وان من اهل الكتاب إلاَّ ليؤمننَّ به قبل موته
انطلاقاً من هذا يتابع الرسول قوله في الآية اعلاه ان الله رفع المسيح اليه. وان اليهود الذين ظنوا انهم قتلوا المسيح رسول الله . فقد خاب ظنهم ايضا بترفيعه الى السماء .كما ان ظنهم قد خاب ثانية وثالثة حسبما جاء ايضاً في الاية المقتبسة اعلاه (نساء 158) التي تقول وان من اهل الكتاب إلاَّ ليؤمننَّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً. من هنا ينبغي فهم القرآن عندما يقول في الآية اعلاه, ان اليهود "ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم". اي ظنوا انهم في صلبه وقتله سيخفون رسالته, وفي ظنهم الى الابد, ومضوا الى اعمالهم مطمئنين غير حاسبين لقيامته ورفعه الى السماء حساباً. (راجع سورة مريم 33 وال عمران 55وسورة المائدة (117)عن موت المسيح وقيامته ورفعه الى السماء حيا .
اما بالنسبة الى قوله وما قتلوه يقيناً, فينبغي فهمه بالرجوع الى ما سبقه في الآية نفسها اذ تقول: "وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم الا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً". اي ان اليهود الذين طلبوا من الهيئة الحاكمة قتله مصلوبا كانوا على اختلاف بالنسبة الى تجريمه, فلم يكن لهم علم اكيد بذنبه ولم يكونوا متيقنين من عدالة قتله, فما كان منهم الا ان استسلموا للظن واسلموه للموت على طريقة اتباع الظن فقط دون محاكمة وشهود كافية بحسب القانون الروماني, وقالوا لبيلاطس الحاكم الروماني لا نريد هذا ان يملك علينا اصلبه اصلبه دمه علينا وعلى اولادنا.
لقد لحأ العرب الى اتباع الظن في الكثير من محاكماتهم, فكانوا في تلك الحالات اذا انعدم البرهان القاطع على جرم المتهم, يكتفون بما يتيسر لهم من الادلة للحكم عليه بالموت او بغيره, وذلك من خلال اتباع الظن فقط. لذلك تقول الآية ان اليهود الذين اختلفوا فيه, اي اختلفوا في المسيح وحول جرمه لم يكن به من علم الا اتباع الظن , اي ان اتباع الظن كان الاساس القانوني في حكمهم على المسيح بالموت قتلاً على الصليب.
نفهم من هذا كما تقول الآية اعلاه "و ما قتلوه يقيناً". ذلك لان الله قد اقامه من الموت ورفعه اليه. وان رسالته بعد قيامته يتادى بها في كل الارض الى يوم مجيئه ثانية كما تقول الآية : "وان من اهل الكتاب إلاَّ ليؤمننَّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً". هذا, فكأنهم ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم. وما قتلوه يقيناً. ذلك لانهم لم يكونوا متيقنين من جرمه,ولكن نفسهم المتعطشة الى دم الانبياء, والدماء البريئة, أبت الا ان تصلبه , فصلبوه معلقين اياه على خشبة واذاقوه مر العذاب والموت. بذلك تمت فيه كل نبوآت الانبياء التي تنبأت عن موته تكفيراً عن خطيئة آدم ونسله.
وكان ذلك تتميماً للمقاصد الالهية التي شاءت منذ الازل ان تفدي الانسان من خلال موت المسيح وكفارته. لإنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة (راجع عبرانيين 22:9). ويكتب صاحب رسالة العبرانيين ايضا (14:9) مشير الى دم الكفارة هذه : "فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح ازلي قدم نفسه للّه بلا عيب يطهر ضمائركم من اعمال ميتة لتخدموا الله الحي"
…الا ان اليهود الذين صلبوا المسيح كانوا بعملهم هذا يتممون المقاصد الالهية دون علم منهم, وذلك طبعاً لا يعفيهم من مسئولية قتلهم المسيح مصلوبا لان دوافعهم كانت شريرة.
هذا. وقد ذكرنا فيما مضى ما جاء في الكتب الروحية, التوراة والانجيل والقرآن, حول جامعية الله وواحديته في آن (راجع صفحة16-20من هذا الكتاب).
