الصليب وماذا تعرف عنه ؟
! بلا شك أن كلمة الصليب هي من مشكلات المسيحية ، وقصة الصليب من القصص التي تصدم العقل ، وبخاصة إذا كان هذا العقل قد نمى بخلفية تاريخية تعلمه بعكس التاريخ
ولأننا ، كمسلمين من حيث النشأة ، فقد تعلمنا بأن قصة الصلب ، والصليب ،ما هي إلا خرافة ابتدعها النصارى ، واليهود ، وما نعتمده كحجة على ذلك تفاسير المفسرين المحمولة بين طيات الأوراق الصفراء ، ذات القداسة والعصمة ، والمدونة بلغة تصعب على فهمنا الآن ..ونفس الحال يقابلنا إذا ما قرأنا كتب السيرة والتأريخ العربية ، حيث نجد الخرافات والأساطير تملأ جنبات الروايات التاريخية (1 ) .لذا فإننا نجد الخلط ، بل قل الغموض ، يغلف قصة الصلب في الإسلام ، وما يدل على ذلك تعدد الروايات ( 2 ) .
ومن الواضح من كل هذه الروايات أنه كانت هناك بدعة ما ، ولكن ترى ما هي تلك البدعة ؟
. يذكر لنا المؤرخون أن ضلالة كانت شائعة عند نصارى الجزيرة العربية مفادها أن المسيح ،وهو القادر أن يتحول من صورة إلى صورة ، أنه حين جاء أعداؤه لإلقاء القبض عليه ، ألقى شبهه على إنسان آخر فصلب بديلا عنه . أما المسيح فقد ارتفع إلى الذي أرسله (الله )، هازئا بأعدائه
. والنص القرآني عن خاتمة أيام المسيح ، جاء متفقا مع هذه الرواية ومعاكسا لراوية اليهود إذ يقول: "وقولهم (أي اليهود) إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم . وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا . بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما " (سورة النساء 4 : 157 ، 158)
ومما لا شك فيه أن الإسلام ورث هذا النفور من الصليب، من أولئك المبتدعين ، الذين كانوا منتشرين في الجزيرة العربية التي هي مهد الإسلام. والمؤسف في الأمر ، أن يختلف فقهاء الإسلام في موضوع إحلال الشبه محل المسيح ، وتنطلق من خلالهم عدة روايات متباينة منها :
أن اليهود لما عزموا على قتل المسيح يسوع رفعه الله إلى السماء ، فخاف رؤساءهم من غضب الشعب عليهم فأخذوا إنسانا آخر وقتلوه وصلبوه ولبسوا على الناس انه عيسى .
أن الله ألقى شبه عيسى على إنسان آخر فمات هذا بديلا عنه . ولهذه الرواية عدة وجوه :
دخل تيطاوس اليهودي بيتاً ، كان المسيح فيه بقصد اعتقاله ، فلم يجده . وألقى الله شبه عيسى عليه ، فلما خرج ظنوه أنه عيسى فأخذوه وصلبوه . (1)
أن اليهود حين اعتقلوا عيسى ، أقاموا عليه حارسا . ولكن عيسى رفع إلى السماء بأعجوبة وألقى الله شبهه على الحارس فأخذ وصلب وهو يصرخ أنا لست بعيسى. (2)
. وعد أحد أصحاب عيسى بالجنة فتطوع للموت عنه ، ألقى الله شبه عيسى عليه فاخرج وصلب. أما عيسى فرفع إلى السماء (3)
. نافق أحد تابعي عيسى (أي يهوذا ) وجاء مع اليهود ليدلهم عليه فلما دخل معهم لاخذه ألقى الله عليه شبهه فأخذ وقتل وصلب (4)
وقد سر أبو جعفر الطبري في كتابه (جامع البيان ) عدة روايات في هذا الصدد :
الأولى : أن بعضهم قال : لما أحاط اليهود بعيسى وأصحابه أحاطوا به وهم لا يثبتون في معرفة عيسى بعينه . وذلك انهم جميعا تحولوا إلى صورة عيسى . فأشكل الأمر على الذين كانوا يريدون قتل عيسى . وخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى فقتلوه وهم يحسبونه عيسى .
