول ، ومن الاَمثلة المعاصرة على ذلك هو ما نجده في نداءات وتصريحات الاِمام الخميني رضي الله عنه حينما رأى خطورة حكم الشاه على أُصول الاِسلام وكرامته . ومن تلك التصريحات :
قوله : «إنّ التقية حرام ، واظهار الحقائق واجب مهما كانت النتيجة ، ولا ينبغي على فقهاء الاِسلام استعمال التقية في المواقف التي تجب فيها
____________
1) راجع سورة المائدة : 5 | الآيات 44 و 50 و 52 .

( 104 )
التقية على الآخرين ، إنّ التقية تتعلق بالفروع ، لكن حينما تكون كرامة الاِسلام في خطر ، وأصول الدين في خطر ، فلا مجال للتقية والمداراة ، إنّ السكوت هذه الاَيام تأييد لبطانة الجبار ، ومساعدة لاعداء الاِسلام» (1).
وقوله أيضاً : «من العار أن نسكت على هذه الاوضاع ، ونبدي جبناً أمام الظالمين المارقين ، الذين يريدون النيل من كرامة الاِنسان والقرآن وشريعة الاِسلام الخالدة ، انهضوا للثورة والجهاد والاصلاح ، فنحن لا نريد الحياة في ظل المجرمين» (2).
وهكذا نجد الاِمام الخميني رضي الله عنه كان في منتهى الصراحة في رفض استخدام التقية مع الشاه وأعوانه ، منذ أن اكتشف أن الشاه صنيعة الاستعمار .
ومن بيانات الاِمام الخالدة في هذا المجال ، هو البيان الذي أصدره على أثر قرار رئيس وزراء الشاه أسد علم سنة 1961 م بشأن تعديل قانون المجالس المحلية ، وأهم ما في ذلك التعديل المثير ، أنّه ألغى القسم على القرآن الكريم عند الترشيح لتلك المجالس ، على أن يحلّ محلّه أي كتاب سماوي آخر معترف به .
ومما جاء في ذلك البيان : «إنني بحكم مسؤوليتي الشرعية أعلن الخطر المحدق بشعب إيران والمسلمين في العالم ، إنّ القرآن الكريم والاِسلام معرضان للسقوط في قبضة الصهيونية التي ظهرت في إيران في
____________
1) دروس في الجهاد والرفض: 55 ـ 58 نقلاً عن كتاب ايران من الداخل| فهمي هويدي : 46 ـ 47.
2) تحرير الوسيلة | الاِمام الخميني ، مسألة 2792 .

( 105 )
صورة طائفة البهائية» (1).
أقول : ماذا يقول المشنّعون على الشيعة بالتقية بشأن ما يسمى بعملية السلام مع الصهيونية التي راح ضحيتها آلاف الشهداء من المسلمين ؟
بل وماذا يقولون بحق من افتى بجواز المصالحة معهم ممن يتصدون حالياً إلى ادارة الدعوة والارشاد في بعض البلاد الاِسلامية ؟
5 ـ التقية في غير ضرورة :
ومن موارد حرمة التقية عند الشيعة ، ان تكون من غير ضرورة ، ولاحاجة ملحة إليها .
وأما في بعض أقسام التقية التي أُخذ الخوف في موضوعها كالتقية الخوفية أو الاكراهية ، فإنّه اذا انتفى الخوف فلا تجوز التقية حينئذ .
6 ـ التقية في شرب الخمر وبعض الموارد الاُخر :
تقدمت بعض النصوص المصرحة بحرمة التقية في مثل هذه الموارد ، وقد قيدها الفقهاء بما إذا لم يبلغ الخطر النفس ، أما اذا خيف القتل عند الاكراه عليها ، فالتقية جائزة فيها .
7 ـ التقية الاكراهية عند عدم تحقق الاكراه :
ونعني بها التقية الاكراهية التي يكون الاكراه فيها فاقداً لبعض أركانه ومقوماته التي سبق بحثها في الفصل الاَول ، إذ اتفق الفقهاء على ان للاكراه أربعة أركان ، وأنه لايكون الاكراه ملجئاً للتقية إلاّ مع توفرها جميعاً،
____________
1) إيران من الداخل | فهمي هويدي : 36 .

( 106 )
وأما لو فقد بعضها أو واحداً منها فسيكون لغواً لا تجوز معه التقية ، فلو أكرَه انسانٌ آخرَ على ارتكاب محرم وكان ذلك الاِنسان عاجزاً عن تنفيذ تهديده ووعيده ، وعلم أو ظن المكره بهذا فلا تجوز له التقية ، وكذلك لو كان الاِتيان بالمكرَه عليه غير منجٍ من الضرر المتوعد به ، ومثله لو كان المكرَه به تافهاً وحقيراً والفعل المطلوب جسيماً وخطيراً .
فالشرط إذن في صحة التقية الاكراهية هو اجتماع أركان الاكراه الاَربعة وتحققها جميعاً ، وأما لو فقد واحد منها أو أكثر فلا تصح التقية الاكراهية إذ لا اكراه حينئذ .
8 ـ التقية التي يتجاوز فيها مقدار أو جنس ما يُكره عليه :
من الثابت ان التقية في دين الاِسلام تجوز في كل ضرورة إلاّ ما خرج عن ذلك بدليل معتبر كما مرَّ في أدلة التقية ومشروعيتها ، ولما كانت الضرورات تقدر بقدرها فلا ضرورة بحق الزيادة إذن .
فمن اضطرته التقية ـ مثلاً ـ على ارتكاب شيء محرم فعليه أن يقتصر على مقدار وجنس ما يراد ارتكابه من ذلك الشيء المحرم من غير زيادة . فلو أكرَه السلطان الجائر مسلماً على أكل قطعة واحدة من اللحم المحرم شرعاً فليس له أن يأكل عشرين قطعة من ذلك اللحم نفسه ، ولا أن يقتصر على تلك القطعة ويشرب معها خمراً بحجة إرضاء السلطان الجائر تحت ستار التقية ، إذ لا تقية هنا بحق الزيادة ؛ لعدم وجود الاكراه عليها .
9 ـ التقية عند امكان التخلص من الضرر :
ومن موارد حرمة التقية ـ عند بعضهم ـ أن يكون المُكرَه عليها قادراً على التخلص منها ، بحيث يجد في نفسه القدرة الكافية على استخدام
( 107 )
احدى وسائل التخلص من التقية ، وبما لا يترتب عليه ضرر ولا حرج ، كما في استخدام التورية مثلاً ، ومع ذلك يلجأ إلى التقية ، فهنا لا تجوز له لانها ستكون من غير ضرورة ، وقد مرّ حكم التقية من غير ضرورة أيضاً .
وبالجملة فإنّ الميزان الدقيق في معرفة موارد الحرمة الاُخرى ، هو أن تكون المصلحة المترتبة على ترك التقية لا يرضى الشارع المقدس بتفويتها في التقية ، وكذلك فيما لو استقل العقل بوجوب حفظها في جميع الاحوال .
القسم الخامس : التقية المكروهة :
وقد مثل بعضهم لها بإتيان ما هو مستحب عند المخالفين مع عدم خوف الضرر لا عاجلاً ولا آجلاً ، مع كون ذلك الشيء المستحب مكروهاً في الواقع ، وإلاّ لو كان حراماً فالتقية باتيانه لموافقتهم حرام ، وأما مع احتمال وقوع الضرر بالمخالفة فيكون الاتيان بما وافقهم تقية مستحباً (1).
وخلاصة هذه الاقسام ، أنه يراعى في معرفتها نوع المصلحة المترتبة على فعل التقية وعدمها .
فإنّ كانت المصلحة مما يجب حفظها فالتقية فيها واجبة .
وان كانت المصلحة مساوية لمصلحة ترك التقية فتكون التقية جائزة .
وإن كان أحد الطرفين راجحاً فحكم التقية تابع له .
ومن كل ما تقدم يُعلَم أن التقية ليست من عقائد الشيعة الاِمامية ، كما يزعم بعض الجهلاء من خصوم الشيعة ؛ لاَنّها من فروع الاحكام عندهم ، بدليل ما فصلناه من أقسامها عندهم باعتبار حكمها الشرعي .
____________
1) القواعد الفقهية | البجنوردي 5 : 47 ، من قاعدة التقية .

