صور التقية في كتب العامّة

المبحث الاَول

الصور القولية في التقية

روى العامّة الكثير من التقية القولية الصادرة عن الصحابة والتابعين وغيرهم ، منبهين على أن الاَخبار أو الآثار التي سنوردها من كتب العامّة في هذا الفصل لا تعبر بالضرورة عن التزامنا بدلالتها على التقية واقعاً ؛ لا سيّما فيما سيأتي من الصور الفعلية في المبحث الثاني ؛ لكون بعضها أقرب إلى النفاق منه إلى التقية ، وإلاّ فهو ـ على أقل تقدير ـ من التقية ، ولكن في غير موضعها المطلوب شرعاً .
ومهما يكن ، فسوف نذكر من الصور القولية في التقية ما يأتي :
تقية عمّار بن ياسر وجماعته :
وهي أوضح من نار على علم ، والاطالة فيها اطالة في الواضحات ، ويكفي أنّه نزل في عذره على ما واقى المشركين عليه من القول ، قرآناً مبيناً ، وقد علم الكل منزلة عمّار من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويكفي أنّه ملىء
( 130 )
ايماناً من فرقه إلى قدمه .
تقية ابن مسعود :
عن الحارث بن سويد قال : «سمعتُ عبدالله بن مسعود يقول : ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلاّ كنت متكلماً به».
أخرجه ابن حزم في المحلى ، وقال : «ولا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف» (1).
تقية أبي الدرداء وأبي موسى الاَشعري :
أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أبي الدرداء أنّه كان يقول : «إنّا لنكشر في وجوه أقوام ، وإن قلوبنا لتلعنهم» (2).
وقد بيّنا سابقاً من نسب هذا القول إلى أبي موسى الاَشعري ، كما ورد نظيره عند الاِمامية منسوباً إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وقد تقدم أيضاً .
تقية ثوبان واباحته الكذب في بعض المواطن :
أورد عنه الغزالي أنّه كان يقول : «الكذب إثم إلاّ ما نفع به مسلماً ، أو دفع عنه ضرراً» (3).
علماً بأن التقية لم تكن من الكذب كما يتصورها بعض الجهلاء ، ويدل على ذلك أن الله تعالى أخرجها عن حكم الافتراء فقال عزَّ وجلَّ : ( إنَّما يَفتَري الكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ بآياتِ الله وأُولئك هم الكاذبون * مَنْ كَفَرَ باللهِ
____________
1) المحلّى | ابن حزم 8 : 336 مسألة 1409 ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت .
2) صحيح البخاري 8 : 37 ، كتاب الاَدب ، باب المداراة مع الناس .
3) إحياء علوم الدين | الغزالي 3 : 137 .

( 131 )
مِن بَعدِ إيمانِهِ إلاّ مَنْ أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطمئنٌ بالاِيمان ) (1).
قال تاج الدين الحنفي في تفسيره : «والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، واستثنى منه المكره ، فلم يدخل تحت حكم الافتراء» (2).
أقول : أخرج ابن أبي الدنيا بسنده عن سوار بن عبدالله ، قال : «إنّ ميموناً (3) كان جالساً وعنده رجل من قرّاء أهل الشام ، فقال : إن الكذب في بعض المواطن خير من الصدق ، فقال الشامي : لا ، الصدق في كل المواطن خير . فقال ميمون : أرأيت لو رأيت رجلاً وآخر يتبعه بالسيف ، فدخل الدار فانتهى إليك . فقال : أرأيت الرجل ؟
ما كنت فاعلاً ؟
قال : كنت أقول : لا .
قال : فذاك» (4).
على أن الكذب هو ما عقد كذباً ، والتقية إنّما تعقد للاحسان ، والاصلاح ، ودفع الضرر ، وتحقيق المصالح المشروعة ، وفي الحديث الشريف : « إنّما الاَعمال بالنيات » ، ثم كيف تكون التقية كذباً ! وقد اتقى قومَه أشرفُ الاَنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ؟
____________
1) سورة النحل : 16 | 105 ـ 106 .
2) الدر القيط من البحر المحيط | تاج الدين الحنفي 5 : 537 ـ 538 في تفسير الآيتين المتقدمتين .
3) هو ميمون بن مهران التابعي (ت | 117 هـ) .
4) الاِشراف على مناقب الاَشراف | ابن أبي الدنيا : 118 | 216 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1412 هـ .

( 132 )
تقية أبي هريرة :
أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة أنّه قال : «حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاءين : فأما أحدهما ، فبثثته . وأما الآخر ، فلو بثثته قطع هذا البلعوم» (1).
وقد صرّح ابن حجر في فتح الباري بأن العلماء حملوا الوعاء الذي لم يبثه على الاَحاديث التي تبيّن أسامي أمراء السوء وأحوالهم ، وأنّه كان يكني عن بعضه ولا يصرّح به خوفاً على نفسه منهم ، كقوله : (أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان) يشير إلى حكم يزيد بن معاوية ؛ لاَنّها كانت سنة ستين من الهجرة (2).
تقية ابن عباس من معاوية :
أخرج الطحاوي بسنده عن عطاء أنّه قال : «قال رجل لابن عباس رضي الله عنه : هل لك في معاوية أوترَ بواحدة ؟ ـ وهو يريد أن يعيب معاوية ـ فقال ابن عباس : أصاب معاوية» .
هذا في الوقت الذي بيّن فيه الطحاوي ما يدل على انكار ابن عباس صحة صلاة معاوية ، فقد أخرج بسنده عن عكرمة ، قال : «كنت مع ابن عباس عند معاوية نتحدث حتى ذهب هزيع من الليل ، فقام معاوية فركع ركعة واحدة ، فقال ابن عباس : من أين ترى أخذها الحمار ؟» .
قال الطحاوي بعد ذلك : «وقد يجوز أن يكون قول ابن عباس : (أصاب
____________
1) صحيح البخاري 1 : 41 كتاب العلم ، باب حفظ العلم (آخر أحاديث الباب) .
2) فتح الباري | ابن حجر العسقلاني 1 : 173 .