. الثانية : مرواه عن ابن حمية ، عن يعقوب القمي ، عن وهب بن منبه. قال أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت وأحاطوا بهم . فلما دخلوا صورهم الله كلهم على صورة عيسى . فقالوا لهم سحرتمونا . لتبرزن لنا عيسى ، أو لنقتلكم جميعا. فقال عيسى لأصحابه : من يشري نفسه منكم اليوم بالجنة ؟ فقال رجل منهم أنا . فخرج إليهم ، فقال أنا عيسى فأخذوه ، فقتلوه وصلبوه . فمن ثم شبه لهم . وظنوا انهم قد قتلوا عيسى ورفع الله عيسى من يوم ذلك
الثالثة : مروية عن محمد بن الحسين ، عن أحمد بن المفصل عن أسباط ، عن السدي . قال أن بنى إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلا من الحواريين في بيت . فقال عيسى لأصحابه : من يأخذ صورتي ، فيقتل وله الجنة؟ فأخذها رجل منهم ، وصعد بعيسى إلى السماء. فلما خرج الحواريون أبصروهم تسعة عشر، فأخبروهم أن عيسى عليه السلام ، قد صعد به إلى السماء فجعلوا يعدون القوم ، فيجدون انهم ينقصون رجلا من العدة ، ويرون صورة عيسى فيهم فشكوا فيه . وعلى ذلك الرجل . وهم يرون انه عيسى فصلبوه.
. الرابعة : مروية عن ابن حميد ، عن مسلمة عن ابن إسحاق . قال : كان اسم ملك بنى إسرائيل الذي أرسل إلى عيسى ليقتله رجلا منهم يقال له داود. فلما اجمعوا لذلك لم يفظع عبد من عباده بالموت فظعه . ولم يجزع جزعه . وانه ليقول عما يزعمون : اللهم إن كنت صارفا هذه الكأس عن أحد من خلقك فاصرفها عنى . وحتى أن جلده في كرب ذلك ليتفصد دما . فدخل المدخل الذي اجمعوا أن يدخلوا عليه فيه ، ليقتلوه ،هو وأصحابه ، وهم ثلاثة عشر بعيسى فلما أيقن أنهم داخلون عليه ... ألقى شبهه على أحدهم فامسكوه وصلبوه
الخامسة : مروية عن سلمة ، قال حدثني رجل كان نصرانيا فاسلم ، أن عيسى حين جاءه من الله إني رافعك إلى ، قال يا معشر الحواريين أيكم يجب أن يكون رفيقي في الجنة ، على أن يشبه للقوم في صورتي فيقتلوه مكاني ؟ فقال سرجس. أنا يا روح الله قال فاجلس في مجلسي . فجلس فيه ورفع عيسى ، فدخلوا عليه فأخذوه فصلبوه . فكان هو الذي صلبوه وشبه لهم
. ( مجمع البيان 6 : 12 - 14)
- وجاء في تفسير السنوسي الجزء الأول عن مالك : من المحتمل أن يكون المسيح ، مات حقيقة، وانه سيحيا في آخر الزمان ، ويقتل الدجال .