أولاً-: بالنسبة الى شخصية المسيح عيسى ابن مريم, الذي لم ينسب اليه القرآن اية خطيئة, او اي استغفار عن عمل قام به بغير مكانه. بذلك قد اختلف وتميز عن سائر الانبياء والرسل, اذ أنهم جميعا قد اخطأوا وطلبوا من الله غفراناً لخطاياهم بكفارته بما فيهم رسول العرب محمد.
ثانياً-: قد تبيَّن لنا ان القرآن الكريم,علاوة على انه لم ينسب الى المسيح أية خطيئة او استغفار عن أية خطيئة,نراه يعطيه القابا وصفاتٍ لم يعطها لغيره من الانبياء والرسل التي جاءت اسماؤهم فيه. فعلى سبيل المثال, فهو يدعوه كلمة الله. وكلمة الله في الانجيل المنير كما دعاه الرسول نفسه هو الله . لان الوحي يقول: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله .كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس".. راجع انجيل يوحنا الاصحاح الاول .
هذا وإن الرسول الكريم كان يعرف المسيحية وما تؤمن به جيدا من ان المسيح هو كلمة الله وواحد مع لاهوته. فلو انه كان هناك شك او اعتراض على ايمانٍ كهذا , لكان الرسول أول من حذر منه. الا اننا نراه عوضا من التحذير يأتي الينا بتأكيدٍ جديدٍ وتقرير على ان المسيح هو كلمة الله وروحٌ منه. فنقرأ في سورة النساء : "انما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته القاها الى مريم وروحٌ منه".(سورة النساء170). وليس هذا فحسب بل نراه ايضا من جديد يشجع على هذا الايمان الاكيد بقوله: ان المسيح الكلمة هو خالق "فيخلق من الطين كهيئة الطير
…ِ" وهذا لا يستطيع عليه سوى الله وحده سبحانه. فيقولون : ان هذه جميعها كان يفعلها المسيح باذن الله.نقول بدورنا : هذا صحيح وعين الصواب. ولكن هل قرأتم يوما في كتب الله, أو سمعتم قط, ان الله قد أذنَ لمخلوقٍ ان يخلق نظيره او معه وهو الاله الذي لا شريك له ؟؟, وقد صرح في كتب موسي والانبياء بقوله: "مجدي وكرامتي لا اعطيها لآخر".حاشا. فان هذا لم يحدث ولن يحدث البتة .أما وان المسيح قد تنازل من مجده الاسنى, وجاء الينا كمجرد انسانٍ ولعملٍ معين,كان عليه ان يعملَ مشيئة الآب الذي قد ارسله. وهذا ما صرَّح به المسيح لتلاميذه بقوله: طعامي ان اعمل مشيئة الذي ارسلني واتمم عمله (يو34:4). وقال ايضا ذات يوم لليهود المحيطين به :"
الحق الحق اقول لكم لا يقدر الابن ان يعمل من نفسه شيئا الا ما ينظر الآب يعمل"(يو19:5).ولكن هل هذا يعني ان المسيح كونه رسولا من الآب كان محدود الصلاحيات ؟ كلا. فقد صرح يوما لرؤساء لليهود
مشيرا الى جسده : انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة ايام أقيمه"ويكتب الانجيل انه كان يتكلم عن هيكل جسده اشارة انهم سيقتلونه وانه سيقيم نفسه حتى من الموت (راجع يو19:2). وقال لهم ايضا : "لانه كما ان الآب يقيم الاموات ويحيي كذلك الابن ايضا يحيي من يشاء"(يو21:5).وقبل ارتفاعه الى الآب بعد قيامته من الموت أمر رسله قائلا. "دفع اليّ كل سلطان في السماء وعلى الارض فاذهبوا وتلمذوا جميع الامم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس وها انا معكم كل الايام الى انقضاء الدهر (راجع الانجيل مت 18:28).وان هذا يتجاوب مع ما كتبه الرسول في الانجيل من ان المسيح "هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة. وانه فيه قد خلق الكل
ما في السموات وما على الارض ما يرى وما لا يرى سواء كان عروشا ام سيادات ام رياسات ام سلاطين. الكل به وله قد خلق. الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل"(راجع الانجيل كو15:1-17). هذه بعض معالم طبيعة المسيح الالهية.اما من جهة طبيعته البشرية
وصيرورته عبدا ليفتدي العبيد نظيرنا, مع بعض الاعتبارات طبعا لتفرده عن البشر, يكتب القرآن : ان المسيح قد جاء الينا من ذات الله روحًا, وأخذ من العذراء مريم جسداً. وعاش بيننا كآدمٍ ثانٍ, دون خطية. وقد تكلمَ وتنبّأَ في المهد صبيَّا.ودعاه القرآن نبيَّا, ورسولا ذكيَّا. ومثلا للعالمينْ , ووجيها في الدنيا ويوم الدين .ويشهد القرآن ايضا ان المسيح, وليس سواه من البشر,خالقٌ, ومقيمُ الاموات معيداً اليهم الحياة. ومرجع البصر للعميان, وهو منطِّق الخرس وشافي البرص , وصاحب البينات والعجائب. وقد دعيت سورة المائدة في القرآن باسم موائده السخية التي انزلها على اليهود في ايام جسده في البرية (راجع الإنجيل مت14:14و32:15ويو 1:6-12وسورة المائدة 112). وهو مؤيَّدٌ بالروح القدس بل هو الوحيد بين الانبياء في القرآن من أُيد بالروح القدس , ذلك. لانه واحد مع الآب والروح القدس , وذات الطبيعة الواحدة.
