ألا تكفي التوبة بدل الصليب
اعتراضات أخرى
الباب الرابع
هل خلت السماء بالصلب؟
يتساءل البعض قائلين:
هل خلت السماء والكون كله من وجود الله عند ما كان الله على الصليب؟
الـرد:
إن ظهور الله أو تجليه في جسم مادي أو في جسد إنسان، ووجوده على الصليب، ليس معناه أنه كان محصوراً ومحدوداً في هذا الجسد، لأن الله روح، فرغم أنه كان ظاهراً في جسد إنسان فقد كان مالئاً السماء والأرض. ولتوضيح ذلك نورد الأدلة الآتية:
1ـ سورة النور 35:
"الله نور السموات والأرض. مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري … (إلى قوله) يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور يهدي اللهُ لنوره من يشاء، ويضرب اللهُ الأمثالَ للناس، واللهُ بكل شيء عليم"
فالقرآن يشبِّه الله بالنور، وأنه مثل نور مصباح موجود داخل زجاجة، وهذا المصباح موضوع في مشكاة (أي تجويف في الحائط).
فهل الزجاجة تحصر نور المصباح؟
كلا، بل النور بخاصيته الإشعاعية ينفذ من الزجاجة ليملأ كل المكان، والزجاجة لا تحصر النور بل تضاعفه كما في قول الآية القرآنية الكريمة: "نور على نور".
فعلى هذا القياس نقول أن الجسد الذي حل فيه الله لم يحجب اللاهوت ولم يحد ملأه للعالمين، بل على العكس جعل اللاهوت أكثر وضوحاً وظهوراً لأعين الناظرين (أي للعالم أجمع). ولذلك نقول في صلاة القداس الإلهي عن السيد المسيح (... الذي أظهر لنا نور الآب).
وهناك دليل آخر من القرآن أيضا من:
2ـ سورة القصص:
(فنودي من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين)
يتضح من ذلك أن الله حل في الشجرة وخاطب موسى منها. فهل خلت السماواتُ والأرضُ من الله عند حلوله في الشجرة؟ كلا، بل كان اللهُ غيرُ المحدود مالئا الكون في الوقت الذي فيه كان متجليا في الشجرة.
وعلى هذا القياس فعندما حل اللاهوت في الجسد البشرى لم يحده هذا الجسد وهكذا لم يخل منه الكون. وهذا أيضا ينطبق على حادثة صلب الناسوت مع وجود اللاهوت متحدا به.
ولنا أيضا دليل ثالث من الأحاديث النبوية المذكورة في:
3ـ صحيح البخاري جزء 4 ص 68 :
يذكر صحيح البخاري حديثا مشهورا قاله النبي محمد: "ينـزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة في السماء الدنيا (أي السفلية)، حين يبقى ثلث الليل الأخير يقول من يدعوني فأستجيب له".
فهل يقصد النبي من هذا الكلام أن السماء والأرض تخلوان من وجود الله عند ما ينـزل الله إلى السماء الدنيا؟
بالطبع كلا، بل الحقيقة هي أن الله موجود في كل مكان في السماء العليا وفي السماء الدنيا في نفس الوقت.
وهكذا عندما نقول نحن أن الله حل في جسد المسيح فإنه لم يخل منه مكان بل هو موجود في السماء العليا وفي السماء الدنيا وفي كل مكان في الأرض. وهذا يندرج أيضا على حادثة الصلب.
أرجو أن أكون قد وفقت في إيضاح الأرضية المشتركة التي يقف عليها الإسلام والمسيحية بخصوص صلب المسيح من خلال هذه الحوارات الهادئة المنطقية. وإني أشكر اخوتنا السائلين على تفضلهم بتوجيه هذه الأسئلة لنا لنجيب عن سبب الرجاء الذي فينا بوداعة وخوف كما أوصانا الكتاب المقدس.
قصة واقعية
وقبل أن أودعك في هذا الكتاب أريد أن أختم حديثي معك بقصة واقعية سمعتها من شاهد عيان.
وتبدأ القصة عندما كان الأب نائما في بيته بعد يوم طويل من الإرهاق، وإذ به في منتصف تلك الليلة يسمع باب البيت يفتح بقوة ثم يغلق بسرعة ليحدث دويا في فتحه وإغلاقه الأمر الذي جعله يقفز من سريره مذعورا ويندفع خارج حجرة نومه ليستكشف الأمر. وإذا به يفاجأ بمشهد رهيب لم يكن يتوقعه. إذ شاهد ابنه الوحيد وثيابه ملطخة بالدماء، وللوقت أدرك الأمر، وصح تخمينه لقد ارتكب ابنه جريمة قتل. فأسرع الأب يطلب من ابنه أن يخلع ثيابه ويلبس ثياب أبيه بعد أن سلخ جسده منها. وما أن تبادل الاثنان الثياب حتى اندفع رجال الشرطة إلى البيت وتم القبض على الأب اللابس الثياب الملطخة بالدماء دليل ارتكاب الجريمة.
وقدم الأب للمحاكمة، ووجهت إليه تهمة القتل. وظل الأب صامتا طوال المحاكمة رغم الجهود المبذولة من هيئة المحكمة والنيابة والمحامين. وأخيرا صدر الحكم بإعدامه استنادا على الدليل المادي الثياب الملطخة بالدماء.
وفي يوم تنفيذ الحكم بالشنق طلب أن يتحدث إلى ابنه، وهمس في أذنه قائلا: اليوم إني أشنق عوضا عنك لأفتديك حتى أترك لك فرصة للتوبة وإصلاح مسار سلوكك.
هل رأيت يا أخي مقدار الحب الأبوي الذي يضحي بنفسه لفداء من يحبه. مع بعد الفارق أقول أن هذه مجرد صورة باهتة لما فعله المسيح معنا إذ أن فداءنا اقتضى أن يقدم نفسه الطاهرة ضحية من أجلنا وكفارة عن خطايانا.
عزيزي ألا يقودنا هذا إلى قبول فدائه وخلاصه الذي قدمه لنا بدافع محبته الشديدة لنا نحن أولاده.
الله مستعد أن يقبلك ويغفر كل خطاياك إن قبلته وإن رجعت إليه تائباً.