الشفاعة الكفارية والتوسلية
المتنيح الأنبا غريغوريوس
جريدة وطنى 30 /7 /2006 م السنة 48 العدد 2327
الخلاص والشفاعة الواحدة (الكفارية)
فيما يتصل بالخلاص هناك شفاعة واحدة وهي شفاعة المسيح، هذه الشفاعة هي التي نسميها الشفاعة الكفارية، ومعناها أن البشرية احتاجت إلي فاد يموت بديلا عن الإنسان، ولم يتوافر هذا الفادي في واحد من البشر، لأنه لو وجد هذا الشفيع من بين الناس لما كان هناك داع لأن ينزل سيدنا يسوع المسيح من السماء ويأخذ صورة الإنسان ويكون هو الفادي الذي يموت بدلا من الإنسان.
لو كان يصلح لهذه المهمة أبونا إبراهيم أو أبونا إسحق أو يعقوب أو موسي أو صموئيل أو إيليا أو غيرهم من القديسين، كان من الممكن أن مثل هذا الإنسان يقوم بهذا العمل، ولا داعي أبدا للمسيح وهو الإله أن ينزل من السماء ويأخذ صورة البشر، إذن هذا هو المعني من قول الكتاب: لنا شفيع واحد ووسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح ولماذا قال: الإنسان يسوع المسيح؟ لأن المسيح قام بهذه الوساطة بصفة ناسوته، لأن المسيح وهو إله لا يمكن أن يكون وسيطا، لكن المسيح وهو الإله المتأنس كان وسيطا، لا من حيث لاهوته لأن لاهوته لاهوت الآب، لأنه هو والآب واحد ولاهوت واحد، فالمسيح إذا كان وسيطا بيننا وبين الله الآب لا بصفة لاهوته بل بصفة ناسوته، وهذا هو السبب أن الإله إتخذ صورة الإنسان، لأنه لو كان بصفة لاهوته ما كان هناك داع للتجسد ولأن يتأنس، إذن هو وسيط بصفته الناسوتية، ولأن هذا الناسوت متحد باللاهوت، فالدم المسفوك من الناسوت أصبح له قيمة اللاهوت نفسه وذلك للاتحاد القائم بين الناسوت واللاهوت.ولذلك أصبحت له القيمة الأبدية والقيمة الأزلية، وقيمة تغطية خطايا جميع البشر، وأن يكون ثمنه غاليا وثمينا.
الذي جعل الثمن عظيما وغاليا هو اتحاد اللاهوت بالناسوت وهذا يرينا أنه كان يجب أن يكون الاتحاد بين اللاهوت والناسوت اتحادا تاما، وأنه لا تحدث مفارقة لأنه لو حدثت مفارقة معني ذلك أن الذي مات عن البشر الإنسان وحده من غير أن يكون له قيمة أبدية أزلية -هذه القيمة التي كسبها باتحاد اللاهوت بالناسوت، لكن علي الرغم من هذا فالذي قام بعمل الوساطة هو الإنسان يسوع المسيح بمعني أنه لا بصفة لاهوته لأن لاهوته هو لاهوت الآب، وإنما بصفة إنسانيته، لكن هذه الإنسانية متحدة باللاهوت فصار الدم المسفوك من الإنسان يسوع المسيح هو دم ابن الله، أو كما قال الرسول: كنيسة الله التي اقتناها بدمه فالهاء هنا أصبحت تعود علي الله، والذي جعل دم يسوع المسيح دم الله نفسه هو اتحاد اللاهوت بالناسوت، هذا هو المعني أن يسوع المسيح كان هو الفادي وليس بأحد غيره الخلاص.هو الكفارة وهو الفداء ونحن في القداس الغريغوري نقول: لا ملاك ولا رئيس ملائكة ولا رئيس آباء ولا نبيا ائتمنتهم علي خلاصنا بل أنت بغير تحول تجسدت وتأنست وشابهتنا في كل شئ ما خلا الخطيئة وحدها.
معني هذا أننا نؤمن ككنيسة أن عمل الخلاص ما كان يمكن أن يتم بغير المسيح.فالمسيح هو الفادي الوحيد وهو المخلص الوحيد.ولولا مجئ المسيح لظل البشر جميعا بما فيهم إبراهيم وإسحق وموسي وصموئيل في الجحيم لأنهم جميعا كانوا تحت الضعف وجميعهم احتاجوا إلي المخلص الوحيد الأوحد وليس مخلص إلا المسيح.