وان هذا الاهتمام البارز بشخص المسيح عيسى ابن مريم في القرآن, واعطائه حق المشاركة مع الله في اعماله واسمائه الحسنى , لَممِّا يلفت النظر. وانه اعتراف صريح من القرآن في الوهية المسيح وربوبيته ورقابته على الناس وشهيدا عليهم لما يعملون.كقوله "
يا عيسى ابن مريم انت قلت للناس اتخذوني وامي الهين من دون الله"-ففي جواب السيد لله نقرأ قوله : "وكنت عليهم شهيدا ما دمتُ فيهم فلما توفيتني كنت انت الرقيب عليهم وانت على كل شيءٍ شهيد" (راجع سورة المائدة (115و116).فاننا نكون غير منصفين البتة, ومشركين بالله ايضا,
ان كنا نعتبر المسيح مخلوقا,و ننسب اليه مزيدا من الاعمال, التي لا يصح بنا ان ننسبها لسوى الله. فعلى سبيل المثال لا الحصر: نقرأ في القرآن ان للمسيح وجودا سابقا, وقد جاء اليا مولودا من عذراء لم تعرف رجلاً. وقد تكلم معرفاً بنفسه وهو لم يزل في المهد قائلاً: "اني قد جئتكم بآية من ربكم اني اخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيرا باذن الله..". وإن عمل الخلق هو لله وحده . واعادة العيون والآذان الى وضعها الطبيعي, وهو بمثابة خلق جديد, هو ايضا لله وحده. واقامة الموتى لله وحده. وعلم الغيب لله وحده . وسبحانه تعالى يأبى ان يكون له شريك من البشر في هذه جميعها مهما عظم الانسان و سما مقامه. انسانًا كان,ام نبيًّا, ام رسولاً سواء .رابعا-: لقد تبيَّن من القرآن الكريم ايضا ان المسيح قد مات مقتولا بايدي اليهود شعبه على الصليب كفارة لخطايا البشر جميعا.
خامسا : لقد تبين لنا ان التوراة والانجيل هما كتب الله, وانها لم تتغير. ولم ولن تتبدَّل. ولم ولن تتحوَّل او تتحرَّف البتة. لأنها كتب الله سبحانه. "وهو سهران على كلمته ليجريها" الى انتهاء الوقت في مجيء المسيح ثانية لدينونة البشر الاخيرة. ولا يمكن لله ان يسمح لأيٍ من البشر اطلاقاً, ان يتلاعبَ في كتبهِ,حاشا, وذلك لانه الاله القادر على كل شيء .
لكن بما ان أئِمَّة الكتب ومفسِّريها, قد بعدوا بعيداً عن القرآن وعن كتب الله التي سبقت القرآن. كما فعل خوارنة المسيحيين الاسميين.ببعدهم عن الانجيل ايضا. فقد نسوا , او تناسوا اذا صح التعبير,"كيف يتدبرون القرآن". لكي يكون متفقًا مع نفسه اولا.من ثم مع الكتب التي شهد لها انها كتب الله . لذا نسمع القرآن يصرخ من أئمَّتهِ وعلمائه مستغيثا . ولسان حاله يردد ويقول: "افلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا .سورة النساء (82).هذا.لانه عندما يُفصَلُ القرآن عن جزوره في التوراة والانجيل التي شهد لها انها كتب الله, فان ذلك يؤدي بالضرورة الى سوء فهمه. وتفسيره .خصوصاً وانه لم يترك القرآن ظرفاً مناسباً الا وشهد لهذين المرجعين القديمين.