( 133 )
معاوية) على التقية له» ثم أخرج عن ابن عباس في الوتر أنه ثلاث(1).
أقول : هو عين التقية ، إذ كيف يستصوب حبر الاُمة صلاة حمار !
تقية سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب :
أخرج أبو عبيدة القاسم بن سلام عن حسان بن أبي يحيى الكندي ، قال: سألت سعيد بن جبير عن الزكاة ؟ فقال : ادفعها إلى ولاة الاَمر . قال : فلما قام سعيد تبعته ، فقلت : إنّك أمرتني أن أدفعها إلى ولاة الاَمر ، وهم يصنعون بها كذا ، ويصنعون بها كذا ؟! فقال : ضعها حيث أمرك الله ، سألتني على رؤوس الناس فلم أكن لاَخبرك (2).
وأخرج أيضاً عن قتادة أنّه سأل سعيد بن المسيب السؤال نفسه ؟ فسكت ابن المسيب ولم يجبه .
قال الدكتور الهراس في هامشه : «يظهر أن سعيداً رحمه الله كان لا يرى دفع الزكاة إلى ولاة بني أمية ، ولهذا سكت» (3).
هذا وقد أورد العلاّمة الاَميني تقية سعيد بن المسيب من سعد بن أبي وقاص في سؤاله إياه عن حديث الغدير ، فراجع (4).
تقية رجاء بن حيوة :
قال القرطبي المالكي : «وقال ادريس بن يحيى : كان الوليد بن عبدالملك
____________
1) شرح معاني الآثار| الطحاوي 1 : 389، باب الوتر ، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت | 1407 هـ .
2) كتاب الاَموال | أبو عبيدة القاسم بن سلام : 567 | 1813 ، تحقيق الدكتور محمد خليل هراس ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1406 هـ .
3) كتاب الاَموال : 565 | 1801 .
4) الغدير | العلاّمة الاَميني 1 : 380 ، ط5 ، دار الكتاب العربي، بيروت | 1403 هـ .

( 134 )
يأمر جواسيس يتجسسون الخلق ، ويأتون بالاَخبار ، فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد ، فرفع ذلك إليه .
فقال : يا رجاء ! أُذكَرُ بالسوء في مجلسك ولم تغيّر ؟!
فقال : ما كان ذلك يا أمير المؤمنين .
فقال له الوليد : قل الله الذي لا إله إلاّ هو .
قال : الله الذي لا إله إلاّ هو .
فأمر الوليد بالجاسوس ، فضُرب سبعين سوطاً . فكان يلقى رجاء فيقول : يا رجاء ! بك يُستسقى المطر وسبعين سوطاً في ظهري !!
فيقول رجاء : سبعون سوطاً في ظهرك خيرٌ لك من أن يُقتل رجل مسلم» (1).
أقول : إنّ تقية رجاء هنا مضاعفة .
أما أولاً ، فباظهاره خلاف الواقع تقية .
وأما ثانياً ، فبمخاطبته لمثل الوليد الفاسق اللعين بخطاب الموافقين تقية أيضاً .
وقد حصل نظير هذه التقية لسعيد بن أشرس ـ صاحب مالك بن أنس ـ مع سلطان تونس ، إذ كان قد آوى رجلاً يطلبه السلطان ، ولما أُحضر أنكر ذلك وحلف بأنّه ما آواه ولا يعلم له مكاناً (2).
____________
1) الجامع لاحكام القرآن | القرطبي 10 : 124 .
2) الجامع لاَحكام القرآن 10 : 124 .

( 135 )
تقية واصل بن عطاء :
قال ابن الجوزي الحنبلي : خرج واصل بن عطاء يريد سفراً في رهط ، فاعترضهم جيش من الخوارج فقال واصل : «لا ينطقن أحد ودعوني معهم ، فقصدهم واصل ، فلمّا قربوا بدأ الخوارج ليُوقِعوا . فقال : كيف تستحلّون هذا وما تدرون من نحن ، ولا لاَي شيءٍ جئنا ؟ فقالوا : نعم ، من أنتم ؟ قال : قوم من المشركين جئناكم لنسمع كلام الله . قال : فكفوا عنهم ، وبدأ رجل منهم يقرأ القرآن ، فلما أمسك ، قال واصل : قد سمعت كلام الله ، فأبلغنا مأمننا حتى ننظر فيه وكيف ندخل في الدين ! فقال : هذا واجب ، سيروا . قال : فسرنا والخوارج ـ والله ـ معنا يحموننا فراسخ ، حتى قربنا إلى بلد لا سلطان لهم عليه ، فانصرفوا» (1).
تقية عمرو بن عبيد المعتزلي :
بعد ثورة إبراهيم بن عبدالله وأخيه محمد ذي النفس الزكية على المنصور العباسي التي انتهت بقتلهما ، قال المنصور ـ يوماً ـ لعمرو بن عبيد : «بلغني أن محمداً بن عبدالله بن الحسن كتب اليك كتاباً» قال عمرو: قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه .
قال : فبم أجبته ؟ قال : أوليس قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف الينا ، أنّي لا أراه ؟!
قال المنصور : أجل ، ولكن تحلف لي ليطمئن قلبي !! قال عمرو : لئن كذبتك تقية ، لاَحلفنَّ لك تقية . قال المنصور : والله ، والله ، أنت الصادق البر» (2).
____________
1) كتاب الاَذكياء | ابن الجوزي : 136 ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1405 هـ .
2) تاريخ بغداد | الخطيب البغدادي 12 : 168 ـ 169 | 6652 في ترجمة عمرو بن عبيد المعتزلي .

( 136 )
تقية أبي حنيفة من القاضي ابن أبي ليلى :
أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه بسنده عن سفيان بن وكيع قال : «جاء عمر بن حماد بن أبي حنيفة فجلس إلينا ، فقال : سمعتُ أبي حماد يقول : بعث ابن أبي ليلى إلى أبي حنيفة فسأله عن القرآن ؟ فقال : مخلوق. فقال : تتوب وإلاّ أقدمت عليك ؟ قال : فتابعه فقال : القرآن كلام الله .
قال : فدار به في الخلق يخبرهم أنّه قد تاب من قوله : القرآن مخلوق .
فقال أبي : فقلت لاَبي حنيفة : كيف صرت إلى هذا وتابعته ؟
قال : يا بني خفت أن يقدم عليَّ فاعطيته التقية» (1).
ولعدم جدوى الاكثار من صور التقية القولية سنكتفي في اختتام هذا المبحث بما قاله الشيخ مرتضى اليماني ـ بهذا الصدد ـ فيما نقله عنه جمال الدين القاسمي في تفسيره .
قال : «وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران :
أحدهما : خوف العارفين ـ مع قلتهم ـ من علماء السوء ، وسلاطين الجور وشياطين الخلق ، مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن ، واجماع أهل الاِسلام ، ومازال الخوف مانعاً من إظهار الحق ، ولا برح المحقّ عدواً لاَكثر الخلق..» (2).
____________
1) تاريخ بغداد 13 : 379 ـ 380 | 7297 في ترجمة أبي حنيفة تحت عنوان (ذكر الروايات عمن حكى عن أبي حنيفة القول بخلق القرآن) .
2) محاسن التأويل | جمال الدين القاسمي 4 : 82 ، ط2 ، دار الفكر، بيروت | 1398 هـ .