( 108 )
نعم ، أصبح للتقية صلة بالعقيدة الشيعية زيادة على صلتها الواضحة بفروع الاحكام ؛ إذ صار القول بها عند خصوم الشيعة دليلاً على ضعف المذهب الشيعي ومبانيه، ومن هنا دخل الحديث عنها في دائرة الاعتقاد .
ثانياً : أقسام التقية بلحاظ أركانها :
إنّ أقسام التقية بهذا الملحظ تستدعي بيان أركان التقية ، لتتضح العلاقة بينهما ، فنقول :
أركان التقية :
إنّ أركان التقية ومقوماتها هي أركان الاِكراه ومقوماته التي سبق البحث عنها مع فرق التسمية ، وما يشترط في أحدهما يشترط في الآخر ، إذ لاتختلف فيما بينها إلاّ من جهة بعض أقسام التقية الآتية ، التي لا يكون الدافع إلى استخدامها هو التحرز من ضرر الغير ، وإنّما لاَجل تحقيق بعض المصالح التي تصب في خدمة الدين أو المجتمع ، كالعمل بالتقية لاَجل تحقيق الوحدة الاِسلامية ولمّ شمل المسلمين بعد فرقتهم وتناحرهم ، وهذا يعني فقدان الاِكراه في مثل تلك التقية .
وعليه ، فالاركان والمقومات التي سنذكرها للتقية بمفهومها العام ، هي نفسها في الاَقسام الاُخر للتقية التي لم يؤخذ الخوف في موضوعها ، ولكنها تختلف عما هنا في تفسيرها .
فالمُتّقي ـ مثلاً ـ الذي هو الركن الاَوّل من أركان التقية ، ونظيره في الاكراه (المُكرَه) ، لا يرتفع في غير التقية الاكراهية ، وإنّما يأخذ تعريفاً وتفسيراً آخر . فبدلاً من أن يكون في التقية الاكراهية : الشخص الذي يعمل بالتقية كرهاً لدفع ضرر معلوم أو مظنون أو محتمل ، سيكون في
( 109 )
بعض أقسام التقية : الشخص الذي يستخدم التقية بلا إكراه ، ولكن لتحقيق غايات مرغوبة شرعاً ولا سبيل إلى الوصول إليها إلاّ بالتقية . وهكذا الحال في بقية الاَركان الاُخر ، ومجموعها ـ مع ما ذكرناه ـ أربعة ، وهي :
الركن الاَول : المُتَّقي ، وقد مرَّ آنفاً .
الركن الثاني : المُتَّقى منه : وهو من يتولى اجبار المتقي على التقية ، ولايشترط به أن يكون كافراً ؛ إذ لا فرق بحكم العقل في ضرورة تجنب الضرر من أيّة جهة كانت كافرة أو مسلمة ، وقد مرّ أن العقل يحكم بلزوم حفظ النفس من الهلكة سواء كانت على أيدي بعض المسلمين أو الكفار ، ونظير هذا الركن في الاِكراه (المُكرِه) .
الركن الثالث : ما يتقى عليه : وهو كل ما حكم الشارع ، أو استقل العقل بضرورة حفظه من الضرر ، لما في ذلك من مصلحة تعود إلى نفس المتقي، أو عرضه ، أو ماله ، أو دينه ، أو اخوانه المؤمنين ، ونظيره في الاِكراه (المُكرَه به) ، فكلاهما ناظران إلى نوع الضرر .
الركن الرابع : ما يُتّقى به : وهو نوع العمل المحرم المراد انجازه كالافطار في شهر رمضان ، أو الكلام الباطل المطلوب تلفظه ، كما في تلفظ كلمة الكفر والقلب مطمئن بالايمان ، ونظيره في الاكراه (المُكرَه عليه) .
وقد قسموا التقية بلحاظ هذه الاَركان على قسمين ، وهما :
القسم الاَول : تقية الفاعل : وهذا القسم ناظرٌ إلى الركن الاَول (المُتَّقي) ، والتقية فيه بحسبه ، لما مرّ في الفصل الاَول من تأثير اختلاف الاشخاص في واقع الاِكراه وجوداً وعدماً ، إذ قد يكون الاِكراه الواحد ملجئاً تارة بحق شخص ، وغير ملجىءٍ بحق آخر تارة اُخرى ، ومن هنا تدرك قيمة هذا من
( 110 )
التقية ، نظراً لما يترتب على معرفة الفاعل من آثار كبيرة وخطيرة في تقييم تقيته من الناحية الشرعية ، إذ ليس الناس سواسية في التقية ، وقد مرّ بنا أن الاِمام الخميني رضي الله عنه حرّم التقية على الفقهاء في موارد جوازها على العامّة في ظرف لا بدّ فيه من ذلك التحريم .
القسم الثاني : تقية القابل : وهذا القسم ناظر إلى الركن الثاني (المُتَّقى منه) ، وفي معرفة القابل ثمرتان وهما :
الاَولى : معرفة مدى قدرته على تنفيذ ما وعد وهدد به ، إذ ربما قد يكون عاجزاً عن إيقاع أي ضرر بالمتقي ، فتسقط التقية .
الثانية : معرفة عقيدة القابل ودينه قد تؤثر على سلامة التقية في بعض صورها ، فالاكراه من كافر لمسلم على النطق بكلمة الكفر مثلاً ، لايكون عادة إلاّ في بلاد الكفر ، ولو فرض حصوله في أرض الاِسلام لاَمكن التخلص بطلب النجدة من المسلمين .
ثالثاً : أقسام التقية بلحاظ أهدافها وغاياتها :
التقية بهذا الملحظ تكون على ثلاثة أقسام ، وهي :
القسم الاَول : التقية الخوفية أو الاكراهية : وهي فيما إذا كان الهدف من استخدامها دفع الضرر عند الخوف منه سواء أكان الخوف شخصياً أم نوعياً ، كتقية عمّار بن ياسر من المشركين .
القسم الثاني : التقية الكتمانية : وهي فيما إذا كان الهدف منها حفظ الدين من الاندثار والاِنمحاء في دولة الباطل فيما لو أُذيعت تعاليمه وأحكامه المخالفة لهوى السلطة الظالمة ، وعليه لا بدّ من كتمانها إلاّ على
( 111 )
المختصين ؛ لا سيّما إذا كان أهل الحق هم القلة القليلة المحاطة بزمر الباطل .
ومن هذه التقية تقية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عدم اظهار أمر الدعوة إلاّ للمختصين مدة ثلاث سنوات كما مرّ في محلّه . وكذلك ما ورد عن أهل البيت عليهم السلام من التأكيد على عدم اذاعة أسرارهم عليهم السلام خوفاً على مذهب الحق وقادته الاَطهار وأنصاره وأتباعه .
ويدخل في هذا القسم من التقية ما كانت الغاية منه حفظ بعض المصالح المشروعة بالكتمان ، كما فعل مؤمن آل فرعون في كتم إيمانه ، وكما كتم يوسف الصديق عليه السلام أمره عن اخوته .
القسم الثالث : التقية المداراتية أو التحبيبية : وهي فيما إذا كان الهدف منها ، هو الحفاظ على وحدة المسلمين ، وتقليل شقة الخلاف فيما بينهم وجمع كلمتهم ، كما في أحاديث المخالطة والمعاشرة ، وكذلك فيما لو كانت أغراضها اتقاء فحش الآخرين بإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم ، نظير ما مرّ في تقية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من (بئس ابن العشيرة ، أو بئس أخو العشيرة) .

المبحث الثاني
أهمية التقية وفوائدها


لا خلاف بأن كلّ ما ثبت تشريعه في الاِسلام لا بدّ وان يشتمل على مجموعة من الفوائد التي ترجع بالنفع إما على الفرد أو المجتمع أو الدين نفسه ، بل عليها جميعاً إذ لا يمكن تصور صلاح المجتمع مع فساد أفراده، ولا سيادة الدين بفساد المجتمع .

( 112 )
وإذا عدنا إلى التقية نجدها مفردة واحدة من مفردات ذلك التشريع العظيم كما مرّ في أدلة تشريعها . وعليه فالحديث عن أهميتها وفوائدها هو الحديث عن فوائد وعوائد التشريع الاِسلامي ـ قرآناً وسُنّة ـ ولكن في حيز صغير منه اسمه : التقية .
ومن الواضح أنّ المقصود بالتقية هنا هي التي تكون في موردها الصحيح والموصوفة على لسان أمير المؤمنين عليه السلام ـ كما سيأتي ـ بأنّها من شيمة الاَفاضل ، وليس كل تقية حتى التي لم يدخلها الشارع المقدس في مفهوم الحكم الثانوي الاضطراري (1)، فتلك تقية مرفوضة ، إذ لا أهمية لها ولا فائدة بنظر الشارع ، زيادة على ما فيها من ضرر بكلا قسميه :
الاَخروي ، باعتبار ارتكاب ما لم يرخّص الشارع بارتكابه حتى في صورة الاضطرار .
والدنيوي ، بلحاظ ما يترتب على فعلها من آثار سيئة عاجلة أو آجلة . وإذا عُرفت مضار شيء عُرفت قيمته ، وإذا شخّصت فوائد آخر أدركت أهميته .
____________
1) الحكم إمّا أن يكون أوّليّاً وهو المنصوص عليه بخصوصه في الشريعة الاِسلامية ، كحرمة أكل لحم الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وغيرها . وهذا الحكم هو الاَصل .
وإمّا أن يكون ثانوياً ـ وهو الفرع ـ ويكون على قسمين :
1 ـ حكم ثانوي ظاهري ، كالاَحكام الواردة لحالة شك المكلف ، ومواردها الاَصول العملية : البراءة ، والاحتياط ، والتخيير ، وكذلك القواعد الفقهية ، كقاعدة التجاوز وغيرها .
2 ـ حكم ثانوي اضطراري ، وهي الاحكام التي جاءت للتوسعة على المكلف العاجز عن القيام بالحكم الاولي ، فمن لا يقدر على الالتزام بحرمة أكل لحم الميتة بسبب الجوع الشديد يباح له ذلك لاضطراره إليه ، بلا خلاف بين جميع فقهاء الاِسلام ، فكذلك الحال مع استخدام التقية عند الضرورة ، إلاّ ما استثني منها بدليل ، وقد مرّ بعض مستثنياتها ، فراجع .

( 113 )
وهذا الاَمر لا بدّ من التنبيه عليه وإن كان واضحاً في نفسه ، لكي لاتحمل فوائد التقية على غير محملها ، ولا تفسر أهميتها بغير تفسيرها الصحيح .
وثمة شيء آخر يحسن التنبيه عليه ، وهو أن المفاهيم الاِسلامية لايمكن سبر غورها واكتشاف جميع فوائدها لاَنّ مشرعها سبحانه أحاط بكل شيء علماً ، وإنّما يكون الاكتفاء ـ عادة ـ بالمنظور منها ، إما بالمشاهدة والحس ، أو بالنظر العقلي والادراك الفطري ، زيادة على الاستهداء بالنصّ في بيان فوائد تلك المفاهيم .
وسوف نستهدي بهذه السبل الاَمينة في بيان فوائد التقية ، وعلى النحو الآتي :
1 ـ في التقية تحفظ النفس من التهلكة ، ويُصان ما دونها من الاَذى ، كما لو كان المدفوع بها ضرب مبرّح ، أو هتك عرض ، أو سلب مال ، أو إهانة ونحوها من الاَمور التي تعرض سلامة الاِنسان المسلم وكرامته إلى الخطر ، ومن هنا ورد عن الاِمام الصادق عليه السلام في وصفها بأنّها : «.. حرز لمن أخذ بها ، وتحرّز من التعريض للبلاء في الدنيا» (1).
كما تحفظ بالتقية حقوق المؤمنين ، وقد جمع هذه الفوائد قول أمير المؤمنين علي عليه السلام : « التقية من أفضل أعمال المؤمن ، يصون بها نفسه واخوانه من الفاجرين» (2)، وعلى هذا تكون التقية صدقة على النفس
____________
1) مشكاة الاَنوار | سبط الطبرسي : 42 . وعنه في مستدرك الوسائل 12 : 256 | 13 باب 23 من أبواب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
2) التفسير المنسوب إلى الاِمام العسكري عليه السلام : 321 | 164 .

( 114 )
والاِخوان ، وفي الحديث المروي عن الاِمام العسكري عليه السلام : «.. إنّ مداراة أعداء الله من أفضل صدقة المرء على نفسه واخوانه» (1).
2 ـ التقية صمود بوجه الباطل ، كما يفهم من وصفها بأنّها سلاح المؤمن، وترسه وحرزه ، وليست تخاذلاً أو تراجعاً ، فهي أشبه ما تكون بالانسحاب الهادف إلى التحيز إلى جهة المؤمنين لتقوية شوكتهم ، وخير مايدل على ذلك صمود عمار بن ياسر على الحق ثم انسحابه الهادف الذي وفّر عليه فرصة الاشتراك مع اخوانه المؤمنين في ميادين الحق ضد الباطل ابتداء من بدر الكبرى بقيادة أشرف المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ، واختتاماً بصفين تحت لواء أمير المؤمنين عليه السلام .
ولولا تقيته لما عرف له دور في قتال المشركين، والناكثين، والقاسطين .
فالتقية إذن من عوامل تقوية الدين ، وقد جاء في حديث الاِمام الصادق عليه السلام ما يؤيد هذا ، فقال عليه السلام : « اتقوا الله ، وصونوا دينكم بالورع ، وقووه بالتقية» (2).
3 ـ التقية شجاعة وحكمة وفقاهة ، وتوضيح ذلك : إنّ التقية وسط بين طرفين : إمّا الافراط في استخدامها في كل شيء بلا قيد أو شرط ، بمعنى الهروب عن مواجهة الباطل في كلِّ ظرف حتى فيما يستوجب المواجهة ، وهذا هو الجبن بعينه . وإما التفريط في تركها في كل حين حتى في موارد وجوبها لحفظ النفس من التهلكة ، وهذا هو التهوّر بعينه . ولا وسط بين هاتين الرذيلتين ـ في علم الاَخلاق ـ إلاّ فضيلة الشجاعة . وبهذا يكون
____________
1) التفسير المنسوب إلى الاِمام العسكري عليه السلام : 142 .
2) أمالي الشيخ المفيد : 99 ـ 100 ، المجلس الثاني عشر .

( 115 )
استخدامها في موردها الصحيح من الحكمة ؛ لاَنّها وضع الشيء في موضعه ( ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ) (1).
وأما كونها من الفقاهة ، فهو مما لا شكّ فيه ، لاَنّ للتقية جملة من الاَحكام كما مرّ ، واستخدامها الاَمثل لا يتم من غير علم بتلك الاَحكام ، وهذا هو عين التفقه ، ويدل عليه حديث الاِمام الباقر عليه السلام في التقية : «...فأما الذي برىء فرجل فقيه في دينه» (2)، وفي الحديث الشريف : « من يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين» (3).
4 ـ التقية تؤدي إلى وحدة المسلمين بحسن المعاشرة فيما بينهم ، ومخالطة بعضهم بعضاً ، فالمصافحة والبشاشة ، والحضور المشترك في أماكن العبادة ، وتشييع الجنائز ، وعيادة المرضى ، لاشك أنها تزيل الضغائن ، وترفع الاحقاد الموروثة ، وتحوّل العداوة إلى مودة ومؤآخاة .
ويؤيد هذا ، قوله تعالى : ( ادْفَع بالَّتي هِيَ أحسَنُ فإذا الَّذي بَينَكَ وبَينَهُ عداوَةٌ كأنَّهُ وليٌّ حميمٌ ) (4).
وقد تقدم بأن المقصود (بالتي هي أحسن) هو : التقية ، فيكون من لوازم الدفع بها أن يصير العدو المعاند كأنه وليٌّ حميم .
5 ـ التقية دعوة محكمة إلى اتباع سبل الهدى ، كما يفهم من قوله
____________
1) سورة البقرة : 2 | 269 .
2) اُصول الكافي 2 : 221 | 21 ، باب التقية .
3) سنن ابن ماجة 1 : 143 | 220 باب فضل العلماء والحث على طلب العلم . ومسند أبي يعلى الموصلي 5 : 326 | 5829 . ومجمع الزوائد | الهيثمي 1 : 121 قال : (ورجاله رجال الصحيح) .
4) سورة فصلت : 41 | 34 .

( 116 )
تعالى: ( ادْعُ إلى سَبيلِ رَبِّكَ بالحكمةِ وَالموعِظَةِ الحَسَنَةِ وجادِلهُم بالّتي هيَ أحسنُ ) (1)، ولا شكّ في دخول التقية في مصاديق هذا القول الكريم ، ومعنى هذا أنّ التقية في مداراة أهل الباطل تؤدي إلى اجتذابهم إلى الحق، وتبصرتهم بعد العمى ، ويؤيّد ذلك ما جاء عن الاِمام العسكري عليه السلام في تفسير قوله تعالى : ( وَقُولُوا لِلناسِ حُسناً ) (2). قال عليه السلام : « قولوا للناس كلّهم حُسناً ، مؤمنهم ومخالفهم . أما المؤمن فيبسط لهم وجهه ، وأما المخالفون فيكلمهم بالمداراة لاجتذابهم إلى الاِيمان» (3).
ويفهم مما تقدم أنّ التقية من الاِحسان ، وبما أن الاِنسان عبيد الاِحسان ، تُرى ، فأي عاقل لا يحب من يُحسن إليه ، وإن كان ذلك الاِحسان في واقعه عن تقية ؟
6 ـ التقية نوع من أنواع الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويدل عليه أمران :
أحدهما : إنّ اللجاجة والمقاطعة والمخاصمة مع المخالف في دولته تعد من المنكر إذا ما أدت إلى اضعاف المؤمنين أو تضررهم ، على عكس معاشرتهم ومخالطتهم المؤدية إلى سلامة المؤمنين وحفظهم فضلاً عن اجتذاب المخالفين إلى الاِيمان ، فهذا من فعل المعروف بلا شكّ .
الآخر : تصنيف أحاديث التقية من قبل المحدثين في باب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هذا زيادة على ما تضمنته أحاديث أهل
____________
1) سورة النحل : 16 | 125 .
2) سورة البقرة : 2 | 83 .
3) مستدرك الوسائل 12 : 261 | 1 باب 27 من أبواب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

( 117 )
البيت عليهم السلام في هذا المعنى ، وقد مرّ بعضها وسيأتي أيضاً .
7 ـ التقية جهاد في سبيل الله عزَّ وجل ، إذ يجاهد فيها المؤمن أعداء الله تعالى في دولتهم بكتمان ايمانه ، كما فعل مؤمن آل فرعون بكتم إيمانه، وكما فعل المخلصون من أصحاب الاَئمة عليهم السلام بكتم أسرار أهل البيت خشية عليهم من الظالمين ، وقد ورد الحث على التقية بهذا الوصف أيضاً ، قال الاِمام الصادق عليه السلام : «.. والمؤمن مجاهد ؛ لاَنّه يجاهد أعداء الله عزَّ وجل في دولة الباطل بالتقية ، وفي دولة الحق بالسيف» (1).
وقال عليه السلام : « نفس المهموم لنا المغتم لمظلمتنا تسبيح ، وهمه لاَمرنا عبادة ، وكتمانه لسرنا جهاد في سبيل الله» (2).
8 ـ استخدام التقية في مواردها طاعة لله عزَّ وجل ، كما يفهم من قوله تعالى : ( ادفع بالتي هي أحسن ) ، فعن الاِمام الصادق عليه السلام : « التي هي أحسن : التقية» (3)، وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتأسٍ بسيرته الشريفة وقد مرّ ما يدل عليه بأوضح صورة ، وتمسك بحبل أهل البيت عليهم السلام ، فعن الاِمام الصادق عليه السلام : « .. من استعمل التقية في دين الله فقد تسنّم الذروة العليا من القرآن» (4) .
9 ـ من لوازم ما تقدم ، فالتقية إذن توجب الثواب لفاعلها ؛ لاَنّها امتثال لما أمر به الشارع المقدس ، وقد جاء في أحاديث أهل البيت عليهم السلام ما يؤكد
____________
1) علل الشرائع | الصدوق : 467 | 22 .
2) اُصول الكافي 2 : 226 | 16 ، باب الكتمان ، وفيه (المغتم لظلمنا) . والتصويب من الوسائل 16: 249 | 10 باب 34 من أبواب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
3) اُصول الكافي 2 : 218 | 6 ، باب التقية .
4) معاني الاَخبار | الصدوق : 385 | 20 .

( 118 )
هذا ، ففي حديث سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام : « بشر في وجه المؤمن يوجب لصاحبه الجنة ، وبشر في وجه المعاند يقي صاحبه عذاب النار» (1) .
وقد عرف بعض الصحابة بهذا ، فقد أخرج البخاري بسنده عن أبي الدرداء أنّه قال : «إنّا لنكشر في وجوه أقوامٍ ، وإنّ قلوبنا لتلعنهم» (2).
ونسب القرافي المالكي (ت | 648 هـ) هذا القول إلى أبي موسى الاَشعري أيضاً ، معلقاً عليه بقوله : «يريد : الظلمة والفسقة الذين يتقي شرهم ، ويتبسم في وجوههم» (3).
كما نُسب هذا القول أيضاً إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام في روايات شيعته ، وبلفظ : « إنّا لنبشر في وجوه قوم وان قلوبنا لتقليهم ، أولئك أعداء الله نتقيهم على اخواننا وعلى أنفسنا» (4).
10 ـ في التقية الكتمانية ، تصان الاَسرار ، ويحفظ الحق من الاندثار ، ويكون قادته واتباعه في أمان من الاخطار .
11 ـ التقية ورع يحجز الاِنسان عن معاصي الله عزَّ وجلَّ ، إذ لا معصية أكبر ـ بعد الشرك ـ من قتل المؤمن بسبب افشاء سره بضغط الاكراه وعدم التكتم عليه بالتقية ، ولهذا وصِف مذيع السر بقاتل العمد لا قاتل الخطأ ، ففي حديث الاِمام الصادق عليه السلام : « من أذاع علينا شيئاً من أمرنا فهو كمن
____________
1) مستدرك الوسائل 12 : 261 | 2 باب 27 من أبواب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
2) صحيح البخاري 8 : 37 ، كتاب الاَدب ، باب المداراة مع الناس .
3) الفروق | القرافي المالكي 4 : 236 ، الفرق الرابع والستون والمائتان .
4) مستدرك الوسائل 12 : 261 | 2 باب 27 من أبواب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

( 119 )
قتلنا عمداً ولم يقتلنا خطأ» (1).
وواضح أن المراد بأمرهم عليهم السلام هو كل ما صدر عنهم عليهم السلام وكان مخالفاً لهوى السلطة واتباعها .
12 ـ التقية خلق رفيع في مداراة الناس وحلم عجيب مع الجهلاء ، قال الاِمام الصادق عليه السلام : « فو الله ، لربما سمعت من شتم عليّاً عليه السلام ، وما بيني وبينه إلاّ اسطوانة ، فاستتر بها ، فإذا فرغت من صلاتي أمرّ به فاسلم عليه وأصافحه» (2) .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ثلاث من لم تكن فيه فليس مني ولا من الله عزَّ وجلَّ : حلم يرد به جهل الجاهل ، وحسن خُلق يعيش به في الناس ، وورع يحجزه عن معاصي الله عزَّ وجلَّ (3).
ولتضمن التقية لهذه الخصال الثلاث زيادة على ما فيها من طاعة وامتثال وفوائد وعوائد ، فقد حثّ عليها أمير المؤمنين علي عليه السلام ووصفها بشيمة الاَفاضل ، فقال عليه السلام : « عليك بالتقية ، فإنّها شيمة الاَفاضل» (4)، ونظراً لموقع التقية وآثارها في المنظومة الاَخلاقية فقد عدّها الاِمام الرضا عليه السلام من شعار الصالحين ودثارهم (5).
وفي المروي عن الاِمام العسكري عليه السلام : « أشرف أخلاق الاَئمة
____________
1) اُصول الكافي 2 : 371 | 9 باب الاذاعة ، وفيه أحاديث أخر بهذا المعنى ، فراجع .
2) جامع الاَخبار | السبزواري : 253 ـ 254 | 663 ـ الفصل | 53 .
3) الخصال | الصدوق 1 : 145 ـ 146 | 172 باب الثلاثة .
4) غرر الحكم | الآمدي 2 : 482 | 57 .
5) وسائل الشيعة 16 : 223 | 10 باب 28 من أبواب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