واننا كثيراً ما نسمع القرآن يردد هذه الآية الكريمة وهي : "ومن لم يحكم بما انزل الله"أي في الانجيل-" فاولئك هم الفاسقون". اقرأ سورة المائدة (44 و47) الخ.وقد جاء في التوراة والانجيل تحذيرات مماثلة .حتى لا يُضاف او يُحذف شيء من كتب الله, كقول موسىكليم الله:"كل الكلام الذي اوصيتكم به احرصوا لتعملوه.لا تزد عليه ولا تنقص منه" ( راجع تث 32:12). او كقول سليمان: "كل كلمة من الله نقية. ترس هو للمحتمين به. لا تزد على كلماته لئلا يوبخك فتكذَّب" (راجع ام6:30).
او كقول الرسول يوحنا في نهاية سفر الرؤيا من الانجيل." وهو السفر الاخير في العهد الجديد: "ان كان احد يزيد على هذا يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب. وان كان احد يحذف من اقوال كتاب هذه النبوة يحذف الله نصيبه من سفر الحياة ومن المدينة المقدسة ومن المكتوب في هذا الكتاب".
ومن الملاحظ هنا, ان معظم الإقتباسات التي اوردناها الكريملاثبات صحة كلامنا هو مأخوذا من داخل القرآن الكريم, مع انه لدينا براهين اخرى كثيرة, من داخل القرآن ومن خارجه ايضا. من صحف ابراهيم وتوراة موسى وزبور داود. والانجيل والتاريخ , التي تشهد لنفسها عن صحة هذا الامر.
ولا يغرب عن البال ان الكتاب المقدس المشهود له من الله وانبيائه, ومن القرآن ذاته,قد ظهر , قبل القرآن بمئات السنين, بل الوفها.وكان قد ترجم الى لغات عديدة.قبل المسيح وبعد المسيح . منها الآرامية والبابلية والاشورية واليونانية والفارسية.هذا.عدا اللغات واللهجات التي خرجت بعدئذ من اللاتينية. وقد نشر في المسكونة كلها, بحسب أوامر الرب الذي أمر تلاميذه قائلا : "امضوا الى العالم اجمع واكرزوا بالانجيل للخليقة كلها من آمن واعتمد خلص ومن لا يؤمن يدان" (راجع الانجيل مرقس فصل (16). ومتى فصل (28). وقد عمَّت المسيحية الامبراطورية الرومانية من اقصاها الى اقصاها, وكانت تلقب في ذلك الحين بالدولة المسكونية (راجع الانجيل لو1:2). وكنت ترى المؤتمرات والمجامع تعقد لأدنى الاسباب. ربما من كلمة قيلت من اسقف او مسؤول يُظن انها ربما تخالف روح المسيحية ولا تتلائم مع الايمان المسلم مرة الى القديسين. فتعقد المجامع وتبحث الكلمة على نور كلمة الله المكتوبة وبارشاد الروح القدس . ويستمر البحث اياما وشهورا الى ان يصلوا الى النتيجة المتوخاة . وهكذا نرى مع كل اختلاف النظريات في المسيحية واليهودية وتعداد الطوائف فيهما, فانك ترى الكتاب المقدس على مر السنين,هو هو,لا يتبدل ولا يتغير او يتحرف في كلا العهدين .
فمن المستبعد جدا إذا وغير المعقول ان يتم جمعها وتحريفها كما يفتري البعض في هذه الايام الاخيرة, كي يبعدوا المسلمين عن بعضهم البعض وعن الحق الالهي المسلم مرة للقديسين .
فانه لايعقل ان الرسول العربي يشهد لكتاب انه من عند الله وانه الكتاب المنير. ويدعوه قرآناً, وفرقاناً, وهو محرفٌ لا سمح الله. اذ يقول في سورة البقرة (53) "واذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون".