الفصل التاسع

 

مكانة "المقالة في التوحيد" في فكر يحيى بن عدي

 

أولا – أهمية "المقالة في التوحيد"

في تطور فكر يحيى بن عدي

 

1 – مقالتنا وردّ يحيى على الكندي وعلى أبي عيسى الورّاق

 

     لقد رأينا في الفصل السابق(1) أن يحيى كرّر الآراء الأساسية التي كان قد عرضها في مقالته في التوحيد . وذلك بعد نحو 22 سنة ، إذ أن "المقالة في التوحيد" مُنشَأة في رجب 328 (= ابريل أو مايو 940م) ، بينما "الردّ على الكندي" في رمضان 350 (= أكتوبر أو نوفمبر 961م) ، عندما كان يحيى قد بلغ 68 سنة من عمره !

 

     كما أنه عاد إلى تحليل معاني الواحد الستّة ، في ردّه على أبي عيسى الورّاق(2) . وذكر ، في نفس الرد ، الثلاثية "جوّاد وحكيم وقادر" ، في عدة مواضع(3) . وسنبيّن في بحث آخر ، إن شاء الله ، أن هذا الرد قد ألّفه بين سنة 961م و969م .

 

     ومجرد هذا التكرار لآرائه الأساسية ، بعد 22 سنة أو أكثر ، يدلّنا على أهمية "المقالة في التوحيد" ، في نظر مؤلفها . فهي ، وإن كانت باكورة إنتاج يحيى الفلسفي(4) ، إلا أنها كالأساس الذي سيبني عليه يحيى ، فيما بعد ، طريقته (système) الفلسفية .

___________

 

1)                           راجع ص 112 – 114 .

2)                           راجع جراف ، "فلسفة يحيى ولاهوته" ص 15 – 16 .

3)                           راجع "تبيين غلط محمد بن هارون ، المعروف بأبي عيسى الوراق ، الخ" (انظر ص 53 رقم 103 من قائمة مؤلفات يحيى) . راجع مثلا مخطوط باريس عربي 167 ورقة 5 ظ (انظر PERIER ص 155 – 156) و 90 ظ – 91 (انظر PERIER ص 139 – 140 حاشية 5) .

4)                           إن "المقالة في التوحيد" أول مؤلف مؤرخ ليحيى بن عدي ، كما رأينا في القسم الخامس من الفصل الأول (راجع ص 34) . وكان يحيى في السابعة والأربعين من عمره . وفي اعتقادنا أن هذه المقالة تفتتح الفترة الثانية من حياته الذهنية ، فترة الإنتاج الشخصي . أما الفترة الأولى ، فهي فترة نقل وتفسير لمؤلفات أرسطو ومدرسته .

 


 

2 – مقالتنا والمقالة في وجوب التأنس

 

     وقد ذكر يحيى هذه المقالة بعنوانها مرة وحدة ، في مؤلف آخر غير مؤرخ ، هو "المقالة في وجوب(5) التأنس" ، حيث قال : "وإذ قد وضّح أن ماهية العلم إنما هي حصول المعلوم في ذات العالِم ؛ وكان قد تبيّن ، في مقالتنا في التوحيد ، أن البارئ (عزّ وجلّ) عالِمٌ بخلائقه ، فهو إذن متصورٌ بصُوَرها"(6) .

 

     وهذه إشارة إلى ما جاء في الفصل الحادي عشر من "المقالة في التوحيد" ، عند الكلام عن حكمة العلة الأولى(7) .

 

3 – مقالتنا والجواب على مسألة ابن داديشوع الأولى

 

     وسيعود إلى دراسة هذه النقطة (أعني علم البارئ بخلائقه) في جوابه عن المسألة الأولى التي سأل عنه صديقُه أبو علي سعيد بن داديشوع ، في ذي القعدة من سنة 358 (= سبتمبر أو أكتوبر 969م) ، أي بعد ثلاثين سنة تقريبا(8) . وهذا السؤال يحتوي على أربعة أسئلة فرعية ، نذكر بعض الفقرات منها ، ونقارنها مع مقالتنا في التوحيد .

 

* * *

     يقول يحيى ، في الرد على السؤال الفرعي الأول : "أما الجواب على "هل يعلم البارئ (عزّ وجلّ) الجزئيات ، أو لا يعلمها ؟" ، فهو أنه يعلمها" . ثم يبرر يحيى رأيه قائلا(9) :

 


 

والدليل على ذلك أن البارئ (عز وجل) حكيم . والدليل

ولما كان وجود الخلائق ليس هو وجودا كيف ما اتفق ، بل وجودها على غاية الإتقان


 

____________

 

5)                           وقد سماها PERIER ، اتباعا لبعض المخطوطات : "مقالة في وجود التأنس" . راجع "مقالات يحيى بن عدي" ص 69 .

6)                           راجع "مقالات يحيى بن عدي" ص 82/8 – 83/2 .

7)                           راجع "التوحيد" رقم 366 – 370 .

8)                           وقد أعددنا هذا النص (رقم 111 من لائحتنا المنشورة في الفصل الثالث ص 54) اعتمادا على مخطوط البطريركية القبطية بالقاهرة ، رقم 177 لاهوت (نسخ قبطي من القرن التاسع عشر) ورقة 63 - 71 ظ . كما أعددنا أيضا مختصر هذا النص ، الذي وضعه صفي الدولة أبو الفضائل ابن العسال ، اعتمادا على مخطوط الفاتيكان عربي 134 ومخطوط ميونيخ عربي 948 (وكلاهما من القرن الثالث عشر) . ونعتمد هنا على النص الكامل ، لا على المختصر .

9)                           نص "الرد على أسئلة ابن داديشوع" على العمود اليسار . ويقابله نص "المقالة في التوحيد" (عمود اليمين) .

 


 


 

على أنه حكيم ما هو ظاهر للعيان

من آيات حكمته في خلائقه .

 

فإنه ، إذا تُصفح كل واحد

واحد منها ، وُجد جوهره

وأجزاؤه في جواهرها ،

ومقداره ومقدارها ،

وشكله وشكل كل واحد

واحد منها ،

 

ووضعه ،

 

 

 

واتصاله بما يتصل

به منها ،

موافقا ملائما

للغرض

المقصود به إليه .

 

وقد بيّن

 

جالينوس ذلك في الإنسان ،

 

في كتابه في "منافع الأعضاء" ،

بيانا يُغنينا

 

عن إطالة هذا الكلام بذكره ،

لسهولة تناوله على من يُريد معرفتَه(10) .

 

والإحكام ، وآثار القصد والحكمة

فيها ظاهرة بيّنة للعيان .

