- 5 -الروح القدس في القرآن

حين ندرس آيات القرآن ,نرى أن عدداً منها يتكلم عن الروح القدس وعن عمله في تأييد المسيح. وكان يمكن أن يتلاقى الفكر الإسلامي عن الروح المبارك مع الفكر المسيحي لولا ذهاب أكثرية علماء الإسلام في تفاسيرهم إلى القول إن الروح القدس هو الملاك جبريل. في ما يلي بعض آيات القرآن التي جاء فيها ذكر الروح المبارك.

1وَآتَيْنَا عِيسَى ا بْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ - البقرة2 :253 - .

قال الحسن في تفسير الآية : القدس هو الله تعالى ,وروحه جبريل عليه السلام ,ومعنى القول ,أعنَّاه بجبريل في أول أمره ,وفي وسطه وفي آخره. أما أول الأمر فلقوله : فنفخنا فيه من روحنا. وأما في وسطه ,فإن جبريل عليه السلام علّمه العلوم وحفظه من الأعداء. وأما في آخر الأمر فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل عليه السلام ,ورفعه إلى السماء .

وقال ابن عباس : ان روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى الموتى .

وقال أبو مسلم : إن روح القدس الذي أُيِّد به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه ,وأبانه عن غيره ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى .

2وَآتَيْنَا عِيسَى ا بْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ - البقرة 2 :87 - .

قال الإمام الرازي : اختلفوا في الروح على وجوه ,أحدها أنه جبريل عليه السلام. وإنما سُمِّي بذلك لوجوه : - الأول - أن المراد من روح القدس ,الروح المقدس. كما يقال حاتم الجود ورجل صدق. فوصف جبريل بذلك تشريفاً له وبياناً لعلوّ مرتبته عند الله تعالى. - الثاني - سُمّي جبريل عليه السلام بذلك لأنه يحيا به الدين كما يحيا البدن بالروح ,فإنه المتولي لإنزال الوحي إلى الأنبياء ,والمكلّفون بذلك يحيون في دينهم. - الثالث - انه الغالب عليه الروحانية كذلك سائر الملائكة. غير أن روحانيته أكمل وأتم. - الرابع - سُمّي جبريل عليه السلام روحاً ,لأنه ما ضمّته أصلاب الفحول وأرحام الأمهات. - الخامس - المراد بروح القدس الإنجيل ,كما قال القرآن روحاً من أمرنا . - السادس - انه الروح الذي نفخ فيه والقدس هو الله تعالى. فنسب روح عيسى عليه السلام إلى نفسه تعظيماً له وتشريفاً ,كما يُقال لبيت الله وناقة الله - عن الربيع - .

وأعلم أن اطلاق اسم الروح على جبريل وعلى الإنجيل وعلى الاسم الأعظم مجاز ,لأن الروح هو الريح المترددة في مخارق الإنسان ومنافذه. ومعلوم أن هذه الثلاثة ما كانت كذلك ,إلا أنه سُمِّي كل واحد من هذه الثلاثة بالروح على سبيل التشبيه. من حيث أن الروح كما أنه سبب لحياة الرجل فكذلك جبريل عليه السلام سبب لحياة القلوب بالعلوم ,والإنجيل سبب لظهور الشرائع وحياتها. والاسم الأعظم سبب لأن يتوسل به إلى تحصيل الأغراض. إلا أن المشابهة بين مُسمَّى الروح وبين جبريل أتمّ لوجوه : - احدها - لأن جبريل عليه السلام مخلوق من هواء نوارني لطيف ,فكانت المشابهة أتمّ ,فكان إطلاق اسم الروح على جبريل أَوْلى. - وثانيها - ان هذه التسمية فيه أظهر منها فيما عداه. - وثالثها - ان قوله تعالى : وأيّدناه بروح القدس يعني قّويناه ,والمراد من هذه التقوية الإعانة. وإسناد الإعانة إلى جبريل حقيقة. وإسنادها إلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز ,فكان ذلك أَوْلى. - ورابعها - وهو ان اختصاص عيسى بجبريل من أحد وجوه الاختصاص ,بحيث لم يكن لأحد من الأنبياء مثل ذلك ,لأنه هو الذي بشر مريم بولادتها ,وإنما وُلد عيسى من نفخة جبريل ,وهو الذي ربّاه في جميع الأحوال ,وكان يسير معه حيث سار ,وكان معه حين صعد إلى السماء - التفسير الكبير ج 3 ص 177،178 - .

3رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ - غافر 40 :15 - .

يقول الإمام الرازي : اختلف العلماء في المراد بهذا الروح. والصحيح أن المراد هو الوحي. وحاصل الكلام فيه أن حياة الأرواح بالمعارف الإلهية والجلايا القدسية. فإذا كان الوحي سبباً لحصول هذه الأرواح ,سُمّي بالروح ,فإن الروح سبب لحصول هذه الحياة الروحانية.

وأعلم أن أشرف الأحوال الظاهرة في روحانيات هذا العالم ظهور آثار الوحي ,والوحي إنما يتم في أربعة أركان : - فأولها - الرسل وهو الله سبحانه وتعالى. فلهذا أضاف إلقاء الوحي إلى نفسه فقال يلقي الروح . - والركن الثاني - الإرسال والوحي وهو الذي سمّاه بالروح. - والركن الثالث - أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يمكن أن يكون إلا بواسطة الملائكة ,وهو المشار إليه في هذه الآية بقوله : من أمره . فالركن الروحاني يُسمَّى أمراً. قال تعالى : وأوحى في كل سماء أمرها . - والركن الرابع - الأنبياء الذين يلقي الله الوحي وهو المشار اليه بقوله من يشاء من عباده . - والركن الخامس - تعيين الغرض والمقصود الأصلي من إلقاء الوحي إليهم ,وذلك هو أن الأنبياء عليهم السلام يصرفون الخلق عن عالم الدنيا إلى عالم الآخرة ,ويحملونهم على الإعراض عن هذه الجسمانيات والإقبال على الروحانيات ,وإليه الإشارة بقوله : لينذر يوم التلاق فهذا ترتيب عجيب يدل على هذه الإشارات العالية من علوم المكاشفات الإلهية - التفسير الكبير ج 27 ص 44-45 - .

 

4أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ - المجادلة 58 :22 - .

قال أهل التفسير : في تفسير هذه العبارات قولان : - الأول - قال ابن عباس : نصرهم على عددهم ,وسَمّى تلك النصرة روحاً لأن بها يحيي أمرهم . - الثاني - قال السدي : الضمير في قوله منه عائد إلى الإيمان ,والمعنى انه أيدهم بروح من الإيمان .

5مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ - المعارج 70 :3 و4 - .

قال أهل التفسير : اعلم ان عادة الله تعالى في القرآن أنه متى ذكر الملائكة في معرض التهويل والتخويف أفرد الروح بعدهم ,كما في قوله : يوم يقوم الروح والملائكة صفاً . وهذا يقتضي أن الروح أعظم من الملائكة قدراً.

وقال بعض المكاشفين : ان الروح نور عظيم ,هو أقرب الأنوار إلى جلال الله ومنه تتشعّب أرواح سائر الملائكة. والبشر في آخر درجات منازل الأرواح ,بين الطرفين مراتب الأرواح الملكية ومدارج منازل الأرواح القدسية ,ولا يعلم كميتها إلا الله. وأما ظاهر المتكلمين فهو أن الروح هو جبريل عليه السلام - التفسير الكبير ج 30 ص 122 - .

6يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفّاً - النبأ 78 :38 - .

 

اختلفوا في الروح في هذه الآية. فعن ابن مسعود أنه ملك أعظم من السموات والجبال.

وعن ابن عباس : هو ملك أعظم من الملائكة خلقاً. وعن مجاهد : خلق على صورة بني آدم. وعن الضحّاك والشعبي : هو جبريل عليه السلام.

ومن هذه كلها ترى أن تعبير الروح القدس من متشابه القرآن.

1فقد يعني الملاك جبريل كما في قوله : قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ - النحل 16 :102 - . قُلْ مَنْ كَانَ عَدُّواً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهُِ - البقرة 2 :97 - .

