تأثير الزرادشتية والمجوسية والزندانية على نشوء الاسلام

 

1- مقدمة..


من الظواهر المتكررة في أغلب الأديان الادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة، وأن "دين معين" هو الصواب وحده، وماعداه خطأ، مع أن "الدين" أي دين ما هو إلا اقتباس وزيادة، مجرد محاولة في طريق البحث عن الحقيقة.

ولا يخلو دين من الأديان الكبرى من مؤثرات خارجية، فلن نجد دين أو عقيدة تكون نتاج عقلية واحدة فقط، ولا يستثنى الإسلام من هذا، فجاء الإسلام مزيجا من أديان ومعتقدات شتى، من بينها أديان فارس القديمة، وهي موضوع هذا البحث القصير.

فالمطلع على الأديان والثقافة الفارسية القديمة يدهشه حجم الدور الذي لعبته في التأثير على الإسلام، قبل وبعد التكوين.(1)

وبجوار المؤثرات الفارسية كان هناك المصدر الرئيسي الذي أقام عليه نبي الإسلام الدين الجديد، وهو التراث اليهودي، قصصه وتاريخه وأساطيره وتعاليمه الأخلاقية، بالإضافة لبعض تعاليم وأراء الفرق المسيحية المختلفة، وبعض معتقدات العرب قبل الإسلام، وما أضافه نبي الإسلام لهذا المزيج. وكانت أهم المسائل التي ركز عليها نبي الإسلام هي "التوحيد"، وهذا طبيعي لمن ينشد الحقيقة وسط الكم الكبير للآلهة والأديان في أرض العرب.

وأيضا مشكلة كبرى مثل مشكلة "الشر" تشغل تفكير أي متأمل في الحياة عامة وفي "مسألة الألوهية" بوجه خاص، وكان نبي الإسلام ممن شغلتهم هذه المشكلة بالتأكيد.

وبالرغم من أن نبي الفرس "زرادشت" أيضا مثل نبي الإسلام نبذ كل الآلهة عدا "أهورامزدا" فكان بذلك موحدا، إلا أنه يبدو أن تفسير "زرادشت" للشر لم يرق لنبي الإسلام، نظرا لأنه يجعل من الخير والشر ندان في هذا العالم، وأيضا لأن بعد "زرادشت" أصبح الدين الزرادشتي "ثنويا" يعترف بإلهين أحدهما للخير والآخر للشر، وهما "أهورا مزدا" و"أهريمان".

وبالطبع فإن هذه "الثنوية" المتأخرة لا ترضي نبي الإسلام وهو المدافع الصلب عن التوحيد.
ولربما كان من الممكن أن يأخذ نبي الإسلام بالتفسير الزرادشتي لو أنه كان قد ظهر –نبي الإسلام- في الفترة الزمنية القريبة من ظهور "زرادشت" ،عندما كانت دعوته توحيدا خالصا!. فجاء بعد ذلك تفسير نبي الإسلام تطويرا للتفسير الفارسي لمشكلة الشر.

وقد أشار العقاد إلى هذا المعنى فيقول في كتابه "الله"..

"ويخيل إلينا أن زرادشت كان خليقا أن يسمو بعقيدة المجوس إلى مكان أعلى من ذلك المقام في التنزيه ،وأن يسقط بأهرمن (رب الشر) من منزلة الند إلى منزلة المارد المطرود".(2) وهي الخطوة التي اتخذها بالفعل نبي الإسلام بعد ذلك.

ولئن كان نبي الإسلام لم يأخذ بالتفسير الفارسي لمشكلة الشر، إلا أنه اقتبس منهم الكثير من الأمور الأخرى، والتي سيأتي ذكرها لاحقا.

2- نبذة عن الأديان الفارسية..

أ-الدين الفارسي المبكر..

عرف الفرس القدامى عبادة مظاهر الطبيعة مثل أغلب الشعوب القديمة. يقول هيرودوت..

"إن الفرس يعبدون الشمس والقمر والنجوم والماء والأرض منذ زمن بعيد".(3)

وعرفوا تعدد الآلهة أيضا، وأبرزهم كان "مثرا" كإله للشمس أو "النور"..

"وكان أكبر الآلهة في الدين السابق للدين الزرادشتي مثرا إله الشمس، وأنيتا إلهة الخصب والأرض، وهوما الثور المقدس الذي مات ثم بعث حيا، ووهب الجنس البشري دمه شرابا ليسبغ عليه نعمة الخلود".(4)

وكان الفرس يقسمون الآلهة إلى آلهة خير وآلهة شر، ومن ثم كانوا يتوجهون لآلهة الخير طلبا له، ولآلهة الشر درءا له.
ثم ظهر الدين "المزدي" خطوة أخيرة قبل ظهور "زرادشت"..
"بهذا التحول الفكري نحو "أهورا مزدا" تحول بالعقل التفكير من المظهر إلى المصدر ومن الظاهر إلى المحتجب ومن النور إلى ما وراء النور..إلى الينبوع النوري نفسه المستقر فيما وراء مثرا (5) والصادر عنه أنوار "مثرا" تحول العقل فهوى بهذا التحول "مثرا" إلى رب ومظهر للنور وتلاشت عبادته في عبادة المحتجب ،المصدر والأصل لكل نور ولكل خير".(6)
وظهرت بوضوح فكرة الصراع بين الخير والشر، ودور الإنسان في هذا الصراع من خلال أعماله، وما نتج عن هذا من التزام خلقي، وهي العقيدة التي أكملها وطورها زرادشت.