 

فإن جوهر كل واحدٍ من

أجزاء كل واحد من

المخلوقات

وعددها ومقاديرها ،

وأشكالها ونسبها ،

 

 

ووضعها وترتيبها ،

ونصيبها وما يوجد لها ،

وأماكنها وأزمانها ،

وأفعالها وانفعالاتها ،

وبالجملة جميع لَواحقِها

ولوازمها الذاتية لها ،

هي على أفضل ما يكون من التهيؤ للتأدية إلى أغراضها

المقصود بها إليها .

 

على ما بيّن ذلك ،

على التفصيل والتحصيل ،

الفلاسفة من اليونانيين ،

والآخذون عنهم من المُحدثين ،

في كتبهم .

ويُغنينا قربُ تناول ذلك

على مؤثري معرفته ،

عن إطالة المقالة بإعادته فيها .


 

____________

 

10)                        "الرد على أسئلة ابن داديشوع" (راجع حاشية 8) ورقة 63 ظ .


 

وهو ، مع ذلك ، مُدرَك بالحس(11) .

 

    فيتضح من هذه المقابلة أن يحيى كرّر نفس الفكرة ، بشئ من الإيجاز ، بعد أن عدّل الأسلوب ليناسب غرض المسألة . وذلك بعد ثلاثين عاما . مما يؤكد أن "المقالة في التوحيد" هي الأساس الذي بني عليه فيما بعد كثيرا من مقالاته .

 

* * *

     وكذلك ، في الإجابة عن السؤال الفرعي الثاني (من السؤال الأول) ، يقول :

     "وأما السؤال عن "كيف يكون علمُه بها(12) ؟" ، فالجواب عنه أنه بأن تُحصّلَ صُوَرُها (وهي ما يدل عليه حدودها ، أو الأقاويل الواصفة لها) في ذات العالِم بها ؛ كما قد بيّنا ذلك في مقالتنا ، التي بيّنا فيها كيفية وجود [كذا] التأنس(13) . وهو كوجود صُوَر ما يقابل المرايا"(14) .

 

     فيعتمد إذن يحيى ، في هذا القسم من إجابته ، على "المقالة في وجوب (أو : وجود) التأنس"(15) التي ذكرناها آنفا ، لا سيما الجزء الثاني منعا الذي يبيّن فيه إمكان اتحاد البارئ تعالى بالإنسان(16) . وقد رأينا أن هذه المقالة تعتمد ، في هذا الجزء ، على مقالتنا في التوحيد . فينتج أن يحيى يعتمد ، هنا أيضا ، على "المقالة في التوحيد" التي ألّفها قبل ثلاثين سنة .

 

ثانيا – "المقالة في التوحيد" مدخل فلسفي إلى علم التثليث

 

     إذا قارنّا "المقالة في التوحيد" بالرد على الكندي ، فهِمْنا أهمية مقالتنا وميزتها .

 

1 – المقالة في التوحيد مقالة فلسفية محضة

 

     فالرد على الكندي كتاب دفاعي ، وقد يستعمل فيه يحيى أحيانا أسلوبا هجوميا . بينما "المقالة في التوحيد" عَرْضٌ هادئ لنظريات فلسفية .

____________

 

11)                        "التوحيد" رقم 366 – 368 .

12)                        أي : "كيف يكون علم البارئ بالجزئيات ؟" .

13)                        وفي مخطوط البطريركية القبطية : "العالم" ، وهو تصحيف . أما في مختصر ابن العسال ، فلا توجد هذه الجملة .

14)                        راجع حاشية 51 ، ورقة 64 ﺠ .

15)                        طبع بيرييه PERIER هذه المقالة ، مع ترجمة فرنسية . راجع "مقالات يحيى بن عدي" ص 69 – 86 .

16)                        راجع "مقالات يحيى بن عدي" ص 74/3 – 83/7 . أما الإشارة إلى المرايا ، فها هي : "وكذلك جميع الأشياء المقابلة للمرايا تعطي المرايا صورها ، فتتصور المرايا بها . فيرى المستدبرون للأشياء المقابلة للمرايا [وقد سقطت هذه الكلمة في الطبعة ، واستعدناها من مخطوط الفاتيكان عربي 134 ورقة 30 ظ 4] ، المستقبلون للمرايا ، صُوَرَها كلها..." (ص 73/2 – 4) .


 

     و"الرد على الكندي" دفاع عن التثليث ، وعن مذهب النصرانية . لذلك تكثر فيه الألفاظ المسيحية ، مثل "الآب والابن والروح القدس" ، ولفظة "النصارى" ، والألفاظ اللاهوتية مثل "أقانيم" ، الخ . أما "المقالة في التوحيد" فلا تمس موضوع التثليث ، فهي بحث فلسفي محض .

 

     لذلك ، لا تجد "الرد على الكندي" وبقية المقالات اللاهوتية ، إلا في المخطوطات المسيحية . بينما رأينا ، في الفصل الرابع من هذا البحث ، أن "المقالة في التوحيد" وصلت إلينا عن طريقين مستقلين : أحدهما إسلامي فارسي ، والآخر مسيحي قبطي .

 

     فالرد على الكندي بحث لاهوتي يعتمد على الفلسفة . بينما "المقالة في التوحيد" بحث فلسفي ذو هدف لاهوتي ، يعرض فيه المؤلف معاني الواحد عرضا مستفيضا ، ثم يحاول تحديد المعنى (من هذه المعاني العديدة) الذي يصح تطبيقه على البارئ تعالى .

 

     وإن كان المؤلف قد توصّل إلى أن معنى الواحد في البارئ هو ما كان واحدا من جهة وكثيرا من جهة أخرى ، إلا أن هذه (في نظره) حقيقة فلسفية يتوصل إليها ضرورة كل من تبع طريقة أرسطوطاليس .

 

2 – المقالة في التوحيد تعتمد على أرسطو ومفسريه

 

     ذكرنا ، في صدر هذا الكتاب ، رأي المستشرق بيرييه ، حيث يقول : "إنه من الممكن مقابلة كل جملة من المقالة في التوحيد بجملة تقابلها مستمدة من كتاب "ما بعد الطبيعة" لأرسطو ، أو من كتاب "السماع الطبيعي" له"(17) .

 

     وقد أشرنا إلى بعض هذه المراجع الأرسطوطالية في الحواشي التي وضعناها على نص يحيى بن عدي(18) . ولا شك أن الأخصائيين يستطيعون إضافة عشرات المراجع على تلك التي ذكرناها .