2وقد يعني روح القدس الذي أيَّد المسيح في شخصيته أو دعوته ومعجزاته وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات وأيدناه بروح القدس . يقول الجلالان : الروح المقدسة جبريل لطهارته يسير معه حيث سار وغيرهما يرون فيه ليس فقط الروح المؤيد له في دعوته ومعجزاته ,بل الروح المؤيد له في شخصيته. ولم يكن مستقلاً عن ذاته : روح عيسى ,ووصفها به لطهارته من مسّ الشيطان ,أو لكرامته على الله تعالى ,أو لأنه لم تضمَّه الأصلاب ولا الأرحام الطوامس ,أو الإنجيل ,أو اسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى - البيضاوي في تفسيره للبقرة 87 - . فروح القدس الذي أيَّد به الله المسيح هو الاسم الأعظم . والاسم دليل الذات ,والفعل برهان الذات ,فإحياء الموتى ,والمقدرة على الخلق هما من خصائص الذات الإلهية والاسم الأعظم. فروح القدس المحيي إما هو روح عيسى ,وإما هو الاسم الأعظم ذات في الله غير الله ,والمسيح كلمة الله ,فهو مما استأثر بعلمه .

3فروح القدس الروح على الإطلاق هو روح من الله ,في الله ,يتمتع معه بالاسم الأعظم. وهذا هو تعليم الإنجيل أيضاً.

وتأييد الله للمسيح به ,لا يفارقه ساعة يسير معه حيث سار دليل على صلة خاصة ذاتية بين روح القدس والله ,وبين روح القدس والمسيح كلمة الله ,وتلك هي صورة التثليث المسيحي تتجلى لنا من تعابير القرآن نفسها.

الله والكلمة والروح

- فالقرآن إذاً ,مع تكفيره لتثليث منحرف بتعابيره في الثلاثة يشير إلى تثليث صحيح : الله والكلمة والروح. ولكي نزيد الأمر وضوحاً عن حقيقة العلاقة بين المسيح وروح القدس ,أو بالأحرى بين الأقانيم الثلاثة كما أشار إليها القرآن. نقول إن الواقع القرآني هو أن في شخصية المسيح ازدواجية ,فبحسب ظاهر القرآن ان المسيح عيسى ابن مريم هو بشر أي عبد لا ربّ ,ومع ذلك أيضاً فهو بنص القرآن القاطع روح الله وروح الله في أدنى معانيه يعني أنه ملاك : فهل يكون المسيح بشراً وملاكاً معاً؟ أي ملاكاً متأنِّساً؟ هذا حرف القرآن ومنطوقه!

على كل حالٍ فالمسيح بشر ,وأسمى من البشر معاً. وهذا برهان قاطع على الازدواجية القرآنية في شخصية المسيح.

انظر إلى التعبير القرآني لهذه العلاقة كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وهو تعبير فريد خاص بالمسيح وحده ,لا مثيل له في القرآن كله. فقوله : روح منه يدل على المصدرية كما فسره البيضاوي : أي صدر منه. وهذا الصدور يفسّره الاسم الثاني المرادف له : كلمته .

ان المسيح روح من الله يصدر منه صدور الكلمة من الذات الناطقة.

وهذا القيد والتخصيص يميّز المسيح روحاً منه تعالى بالصدور عن كل روح من الله بالخلق والإبداع.

ويؤيد معنى المصدرية في روح منه تأييد المسيح بروح القدس في قوله : وأيدناه بروح القدس .

فإذا اعتبرنا أيدناه بروح القدس انها روح المسيح الشريفة العالية القدسية - كما قال الرازي في تفسيره - التي تؤيد المسيح في ذاته وشخصيته ,كان المسيح روح الله القدس ,فهو اسمى من مخلوق.

وإذا اعتبرنا أيدناه بروح القدس أنها روح القدس الذات القائمة بنفسها والتي تؤيد المسيح في سيرته ورسالته ,كان المسيح أيضاً أسمى من مخلوق.

وفي كلا الحالين تأييد المسيح بروح القدس يرفعه فوق المخلوق.

قال الإمام أحمد بن حنبل : من قال إن روح القدس مخلوق فقد قال بدعة أو ضلالة !!

وإضافة لما سبق ,ففي قوله كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه يمتاز التعبير عن سائر التعابير القرآنية ويحدد ذات المسيح أنها روح منه تعالى ,أي صادرة منه ,لا على طريق الخلق ,بل على طريق الصدور. كما يدل عليه ترادف الإسمين كلمته وروح منه . فهو روح منه تعالى يصدر منه صدور الكلمة من الذات الناطقة في حديثها النفسي ,وإذ لا حدوث في الله ,فكلمته في ذاته غير محدثة أو روح منه غير محدث.

عودة للصفحة الرئيسية