( 137 )

المبحث الثاني
الصور الفعلية في التقية


إنّ الاَفعال الواردة تقية ، المنسوبة إلى الصحابة أو التابعين وغيرهم من علماء المذاهب والفرق الاِسلامية في كتب العامّة أكثر من أن تحصى ، وسوف نقتطف منها ما يأتي :
ما فعله ابن مسعود وابن عمر :
كان ابن مسعود يتقي من الوليد بن عقبة بن أبي معيط والي عثمان على المدينة ، فيصلي خلفه ، على الرغم من أنّ الوليد هذا كان مشهوراً بالفسق وشرب الخمر ، حتى أنّه جُلد على شرب الخمر في عهد عثمان (1)، وكان يأتي المسجد ثملاً ويؤم الصحابة في الصلاة .
وفي شرح العقيدة الطحاوية : «أنّه صلّى بهم الصبح مرّة أربعاً !! ثم قال: أزيدكم ؟ فقال له ابن مسعود : مازلنا معك منذ اليوم في زيادة» (2).
وأما ابن عمر فقد كان يصلي خلف العتاة الفاسقين ويأتم بهم كالحجاج ابن يوسف الثقفي (3)وكان المعروف عنه أنّه «لا يأتي أمير إلاّ صلّى خلفه وأدّى إليه زكاة ماله» (4).
____________
1) صحيح مسلم 3 : 1331 | 1707 كتاب الحدود ، باب الخمر .
2) شرح العقيدة الطحاوية | القاضي الدمشقي 2 : 532 ، ط1 ، مؤسسة الرسالة، بيروت | 1408 هـ .
3) المصنف | ابن أبي شيبة 2 : 378 ، الدار السلفية ، بومباي ، الهند . والسنن الكبرى | البيهقي 3 : 122 ، دار المعرفة ، بيروت .
4) الطبقات الكبرى | ابن سعد 4 : 149 .

( 138 )
وفي حديث جابر بن عبدالله الانصاري ، قال : «سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منبره يقول : لا تؤمّنَ امرأة رجلاً ، ولا يؤم اعرابي مهاجراً ، ولا يؤم فاجرٌ مؤمناً إلاّ أن يقهره بسلطانه أو يخاف سوطه أو سيفه» .
وبهذا الحديث احتج ابن قدامة الحنبلي قائلاً : «لا تجوز الصلاة خلف المبتدع والفاسق في غير جمعة وعيد ، يصليان بمكان واحد من البلد ، فان من خاف منه إن ترك الصلاة خلفه، فانه يصلي خلفه تقية ثم يعيد الصلاة»(1).
ومنه يعلم أنّه لا معنى لصلاة ابن مسعود وابن عمر خلف الفاسقين غير التقية .
ويؤيد خوف ابن مسعود من الظالمين ما مرّ في تقيته القولية من قوله : «ما من سلطان يريد أن يكلفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلاّ كنت متكلماً به» .
وأما خوف ابن عمر فيدل عليه مبايعته ليزيد بن معاوية وانكاره على عبدالله بن مطيع خروجه على يزيد أبان ما كان من موقعة الحرّة الشهيرة (2) مع أن يزيد كان فاسقاً كافراً باجماع أهل الحق من هذه الاُمّة .
ويدل على خوفه أيضاً ما رواه الهيثمي بسنده عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : «سمعتُ الحجاج يخطب ، فذكر كلاماً انكرته ، فاردت ان أغيّر، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ،
____________
1) المغني | ابن قدامة 2 : 186 ، 192 . والحديث في سنن ابن ماجة 1 : 343 (نقلنا ذلك من بحث «التقية في آراء علماء المسلمين | الشيخ عباس علي براتي : 82» منشور في مجلة رسالة الثقلين، العدد الثامن ، السنة 1414 هـ ، اصدار المجمع العالمي لاَهل البيت عليهم السلام ، قم) .
2) صحيح مسلم 3 : 1478 | 1851 ، كتاب الامارة ، باب رقم | 13 .

( 139 )
قال : قلت : يا رسول الله ! كيف يذل نفسه ؟ قال : يتعرض من البلاء لما لايطيق ») (1).
ويظهر من تاريخ ابن عمر أنّه وقرَ هذا الحديث في سمعه وطبقه في غير موضعه مراراً في حياته .
منها : مبايعته ليزيد حينما خاف سيفه ولم ينكر عليه كما أنكر الاحرار من هذه الاُمّة .
ومنها : أنّه حينما أمن من سوط أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وسيفه ، لم يبايعه واعتزل الاَمر ، ولو كان هناك أدنى خوف على حياته لبايع راغماً .
ومنها : سكوته على التعريض المباشر الذي وجهه إليه معاوية بعد أحداث قصة التحكيم المعروفة بقوله ـ كما في صحيح البخاري ـ : «من كان يريد أن يتكلم في هذا الاَمر فليطلع لنا قرنه، ولنحن أحقّ به منه ومن أبيه»(2).
وقد صرّح العلماء بأن مراد معاوية بقوله : (منه ومن أبيه) هو التعريض بابن عمر ، أي : ولنحن أحق به من عبدالله بن عمر ومن أبيه عمر بن الخطاب(3).
وقد فهم ابن عمر هذا التعريض ولكنه سكت هلعاً من معاوية وزبانيته، باعترافه هو كما في ذيل حديث البخاري ، قال ابن عمر :
____________
1) كشف الاَستار عن زوائد مسند البزار على الكتب الستة | نور الدين الهيثمي 4 : 112 | 3323 ، ط2 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1404 هـ .
2) صحيح البخاري 5 : 140 كتاب بدء الخلق ، باب غزوة الخندق .
3) اُنظر ما قاله العيني في عمدة القارى 17 : 185 ـ 186 . وابن حجر في فتح الباري 7 : 223 . والقسطلاني في ارشاد الساري 6 : 324 ـ 325 ، كلّهم في شرح حديث البخاري المتقدم .

( 140 )
«فحللت حبوتي ، وهممت أن أقول : أحق بهذا الاَمر من قاتلك وأباك على الاِسلام ، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع ، وتسفك الدم» .
ما فعله عبدالله بن حذافة السهمي القرشي :
هذا الصحابي أرسله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكتابه إلى كسرى يدعوه إلى الاِسلام ، في قصة مشهورة ، وقد أسرته الروم في بعض غزواته على قسارية في عهد عمر ، واكرهه ملك الروم على تقبيل رأسه فلم يفعل فقال له ـ في قول ابن عباس ـ : «قبّل رأسي وأطلقك وأطلق معك ثمانين من المسلمين . قال : أما هذه فنعم ، فقبّل رأسه وأطلقه ، وأطلق معه ثمانين من المسلمين ، فلمّا قدموا على عمر بن الخطاب قام إليه عمر فقبّل رأسه، قال : فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمازحون عبدالله ، فيقولون : قبلت رأس علجٍ . فيقول لهم : أطلق الله بتلك القبلة ثمانين من المسلمين»(1).
ما فعله جابر بن عبدالله الاَنصاري من بسر بن أبي أرطأة :
أورد اليعقوبي في تاريخه : أن معاوية وجّه بسر بن أبي أرطأة في ثلاثة آلاف رجل إلى المدينة ثم مكّة ثم صنعاء ليدخل الرعب في نفوس المسلمين ، فطبق وصيته حتى أنّه خطب بأهل المدينة وشتمهم قائلاً : يا معشر اليهود وأبناء العبيد.. أما والله لاَوقعن بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين.. ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه،.. وتفقد جابر بن عبدالله..
فانطلق جابر بن عبدالله الانصاري إلى أُم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إنّي خشيت أن أقتل ، وهذه بيعة ضلال ؟
____________
1) أُسد الغابة في معرفة الصحابة | ابن الاثير 3 : 212 ـ 213 | 2889 في ترجمة عبدالله بن حذافة ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت .

( 141 )
قالت : «إذن فبايع ، فإن التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب ، ويحضرون الاَعياد مع قومهم» (1).
ونظيرها في رواية ابن أبي الحديد أيضاً (2).
ما فعله حذيفة بن اليمان :
هذا الرجل الصحابي كان معروفاً بالمداراة ، حتى قال السرخسي الحنفي في مبسوطه : «وقد كان حذيفة رضي الله عنه ممن يستعمل التقية على ما روي أنه يداري رجلاً ، فقيل له : إنّك منافق !! فقال : لا ، ولكني اشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كلّه» (3).
ما فعله الزهري في كتم فضائل أمير المؤمنين علي عليه السلام :
أخرج ابن الاَثير في أُسد الغابة في ترجمة جندع الانصاري الاَوسي بسنده عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري قال : «سمعت سعيد بن جناب يحدث عن أبي عنفوانة المازني ، قال : سمعت أبا جنيدة جندع بن عمرو بن مازن ، قال : سمعتُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « من كذّب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار » وسمعته ـ وإلاّ صُمَّتا ـ يقول : وقد انصرف من حجة الوداع ، فلمّا نزل غدير خم ، قام في الناس خطيباً وأخذ بيد علي ، وقال : « من كنت وليّه فهذا وليّه ، اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه » .
قال عبيدالله : فقلت للزهري : لا تحدث بهذا بالشام ، وأنت تسمع ملء
____________
1) تاريخ اليعقوبي 2 : 197 ـ 199 ، دار صادر ، بيروت .
2) شرح نهج البلاغة | ابن أبي الحديد 2 : 9 ـ 10 ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، ط2 ، دار احياء التراث العربي ، بيروت | 1385 هـ .
3) المبسوط | السرخسي 24 : 46 ، من كتاب الاِكراه .

( 142 )
أذنيك سب عليٍّ . فقال : والله إنّ عندي من فضائل علي ما لو تحدثت بها لقتلت» (1).
أقول : وقد كان زيد بن أرقم الصحابي المعروف يتقي من الامويين وأذنابهم في كتم حديث الغدير ، وقد أشار لهذا أحمد في مسنده من طريق ابن نمير ، عن عطية العوفي قال : «سألت زيد بن أرقم فقلت له : إنّ ختناً لي حدثني عنك بحديث في شأن علي يوم غدير خم، فأنا أحب أن اسمعه منك ؟
فقال : إنكم معشر أهل العراق فيكم ما فيكم ! فقلت له : ليس عليك مني بأس... الخبر» (2).
ما فعله أبو حنيفة مع المنصور العباسي :
كان أبو حنيفة يجاهر في أمر إبراهيم بن عبدالله بن الحسن ، ويفتي الناس بالخروج معه على المنصور العباسي ، ولكن لما انتهت ثورة إبراهيم بقتله ، تولى أبو حنيفة نفسه مهمة الاِشراف على ضرب اللِّبن وعدّه في بناء مدينة بغداد بأمر المنصور العباسي (3).
ولا شكّ أنّه كان كارهاً لذلك ، ولكنه اتقى من بطش المنصور في هذه الوظيفة التي كُلِّف بها من قبل المنصور نفسه الذي كان على علم بموقفه من ثورة إبراهيم بن عبدالله ، فحاول أن يجد مبرراً لقتله في هذه المهمة ،
____________
1) أُسد الغابة 1 : 364 | 812 .
2) مسند أحمد 4 : 368 واُنظر تعليق العلاّمة الاميني عليه في الغدير 1 : 380 .
3) تاريخ الطبري 1 : 155 في حوادث سنة 145 هـ . وأحكام القرآن | الجصاص 1 : 70 ـ 71 في تفسير الآية 124 من سورة البقرة .

( 143 )
ولكن أبا حنيفة أدرك ذلك منه فاتقاه في قبول ذلك العمل .
ومن تقيته الفعلية مع المنصور أيضاً ما رواه الخطيب في تاريخه من أن أبا حنيفة قبل قضاء الرصافة في آخر أيامه بعد الضغط الشديد عليه بحيث لم يجد بداً من ذلك .
وقد أيّد هذا ابن خلكان أيضاً ، فذكر أن المنصور لمّا أتم بناء مدينة بغداد أرسل إلى أبي حنيفة ، وعرض عليه قضاء الرصافة فأبى ، فقال المنصور : إن لم تفعل ضربتك بالسياط ! قال أبو حنيفة : أو تفعل ؟
قال : نعم .
فقعد أبو حنيفة في القضاء يومين ، فلم يأته أحد ، فلما مضى يومان اشتكى أبو حنيفة ستة أيام ثم مات (1).
ما فعله مالك بن أنس مع الاَمويين والعباسيين :
ويدل على تقيته من الامويين ما قاله الذهبي في ميزان الاعتدال ، قال : «وقال مصعب ، عن الدراوردي ، قال : لم يرو مالك ، عن جعفر ، حتى ظهر أمر بني العباس» (2).
وقد صرّح أمين الخولي (ت | 1385 هـ) ، بان امتناع مالك بن أنس من الرواية عن الاِمام جعفر الصادق عليه السلام في عهد الامويين ، إنّما هو بسبب خشيته منهم (3).
____________
1) تاريخ بغداد | الخطيب البغدادي 13 : 329 . ووفيات الاَعيان | ابن خلكان 5 : 47 ، دار صادر ، بيروت | 1398 هـ .
2) ميزان الاعتدال 1 : 414 | 1519 .
3) مالك بن أنس | أمين الخولي : 94 ، ط1 ، القاهرة | 1951 م .

( 144 )
وأما عن تقيته من العباسيين فهي كنار على علم لا تخفى على معظم الباحثين المطلعين على حياته في ظل الدولة العباسية .
فقد كان مؤيداً لثورة محمد بن عبدالله وأخيه إبراهيم على المنصور العباسي ولكن سرعان ما تم توطيد العلاقة بينه وبين المنصور نفسه بفضل التقية حتى أصبح ذلك الرجل الناقم على المنصور جبروته وطغيانه والمفتي بالخروج عليه والمحث على خلع بيعته ، هو نفسه ـ كما جاء في مقدمة تحقيق كتابه الموطأ ـ الرجل الذي يأمر بحبس من يشاء ، أو يضرب من يريد وفي دولة المنصور نفسه (1)!!
____________
1) راجع مقدمة تحقيق كتاب الموطأ ، ط 1 ، دار القلم ، بيروت | 1382 هـ .