هذا هو معني الشفاعة الكفارية، وكنيستنا تؤمن أن من ينسب شفاعة كفارية لغير المسيح فقد كفر وقد جدف.فلا الملائكة ولا القديسون تنسب لهم شفاعة كفارية.ويعد تجديفا علي الله وإنكارا لعمل المسيح الفادي أن تنسب إلي القديسين أو إلي الملائكة شفاعة كفارية.
وهذا هو السبب أن القديس يوحنا في رسالته الأولي والإصحاح الثاني يقول: إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار وهو كفارة لأجل خطايانا.
عندما قال الرسول هذا الكلام هل كان يتكلم عن الماضي الذي تم أو يتكلم عن الحاضر؟ يتكلم في الحاضر إن أخطأ أحد أي اليوم، إذن مازال المسيح هو الشفيع أي أن عمل الشفاعة لم ينته، هناك استمرارية لعمل الشفاعة.
أستمرار شفاعة السيد المسيح الكفارية
كيف نفسر استمرار شفاعة المسيح الكفارية؟ التي تمت مرة علي عود الصليب حقا إن أي إنسان يخطئ اليوم خطيئة فعلية محتاج إلي دم المسيح وأنه لن تغفر له هذه الخطيئة إلا بدم المسيح، لأننا في كل مرة نخطئ من جديد نكرر خطيئة آدم الأول.ونحتاج إلي كفارة ونحتاج إلي مخلص ونحتاج إلي فاد ونحتاج إلي عمل الصليب من جديد، غير أنه نظرا لأن دم المسيح ثمين وثمنه لا يقدر، وقيمته أبدية، فليس هناك حاجة أن يموت المسيح مرة أخري، بل الدم الذي تفجر مرة في الصليب مازال غنيا ومازال كافيا ومازال كثيرا في مقداره وفي ثمنه، فدم المسيح سوف لا ينضب ولا يفرغ بل بحر تفجر في الصليب، وفي كل مرة يخطئ الإنسان خطيئة فعلية ويتوب عنها ينقل الروح القدس من دم المسيح المتفجر في الصليب إلينا من خلال سر القربان، لأن في سر القربان دم المسيح حاضر علي المذبح، المسيح لا يصلب مرة أخري في سر القربان ولكن تلك المرة عينها التي صلب فيها المسيح مرة واحدة يأخذ منها الروح القدس وينقل إلينا، كما قال المسيح: إن الروح القدس يأخذ مما لي ويعطيكم وهذا عمل الأسرار الكنسية، أسرار الكنيسة السبعة قائمة كلها علي استحقاقات دم المسيح الذي صلب مرة، ولكن الأسرار عبارة عن قنوات تصل بين البحر الكبير وبيننا، والروح القدس هو الذي ينقل من هذا البحر من خلال هذه القنوات إلينا، فهذه القنوات السبع أسرار الكنيسة السبعة من عمل الروح القدس وعن طريقها ينقل الروح القدس بركات الخلاص ودم المسيح الذي تفجر مرة في الصليب.
إذن الأسرار المقدسة ليست استحقاق إنسان...وليست اختراعا بشريا وليست جديدة علي عمل الفداء.
عمل الفداء هو بعينه الذي قام به المسيح، ولكن بحلول الروح القدس علي التلاميذ بدأ عهد الروح القدس الذي أشار إليه المسيح، أنه يأخذ مما لي ويعطيكم، فيأخذ الروح القدس من إستحقاقات المسيح الكفارية وينقل إلينا في سر القربان هذه الاستحقاقات، لذلك الإنسان الذي يخطئ خطيئة فعلية بعد المعمودية يحتاج إلي دم المسيح.ودم المسيح حاضر علي المذبح.هذا الدم هو بعينه الدم الذي تفجر مرة في الصليب.وهذا هو السبب في أننا نسمي ذبيحة المذبح الذبيحة غير الدموية، ماذا تعني ذبيحة غير دموية؟ تعني أنها هي بعينها ذبيحة الصليب من دون أن نصلب المسيح بنفس الطريقة التي صلبه بها اليهود والرومان، نحن نقترب إليه في تعبد ونأخذ من دمه لغفران خطايانا فذبيحة الإفخارستيا هي بعينها ذبيحة الصليب، ذبيحة الصليب تتجلي علي المذبح.والحكمة في وجودها أننا في حاجة إلي دم المسيح من أجل غفران خطايانا الفعلية، لأننا من دون دم المسيح لا تغفر لنا خطيئة، فإذا كانت قد غفرت خطايانا الجدية في المعمودية فماذا يصنع بالخطايا الفعلية؟ كيف تغفر من دون دم المسيح؟ وماذا يصنع المسيح هل يصلب من جديد؟ لا...دمه ينقله الروح القدس إلينا في سر القربان فسر القربان هو بعينه ذبيحة الصليب تتجلي علي المذبح، تظهر فيه كل يوم علي المذبح لغفران خطايانا الفعلية إذا كنا مستحقين لهذا الغفران.لذلك المسيح لايزال الآن وحتي نهاية الكنيسة ونهاية وجودنا علي الأرض هو الذبيحة الكفارية، لأننا من دونه لا ننال غفران خطايانا الفعلية.هذا معني إن أخطأ أحد فلنا شفيع والجميل أننا عندما ينتهي القداس الكاهن يكلم الملاك ويقول: يا ملاك هذه الذبيحة إلي العلو لأن المسيح فيما هو غذاء وقوت لأرواحنا في سر القربان وفيما هو شجرة الحياة الحقيقية الذي من أكل منها يحيا إلي الأبد هو بعينه الذبيحة.