. - وجاء في تفسير ابن كثير ، عن إدريس : قال مات المسيح ثلاثة أيا م، ثم بعثه الله ورفعه
. - وقال: (أخوان الصفا جزء 4 ص 3. ) أن المسيح مات وصلب وقام وتراءى لخاصته بعد ذلك وكذلك اختلفوا في اسم الشخص الذي صلب . ففريق قال أنه يهوذا ، وفريقا قال أنه تيطاوس، وفريق قال أنه سرجس ، وفريق قال أنه أحد الحواريين
. وكذلك مفسرو القرآن ، إلا قليلا لم يكونوا أكثر توفيقا في رواياتهم . فقال الجلالان في تفسير مقالة القرآن : (ولكن شبه لهم ) المقتول وهو صاحبهم بعيسى ، أي ألقى الله عليه شبه عيسى فظنوه إياه فقتلوه وصلبوه . (وإن الذين اختلفوا فيه (أي عيسى )لفي شك منه (أي من قتله . لان بعضهم لما رأوا المقتول قالوا ، الوجه وجه عيسى أما الجسد فليس بجسده . وقال بعض آخر أنه ، هو هو (تفسير الجلالين صفحة 135)
. وقال البيضاوي : روى أن رهطا من اليهود سبوا عيسى وأمه فدعي عليهم فمسخوا قردة وخنازير . فاجتمعت اليهود على قتله ، فأخبره الله بأنه يرفعه إلى السماء. فقال لأصحابه : أيكم يرضى بأن يلقى عليه شبهي ويصلب ويدخل الجنة . فقام رجل منهم فألقى الله عليه شبهه فقتل وصلب
. أما الزمخشرى : فقد قال : شبه لهم أي خيل إليهم ، أو توهموه أو اوهموا انهم قتلوه وصلبوه، فهو ميت لا حي ، بل هو حي لان الله رفعه إليه
ولا مراء في أن هذا التباين في الروايات ، نجم عن عدم وجود نص صريح في القرآن ، حول نهاية أيام جسد المسيح على الأرض . وهذا التباين فتح باب الإشكال والتضارب في الآراء . ولهذا لم يكن بدا لعالم نزيه كالإمام العلامة فخر الدين الرازي ، ان يفند قصة الشبه تفنيدا محكما . ففي تفسيره الآية 55 من سورة آل عمران ( يا عيسى بن مريم إني متوفيك ورافعك إلى ) عالج مسألة الشبه بموضوعية إذ قال: من مباحث هذه الآية موضع مشكل . وهو أن نص القرآن ، دل على انه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره ، على ما قال (وما
: قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم )والأخبار أيضا و اردة بذلك ، إلا أن الروايات اختلفت . فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شبهه على بعض الأعداء ، الذين دلوا اليهود على مكانه ، حتى قتلوه وصلبوه. وتارة يروى أنه رغب بعض خواص أصحابه في أن يلقى شبهه ، حتى يقتل مكانه . وبالجملة فكيفما كان ، ففي إلقاء شبهه على الغير إشكاليات
. الإشكال الأول : - أنا لو جوزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر ، لزم السفسطة فإني إذا رأيت ولدى ، ثم رأيته ثانيا فحينئذ أجوز أن يكون هذا الذي رأيته ثانيا، ليس بولدي ، بل هو إنسان ألقى شبهه عليه . وحينئذ يرتفع الأمان على المحسوسات ، وأيضا فالصحابة الذين رأوا محمدا ، يأمرهم وينهاهم ، وجب أن لا يعرفوا انه محمد لاحتمال انه ألقي شبهه على غيره. وذلك يفضي إلى سقوط الشرائع ، وأيضا فمدار الأمر في الأخبار المتواترة ، على أن يكون المخبر الأول ، إنما أخبر عن المحسوس ، فإذا جاز وقوع الغلط في المبصرات ، كان سقوط خبر المتواتر أولى وبالجملة ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات بالكلية
الإشكال الثاني : - هو أن الله تعالى كان قد أمر جبريل عليه السلام ، بأن يكون معه في أكثر الأحوال ، هكذا قال المفسرون في تفسير قوله (إذ أيدتك بروح القدس )[ المائدة 5: 11. ] ثم أن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل ، كان يكفى العالم من البشر. فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه ؟ وأيضا أنه عليه السلام(المسيح) لما كان قادرا على إحياء الموتى ، وإبراء الأكمة والأبرص . فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء وعلى إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين ، عن التعرض له ؟
الإشكال الثالث : - أنه تعالى كان قادرا على تخليصه من أولئك الأعداء بان يرفعه إلى السماء . فما الفائدة في إلقاء شبهه على غيره ، إلا إلقاء مسكين في القتل ، من غير فائدة إليه؟
الإشكال الرابع : - أنه ألقى شبهه على غيره ، ثم أنه رفع بعد ذلك إلى السماء فألقوا من اعتقدوا فيه ، أنه عيسى مع أنه ما كان عيسى ، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس ، وهذا لا يليق بحكمة الله .