( 120 )
والفاضلين من شيعتنا : التقية ، وأخذ النفس بحقوق الاخوان» (1).
ومن كل ما تقدم يُعلم أن منكر التقية بقلبه ولسانه رجلٌ رذيلٌ ؛ لاَنّها ليست من شيمته ، وكافرٌ لاَنّه منكر للتشريع الثابت بنصّ القرآن والسُنّة المطهّرة ، ومتعصب جاهل ؛ لاَنّه ينكر ضرورة عقلية متفق عليها من لدن العقلاء ، بل هو أقل رتبة من الحيوان ؛ لاَنّ الحيوان يعرف كيف يسعى لنفسه ويهرب من الخطر بفطرته ، وهذا ينكر فطرة الله التي فطر الناس عليها جميعاً ، ويكفي على اثبات حماقته أنّه مسلوب من فوائد التقية ، والتي منها ما مرّ وبعضها ما يأتي :
13 ـ في التقية تقرُّ عين المؤمن لاَنّها جُنّته ، وقد كان الاِمام الباقر عليه السلام يقول : « وأي شيء أقرُّ لعيني من التقية ، إنّ التقية جُنّة المؤمن» (2).
14 ـ التقية الكتمانية تجلب للمؤمن عزّاً في دنياه ونوراً في آخرته ، فعن الاِمام الصادق عليه السلام : « من كتم أمرنا ولا يذيعه أعزّه الله في الدنيا وجعل له نوراً بين عينيه يقوده إلى الجنّة» (3).
15 ـ التقية المداراتية وسام للمتقي بعدم التعصب ، بخلاف من يزعم الموضوعية ويجعل المداراة في حقل النفاق ، فهذا هو عين النفاق والتعصب والخروج عن الموضوعية ، بل هو الكفر بعينه بعد ثبوت مداراة
____________
1) وسائل الشيعة 16 : 223 | 7 من الباب السابق .
2) اُصول الكافي 2 : 220 | 14 باب التقية .
3) مشكاة الاَنوار | سبط الطبرسي : 40 ، وقد ورد في هذا المعنى أحاديث أُخر أنظرها في : كتاب الغيبة | النعماني : 38 | 12 . وبصائر الدرجات | الصفار : 423 | 2 . ومختصر بصائر الدرجات | سعد بن عبدالله : 101 . ودعائم الاِسلام | القاضي النعمان 1 : 59 . واُنظر باب 24 في الوسائل وباب 32 في مستدركه ، من أبواب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

( 121 )
أشرف الاَنبياء صلى الله عليه وآله وسلم لقومه كما مرّ في صحاح القوم ومسانيدهم .
16 ـ في التقية يُميّز أولياء الله من أعدائه لعنهم الله ، ولولاها ما عرف هذا من ذاك ، قال سيد الشهداء الاِمام الحسين السبط عليه السلام : « لولا التقية ما عرف ولينا من عدونا» (1).
17 ـ ومن فوائد التقية أنّها توجب تعظيم الناس للمتقي ، نظراً لاحسانه لهم بالمداراة ، والمعاشرة الطيبة معهم وإن خالفوه في فكره وعقيدته ، وقد كان سيد الساجدين الاِمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام ، مشهوراً بمداراة أعدائه حتى عظم في عيونهم وانتزع منهم على رغم طغيانهم وعتوهم توقيره وتبجيله وفي ذلك يقول الزهري : «ما عرفت له صديقاً في السر ولا عدواً في العلانيّة ؛ لاَنّه لا أحد يعرفه بفضائله الباهرة إلاّ ولا يجد بداً من تعظيمه ، من شدّة مداراة علي بن الحسين عليهما السلام ، وحسن معاشرته إيّاه ، وأخذه من التقية بأحسنها وأجملها» (2).
18 ـ التقية المداراتية تغلق منافذ التشكيك التي يتسلل منها أعداء الحق لترويج الباطل بنحو أن الشيعة لا يصلون المغرب حتى تشتبك النجوم وغير هذا من المزاعم التي ما أنزل الله بها من سلطان .
فبمعاشرتهم للمخالف ومخالطتهم إيّاه سيعرف الحق ، ولن يكون هناك مجال لاغرائه بالباطل من جديد .
ونكتفي بهذا القدر من فوائد التقية التي تكشف عن أهميتها ودورها الايجابي في حياة الفرد والمجتمع ، لننتقل إلى بيان الفرق بينها وبين النفاق .
____________
1) تفسير الاِمام العسكري عليه السلام : 321 | 165 .
2) مستدرك الوسائل 12 : 262 | 4 باب 27 من أبواب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

 

 

المبحث الثالث
الفَرقُ بين التقية والنفاق

حينما نقول : إنّ في التقية عز المؤمن ، فلا شك أن في النفاق ذل المنافق ، وحينما نقول : إنّ في التقية المداراتية يلمُّ شمل المسلمين وتأتلف قلوبهم ، فلا شكّ أن في النفاق فرقتهم وشرذمتهم وزرع العداوة والبغضاء في ما بينهم .
وهكذا حينما نرجع إلى فوائد التقية ، نعلم جيداً ، أن كل فائدة من فوائدها يشكّل نقيضها صفة للنفاق ، وحينئذ تُعلم الفروق الشاسعة بينهما، لوضوح أن النفاق ـ مع خلّوّه عن كل فائدة ـ يُعد من أخس الصفات وأسوءها ، ويكفي أن أعلن الشارع المقدس عن مصير المنافقين وشدد النكير عليهم بقوله الكريم : ( إنّ المنافقينَ في الدَّركِ الاَسفل مِنَ النّارِ وَلَن تَجِد لَهُم نصِيراً ) (1). بينما جاء وصف من استخدم التقية في موردها كما مرّ في أدلتها بأنه من المؤمنين .
ومع وضوح هذا الاَمر ؛ إلاّ أنّا سنبين باختصار بعض الفروق بين التقية والنفاق ، إذ ربما لا يستهدي البعض إليها من خلال مراجعة فوائد التقية وتصور نقائضها في النفاق ، لا سيّما مع وجود من لم يفرّق بينهما كما يظهر من بعض البحوث والكتابات المعاصرة ، ومن بين هذه الفروق ما يأتي :
الفرق الاَول : التقية ثبات القلب على الاِيمان وإظهار خلافه باللسان
____________
1) سورة النساء : 4 | 145 .

( 123 )
فقط ، لضرورة مقبولة شرعاً وعقلاً . والنفاق عكس ذلك تماماً فهو ثبات القلب على الباطل واظهار الحق على اللسان فقط ، بحيث لا يتعدى فعل المنافق إلى فعل المؤمن ، واين هذا من ذاك ؟
الفرق الثاني : التقية لا تكون من غير ضرورة أو مصلحة معتد بها شرعاً، وأما النفاق فهو خالٍ من كلِّ ذلك تماماً ، فهو مرض في قلوب المنافقين الذين يحسبون كل صيحة عليهم ، فكيف يستويان ؟ ومن هذا النفاق الدخول على سلاطين الجور والامراء الفسقة واطرائهم بما ليس فيهم وتزكيتهم من دون أدنى ضرورة وبلا اكراه وإنّما لاَجل التزلف إليهم ثم ذمهم عند الخروج منهم كما كان يفعله عريف الهمداني، وعروة بن الزبير، وناس من التابعين ؛ مما حمل بعض الصحابة على تنبيههم على هذا النفاق (1).
الفرق الثالث : اعتنى القرآن الكريم ببيان رفع الحرج والعسر والشدة والضرر ، وكذلك السُنّة النبوية ، زيادة على طرح الفقهاء لجملة من القواعد الفقهية المبيّنة لذلك، وكل هذا يدخل في دائرة التقية وبيان حكمها الشرعي ، وفي المقابل جاء التحذير الشديد بشأن النفاق وبيان مساوئه ، ولم يعد القرآن الكريم مَن اتّقى إلاّ بكلِّ خير ، بينما وعد المنافقين بكل عذاب مهين .
الفرق الرابع : جواز التقية ثابت بنص القرآن الكريم ، وحرمة النفاق ثابتة بعشرات النصوص القرآنية ، ولو جاز القول بأن التقية نفاق ، فلم يبق
____________
1) اُنظر : صحيح البخاري 9 : 89 ، باب ما يُكرَه من ثناء السلطان ، وإذا خرج قال غير ذلك ، من كتاب الاَحكام . والسنن الكبرى | البيهقي 8 : 164 و 165 . والسنن الواردة في الفتن | أبو عمرو الداني 1 ـ 2 : 408 ـ 409 | 149 . وفتح الباري 3 : 170 .

( 124 )
إلاّ القول بأنّ الشريعة الاِسلامية أحلّت للمسلمين النفاق ثم نُسخ هذا الحكم بالحرمة ، وهو كما ترى قول مضحك لا يقوله إلاّ السفيه الاَحمق .
الفرق الخامس : التقية فضيلة ـ كما مرّ ـ والنفاق رذيلة بلا شكٍّ ، فكيف يجوز حمل أحدهما على الآخر .
الفرق السادس : قولهم بنظرية عدالة الصحابة يثبّت الفرق بين التقية والنفاق بأوضح وجه ؛ لثبوت عمل الصحابة بالتقية كما سنبرهن عليه في الفصل الرابع ، ومعنى قولهم أنّ التقية نفاق يعني أن عدول الصحابة منافقون . وهذا مالا يرتضيه المنافقون أنفسهم .
ونكتفي بهذه الفروق لنبيّن باختصار الاَسباب المؤدية إلى هذا القول الساذج البعيد كل البعد عن العلمية والموضوعية .
أسباب القول بأنّ التقية من النفاق :
هناك جملة من الاَسباب الداعية إلى هذا القول (المعاصر) على الرغم مما يترتب عليه من آثار سلبية خطيرة تحدد مقدار ما يمتلكه أصحابه من الثقافة الاِسلامية ، مع مدى موضوعيتهم ، وقيمة مزاعمهم ، فضلاً عن درجة صلتهم برسالة الاِسلام ؛ لما مرّ من أن التقية من المفاهيم الاِسلامية الثابتة ثبوت أي مفهوم اسلامي آخر متفق عليه ، وأنّها ضرورة شرعية لايختلف ثبوتها عن ثبوت أيّة ضرورة شرعية أُخرى ، زيادة على كونها ضرورة عقلية أيضاً ، وأبعد من ذلك أنّها من الغرائز الفطرية التي يشترك بها الاِنسان والحيوان معاً ، ومن هنا كان السعي إلى النفع واتقاء الخطر مُشاهداً حتى عند الحيوانات التي ليس من شأنها أن تفقه دليلاً شرعياً كان أو عقلياً .
( 125 )
وهذا يدل على أنّ انكار التقية ووصفها بالنفاق ، إنّما هو انكار للفطرة ، فضلاً عن كونه انكاراً لضرورة شرعية وعقلية .
وعليه لابدّ من التوفر على أسباب هذا القول الساذج المتطرف ، فنعرضها كالآتي :
السبب الاَول : الجهل بمعنى التقية ، وعدم القدرة الكافية على التفريق بينها وبين النفاق لشبهة اشتراكهما بصفة إظهار الاِنسان لشيءٍ هو على خلاف ما يُبطن .
السبب الثاني : حسن ظن الخلف بما قاله المتعصب (1)أو الشاذ من السلف (2). مع تقليدهم تقليداً أعمى من غير روية ولا تحقيق أو تدقيق (3)!
____________
1) كالفخر الرازي في كتابه : محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين : 365 ، ط1 ، دار الكتاب العربي ، بيروت | 1404 هـ . والشهرستاني في الملل والنحل 1 : 159 ـ 160 ، ط3 ، مطبعة أمير ، قم | 1409 هـ ، فقد ذكرا أنّ التقية من وضع الرافضة !
وهو كما ترى لا يليق بشأنهما بأي وجه من الوجوه .
2) كمؤسس الفرقة الوهابية محمد عبدالوهاب في رسالته (في الرد على الرافضة) : 20 ، تحقيق الدكتور ناصر بن سعيد ، نشر دار طيبة ، الرياض (بدون تاريخ) .
3) اُنظر على سبيل المثال لا الحصر ما في الكتب الآتية بشأن التقية من تقليد أعمى أو كذب وافتراء :
1 ـ بطلان عقائد الشيعة | محمد عبدالستار التونسوي : 52 و 72 و 73 و 78 و 79 ، دار العلوم ، القاهرة | 1983 م ، نشر المكتبة الامدادية بمكة المكرمة .
2 ـ تبديد الظلام | إبراهيم سليمان الجبهان : 483 ، ط3 ، السعودية | 1408 هـ .
3 ـ التشيع بين مفهوم الاَئمة والمفهوم الفارسي | الدكتور محمد البنداري : 235 ، دار عمان ، الاَردن | 1408 هـ .
4 ـ الثورة الاِيرانية في ميزان الاِسلام | محمد منظور نعماني الهندي ، ترجمة الدكتور محمد البنداري : 122 و 180 و 182 ـ 187 و 222 ، ط1 ، دار عمان ، الاَردن | 1408 هـ .
5 ـ الخطوط العريضة | محب الدين الخطيب : 9 و 10 ، ط9 ، جدّة ، السعودية | 1380 هـ .