 

     أما الآن ، فنريد الإشارة إلى ظاهرة أخرى . وهي تأثير مفسري أرسطو (لا أرسطو فقط) على يحيى بن عدي . بل نعتقد أن يحيى قرأ أرسطو من خلال هؤلاء المفسرين ، لا سيّما يحيى النَحْوي والإسكندر الأفروديسي . نضرب هنا مثالين على ذلك ، للدلالة على أهمية مفسري أرسطو في فكر يحيى بن عدي .

 

     أ – في رقم 161 ، عندما أراد يحيى أن يعطي مثلا على "الواحد بالحد" ، قال :

____________

 

17)                        راجع PERIER ص 123 . وقد ذكرنا النص الفرنسي في التصدير ، ص 22 حاشية 12 .

18)                        راجع الحواشي على نص يحيى ، رقم 8 و 149 و 150 و 151 و 152 و 177 و 180 و 253 .


 

       "كالإنسان ، فإن حدّه واحد ، ولا توجد فيه غيرية ، وهو القول : "حي ، ناطق ، مائت" .

 

     هذا التعريف للإنسان لا يوجد عند أرسطوطاليس ، كما يتضح من مراجعة فهرس مفرداته(19) . فإن كلمة "مائت" (θνηΤός) لا ترد إلا مرة واحدة في مؤلفاته ، وذلك في الكتاب الثاني من "السماء والعالَم"(20) . كما أن كلمة βροΤός (وتعني أيضا "مائت" ، وهي نادرة عند المتأخرين من الروم) ، وإن كانت مستعملة خمس مرات عند أرسطو(21) ، إلا أنها لا ترد أبدا بهذ1 المعنى .

 

     ولكنا نجد هذا التعريف عند كثير من مفسري أرسطو . نذكر منهم ثامسطيوس (الذي عاش نحو سنة 320 – 390م) . وأمَونيوس (الذي تُوفّي نحو سنة 520م) ، ويحيى النحوي (الذي عاش في القرن السادس الميلادي) .

 

     يقول ثامسطيوس : Greeek

Greeek

Greeek (22) .

 

     أما أمَونيوس ، فإنه يستعمل عبارة "حي ناطق مائت" كمصطلح ، عوضا عن "الإنسان" . وإليك مثالين من شرح كتاب "العبارة" (أو "أنالوطيقا الثاني") لأرسطو . يقول في الفصل الثاني : Greek Gree) . وكذلك في الفصل الثامن : Greek GreekGreekGreek (24) .

___________

 

19)                        راجع Hermann BONITZ, Index Aristotelicus (Berlin 1870) .

20)                        راجع BONITZ ص 331 ب . راجع (De Coelo)  Greek    .

II 1, ed. BEKKER. p. 284 a 14.

21)                        راجع BONITZ ص 143 ب .

22)                        راجع ثامسطيوس ، تفسير كتاب "البرهان" (أو "أنالوطيقا الثاني") Cf. Themistii Analyticorum                              

Posteriorum paraphrases, ed. Maximilian WALLIES, coll. Commentaria in  Aristotelem graeca,

vol. V / 1 (Berlin, 1900), p. 58 / 16-18.        

23)   Cf. Ammonius in Aristotelis de Interpretatiorie commentaries, ed. Adolf BUSSE, coll.                 

Commentaria in Aristotelem graeca, vol. IV / 5 (Berlin, 1897), p. 32 / 25-27

24) Cf. Idem, p. 127 / 13-15                                                                                                                       

 

 

 


 

     كذلك نجد هذا التعريف بوضوح عند يحيى النحوي ، في تفسيره للكتاب الثالث من "السماع الطبيعي"(25) . يقول : Greek Greeeek (26) .

 

     كما أن يوحنا الدمشقي يفترض هذا التعريف في الفصل 47 من كتاب "الجدل" (Dialectica) . يقول : Greeek Greek Greeek Greeek (27) .

 

     هذه النصوص تدل بوضوح على أن يحيى كان متأثرا بمفسري أرسطو قدر تأثره بنصوص أرسطو نفسه . وتعريف الإنسان الذي ذكره في رقم 161 كان منتشرا عند الفلاسفة المتأخرين ، حتى أصبح جزءا غير منفصل من التعليم الأرسطوطالي ، وإن لم يوجد حرفيّا عند أرسطو .

 

     ب – وفي رقم 319 ، عندما أراد يحيى أن يعطي مثلا على "الخفي الجوهر ، الظاهر الأثر" ، قال : "كالسبب في جذب المغنيطس الحديد" .     هنا أيضا ، إذا راجعنا "فهرس مفردات أرسطو" لم نجد أي أثر لكلمة المغنيطس (ή μαγνñΤΙς) (28) .  فمن أين أخذه يحيى ؟ مرّة أخرى يتضح أن مصدره هو تفسير أرسطو للمتأخرين . فقد وجدنا هذا المثال عند ثلاثة من المفسرين ، هم : الإسكندر الأفروديسي ALEXANDRE D'APHRODISE (عاش نحو سنة 200م) ، سمفليقيوس (SIMPLICIUS)  الذي عاش في القرن السادس الميلادي ، ومعاصره الشهير يحيى النحوي (JOHANNES PHILOPONS) .

____________

 

25)                        Cf. Arist. (ed. BEKKER), p. 203 b 4: Greeek                                 

 

26)                        Cf. Philoponi in Physicorum octo libros commentaria, ed. Girolamo VITELLI, coll. Commentaria in Aristotelem graeca, vol. X VI-X VII (Berlin, 1888), p. 402 / 3-5, Voir aussi p. 297 / 15, 297 / 24, et 305 / 26 - 306 / 1.                                                                                             

27)                        Cf. Bonifatius KOTTER, Die Schriften des Johannes von Damaskos, I. Institutio Elementaris, Capita Philosophica (Dialectica) (Berlin, 1969), ch. 47, p. 111/1-17.                                               

28)                        يلاحظ القارئ أن كتابة هذه الكلمة قديما (مغنيطس) كانت أقرب إلى الأصل اليوناني . أما الكتابة الحديثة (مغنيطس) ، فهي غير متّفقة والنطق الأصلي .

 


 

      أما الإسكندر الأفروديسي ، فقد ذكر المغنيطس في تفسير "كتاب الجدل" لأرسطو(29) . وأما سمفليقيوس ، ففي تفسيره للكتاب الثامن من "السماع الطبيعي"(30) . وأما يحيى النحوي ، ففي تفسيره للكتاب الثالث من "السماع الطبيعي"(31) . والمواضع الثلاثة تؤكد الفكرة عينها : إن سبب جذب المغنيطس للحديد خفي .

 

     فلا شك أن يحيى قد تذكر هذه التفاسير ، عند عرض الفكرة . لا سيما وأنه ترجم كثيرا من هذه التفاسير وفسّرها .