فالمسيح هو الفادي وهو الذبيحة لأنه الواسطة الكفارية لأن من دونه لا نعفي من خطايانا ولا تغفر لنا خطايانا، مازال المسيح ذبيحة ولذلك ما يوضع عليه سر الإفخارستيا هو المذبح والذبيحة هي المسيح وهذا ما يقوله الرسول بولس في رسالته إلي العبرانيين إصحاح 13: لنا مذبح لا سلطان للذين يخدمون المسكن أن يأكلوا منه أي لا يحق لليهود أن يأكلوا منه.هذا هو المذبح المسيحي، وقال: يأكلوا منه يعني أن هناك شئا يؤكل من فوق هذا المذبح، حتي لا يقول أحد إنه يقصد مذبح القلب أو مذبح الإيمان وأمثال هذه التعبيرات التائهة المضللة، يقول لنا مذبح لا سلطان (لا يحق) للذين يخدمون القبة (اليهود) أن يأكلوا منه، هذا المذبح المسيحي بخلاف المذبح اليهودي، في العهد القديم، كان لليهود مذبح واحد في أورشليم، الآن لهم مجامع مثل مجمع الناصرة ولهم مجمع في مصر القديمة وليس لهم مذابح حتي في أورشليم.أما ما جاء في نبوءة إشعياء: يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر فليس المقصود به المذبح الوثني، أو مذبح اليهود لأن مذبحهم واحد يكون دائما في أورشليم.وهذا التعبير كتابي وموجود في الكتاب المقدس، في العهد القديم فهو يشير إلي المذبح المسيحي.
شفاعة القديسين توسلية
أيها الإخوة والأبناء نحن في كنيستنا لا نخلط بين شفاعة المسيح وبين شفاعة القديسين...أولا لا يوجد هناك ما يمنع أن تكون هناك شفاعات أخري، لكن ليس بمعني شفاعة المسيح، لأن الكتاب المقدس نسب إلي الروح القدس أيضا أنه شفيع، وقال عن الروح القدس إنه يشفع فينا بأنات لا ينطق بها، لكن ليس بمعني شفاعة المسيح وهي الشفاعة التي ينفرد بها يسوع المسيح.
يقول الرسول: نحن لا نعرف ما نصلي لأجله ولكن الروح يشفع فينا بأنات لا ينطق بها بمعني أن الواحد لا يعرف أن يصلي ولا كيف يصلي فيجد إحساسا داخليا يدفعه للصلاة ويفتح له موضوع للصلاة يقول له صل من أجل كذا...هذا هو عمل الروح القدس في باطن الإنسان، والشفاعة هنا بمعني المعونة ففي اللغة العربية تستخدم الشفاعة بمعني الإلحاق والإضافة.فشفاعة الروح القدس هي المجهود الإضافي الملحق بنا.نحن نصلي لكن الروح القدس يعطينا نفحة ويعطينا أنات ويعطينا ما نصلي من أجله، يفتح لنا باب الصلاة، يثيرنا علي الصلاة، نحن نصلي فنحن أصحاب الموضوع والروح القدس يساعدنا، فمجهود الروح القدس ملحق لمجهودنا هذا هو معني يشفع فينا بأنات لا ينطق بها.