 

 

المبحث الثالث
صور التقية في فقه العامّة

الاَحكام الشرعية الفرعية : إمّا عبادات كالصوم والصلاة ، أو معاملات .
والمعاملات : إمّا أن تكون عقوداً مثل البيع والشراء ، أو ايقاعات كالطلاق والعتق ، أو أحكاماً مثل الحدود والتعزيرات .
ومع كون التقية من الفروع الشرعية بلا خلاف ، إلاّ أنّ فقهاء العامّة لم يفردوا لها عنواناً باسم التقية في كتبهم الفقهية ، وإنّما بحث معظمهم مسائلها في قسم العقود من المعاملات ، وتحديداً في كتاب الاِكراه .
والسبب في ذلك ، هو علاقة التقية بالاكراه مع دخول كل منهما في أغلب الفروع الشرعية . وهذا السبب ليس كافياً في الواقع ، فالشهادات مثلاً مع
( 145 )
صلتها الوثقى بالقضاء ، ودخولها في أغلب الفروع إلاّ أنهم أفردوا لها عنواناً، وكذلك الحال مع الاِقرار والصلح وغيرهما من العناوين الفقهية، وهذا مايسجل ثغرة في المنهج الفقهي الخاص بترتيب مسائل الفقه وتبويبها .
بل ، وثمّة إشكال آخر على بحث مسائل التقية تحت عنوان الاكراه ؛ لما مرّ سابقاً من انتفاء الاكراه في بعض أقسام التقية ، ولهذا ترك بعضهم مسائلها موزعة على مواردها في أغلب الاَبواب الفقهية .
ومن هنا صار بحث التقية فقهياً بحثاً مضنياً يتطلب الرجوع إلى أبواب الفقه كافة ، بغية الوقوف على مسائلها ، وهو ما حاولنا القيام به ، مع مراعاة الاختصار باجتناب الاطالة ما أمكن ، والاكتفاء بالاَهم دون المهم ، والبعد عن كلِّ ما فيه من غموض أو تعقيد .
وقد ارتأينا تقسيم مسائلها على غرار التقسيم الفقهي السائد لفروع الاحكام ، مسبوقاً بما اتصل منها بركن الرسالة الاَعظم : الاِيمان بالله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، أو بالاَخلاق والآداب العامّة كما في مداراة الناس ومعاشرتهم بالحسنى ، كما سنبينه قبل ذلك التقسيم ، وعلى النحو الآتي .
أولاً : افتاء فقهاء العامّة بجواز التقية في لب العقيدة وجوهرها :
ويدل عليه أمور :
1 ـ قولهم بجواز تلفظ كلمة الكفر بالله تعالى والقلب مطمئن بالايمان ، عند الاكراه عليها (1).
____________
1) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي المالكي 10 : 180 . وأحكام القرآن | ابن العربي المالكي 3: 1177 | 1182 . والمبسوط | السرخسي الحنفي 24 : 48 . وبدائع الصنائع | الكاساني الحنفي 7 :

=


( 146 )
وقد مرّ في دليل الاجماع أكثر من تصريح لهم بالاجماع على ذلك .
2 ـ تجويزهم سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال التقية (1).
3 ـ تجويزهم أيضاً السجود إلى الصنم في مالو أُكره المسلم عليه (2).
وإذا كان كل هذا جائزاً عندهم في حال التقية ، فمن باب أولى جوازها عندهم في سائر أصول العقيدة ، بل وفي سائر فروعها أيضاً . وكيف ينال المسك وتسلم فأرته ؟
ثانياً : افتاؤهم بجواز التقية في الآداب والاخلاق العامّة :
ويدل عليه قول الشيخ المراغي : «ويدخل في التقية مداراة الكفرة ، والظلمة ، والفسقة ، وإلانة الكلام لهم ، والتبسم في وجوههم ، وبذل المال لهم لكف أذاهم ، وصيانة العرض منهم ، ولا يُعد هذا من الموالاة المنهي عنها ، بل هو مشروع» (3).
ولعلّ في مداراة الفرقة الوهابية لسائر المسلمين في عدم تهديم قبر
____________

=

175 ، ط2 ، دار الكتاب العربي ، بيروت | 1402 هـ . وأحكام القرآن | محمد بن ادريس الشافعي 2: 114 ـ 115 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1400 هـ . والمغني | ابن قدامة الحنبلي 8 : 262 ، ط1 ، دار الفكر ، بيروت | 1404 هـ .
1) فتاوى قاضيخان | الفرغاني الحنفي 5 : 489 وما بعدها ، مطبوع بهامش الفتاوى الهندية ، ط4، دار إحياء التراث العربي ، بيروت | 1406 هـ .
2) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي 10 : 180 . وتفسير ابن جزي الكلبي المالكي : 366 دار الكتاب العربي ، بيروت | 1403 هـ .
3) تفسير المراغي 3 : 136 ـ 137 ، وقد صرّح بجواز المداراة المعتزلة كما في مسائل الهادي يحيى ابن الحسين الرسي المعتزلي : 107 نقلناه من معتزلة اليمن | علي محمد زيد : 190 ، ط2 ، دار العودة ، بيروت | 1405 هـ ، وكذلك الخوارج الاَباضية كما في المعتبر لاَبي سعيد الكديمي الاَباضي 1 : 212 طبع وزارة التراث القومي في سلطنة عُمان | 1405 هـ .

( 147 )
النبي صلى الله عليه وآله وسلم واظهارهم في ذلك بخلاف ما يعتقدون بشأن هدم القبور مطلقاً خير دليل على تقيتهم المداراتية .
ثالثاً : افتاؤهم بجواز التقية في العبادات :
ونكتفي بأهم العبادات التي جوزوا التقية فيها وقس عليها ما سواها .
1 ـ جواز التقية في الصلاة خلف الفاسق :
مرّ سابقاً عن ابن قدامة الحنبلي قوله : «لا تجوز الصلاة خلف المبتدع والفاسق في غير جمعة وعيد ، فيصليان بمكان واحد من البلد ، فان من خاف منه إن تَرَكَ الصلاة خلفه ، فإنّه يصلي خلفه تقية ثم يعيد الصلاة» .
2 ـ جواز ترك الصلاة تقية :
اتفق المالكية والحنفية والشافعية على جواز ترك الصلاة المفروضة في مالو أُكره المسلم على تركها (1).
3 ـ جواز الافطار في شهر رمضان تقية :
صرّح المالكية والحنفية والشافعية بعدم ترتب الاثم على من أفطر في شهر رمضان تقية بسبب ضغط الاكراه عليه (2).
4 ـ الافتاء العجيب بشأن الافطار المتعمد قبل الاكراه عليه :
ومن الفتاوى العجيبة الداخلة في دائرة التقية عند الاحناف ، ما رواه
____________
1) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي المالكي 10 : 180 وما بعدها . والمبسوط | السرخسي الحنفي 24 : 48 . والاَشباه والنظائر | السيوطي الشافعي : 207 ـ 208 .
2) الجامع لاَحكام القرآن 10 : 180 . والمبسوط | السرخسي الحنفي 24 : 48 . وفتاوى قاضيخان | الفرغاني الحنفي 5 : 487 . والاَشباه والنظائر | السيوطي الشافعي : 207 ـ 208 .

( 148 )
ابن زياد عن أبي حنيفة ، كما في قول الفرغاني الحنفي : إنّه لو أفطر الصائم في يوم من أيام شهر رمضان عن عمد واصرار ، ثم أكرهه السلطان بعد ساعة أو ساعتين على افطاره المتعمد على السفر في ذلك اليوم ، فانه سيكون حكمه حكم المكره ، وتسقط عنه الكفارة (1)!!
5 ـ سقوط الكفارة عمن جامع امرأته كرهاً في شهر رمضان :
قال الفرغاني : «لو أُكرِه الرجل على أن يجامع امرأته في شهر رمضان فلا كفارة عليه ويجب القضاء» (2).
رابعاً : افتاؤهم بجواز التقية في المعاملات :
القسم الاَول ـ العقود :
وتقتصر على بعض مسائله وهي :
1 ـ جواز التقية في البيع والشراء : تصح التقية فيهما بلا خلاف بين المالكية والحنفية(3)، كما صححها غيرهم كالظاهرية (4).
2 ـ جوازها في الوكالة : صرّح القرطبي المالكي ـ كما مرَّ في تقية أصحاب الكهف ـ بالاتفاق على صحة توكيل الانسان حال التقية ، فراجع .
3 ـ جوازها في الهبة : وهي أيضاً مما تصح فيه التقية عند المالكية
____________
1) فتاوى قاضيخان | الفرغاني 5 : 487 .
2) فتاوى قاضيخان | الفرغاني 5 : 487 .
3) البحر المحيط | أبو حيان المالكي 2 : 224 . وبدائع الصنائع | الكاساني الحنفي 7 : 175 . ومجمع الاَنهر في شرح ملتقى الاَبحر | داماد أفندي الحنفي 2 : 431 ـ 433 ، دار احياء التراث العربي ، بيروت .
4) المحلّى | ابن حزم 8 : 331 ـ 335 مسألة : 1406 .

( 149 )
والحنفية والظاهرية ، مشروطة بقيد الاكراه عليها (1).
القسم الثاني ـ الايقاعات :
ونكتفي منها بالصور الآتية :
1 ـ جواز التقية في الطلاق : لو طلق الاِنسان زوجته تقية بسبب الاكراه ، فهل يصح الطلاق ، أو لا يصح ، بمعنى : هل يقع الطلاق تقية أو لا ؟
اختلفوا في ذلك على قولين ، أحدهما الوقوع ، والآخر عدمه .
فمن اجاز طلاق المكره ، هم : أبو قلابة ، والشعبي ، والنخعي ، والزهري ، وأبو حنيفة ، وصاحباه ، قالوا : لاَنّه طلاق من مكلّف في محل يملكه ، فينفد كطلاق غير المكره .
وأما من ذهب إلى عدم وقوع مثل هذا الطلاق ؛ لاَنّه وقع تقية بلا رضا الزوج فهم : أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وعمر بن الخطاب ، وعبدالله بن عباس ، وابن الزبير ، وجابر بن سمرة ، وعبدالله بن عبيد بن عمير ، وعكرمة ، والحسن البصري ، وجابر بن زيد ، وشريح القاضي ، وعطاء ، وطاوُس ، وعمر بن عبدالعزيز ، وابن عون ، وأيوب السختياني ، ومالك ، والاوزاعي ، والشافعي ، واسحاق ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، صرّح بكل هذا ابن قدامة الحنبلي واختار القول الثاني (2).
____________
1) البحر المحيط | أبو حيان المالكي 2 : 424 . وبدائع الصنائع | الفرغاني الحنفي 7 : 175 ، والمحلى | ابن حزم 8 : 331 ـ 335 مسألة : 1406 .
2) المغني | ابن قدامة الحنبلي 8 : 260 مسألة 5846 .

( 150 )
وهو الصحيح الذي عليه المالكية (1)والشافعية (2)والحنبلية (3)، كما اختاره بعض فقهاء الاحناف (4).
2 ـ جوازها في العتق : تجوز التقية فيه عند المالكية (5)، وغيرهم (6)، مع عدم ترتب آثارها بمعنى عدم وقوع العتق في حال التقية ، لحصوله من غير رضا المُعتِق .
3 ـ جوازها في اليمين الكاذبة : لو حلف انسان بالله كاذباً ، فلا كفارة عليه إن كان مكرهاً على اليمين ، وله ذلك تقية على نفسه ، وتكون يمينه غير ملزمة عند مالك والشافعي وأبي ثور ، وأكثر العلماء على حد تعبير النووي الشافعي ، واستدل بحديث : «ليس على مقهور يمين» (7).
أقول : صرّح بهذا الشافعي ونسبه إلى عطاء بن أبي رياح (8)وقد افتى به غير واحد من فقهاء المالكية (9)ونقل القرطبي عن ابن الماجشون : إنّه لا فرق في ذلك بين ان تكون اليمين طاعة لله تعالى ، أو معصية ، وإنه
____________
1) المدونة الكبرى | مالك بن أنس 3 : 29 كتاب الايمان بالطلاق وطلاق المريض أورده تحت عنوان (ما جاء في طلاق النصرانية والمكره والسكران) ، مطبعة السعادة ، مصر . والكافي في فقه أهل المدينة المالكي | ابن عبدالبر : 503 ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1407 هـ . والجامع لاَحكام القرآن | القرطبي المالكي 1 : 180 .
2) أحكام القرآن | الكيا الهراسي الشافعي 3 : 246 .
3) المغني | ابن قدامة 8 : 260 مسألة : 5846 .
4) بدائع الصنائع 7 : 175 .
5) الكافي في فقه أهل المدينة المالكي : 503 .
6) بدائع الصنائع 7 : 175 .
7) المجموع شرح المهذب | النووي الشافعي 18 : 3 ، دار الفكر ، بيروت .
8) أحكام القرآن | محمد بن ادريس الشافعي 2 : 114 ـ 115 .
9) أحكام القرآن | ابن العربي المالكي 3 : 1177 | 1182 . وتفسير ابن جزي المالكي : 366 .

( 151 )
لاحنث عند الاكراه على اليمين الكاذبة(1) وهذا هو محل اتفاق فقهاء الاَحناف (2) .
وقد كان مالك بن أنس يقول لاَهل المدينة في شأن بيعتهم للطاغية المنصور العباسي : إنكم بايعتم مكرهين ، وليس على مكره يمين (3) يحثهم بهذه الفتيا على الخروج مع إبراهيم بن عبدالله بن الحسن للثورة على المنصور .
____________
1) الجامع لاحكام القرآن | القرطبي المالكي 10 : 191 .
2) بدائع الصنائع 7 : 175 ، واُنظر تفصيل فتاوى الحنفية بشأن موارد التقية في اليمين الكاذبة وغيرها في مصادرهم التالية :
1 ـ البحر الرائق | ابن نجيم 8 : 70 .
2 ـ تحفة الفقهاء | السمرقندي 3 : 273 ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1405 هـ .
3 ـ تقريرات الرافعي على حاشية ابن عابدين | محمد رشيد الرافعي 2 : 278 ، ط3 ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت | 1407 هـ .
4 ـ رد المحتار على الدر المختار| ابن عابدين 5: 80 ، ط2 ، دار احياء التراث العربي، بيروت | 1407 هـ .
5 ـ شرح فتح الغدير | ابن همام 8 : 65 ، دار احياء التراث العربي ، بيروت .
6 ـ غمز عيون البصائر | شهاب الدين الحموي 3: 203 و4 : 339، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت | 1405 هـ .
7 ـ الفتاوى الهندية| الشيخ نظام وجماعته 5 : 35 ، ط4 ، دار احياء التراث العربي، بيروت | 1406 هـ .
8 ـ الفروق | الكرابيسي 2 : 260 ، المطبعة العصرية ، الكويت | 1402 هـ .
9 ـ اللباب | الميداني 4 : 107 ، ط4 ، دار الحديث ، بيروت | 1399 هـ .
10 ـ المبسوط | السرخسي الحنفي في الجزء (24) كله تقريباً (تقدم التعريف بطبعته) .
11 ـ مجمع الضمانات | ابن محمد البغدادي : 204 ، ط1 ، عالم الكتب ، بيروت | 1407 هـ .
12 ـ النتف في الفتاوى | السغدي 2 : 296 ، مطبعة الارشاد ، بغداد | 1975 م .
13 ـ الهداية | المرغيناني 3 : 275 ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر .
3) تاريخ الطبري 4 : 427 في حوادث سنة (145) ، ط2 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1408 هـ .

( 152 )
القسم الثالث : الاَحكام :
1 ـ جواز التقية في حكم الاَطعمة والاَشربة المحرمة : أفتى القرطبي المالكي بجواز التقية في شرب الخمر (1)، وقالت الحنفية : تجوز التقية إذا كان الاقدام على الفعل أولى من الترك ، وقد تجب إذا صار بالترك آثماً ، كما لو أُكرِه على أكل لحم الميتة أو أكل لحم الخنزير ، أو شرب الخمرة (2).
وهذه المحرمات المذكورة تجوز كلّها إن كان المتقي باتيانها مكرهاً عليها بغير القتل ، وأما لو كان الاكراه عليها بالقتل ، فقد صرّح الشافعية بوجوبها (3).
وقال ابن حزم الظاهري : «فمن أكره على شرب الخمر أو أكل الخنزير أو الميتة أو الدم أو بعض المحرمات ، أو أكل مال مسلم أو ذمي ، فمباح له أن يأكل ويشرب ولا شيء عليه لاَحد ولا ضمان» (4).
وقد عرفت أن التقية في شرب الخمر ممنوعة عند فقهاء الشيعة ما لم يصل الاكراه الى حد القتل .
2 ـ جوازها في الزنا : إذا أكره الرجل على ارتكاب هذه الجريمة ، واتقى على نفسه بارتكابها فهل يسقط الحد عليه أو لا ؟
____________
1) الجامع لاَحكام القرآن 10 : 180 ، وبه قال الاِمام الزيدي أحمد بن يحيى بن المرتضى في البحر الزخار 6 : 100 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت 1393 هـ ، وقد ذكرناه هنا ؛ لادعاء بعض خصوم الشيعة من الجهلة الاغبياء بان الزيدية أنكروا التقية ، ولولا خشية الاَطالة لزدت البحث فصلاً في تقيتهم .
2) فتاوى قاضيخان 5 : 489 . واُنظر : أحكام القرآن | الجصاص الحنفي 1 : 127 . والمبسوط| السرخسي 24 : 48 وما بعدها . وبدائع الصنائع 7 : 175 وما بعدها .
3) التفسير الكبير | الفخر الرازي الشافعي 20 : 121 .
4) المحلّى | ابن حزم 8 : 330 مسألة : 1404 .

( 153 )
اختلفوا على قولين :
أحدهما : سقوط الحد عنه ، وهو قول القرطبي المالكي (1)، وابن العربي المالكي (2)، والفرغاني الحنفي (3)، وابن قدامة الحنبلي (4)، وابن حزم (5) ، وقال أبو حنيفة : يسقط الحد إن كان الاكراه من السلطان ، وإلاّ حُدّ استحساناً (6).
والآخر : إقامة الحد على الزاني تقية ويغرّم مهرها ، وهو قول مالك بن أنس ، والشافعي ، وقال أبو حنيفة لا يجب المهر (7).
وأما لو استكرهت المرأة على الزنا ، فلا حدّ عليها ، قولاً واحداً (8).
3 ـ جوازها في الدماء : تقدم أن أهل البيت عليهم السلام صرّحوا بأنّ التقية إنّما شرعت لحقن الدم ، وإنّه إذا بلغت التقية الدم فلا تقية ، وبهذا أفتى فقهاء الشيعة اقتداءً بأهل البيت عليهم السلام . وقد وافقهم على هذا من فقهاء العامّة مالك بن أنس (9).
وهو ظاهر المذهب المالكي ، قال ابن العربي المالكي : «قال علماؤنا :
____________
1) الجامع لاَحكام القرآن 10 : 180 .
2) أحكام القرآن | ابن العربي 3 : 1177 | 1182 .
3) بدائع الصنائع 7 : 175 ـ 191 .
4) المغني | ابن قدامة 5 : 412 مسألة : 3971 .
5) المحلّى 8 : 331 مسألة 1405 .
6) بدائع الصنائع 7 : 175 ـ 191 .
7) المغني | ابن قدامة 10 : 155 مسألة 7167 .
8) كما في سائر المصادر المذكورة في هذه الفقرة ، وفي الصفحات المؤشرة ازائها ، وهو قول الزيدية أيضاً كما في البحر الزخار 6 : 100 .
9) تفسير بن جزي الكلبي المالكي : 366 .

( 154 )
المكرَه على اتلاف المال يلزمه الغرم ، وكذلك المكرَه على قتل الغير يلزمه القتل» (1). وهو أحد قولي الشافعي (2). وخالف بذلك أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف .
فقال أبو حنيفة : يصح الاكراه على القتل ، ولكن يجب القصاص على المكره ، دون المأمور .
وقال أبو يوسف : يصح الاكراه على القتل ولا يجب القصاص على أحد ، وكان على الآمر دية المقتول في ماله في ثلاث سنين (3)!!
واعترف بهذا الكاساني الحنفي ، قائلاً : «والمكرَه على القتل لا قصاص عليه عند أبي حنيفة وصاحبه محمد ، ولكن يعزر القاتل ، ويجب القصاص على المكرِه .
وعند أبي يوسف لا يجب القصاص لا على المكرِه ولا على المكرَه ، وإنّما تجب الدية على الاَوّل» (4).
وقد اعتذر السرخسي الحنفي عن أبي يوسف عن فتياه العجيبة هذه ، فقال : «وكان هذا القول لم يكن في السلف ، وإنّما سبق به أبو يوسف واستحسنه» (5).
____________
1) أحكام القرآن | ابن العربي 3 : 1298 .
2) التفسير الكبير | الرازي الشافعي 20 : 121 .
3) فتاوى قاضيخان 5 : 484 . واُنظر : الفرائد البهية في القواعد والفوائد الفقهية | مفتي الشام محمود حمزة : 219 ، ط1 ، دارالفكر ، دمشق | 1406 هـ .
4) بدائع الصنائع 7 : 175 ـ 191 . وكذلك مجمع الاَنهر 2 : 431 ـ 433 .
5) المبسوط | السرخسي 24 : 45 .

( 155 )
أقول : ومن فروع هذه المسألة عند أبي حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني ، أنه يجوز للرجل أن يتقي في قتل أبيه ، ولا يحرم من ميراثه .
قال الفرغاني الحنفي : «لو أُكرِه الرجل على قتل موروثه بوعيد قتل فَقَتَل ، لا يحرم القاتل من الميراث ، وله أن يقتُل المُكرِه قصاصاً لموروثه في قول أبي حنيفة ومحمد» (1).
والخلاصة ، إنّ المذهب الحنفي يجوز التقية في الدماء !! وهو أحد قولي الشافعي (2).
4 ـ جوازها في قطع الاَعضاء : تصح التقية في قطع أعضاء الاِنسان ، ولا قصاص في ذلك لا على الآمر ولا على المأمور، بل تجب الدية عليهما معاً من مالهما عند أبي يوسف(3)!!
والاَعجب من كلِّ هذا ، جوازها في قطع الاَعضاء تبرعاً من غير اضطرار أو إكراه !!!
إنّه لو أكرَه السلطان رجلاً على أن يقطع يدَ رجُلٍ فقطعها ، ثم قطع يدَه الاُخرى ، أو رجله تطوعاً من غير اكراه من السلطان ، وإنّما قطعها اختياراً ، فهل يجب عليه القصاص فيما قطعه مختاراً أو لا ؟
الجواب : لا قصاص عليه ، ولا على السلطان ، بل تجب عليهما الدية
____________
1) فتاوى قاضيخان 5 : 489 .
2) التفسير الكبير | الرازي 20 : 121 .
3) فتاوى قاضيخان 5 : 486 .

( 156 )
من مالهما عند أبي يوسف (1)!!
5 ـ جوازها في هتك الاَعراض !! : ومن فتاوى العامّة المخجلة حقاً تجويزهم التقية على الاِنسان في هتك عرضه وشرفه وناموسه ، وعليه أن يقف ذليلاً وبكل نذالة وهو يرى الاعتداء على شرفه ولا يدفع عنه شيئاً !
ففي الجامع لاَحكام القرآن للقرطبي المالكي أنّه إذا أُكرِه الاِنسان على تسليم أهله لما لا يحلّ ، أسلمها ، ولم يقتل نفسه دونها ، ولا احتمل أذية في تخليصها (2).
6 ـ جوازها في قذف المحصنات : تجوز التقية في قذف المحصنات عند الجصاص الحنفي (3)، وقد زاد على ذلك السرخسي ، جواز الافتراء على المسلم تقية (4).
7 ـ جوازها في اتلاف مال المسلم : جوّز الحنفية والشافعية وغيرهم التقية في اتلاف مال المسلم لمن يُكرَه على ذلك ، ولا ضمان عليه وإنّما الضمان على من أكرهه (5).
____________
1) فتاوى قاضيخان 5 : 486 .
2) الجامع لاَحكام القرآن | القرطبي المالكي 10 : 180 وما بعدها في تفسيره الآية 106 من سورة النحل .
3) أحكام القرآن | الجصاص الحنفي 1 : 127 .
4) المبسوط | السرخسي 24 : 48 .
5) مجمع الاَنهر 2 : 431 ـ 433 . والاشباه والنظائر | السيوطي الشافعي 207 ـ 208 . والسيل الجرار على حدائق الاَزهار | الشوكاني 4 : 265 ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت | 1405 هـ . وقد قيّد بعضهم مثل هذه التقية في حالة كون الاكراه عليها بالقتل وهو ما يسمونه بالاكراه الملجيء الذي يكون معتبراً في التصرفات القولية والفعلية ، وفي مثل هذا الحال يكون الضمان على المكرِه ،

=


( 157 )
وأطلق الاِمام الزيدي أحمد بن يحيى بن المرتضى القول باباحة مال الغير بشرط الضمان في حال التقية (1).
8 ـ جوازها في شهادة الزور : صرّح السيوطي الشافعي بجواز شهادة الزور عند الاكراه عليها ، فيما لو كانت تلك الشهادة في اتلاف الاموال (2).
كلمة أخيرة عن سعة التقية في فقه المذاهب الاَربعة :
لقد تركنا الكثير جداً من المسائل التي جوّز فيها فقهاء العامّة التقية بغية للاختصار ، كتجويزهم التقية مثلاً في : الصدقة ، والاقرار ، والنكاح ، والاجارة ، والمباراة ، والكفالة ، والشفقة ، والعهود ، والتدبير ، والرجعة ـ بعد الطلاق ـ والظهار ، والنذر ، والايلاء ، والسرقة ، وغيرها من الفروع الشرعية (3) ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات. ومن هنا قال المالكية : «الاكراه، إذا وقع على فروع الشريعة لا يؤخذ المكره بشيء»(4).
وأوسع من هذا المعنى ما صرّح به موسى جار الله التركماني بقوله:«والتقية هي : وقاية النفس من اللائمة والعقوية ، وهي بهذا المعنى من الدين ، جائزة في كلِّ شيء» (5).
____________

=

وأما لو كان الاكراه غير ملجيء وهو ما كان التهديد فيه بما دون القتل فللمكرَه أن يتقي في المثال أيضاً بشرط الضمان .
اُنظر : شرح المجلة | سليم رشيد الباز : 560 المادة 1007 ط دار إحياء التراث العربي : بيروت .
1) البحر الزخار 6 : 100 .
2) الاَشباه والنظائر | السيوطي : 207 ـ 208 .
3) راجع في ذلك بدائع الصنائع 7 : 175 ـ 191 . والمحلّى 8 : 331 ـ 335 مسألة : 1406 وغيرهما مما ذكرناه من مصادر الفقه العامي .
4) أحكام القرآن | ابن العربي 3 : 1177 | 1182 .
5) الوشيعة في نقد عقائد الشيعة | موسى جارالله : 72 ، ط1 ، مطبعة الشرق ، مصر | 1355 هـ .

( 158 )
وقال أيضاً : «التقية في سبيل حفظ حياته ، وشرفه ، وحفظ ماله ، وفي حمايته ، حق من حقوقه واجبة على كلِّ أحد إماماً كان أو غيره» (1).
وبهذا وغيره مما مرّ في فصول هذا البحث يتضح أنّه لا مجال لاَحد في النقاش بمشروعية التقية في الاِسلام ، ولا مجال لانكارها بحال من الاَحوال ، وان انكارها مرض طبعت عليه قلوب المنافقين ، والحمد لله ربِّ العالمين .