 

3 – المقالة في التوحيد أساس فلسفي للأبحاث اللاهوتية

 

     وكان الكندي قد ردّ على النصارى ، وأبطل تثليثهم ، "على أصل المنطق والفلسفة" ، كما قال في مقدمة رده(32) . فكان ليحيى أن يوضح رأي النصارى في التثليث "على أصل المنطق والفلسفة" أيضا . وفعل ذلك بتطبيق المبادئ الفلسفية التي كان قد عرضها في "المقالة في التوحيد" ، كما رأينا في الفصل السابق(33) .

 

     لذلك ترى يحيى ينقد الكندي ، إذ ترك قسمة "الواحد بالعدد" إلى أقسامه الثلاثة : واحد كالمتّصل ، وواحد غير المنقسم ، وواحد بالحد (أي إن القول الدال على ماهيته واحد) . ثم يضيف :

 

     "والنصارى إنما تقول إن البارئ (جل وعز) واحد ، بهذا الضرب الأخير من ضروب الواحد بالعدد ، وهو الذي القول الدال(34) على ماهيته واحد(35) .

___________

 

29)                        Cf. Alexandri Aphrodisiensis in Aristotelis topicorum libros octo commentaria, ed Maximilian Wallies. Coll. Commentaria in Aristotelem graeca, vol. II / 2 (Berlin, 1891), p. 63 / 1-2 (in Aristotelem, ed Bekker, p. 103 b 2).                                                                                                  

30)                        Cf. Simplicii in Aristotelis Physicorum libros quattuor posteriors commentaria, ed. Hermann DIELS, coll. Commentaria in Aristotelem graeca, vol. X (Berlin, 1895), p. 1345 / 15-16.              

31)                        Cf. Philoponi in Physicorum octo libros commentaria, ed. Girolamo VITELLI, coll. Commentaria in Aristotelem graeca, vol. X VI-XVII (Berlin, 1888), p. 403 / 22-23.                      

32)                        راجع "الرد على الكندي" ص 4/5 .

33)                        راجع أعلاه ، ص

34)                        أضافت الطبعة : "عليه" .

35)                        راجع في هذا المعنى "التوحيد" رقم 267 – 268 .

 


 

      "وتقول إنه ثلاثة من حيث هو جوّاد حكيم قادر . ففيه معنى الجوّاد ، ومعنى الحكيم ، ومعنى القادر . وكل واحد من هذه المعاني هو غير معنى صاحبَيه . والقول الدال على ماهيته مؤلَف من هذه المعاني الثلاثة فيقال جوهر واحد(36) ، جوّاد حكيم قادر(37)"(38) .

 

     وكذلك يتهم الكندي بأنه غفل أو تغافل عن ذكر وجه آخر ينقسم عليه الواحد والكثير . "فإنه قد يكون الواحد وحد في الموضوع ، وكثيرا في الحدود"(39) ؛ "وقد يكون الواحد واحدا في الحد ، كثيرا في الموضوع"(40) . فبعد أن ذكر القسم الأول أضاف : "وبهذا الضرب تقول النصارى إن البارئ (تبارك اسمه) واحد"(41) .

 

     فواضح مما سبق أن يحيى لم يحاول أبدا إظهار موقف النصارى في "المقالة في التوحيد" ؛ إذ هي مقالة عامة صالحة للجميع ، بصرف النظر عن مشكلة التثليث . وإنما يعتمد عليها ، في مباحثه التالية ، لا سيما في "الرد على الكندي" ، لتبرير موقف النصارى .

 

4 – الخلاصة : المقالة في التوحيد مدخل إلى علم التثليث

 

     وخلاصة القول أن "المقالة في التوحيد" بمثابة مدخل إلى علم التثليث ، كما أن "إيساغوجي" فرفوريوس (PORPHYRE) مدخل إلى علم المنطق .

 

     قال الكندي ، في رسالته "في افتراق المِلَل في التوحيد" ، مشيرا إلى الأسلوب المتّبع في رده على النصارى :

 

     "إنما قصدتُ لذلك (!) من "كتاب المدخل"(42) ، لأنه الذي يرتاض به الأحداث ، ويبتدئ به(43) المتعلّمون ؛ ليقرب ذلك(44) من فهم مَن له أدنى نظر ، وأيسرُ مُعتَبَر . ولأن هذا الكتاب أيضا ، الذي منه استعملنا التوبيخ لهم ، لا يكاد يخلو منه منازلُ

____________

 

36)                        سقطت كلمة "واحد" في الطبعة .

37)                        راجع في هذا المعنى "التوحيد" رقم 371 – 376 .

38)                        راجع "الرد على الكندي" ص 12/16 – 21 .

39)                        راجع "الرد على الكندي" ص 13/3 – 4 .

40)                        راجع "الرد على الكندي" ص 13/8 – 9 .

41)                        راجع "الرد على الكندي" ص 13/7 – 8 .

42)                        يعني "إيساغوجي فرفوريوس" ، والترجمة الفرنسية فقدت المعنى ، إذ قال PERIER : “Traité de l'Introduction” . راجع "مقالات يحيى بن عدي" ص 124/19 .

43)                        في الطبعة: "ويبتدأه" [كذا] .

44)                        في الطبعة: "ذاك" . وقد تبعنا رواية مخطوط باريس عربي 119 .

 

 


 

أكثرهم(45)"(46) .

 

     فكما أن "إيساغوجي" فرفوريوس هو الأساس المشترك بين مفكّر ومفكّر ، حتى إن الكندي اتخذه منطَلَقا للرد على النصارى ؛ كذلك "المقالة في التوحيد" هي القاعدة المشتركة بين كل موحّد وموحّد ؛ حتى تكون نقطة انطلاق للحوار بين المؤمنين .

 

ثالثا – تطور فكر يحيى الفلسفي

في تفهّم معنى التثليث

 

     قلنا إن "المقالة في التوحيد" هي مدخل إلى علم التثليث . وفي الحقيقة ، أن الأجزاء الثلاثة الأولى من المقالة (فصل 1-10) هي "المدخل" ، وهي التي تمثّل كنه المقالة .

 

1 – ثلاثية الجود والحكمة والقدرة

 

     أما الجزء الرابع والأخير ، فهو مجرد محاولة فلسفية لشرح الثالوث . نعم ، إن أبا زكريا يحيى لم يذكر الثالوث أبدا في مقالته . لكن القارئ المسيحي يفهم ، من خلال عرضه للموضوع ، أن الجوّاد هو الآب ، وأن الذي يتّصف بصفة الحكمة هو الابن ، والذي يتّصف بصفة القدرة هو روح القدس . وهذه نظرية فلسفية لتقديم الثالوث ، ليس إلا .