. الإشكال الخامس : - أن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها ، وشدة محبتهم المسيح ، وغلوهم في أمره . أخبروه أنهم شاهدوه مقتولا مصلوبا. فلو أنكرنا ذلك ، كان طعنا في التواتر . والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد ، ونبوة عيسى ، بل في وجودهما ، ووجود سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وكل ذلك باطل
. والإشكال السادس : - أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقى حيا زمانا طويلا . فلو لم يكن ذلك عيسى ، بل كان غيره ، لأظهر الجزع ، ولقال : أنا لست بعيسى. بل إنما أنا غيره . ولبالغ في تعريف هذا المعنى ، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى ، فلما لم يوجد شيء من هذا ، علمنا أن الأمر ليس على ما ذكرتم . (التفسير الكبير مج 4 – ص 243-244 – طبعة دار الغد العربي 1992م)
ولكن إن كان القرآن في مقالته ينفي صلب المسيح ، فهو لم ينف موته قبل ارتفاعه إلى السماء. وحين نتأمل في آخرة المسيح من خلال القرآن نجد ثلاثة نصوص تؤكد موته بكلمة وفاة أو موت ونصين يؤكدان موته قتلا : -
. "والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا" (سورة مريم 19 :33) ففي هذا النص اعترافا صريحا بأن المسيح تجسد ومات وبعث ، وذلك على شكل نبوءة مرتكزة على معجزة . وهذا يوافق نص الإنجيل روحا وحرفا (1)
"إذ قال الله يا عيسى بن مريم إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.." (سورة آل عمران 3 : 55) ؟ (2)
. "وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ….ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربى وربكم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد" ( سورة المائدة 5 : 116، 117) (3)
. " ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وأتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس . أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون "(سورة البقرة 2 : 87) فكلمة "تقتلون" هنا لا لبس فيها ، ولا يصح تفسيرها بغير القتل . ولما كان القرآن لم يذكر كيفية قتل المسيح . فليس أمامنا إلا الإنجيل فهو المرجع الأصلي أولا وأخرا في هذا الموضوع (4)
. "قالوا (أي اليهود ) أن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار. قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلماذا قتلتموهم إن كنتم صادقين " (سورة آل عمران 3 : 183) (5)
وإذا ما تقصينا الأمر من روايات القرآن نرى أن الرسول الوحيد الذي أتى بالقربان هو المسيح ، إذ يقول :
. " قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وأخرنا وأية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين " (سورة المائدة 5 : 114)
. والآن لنرجع إلى مقالة سورة النساء : (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) ليس لأننا نحتاج إلى غير نصوص الإنجيل لإبراز الحق ، وإنما عملا بمبدأ الكياسة حيال شعور أخوتنا الأحباء. وهذه المحاولة تلزمنا ، ان نكشف عن قصد رؤساء اليهود من قتل المسيح