وقياسا علي نفس المعني شفاعة القديسين، بمعني صلواتهم المضافة إلي صلواتنا، وبهذا المعني تكون صلواتهم لنا.فهي شفاعة بهذا المعني، بمعني أن جهاد القديسين ملحق بجهادنا.وهذا المعني كثيرا ما نجده في الكتاب المقدس فيقول الرسول: صلوا من أجلي لكي يعطيني الرب نعمة عند افتتاح الفم لأحدث جهارا بسر الإنجيل فالرسول يطلب صلوات المؤمنين وفي نفس الوقت يقول لهم إني أذكركم في صلواتي بلا انقطاع، فالرسول يطلب صلوات المؤمنين وأيضا يصلي من أجلهم، ألم يطلب الرسول ويقول: اطلب أن تقام صلوات وطلبات وتضرعات وابتهالات لأجل جميع الناس، لأجل الملوك والذين هم في منصب لكي نقضي حياة مطمئنة في كل تقوي وفي كل وقار فعندما نصلي من أجل الملوك ومن أجل الذين في منصب ومن أجل كل إنسان هذه شفاعة لأنها مجهود ملحق إضافي، فشفاعة القديسين هي عبارة عن صلوات، غير شفاعة المسيح، شفاعة المسيح هي استحقاقات دمه، هي الوساطة بيننا وبين العدل الإلهي، أما شفاعة القديسين فمعني آخر مأخوذ من اشتقاق الكلمة بمعني صلواتهم وطلباتهم وتضرعاتهم المساعدة لصلواتنا.وهذه نافعة لنا، الكتاب المقدس يقول: طلبة البار تقتدر كثيرا في فعلها والله قال لإبراهيم: إن وجد هناك في المدينة خمسون بارا أصفح عن المكان كله من أجل الخمسين الذين فيه ثم قال له: إن وجد أربعون بارا أصفح عن المكان كله من أجل الأربعين الذين فيه هذا معني شفاعتهم، أن هؤلاء الأبرار يكون لهم كرامة عند الله فبدلا من أن ينزل ويحرق المدينة كلها، من أجل الأبرار الذين فيها الله يتراءف ويطيل أناته علي المدينة حتي يعطيهم فرصة أخري للتوبة، هذه هي شفاعة القديسين التوسلية ويجب أن لا نخلط ما بين شفاعة المسيح الكفارية وبين شفاعة القديسين التوسلية.
قلنا إنه من الكفر أن تنسب إلي القديسين شفاعة كفارية لأن المسيح وحده هو شفيعنا الكفاري، ولا توجد شفاعة كفارية إلا شفاعة المسيح.
السيد المسيح لا يتوسل إلى الآب ولكنه يناجيه
وبنفس الدرجة نقول إن شفاعة القديسين شفاعة توسلية ومن الكفر أيضا أن تنسب إلي المسيح شفاعة توسلية.لأن المسيح ليس أقل من الآب حتي أنه يتوسل كما يتوسل القديسون.هناك بعض الناس مع الأسف البالغ من الخارجين عن الإيمان الأرثوذكسي، يفسر ما جاء في سفر الرؤيا الآية التي فيها ووقف ملاك أمام الله وبيده مجمرة من البخور فيقولون أن هذا الملاك هو المسيح، هذا كفر بمقام ربنا يسوع المسيح أن يوضع في السماء موضع أحد الملائكة الذي يرفع الصلاة أو يتوسل، هذا الكلام خطأ وكفر، المسيح جالس علي العرش لأنه ليس أقل من الآب في الجوهر.المسيح كان يصنع المعجزات علي الأرض بالأمر، والمواقف التي صلي فيها المسيح علي الأرض كانت مواقف ليبين للناس علاقته بالآب، ولذلك لم تكن صلاته صلاة طلب.إنما كانت مناجاة، لم يكن المسيح يتوسل كما يتوسل البشر إلا في موقف واحد وهو في بستان جثسيماني، ولأنه كان في بستان جثسيماني نائبا عن البشر، كان يمثل البشرية والإنسانية إنما المسيح الآن كما قال الرسول بولس: نحن الآن لا نعرف المسيح حسب الجسد بل إلها مباركا إلي الأبد لا نعرف المسيح حسب الجسد أي في صورة الهوان التي ظهر فيها علي الأرض، والتي كانت تقتضيها مهمته كفاد، ولكن المسيح الآن في المجد قابل للصلاة وإليه رفع إسطفانوس الصلاة وقال: أيها الرب يسوع أقبل روحي لذلك نحن نعتبر أنه من الكفر أن تنسب إلي المسيح شفاعة توسلية.كما نقول أيضا أنه من الكفر أن تنسب إلي القديسين شفاعة كفارية.فلابد أن نميز ولا نخلط بين شفاعة المسيح التي ينفرد بها، وبين شفاعة القديسين وهي شفاعة توسلات وتضرعات وصلوات.وهذا أمر مقرر ومعروف في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.