 

     وكثيرا ما قدّم المفكرون المسيحيون نظريات ، حاولوا من خلالها توضيح معنى الثالوث . فنرى عبد المسيح الكندي مثلا (نحو سنة 830م) يقدم الله بصفته "جوهر ، حيّ ، عالم" ، ؛ وبولس الأنطاكي بأنه "شئ ، حيّ ، ناطق" ؛ وإيليا النصيبي بأنه "جوهر ، حيّ ، حكيم" أو "جوهر ، حيّ ، ناطق" (وكذلك ابن المؤمّل) ؛ ويقول محيي الدين الإصفهاني إنه "كائن ، عالم ، حيّ"" ، وغيرها من الثلاثيات . فكلها محاولات فلسفية . ولا يظن أحد من هؤلاء المفكرين أن هذه الثلاثية التي يقدّمها هي الثالوث . وإنما يقدّمها للقارئ (لا سيما للقارئ المسلم) ، ليقرّب الثالوث إلى مفهومه .

___________

 

45)                        لم يفهم المترجم هذه الجملة الأخيرة . فقال : "C'est done à ce livre que nous avons emprunté les critiques faites aux Chrétiens et auxquelles ne peuvent guère échapper les posiions prises par la plupart d'entre eux"                                                                                                                                          

راجع "مقالات يحيى بن عدي" ص 124/23 – 25 . وقد أساء فهم كلمة "منازل" ، فضاع المعنى . ولا يخفى على القارئ خطورة هذه الجملة ، إذ تدل على أنه لا يكاد يخلو منزل من منازل النصارى من كتاب "إيساغوجي" فرفوريوس . وهذا بشهادة الكندي "فيلسوف العرب" . مما يؤكد اهتمام النصارى ، في عصره (منتصف القرن التاسع الميلادي ، عصر حنين بن إسحق) ، بأمور الفلسفة والمنطق .

46)                        راجع "الرد على الكندي" ص 10/15 – 18 .

 


 

     وكذلك فعل يحيى بن عدي ، فقدّم ثلاثية الجود والحكمة والقدرة ، كي يمهّد الطريق أمام المؤمن ، لا سيما إن كان غير مسيحي . وهذا هدف الجزء الرابع من مقالته .

 

2 – أصل هذه الثلاثية

 

     من أين اقتبس يحيى بن عدي هذه النظرية ؟

 

     في رأينا ، أن هذه الثلاثية ترجع إلى "كتاب الثَوُلوجيا" ، الذي تُنسب ترجمته إلى أبي عثمان الدمشقي(47) . واسم الكتاب الأصلي Greeeeeek . أمّا صاحبه ، فهو الفيلسوف الأفلاطوني المُحدَث (néoplatonicien) ، برقلس (PROCLUS DIADOCHUS) ، الذي وُلد سنة 412م ، وتُوفي سنة 485م(48) .

 

     فقد أثبت برقلس ، في القول 121 من كتابه ، أن الثلاثية (TRIADE) الإلهية الأولى تتألف من "الجود والقدرة والعلم" (Greeeeeeeeeeek) (49) ، وهي شبيهة

___________

 

47)                        هو أبو عثمان سعيد بن يعقوب الدمشقي ، تلميذ حنين بن إسحق . كان طبيبا مشهورا في بغداد ، حتى إن الوزير عليّا بن عيسى عيّنه ، سنة 302/914م ، مديرا لبيمارستان بغداد . وترجم أيضا أبو عثمان عدة مؤلفات فلسفية ورياضية . راجع ابن أبي أصيبعة ج1 ص 205 و 234 ؛ وبروكلمن ملحق 1 ص369 – 370 وملحق 3 ص 1204/6 – 11 .

48)                        لقد قدم الأستاذ أندرس بحثا شافيا عنه ، عنوانه : "مقتطفات عربية من كتاب برقلس الأفلاطوني ، المعروف بكتاب مبادئ الإلهيات" (بيروت 1973) . وعنوانه باللغة الألمانية:

 

Gerhard ENDRESS, Proclus Arabus. Zwanzig Abschnite aus der Institutio Theologica in arabischer

Uebersetzung, (Coll. Beiruter Texte und Studien, Band 10 (Beirut 1973) (348 + 12 + 20 p.).

 

ويذهب أندرس إلى أن المترجم هو يحيى بن البطريرك ، لا أبو عثمان الدمشقي . وذلك لأن لغة المقتطفات المنشورة في كتابه أقرب إلى لغة يحيى منه إلى لغة أبي عثمان .

49)                        راجع E. R. DODDS, Proclus. The Elements of Theology (Oxford, 2d., 1963), p. 264.                   

يقول ، في تفسيره للقول (proposition) 121:  “Goodness, Power and Knowledge constitute the primary divine triad (Theologia Platonica I. XVI 44), which prefigures in a seminal form the triad of the second hypostasis, Being, Life and Intelligence (Inst. Theol., prop. 101)"                                       

راجع أيضا Paul BASTID, Proclus et le crépuscule de la pensée grecque (Paris, Vrin, 1969),           p. 253: "Le divin tout entire a une substance qui est bonté, une puissance qui a le caractére d'unité et une connaissance secréte et incompréhensible pour tous ses derives réunis (prop. 121) (c'est nous qui soulignons).                                                                                                                فمن هذه الثلاثية الإلهية الأولى تتولد ثلاثية ثانية ، مؤلفة من "الوجود والحياة والعقل" ، على ما ذكر DODDS

 


 

بثلاثية يحيى .

 

     بل إنّا نجد ، بين مؤلفات القديس يوحنا الدمشقي ، في المقالة الخامسة من كتابه المعروف بكتاب "المئة مقالة"(50) ، الذي ترجمه في القرن العاشر الميلادي أنبا أنطونيوس رئيس دير مار سمعان العمودي (بالقرب من انطاكية(51) ثلاثية يحيى بن عدي عينها . فيقول :  "إن الله كامل وبلا عيب ، من جهة الجود والحكمة والقدر"(52) ، وديونيسيوس قد تأثر كثيرا بيرقلس .

___________

        مشيرا إلى القول 101 . راجع أيضا BASTID ، الفصل الثامن (ص 354 – 364) الذي عنوانه :

L'etre, la vie et l'intelligence:          . وقال ENDRESS (ص 73)

“The Procline doctrine reappears in Ps.-Dionysius Areopagita, whose influence on Yahyā ibn  

‘Adi deserves further investigation”.