. هذا الأمر بسطه لنا يوحنا البشير في إنجيله ، إذ يقو ل : " فجمع رؤساء الكهنة والفريسيون مجمعا قالوا ماذا نصنع فان هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة . إن تركناه هكذا يؤمن به الجميع فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمتنا . فقال واحد منهم وهو قيافا .كان رئيسا للكهنة في تلك السنة : أنتم لستم تعرفون شيئا ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها " (الإنجيل بحسب يوحنا 11 : 47 - 54)
. والواقع أنهم حين علقوه على الصليب، ومات وأنزل في القبر وختم باب قبره عليه بأختام بيلاطس ، فرحوا جدا وظنوا انهم تخلصوا نهائيا ، من تعليمه وآياته. وأملوا أن موته القاسي ، يكفى لردع أتباعه عن القيام بأي نشاط . ولكن رياح المشيئة الإلهية أتت بما لا تشتهيه سفن إرادة اليهود المستكبرين . لأن موته الكفاري على الصليب ، سرعان ما جذب إليه الألوف والربوات . فتم ما تنبأ به له المجد : "وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب الجميع " (الإنجيل بحسب يوحنا 12 : 31)
. وكذلك العجائب ظلت تجرى على أيدي رسله، وفقا للسلطان الذي أعطاهم إياه . ويخبرنا الكتاب المقدس أن "الله كان يصنع على يدي بولس قوات غير المعتادة حتى كان يؤتى عن جسده بمناديل ومآزر إلى المرضى فتزول عنهم الأمراض وتخرج الأرواح الشريرة منهم " (أعمال 19 : 12)
. ولهذا يمكننا أن نقبل نص القرآن شهادة عليهم ( وأن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم اتباع الظن وما قتلوه يقينا ) لأنه قام في اليوم الثالث. لأنه يتوافق مع نص الإنجيل الشريف إذ يخبرنا أنه بعد أربعين يوما ظهر خلالها لتلاميذه ، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين العظمة ( أعمال 1 : 3 )وهو ما يتوافق مع القول : إني متوفيك ورافعك إلى )
. والآن دعونا نسأل : لماذا يصوره البعض وكأنه كان يحمل عبئا ثقيلاً عليه مجبرا على فعله؟ ولماذا يلقى بشبهه على آخر ؟ بينما المسيح يسوع قد قبل الموت بإرادته - إذ كان بوسعه أن يتجنبه لو أنه شاء أن يتجنبه ، ولكنه لم يفعل
. فقد حاول التلاميذ أن يمنعوا المسيح من الذهاب إلى أورشليم خوفا عليه من عدوان اليهود ولكنه أصر على الذهاب وهو يعلم ما ينتظره
. أيضا عندما أعلن المسيح يسوع هذا الأمر لحواريه (تلاميذه ) شب أحدهم وهو بطرس الرسول "فأخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره قائلا حاش لك يا رب . لا يكون لك هذا " ( الإنجيل بحسب متى 16 : 22) لكن المسيح يسوع التفت إلى بطرس وقال له "اذهب عنى يا شيطان أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس (متى 16 : 23)
وعندما جاء الجنود لإلقاء القبض عليه سقطوا على وجوههم أرضا أمام هيبته ، ومع ذلك فقد سلم نفسه لهم بمحض إرادته .
. وعندما أخذ إلى المحاكمة أمام الملك هيرودس ، وكان قد سمع الكثير عنه وعن معجزاته التي يصنعها ، وفى هذا الوقت طلب منه أن يجرى معجزة أمامه - ولو أن المسيح عيسى قد فعل هذا لأطلق هيرودس صراحة ، لكن المسيح لم يجبه على الإطلاق
. لقد شبه المسيح على نفسه بأنه الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف فقال: "أضع نفسي ليس أحد يأخذها منى بل أضعها أنا من ذاتي ، لى سلطان أن أضعها ولى سلطان أن آخذها أيضا ." لأنه يعلم أن هذه التضحية هي السبيل الوحيد لخلاصنا وقد قال عن نفسه أنه جاء" لكي يطلب ويخلص ما قد هلك"
. إن الذين جذبهم المسيح إليه بموته كانوا أكثر من الذين جذبهم إليه بحياته ... فعادة ما نرى الناس يقولون (لو عاش البطل الفلاني أكثر لفعل أكثر … ) غير أن موت المسيح كان مختلفاً فلم يكن موته عقبة بل كان قوة جاذبة جعلت كثيرين يتبعونه ، ويضحون بحياتهم شهداء في سبيل الإيمان به
. لذلك قال المسيح عيسى (وأنا إن ارتفعت عن الأرض (يقصد طريقة موته مصلوبا ) أجذب إلى الجميع)
. وهناك ستة وستين مرجعا تاريخيا من وحي كلمة الله نفسه تقول أن المسيح يسوع قد صلب - تسعة وثلاثون مرجعا منها تتنبأ عن الصليب وتورد بتدقيق مذهل التفاصيل مع أنه لم يكن قد حدث بعد ، وهناك أيضا سبعة وعشرون مرجعا بعد الصليب ، منها أربعة مراجع عن حياة المسيح عيسى ، تخصص نصف صفحاتها لأحداث 33 سنة من حياة المسيح عيسى ، وتخصص النصف الآخر لأحداث أسبوع واحد من حياته ، هو أسبوع صلبه وهذا مما يظهر الأهمية المطلقة لحادثة الصليب ولابد أنك أدركت الآن أي مراجع أقصد إنني أقصد أسفار الكتاب المقدس (العهدين القديم والجديد ) ،فالعهد القديم أي التوراة يحوى 39 كتاب تنبأت كلها بالصليب ، والعهد الجديد الذي يحوى 27 كتابا أعلن أن المسيح قد صلب فعلا
شعار الصليب
وهذا دليل مادي ، لا يجوز لأحد أن ينكره لأن لكل دين شعاره كالنجمة السداسية لليهود ، والهلال للمسلمين. وإشارة الصليب ، عرفت من أقدم عهود المسيحية . وقد نقشها المسيحيون الأوائل على أضرحة الموتى ، وفى السراديب التي كانوا يجتمعون فيها ، في زمن الاضطهاد . فلم يكن من المشرف أن يقول أحد أنه تابع لمصلوب فالصليب عار، والمصلوب مجرم حكم عليه المجتمع بأشنع ميته - فكيف يقول أتباع المسيح عنه أنه صلب ، لو لم يكن صلب فعل..؟
. بل أنهم جعلوا من موضوع الصليب مادة فخرهم وشعارا لهم – فرسول المسيحية بولس يقول (حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به قد صلب العالم لي وأنا للعالم ). فقد يجد الناس موضوعا لفخرهم في قولهم أن الميت قد قام لكن ليس في الدنيا من يفخر بقوله عن الحي أنه قد مات، ما لم يكون ذلك حقيقة تاريخية
.. ولكن كل هذا يقودنا إلى السؤال
لماذا صلب المسيح؟
فهذا سؤال نسمعه كثيرا ، وخصوصا في هذه الأيام . وليس من جواب أكثر وضوحا مما جاء في قانون الإيمان
. " أنه من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسد بالروح القدس من مريم العذراء ، وصار إنسانا وصلب عنا على عهد بيلاطس البنطي وتألم وقبر وقام أيضا في اليوم الثالث وصعد إلى السماء )
وفيما يلي بعض البراهين على لزوم موت المسيح الكفاري على الصليب
: أ - الحاجة إلى الخلاص
ما من شك في أن الخلاص حاجة جميع الناس لان الخطيئة ثابتة على الجنس البشرى ، (لأن الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله) هكذا قال بولس (رومية 3: 23). وقال أشعياء النبي : "كلنا كغنم ضللنا ، ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه ( أي على المسيح ) إثم جميعنا "(أشعياء 53 : 6). وقال يوحنا : "إن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا ..... ويقينا في قلب كل إنسان شعورا طبيعيا بديهيا ، بأن التوبة لا تستطيع رفع الخطايا السالفة . وأنه لا بد من وسيلة أكثر فاعلية لنيل الصفح والغفران . وهذه الوسيلة هي الكفارة. وإلا فيما نعلل وجود الذبائح ، من القديم ، وانتشارها بين معظم أديان العالم ، ونيلها هذا الحظ الكبير من التقليد والتواتر ؟ أليس هذا إلا لأن مبدأها موافق لما يشعر به قلب الخاطئ ، من الحاجة إلى التكفير عن آثامه؟
ب – البرهان العقلي :
. يقر الجميع بأن الله قدوس ، وأن الإنسان خاطئ أثيم . ولما كانت الخطية إهانة لاسم الله ومخزية للإنسان ، الذي خلقه الله على صورته كشبهه ، فقد استحق دينونة الله . ولا يمكن تبريرها ، إلا إذا انتفى حكم الدينونة على الخاطئ. والتوبة التي ليست سوى رجوع إلى خط الطاعة ، لا يمكن أن تعطى التبرير المطلوب . لأن ليس لها شيئا من عمل التكفير ، عن الخطايا السالفة لأنه لو صح ذلك لما بقى كرامة لعدل الله ، ولا اعتبار لقداسته
ج - موافقة الكفارة لمقتضى الشريعة :
. فالشريعة الإلهية لا تتنازل عن حقها وحكمها القائل (أجرة الخطية هي موت). أي أنها تطلب قصاصا للجاني . والشريعة التي تخلو بنودها من القصاص ، ليست بشريعة صالحة. فالشريعة هي بمثابة النائب العام ولا يحق للنائب العام أن يتنازل عن طلب القصاص للمذنب ، وإلا لطعن به كحارس صالح للعدل الإلهي . وباختصار فان الشريعة الإلهية تطلب قصاصا للخاطئ أو كفارة عن خطاياه. وهنا يجب أن تلهج ألسنتنا بالشكر ، لان المسيح قدم هذه الكفارة عن الإنسان ، وتبعا لذلك صار كل من يقبله مخلصا ، ينال باسمه غفران الخطايا ولسعادة البشر أن كفارة المسيح كانت شاملة، بحيث لا يصح لأحد أن يقول إن المسيح لم يمت من أجله . وما أروع ما قاله اشعياء النبي :"وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين " (أشعياء 53 : 12). وقال بولس : "مع كونه ابنا تعلم الطاعة مما تألم به ، وإذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدى " (عبرانيين 5 :9)
. لقد رأى الله الإنسان خاطئاً ورأى استحالة وفائه بمطالب الله ولذلك دبر بنفسه هذا الفداء . الذي لم يكلف الإنسان شيئا ،فقد تكفل الله بكل شئ. من هنا قال بولس رسول المسيحية "الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح أي أن الله كان في المسيح يسوع مصالحا العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم .... لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا . لنصير نحن بر الله فيه " (2 كورنثوس 5 : 18 - 21)
. وعندما يرى الخاطئ التائب أن الله أوقع عقاب الخطية على المسيح يسوع الذي لم يخطئ أبدا ولما يرى أيضا انه احتمل عقاب الخطية برضى فانه يكره الخطية ولا يحبها ويعزم دوما على التوبة منها
وقد يتساءل البعض لماذا لم يغفر الله خطايانا لقاء العمل الصالح ؟ أو بأن يأمر فقط بغفرانها ؟ بمعنى أنه يريد فيغفر . وهذا لا يمكن أن يكون لان هذا يكون مناقضا لعدالته . لأن بهذا يعنى أن الخطية تمضى بغير الموت الذي هو نتيجة طبيعية لها ويحدث تناقضا جوهريا بين عدل الله ورحمته إذ أنه إله عادل وفى نفس الوقت إله محب ورؤوف رحيم فنتساءل : كيف إذا تعفو عن الشرير وأنت الكلى العدل والكامل العدالة ؟
. نقول : - إن كيان الله واحد ولا يتكون من أجزاء تعمل في موافقة واتزان بل هو إله واحد وحسب وليس في عدله ما يمنع رحمته، لذلك أحيانا يكون تفكير البعض عن الله هكذا – كأنه يجلس في محكمة وهو القاضي ولكنه قاض عطوف ( محاولين بهذا الجمع بين انه عادل ورحيم ) ملزم بقانون وهذا القاضي يحكم معتذرا على رجل بالموت والدموع في عينه هذا خطأ محض وشر أيضا لنا أن تصورنا هذا عن الله . لان هذا التفكير لا يليق أن نفتكره عن الله الحق فالله لا يتناقض أبدا مع نفسه ، ولا تتعارض صفة من صفاته مع الأخرى
. إن رحمة الله تنبع من صلاحه ولكن الصلاح بدون عدل ليس صلاحا . فالله يعفو عنا لأنه صالح. ولكنه لا يقدر أن يكون صالحا إن لم يكون عادلا . وهنا جاء الحل لهذه المعضلة التي تقول كيف يمكن أن يكون الله بارا وفى الوقت نفسه يبرر الأثيم لذلك فان عدل الله هنا لا يمكن أن ينقض بعمل المسيح يسوع في الفداء بل يأخذ مجراه . عندما يعفو الله عن الخاطئ
. فالتعليم الفقهي واللاهوتي عن الفداء يقول بأن الرحمة لا تتم على إنسان حتى يعمل العدل عمله . فقصاص الخطية الحق قد استوفى عندما مات المسيح يسوع بديلنا على الصليب إذ أنه من المعروف أن (أجرة الخطية هي موت ) وقد استوفى الله حقه بأن مات واحدا فقط نيابة عنا كما قال قيافا وهو رئيسا للكهنة في زمن المسيح "خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها " (يوحنا 11 : 5.) وهو في حقيقة الأمر لم يعلم بأهمية ما قاله بحسب تفسيره الروحي . فالبشر جميعهم تحت حكم الموت بسبب خطاياهم وهو حكم نجم عندما التقى العدل مع موقفنا الأدبي . فعندما التقى عدل الله غير المحدود مع اثمنا المزمن العنيد دارت الحرب بين الاثنين وانتصر فيها الله . وهذا يعنى انه عندما يلقى الخاطئ التائب بنفسه على المسيح ويضع ثقته الكاملة فيه طالبا من الله باسمه غفران الخطية ومؤمنا بعمله فهذا ينعكس على الموقف الأدبي فيتقابل العدل مع الموقف المتغير ويحكم ببراءة المؤمن بهذا الفداء الذي صنعه الله من أجل الإنسان
د- موافقة الكفارة لحاجة الإنسان الأدبية :
. من المعروف أن لكل إنسان طبيعة أدبية وضمير يقدر سمو العدل والقداسة . فإذا ما اقتنع بخطيته ولم يجد لها كفارة ينزعج روحيا وتضطرب حواسه الأدبية . ومن المسلم به أيضا أن الإنسان بالرغم من سقوطه وتمرسه بالخطية ، لا يتلاشى ضميره . بل تبقى تلك القوة الأدبية ، التي تميز الحلال من الحرام وتحكم بالعقاب، أم بالثواب
. ويمكننا القول أن هذه القوة هي صدى صوت سلطان الله ، الذي خلقها على غاية الموافقة في اتجاهاته مع أحكامه المنزلة على جبل سيناء. ولكن هذه القوة مع أهميتها ، لا تستطيع خلاص الإنسان من الدينونة. قد يؤثر احتجاجها على الشر لدى الإنسان ، ولكن الاحتجاج لا يستطيع تبريره . انه فقط يصادق على أن الناموس ( وهو الشريعة )حسن. ولكن الناموس أيضا ، لا يستطيع أن يبرر الناموس قال بولس انه يؤدبنا إلى المسيح
. وكذلك صوت دينونة الضمير أو الشعور بالإثم ، يفرض علينا وسيط صلح ، يكفر عن خطايانا. ولكن مع بروز هذه الحقيقة ، يوجد أكثرية بين الناس تحاول حل مشكلة الضمير بأعمال البر الذاتي . ظنا بأن أعمال المبرة ، تقابل برحمة الله ولهذا تراهم يهملون حكم الضمير بالقصاص ، ويلجأ ون إلى رجاء الرحمة