=


( 126 )
السبب الثالث : التمسك بالقسم المحرّم من التقية ، لعدم معرفة أقسامها الاُخر من الوجوب ، والاِباحة ، والاستحباب ، والكراهة ، كما بيّناه في أقسامها .
السبب الرابع : نصرة الآراء الموروثة والتعصب لها ، وعدم تحقيق الاُمور على وجوهها ، مع تعميم هذا الاتجاه السلبي بين البسطاء من الناس ؛ لكي يتمرنوا تدريجياً على قبوله واعتقاد صحته ، ورفض ما خالفه مهما كانت أدلته .
السبب الخامس : الخوف الحقيقي من التقريب بين المذاهب
____________

=

6 ـ دراسات في عقائد الشيعة | الدكتور عبدالله محمد الغريب : 17 ، ط1 ، مطبعة طيبة ، الرياض | 1402 هـ .
7 ـ دراسات في الفرق والعقائد | الدكتور عرفان عبدالحميد : 53 ، ط1 ، مطبعة سعد ، بغداد | 1977 م.
8 ـ رجال الشيعة في الميزان | عبدالرحمن الزرعي : 6 و 17 ـ 18 و 50 ـ 51 و 126 و 148 و 173 ، ط1 ، دار الاَرقم ، الكويت | 1403 هـ .
9 ـ سراب في ايران | الدكتور أحمد الافغاني : 25 ـ 27 ، ط2 ، عمّان | 1415 هـ .
10 ـ الشيعة الاثني عشرية في دائرة الضوء | الدكتور عبدالمنعم البري : 260 ومابعدها ، ط1 ، دار السلام ، القاهرة | 1410 هـ .
11 ـ الشيعة في التصور الاِسلامي | علي عمر فريج : 150 ـ 152 و 154 و 165 و 183 ، دار عمار ، الاَردن | 1405 هـ .
12 ـ الشيعة معتقداً ومذهباً | الدكتور صابر عبدالرحمن طعيمة : 5 و88 و118 ، ط1 ، المكتبة الثقافية ، بيروت | 1408 هـ .
13 ـ الشيعة وتحريف القرآن | محمد مال الله : 35 و 36 ، ط2 ، شركة الشرق الاَوسط للطباعة ، عمّان ، الاَردن | 1405 هـ .
14 ـ الشيعة والتشيع | إحسان الهي ظهير : 79 و 84 ، ط4 ، لاهور ، باكستان | 1405 هـ .
15 ـ الصراع بين الاِسلام والوثنية | عبدالله علي القصيمي : 458 و459 (المعلومات الاُخرى لم تذكر).
16 ـ الوشيعة في نقد عقائد الشيعة | موسى جار الله : 104 ، ط1 ، مطبعة الشرق ، مصر | 1355 هـ .

( 127 )
الاِسلامية ، والعمل بكلِّ وسيلة للاطاحة بكلِّ المساعي الشريفة الرامية إلى جمع كلمة المسلمين ؛ لاَنّ في وحدة المسلمين القضاء المحتم على تلك الشرذمة التي عرفت بشذوذها اصولاً وفروعاً .
السبب السادس : اشاعة الكذب المحض على الشيعة الاِمامية بهدف التشنيع عليهم ولو بالكذب على جميع المسلمين كزعمهم أن التقية من النفاق ، أو كقولهم عن الشيعة الاِمامية : «... وهم يتوسعون في مفهوم التقية إلى حد اقتراف الكذب والمحرمات» (1)ونحو هذا من الاكاذيب المعبّرة عن عدم الشعور بالمسؤولية ، مع انعدام الحياء ، وفقدان الورع والتقوى .
السبب السابع : الدعم المادي الذي تقدمه بعض الجهات المشبوهة بصلاتها المعروفة مع أعداء المسلمين لمن باع ضميره وذمته لقاء ثمن بخس دراهم معدودة لترويج الباطل الذي يضمن سلامة عروشهم عبر ديمومة الوضع الراهن وبقائه في مجتمعنا الاسلامي ، حتى وإن أدى ذلك إلى الطعن بمفاهيم الاِسلام كمفهوم التقية وغيرها من المفاهيم الاِسلامية الناصعة مثل التوسل بالاَنبياء والصالحين ، وزيارة قبورهم ، وطلب شفاعتهم ونحوها .
ولكي تتضح الحقيقة أكثر ، وتغلق المنافذ بوجه المشعوذين والمشنعين على الشيعة بالتقية ، فلابدّ من بيان بعض الصور الواردة في كتب العامّة في التقية على مستوى القول والفعل والفتوى ، لكي يكون ذلك بمثابة المرآة الصافية التي يمكن النظر من خلالها إلى ما هو موجود
____________
1) الموسوعة الميّسرة في الاَديان والمذاهب المعاصرة : 302 ، ط2 ، الرياض | 1409 هـ .

( 128 )
فعلاً من صور التقية في كتب العامّة ، وهو ما سنتناوله في الفصل الرابع من هذا البحث ، مراعين بذلك الاختصار فيما سنذكره من تلك الصور في مباحثه الثلاثة الآتية .