50)                        كتاب "المائة مقالة" هو كتاب "التوضيح الصريح للإيمان القويم" Greeeek

المعروف في الغرب باسم Expositio Fidei أو De Fide Orthodoxa وقد ذكر جراف (ج 2 ص 43 – 44 رقم 5) المخطوطات العربية لهذا الكتاب .

51)                        بخصوص هذا المترجم ، راجع جراف ج 2 ص 41 – 45 . وهو يعتمد على حاشية من مخطوط الفاتيكان ، عربي 436 ، للاستدلال على أنه عاش قبل سنة 379/989 – 990م . وبالحقيقة ، إن هذه الحاشية (الموجودة في ورقة 227) لا تقول ذلك . وإنما تثبت أنه عاش قبل سنة 610 ، أي 1213 – 1214م . والموضوع ما زال في حاجة إلى بحث .

52)                        راجع Bonifatius KOTTER, Die Schriften des Johannes von Damaskus, band 2, coll.                        Patristische Texte und Studien, Band 12 (Berlin - New York 1973), p. 14 § 2 = Expositio Fidei 5, 13 - 15: Greeeek

وها هي ترجمة الأنبا أنطوني ، كما جاءت في مخطوط الفاتيكان ، عربي 436 (منسوخ سنة 1581م) ورقة 103 ظ : "الإله ، على ما يليق بوصفه ، هو كامل ، عديم أن يكون نقصا ، في صلاحه ، في حكمته ، في قدرته ، عديم أن يكون مبتدئا ، أو منقضيا ، أزلي ..." وبعد بضعة أسطر : "لأنه ، إن نقص عن الحد الكامل ، إما في خيريته ، [و] إما في قدرته ، وإما في حكمته ، ..." (نشكر الأخ ميخائيل أبرص الذي نقل لنا هذه السطور ، بناء على طلبنا) . فهي نفس الثلاثية ، إلا أن لفظ άγαθότητα  مترجم هنا بصلاح أو بخيرية ، وعند يحيى بن عدي بكلمة "جود" .

53)                        راجع KOTTER (الحاشية السابقة) ص XXVIII .


 

     لا نقصد من هذه المقارنة أن يحيى أخذ هذه النظرية عن يوحنا الدمشقي ، ولا أنه قرأه . وإنما نقصد أن هذه الثلاثية كانت معروفة قبل يحيى ، وأن أصلها فلسفة برقلس . ومن المحتمل أن تكون هذه الثلاثية قد انتشرت عن طريق المؤلفات المنحولة إلى ديونيسيوس الأريوفاجي في نهاية القرن الخامس .

 

3 – تطور نظرية يحيى في الثالوث

 

     إلا أن يحيى بن عدي نفسه قد غيّر موقفه ، في نهاية حياته . فالثلاثية التي ذكرناها (الله جوّاد حكيم قدير) عن "المقالة في التوحيد" المنشأة سنة 940م ، هي التي نجدها دائما في مؤلفاته الأولى ، حتى سنة 965م تقريبا .

 

     وكذلك ختم مقالاته عادة ، في هذه الفترة من حياته ، بقوله : "ولله ، ذي الجُود والحكمة والحَوْل ، وليّ العدل ، وواهب العقل ، الحمد والشكر دائما ...(54)

 

     أما في المرحلة الأخيرة من حياته (ابتداء من سنة 969م ، وربما قبل ذلك التاريخ) ، فقد ترك يحيى هذه الثلاثية ، ولن يستعملها ، لا في عرضه للثالوث ، ولا في ختام مقالاته . وذلك أنه اكتشف نظرية تتفق ونظامه الفلسفي وطريقته الأرسطوطالية ، وهي أن الله "عقلٌ عاقلٌ معقول"(55) .

     فالنظرية الأولى (جوّاد حكيم قادر) مأخوذة من فلسفة برقلس الأفلاطوني ، إلا أن كتابه كان يُنسَب عند العرب إلى أرسطو . وأغلب الظن أن يحيى شعر بأن هذه النظرية لا تتماشى تماما وبقيّة طريقة أرسطو . فبحث عن ثلاثية أخرى ، حتى توصّل إلى نظريته المشهورة ، التي عُرف بها : الله عقل عاقل معقول ، وقد اقتبسها من تعليم أرسطوطاليس(56) .

 

رابعا – هل "التوحيد" مقالة كلامية ؟

 

     احتار الباحثون في تدوين "المقالة في التوحيد" . أهي فلسفية أم لاهوتية ؟ فقد سجّلها مثلا أندرس بين المؤلفات الفلسفية ، في قسم "ما بعد الطبيعة"(57) ؛ لكنه سجّل ملحق

___________

 

54)                        راجع مثلا "التوحيد" رقم 378 – 379 .

55)                        بخصوص نظرية يحيى بن عدي المشهورة ، عن الثالوث المقدس كعقل عاقل معقول ، راجع جراف "فلسفة يحيى ولاهةته" ص 24 – 28 و PERIER ص 160 – 167 .

56)                        إن ما كتبناه في هذه الصفحة خلاصة أبحاث لم تنشر بعد . ومن المستحيل الدلالة على ما قلنا ، في إطار هذه المقدمة . وسننشر فيما بعد ، إن شاء الله ، مقالة نبرهن فيها على كل ما جاء في هذه الصفحة .

57)                        راجع ENDRESS ص 71 – 73 رقم 5/31 .


 

المقالة في قسم اللاهوت(58) ، ثم أعاد ذكر المقالة في باب اللاهوت(59) . فهذا التردّد في الرأي وتلك الحيرة نتيجة مضمون المقالة نفسها . فهي بحث فلسفي محض ، ذو هدف لاهوتي ، كما قلنا . إلا أنه ، مهما كان الهدف والغرض من تأليفها ، لم يتّبع الأسلوب الكلامي أبدا .

 

     كي نوضح هذا الرأي ، نقدم هنا نبذة صغيرة عن موقف يحيى تجاه علم الكلام والمتكلّمين . فموقفه يكشف الستر عن شخصيته .

 

1 – آراء يحيى في المتكلمين ، على ما رواه أبو سليمان السجستاني 

 

     روى الفيلسوف أبو سليمان محمد بن طاهر السجستاني ، تلميذ يحيى بن عدي(60) ، بعض آراء شيخه في المتكلمين ، ذكرها أبو حيّان التوحيدي في كتاب "المقابسات"(61) . قال : "وكان شيخنا يحيى بن عدي يقول :

 

1-    "إني لأعجب كثيرا من قول أصحابنا ، إذا ضمّنا وإياهم مجلس : "نحن المتكلمون ، ونحن أرباب الكلام ، والكلام لنا ، بنا كثر وانتشر ، وصحّ وظهر" ! وكأنّ سائر الناس لا يتكلمون ، أو ليسوا أهل الكلام . لعلهم عند المتكلمين خرس ، أو سكوت ! أما يتكلم ، يا قوم ، الفقيه ، والنحوي ، والطبيب ، والمهندس ، والمنطقي ، والمنجّم ، والطبيعي ، والإلهي ، والحديثي ، والصوفي ... ؟"

 

2-    "قال . وكان يلهج بهذا . وكان يعلّم أن القوم قد أحدثوا لأنفسهم أصولا ، وجعلوا ما يدّعونه محمولا عليها ، أو مسلولا من عرضها ؛ وإن كانت المغالطات تجري عليهم ، ومن جهتهم ، بقصدهم مرة ، وبغير قصدهم أخرى .

 

3-    قال . وكان يصل هذا كثيرا بقوله : "والدليل على أن النحو والشعر واللغة ليس بعلم ، أنك لو لقيتَ في البادية شيخاً بدويّاً قُحّاً محرّماً ، لم يرَ حضريّاً قطّ ، ولا جاور أعجميا ، ولم يفارق رعيّة الإبل وانتياب المناهل ، وهو على عنجهيّته التي لا يشقّ غباره فيها أحدٌ منا ، وإن تكلّف ، فقلتَ له : "هل عندك علم ؟" ، فقال "لا" . هذا ، وهو يُسيّر المثل ، ويقرض الشعر ، ويسجّع السجع البديع ، ويأتي بما (إذا سمعه واحد من الحاضرة) وعاه ، واتخذه أدبا ، ورواه ، وجعله حِجّة !" .

____________

 

58)                        راجع ENDRESS ص 105 رقم 8/19 ، 1 . وقد سجل الملحق هنا لأنه لا يوجد في مخطوطي طهران .

59)                        راجع ENDRESS ص 105 رقم 8/19 .

60)                        راجع الفصل الأول (ص 1) حاشية 36 .

61)                        راجع أبا حيان التوحيدي : "المقابسات" ، رقم 48 . طبعة حسن السندوبي (القاهرة 1929) ص 224 , أو طبعة محمد توفيق حسين (بغداد 1970) ص 204- 206 . وقد تبعنا في الأغلب نص الطبعة الثانية .

 


 

4-    "وكان يقول : "هذه الآداب والعلوم هي قشور الحكمة ، وما انتشر منها على فائت الزمان . لأن القياس المقصود في هذه المواضع ، والدليل المدّعي في هذه الأبواب ، معها ظلّ يسير من البرهان المنطقي ، والرمز الإلهي ، والإقناع الفلسفي !" .

 

5-    "وقد بيّن هذا الباب أرسطاطاليس ، في الكتاب الخامس(62) (وهو الجدل) ، كل ما في الإمكان من التعلّق به ، والاحتجاج منه ، مع التمويه والمغالطة . بل كثير من المتكلمين لا يصلون إلى غايات ما كشفه ، ورسمه ، وحذّر منه ، وأبان عنه (وإن أنضوا مطِيّهم ، وأبلوا جهدهم!) ، سوى ما أتى عليه قبل هذا الكتاب(63) وبعده(64) ، مما هو شفاء الصدور ، وقرّة الأعين ، وبصيرة الألباب . والكلام في هذا طويل" .

 

2 –  رأي يحيى في أبي هاشم الجبّائي ، على ما رواه القفطي

 

     قال القفطي(65) .

 

     "ولأبي هاشم الجبّائي عليه(66) كلام وردود ، سمّاه "التصفّح" ، بطّل فيه قواعد أرسطوطوليس ، وواخذه بألفاظ زعزع بها قواعده التي أسسها وبنى الكتاب عليها .

 

     "وسمعتُ أن يحيى بن عدي حضر مجلس بعض الوزراء ببغداد ، في يوم هناء . واجتمع في المجلس جماعة من أهل الكلام .

 

     "فقال لهم الوزير : "تكلموا مع الشيخ يحيى ، فإنه رأس متكلمي الفرقة الفلسفية" . فاستعفاه(67) يحيى . فسأل عن السبب .

 

     "فقال يحيى : "هم لا يفهمون قواعد عبارتي ، وأنا لا أفهم اصطلاحهم . وأخاف أن يجري لي معهم ما جرى للجُبّائي ، في كتاب "التصفّح" . فإنه نقض كلام أرسطوطاليس ، وردّ عليه ، بمقدار ما تخيّل له من فهمه . ولم يكن عالما بالقواعد المنطقية . ففسد الردّ عليه ، وهو يظن أنه أتى بشئ . ولو علمها ، لم يتعرض لذلك الرد!" .

 

     "فأعفاه ، لما سمع كلامه ، واعتقد فيه الإنصاف" .

___________

 

62)   أي "في الكتاب الخامس من المنطق" ، حسب ترتيب كتب أرسطوطاليس باللغة العربية . راجع الفصل الثامن ص    حاشية 24.

63)                  أي "في الكتاب الرابع من منطق أرسطو" ، وهوكتاب أبودقطيقا أو أنالوطيقا الثاني ، ومعناه البرهان" .

64)                  أي "في الكتاب السادس من منطق أرسطو" , وهو كتاب سوفسطيقا ، ومعناه "المغالطين" .

65)                  راجع القفطي ص 40/5 – 16 .

66)                  أي "على كتاب السماء والعالم لأرسطو" . وهو ما يعرف بكتاب De Coelo .

67)                  أي "طلب منه العفو عن تكليفه" .

 


 

3 – رأي يحيى في المتكلمين ، على ما جاء في ردّه على المصري

 

     وفي المناقضة التي جرت بين يحيى بن عدي وأحمد بن محمد المصري(68) ، نجد ذكر أبي هاشم الجبّائي ، في المسألة السادسة عشرة(69) . فقال المصري :

 

     "والمسلمون بأسرهم ، وغيرهم من المتكلمين ، يزعمون أن الخالق لا جوهر ولا عرض ، ومن متقدّميهم من يزعم أن غير الخالق قد يكون لا جوهرا ولا عرضا . فقال الجبائي وغيره : "إن إرادة الله لا جوهر ولا عرض" . وزعم الفوطيّ أن أربعة أشياء ليست جوهرا، ولا عرضا ، ولا موجودة في غيرها ، وهي : خلق الشئ ، وبقاؤه ، وفناؤه ، وإعادته . والاختلاف في هذا كثير(70) ."

 

     وإليك جزءا من رد يحيى على الجبائي ، وغيره من المتكلمين :

 

     "وليس يذهب عليك ، في ظني ، أن اسم العرض عند الفلاسفة وقع على معنى رسموه(71) بأنه "الموجود في شئ ، لا كجزء منه" ، وليس يمكن أن يكون قوامه خلوا مما هو فيه .

 

     "والجوهر رسموه بأنه ما ليس هو البتة في موضوع ما ."

 

     "وظاهر أن هذين القولين متناقضان ، يوجب كذبُ أحدهم صدقَ(72) الآخر ضرورة"(73) .

 

     فيتضح من هذا المثال تناقض الكلام والفلسفة . فالفلسفة مبنية على قواعد منطقية ، بينما الكلام غير مبني عليها .

* * *

     وفي نفس "المسائل" بين المصري ويحيى بن عدي ، نجد حاشية للصفي بن العسّال ، مُختصِر الكتاب ، في غاية الأهمية . وسبب الحاشية قول المصري : "وأما ما أطلقته في الله (عز وجل) من أنه واحد في الحد والموضوع ، وغير ذلك ، فلا يجوز إطلاق هذه الألفاظ على الله تعالى . فمن أية لغة أخذتَها ؟"

____________

 

68)                 راجع الفصل الثالث : "مؤلفات يحيى بن عدي" ص 55 – 56 رقم 127 .

69)                 لقد نشر جريس سعد خوري هذه المناقضة ، اعتمادا على مختصر الصفي ابن العسال . راجع "يحيى بن عدي . بينه وإثباته على أن لمسيح جوهر واحد" (الناصرة 1978) .

70)                 انظر المرجع السابق ص 203 (رقم 10 – 12) .

71)                 في الطبعة : "وسموه" بالتشديد ، مع أن أحد المخطوطين كتبها "رسموه" كما يجب . و"رسم" بمعنى "حد" .

72)                 أضاف الناشر في الطبعة "و" ، فأصبحت الكلمة "وصدق" ، وهو خطأ . فتبعنا هنا نص المخطوطين .

73)                 راجع جريس سعد خوري (حاشية 54) ص 204 (رقم 14 – 15) .


 

فعلّق الصفيّ على ذلك ، قال :

 

"هذا الرجل كان(74) من المتكلمين ، ولم يكن منطقيا . والفيلسوف أحد‍ّ دهاء(75) وأكثر علما من المتكلّم . والاصطلاح في العبارة ، بين الفريقين ، مختلف . إلا أن لكلٍ أن يعني بلفظه ما شاء ، إذ كانت دلالة الألفاظ على المعاني وضعيّة ، لا طبيعيّة"(76)

 

4 – يحيى "على طريقة الرازي" ، حسب المسعودي

 

     قال أبو الحسن علي المسعودي ، عن أبي زكريا يحيى بن عدي :

 

     "وكان مبدأه أمره ورأيه وطريقته ، في درس طريقة(77) محمد بن زكريا الرازي(78) . وهو رأي الفوثاغوريين في الفلسفة الأولى ، على ما قدّمنا"(79) .

 

     إن الإشارة إلى أبي بكر محمد الرازي ، المولود سنة 251/865م والمتوفي في الريّ سنة 313/925م ، والمسعودي سنة 345 – 346/956 – 957م ، عندما كان يحيى مقيما . فلا شك أن مصدر ما ذكره عن يحيى ، هو يحيى نفسه .

 

     وإذ كان لا بد من وجود علاقة بين طريقة (système) يحيى وطريقة الرازي ،

____________

 

74)     سقطت هذه الكلمة في الطبعة ، فأثبتناها من مخطوط الفاتيكان عربي 115 (سنة 1260م) ورقة 236 .

75)     في المخطوط "احددها" ، ولم يفهمها الناشر . فقال : "اجدها"

76)    راجع جريس سعد خوري (حاشية 54) ص 143 ، رقم 37 – 38 من السؤال الأول .

77)    "طريقة" تعني "نظام فلسفي" (système philosophique)

78)    بخصوص الرازي (وقد اشتهر في الغرب ، منذ العصور الوسطى ، باسم (RHAZES) راجع بروكلمن ج 1 ص 233 – 236 والملحق الأول ص 417 – 421 . وراجع خصوصا فؤاد سزكين SEZGIN "تاريخ التراث العربي" ج 3 (ليدن 1970) ص 274 – 294 .

79)    راجع المسعودي : "كتاب التنبيه والإشراف" (طبعة Michael Jan de GOEJE) .

ليدن 1894 في مجموعة Bibliotheca Geographorum Arabicorum المجلد 8 .


 

فالعلاقة الوحيدة بينهما هي ... قلة تقديرهما للكلام والمتكلمين(80) . وقد اشتهر الرازي بموقفه ضد المتكلمين(81) ، كما أنّا رأينا موقف يحيى بن عدي منهم .

 

* * *

     ويُخيّل لنا أنا نجد صدئ لموقف يحيى تجاه المتكلمين في مقالتنا في التوحيد . فهو يذكرهم مرة واحدة ، فيقول : "وسمعت رجلا من متكلمي عصرنا يقول : "إن معناه والوجود له ، هو أنه واحد بمعنى مبدأ العدد""(82) .

 

     ويعلّق على هذا الرأي بقوله : "ولا أعرف لهذا الرجل موافقا في هذا الرأي . ولا بلغني ، عمّن تقدّم من أولي المذاهب ، مَن اعتقد هذا"(83) . ولا يخلو هذا التعليق من شئ من عدم التقدير.

 

الخاتمة

 

     وخلاصة القول أن يحيى بن عدي فيلسوف محض ، طريقته عكس طريقة المتكلمين . بل إن "الكلام" في رأيه لا يُعتبر علما ، كما يتضح من مثله عن "البدوي القحّ"(84) . أما يحيى ، فهو منطقي في كلامه ، بل لُقّب "المنطقي" ! وكما قال الصفيّ ابن العسّال : "والفيلسوف أحدّ دهاء وأكثر علما من المتكلم"(58) . ومقالتنا في التوحيد أحسن بيان لما قلناه هنا .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

____________

 

80)                  هذا رأي الأستاذ جيرهارد أندرس . وما قرأنا من مؤلفات يحيى بن عدي يؤيده . راجع ENDRESS ص 6 .

81)                  راجع "الطب الروحاني" ، طبعة Paul KRAUS ص 43 – 44 .

82)                 مقالة في التوحيد رقم 6 .

83)                 مقالة في التوحيد رقم 7 .

84)                 راجع القول الثالث الذي ذكره أبو سليمان السجستاني (أعلاه ص 130) .

85)                 راجع أعلاه رقم 3 (ص 133) وحاشة 76 .