ب-زرادشت

ولد حوالي 900 ق.م. على الأرجح(7). كان كاهنا، وأصبح صاحب حركة إصلاحية كبيرة في الدين الفارسي، أبطل كل الآلهة عدا "أهورا مزدا" ، قال أيضا بقوتين تتصارعان في هذا العالم، الخير والشر(8) ، والصراع يكون من خلال أعمال الإنسان خيرا كانت أو شرا، فإذا عمل الإنسان خيرا أعان بذلك قوة الخير، وإذا عمل شرا أعان قوة الشر، لذلك فالإنسان والكون يعتبران "ميدان قتال" بين القوتين، وكان على يقين أن الغلبة في النهاية للخير، و سوف يفنى الشر من العالم، ويكون هناك حساب وجزاء، الذين عملوا الخير خيرا يكون جزاءهم، والذين عملوا الشر شرا يحصدون..
"سيادة الخير يجب أن تكون اختيار الإنسان..
إنها تجلب النصيب الثمين لمن يعمل بحماس..
من خلال الحق سوف يحصل على الخير الأسمى
نظير أعماله، أيها الرب الحكيم
هذا ما سأتمه الآن لأجل أنفسنا" (9)

ج-المانوية..

هي دين أتباع "ماني" (216-275) وهي من الأديان التي أثرت كثيرا في الإسلام.
وتعتبر تعاليم ماني أساسها العقيدة الزردشتية متأثرة بالنصرانية، وما أضافه من أراءه وتأملاته فجاءت..
"مزيجا من الديانة النصرانية والزردشتية وهي-كما يقول الأستاذ برون- تعد زردشتية منصرة أقرب من أن تكون نصرانية مزردشة."(10)
وتأثر أيضا بالبوذية، بعد هروبه إلى شرق الهند والصين فرارا من الاضطهاد في فارس.
وكانت الديانة المانوية تنتشر بسرعة فائقة، مما سبب تهديدا قويا للمسيحية..
"وبمجيء القرن الرابع الميلادي انتشرت المانية انتشار النار في الهشيم فتضافر المسيحيون والوثنيون معا في وقف زحفها..وحتى ندرك مقدار منافستها للدين المسيحي يكفي أن نذكر أن القديس أغسطين ..ظل يؤمن بها لمدة تسعة أعوام كاملة (ويقول البعض إنها امتدت إلى اثني عشرة عاما) قبل أن يتحول للمسيحية".(11)
"والعقائد المانوية تنحصر في الإيمان بالله الأحد والإيمان بالرسل، والرسل هم آدم فشيث فنوح فابراهيم فبوذا فزرادشت فعيسى فماني- والإيمان بالملائكة، والكتاب المقدس، ويوم البعث!".(12)

وكان ماني يقول عن نفسه أنه "البارقليط" المبشر به من عيسى، فكان يرى نفسه امتدادا لبوذا وزرادشت والمسيح.
ويقول الشهرستاني أن ماني كان "لا يقول بنبوة موسى عليه السلام".(13)
وماني –مثل زرادشت- يعتقد بوجود أصلين لهذا العالم الخير والشر، النور والظلمة، لكنه كان متشائما يرى أن الحياة شر، والنفس حبيسة الجسد، لذلك الجسد شر أيضا، ولذلك فمن الخير سرعة الخلاص من الحياة الدنيا، فأبطل الزواج، وحث على الزهد، فكانت تعاليمه خطرا على الروح الحربية للدولة الفارسية، وعانى بسبب أراءه اضطهادا شديدا حتى مات مقتولا، وبالرغم من هذا فإن تعاليمه عاشت إلى القرن الثالث عشر الميلادي.

د-المزدكية..

وهي دين "مزدك" الذي ولد حوالي 467م أو 487م، قال بالنور والظلمة، لكنه اشتهر بدعوته الاشتراكية.
فقد رأى أن الناس تولد متساوية، فيجب أن تظل كذلك في معاشها، ورأى أن أكثر الشرور منبعها التنازع على المال والنساء، فدعا لشيوعهما، وأساء أتباعه فهم دعوته، فطبقوها على كل شيء، حتى أصبحت دعوته مرادفة للانحلال.
"وقد اعتنق مذهبه آلاف من الناس ولكن "قباذ" نكل به وبقومه، ودبر لهم مذبحة سنة 523م كاد يستأصلهم بها.
ومع هذا فقد ظل قوم يتبعون مذهبه، حتى إلى ما بعد الإسلام، وذكر الأصطخري وابن حوقل أن سكان بعض قرى كرمان كانوا يعتنقون المزدكية طوال عهد الدولة الأموية".(14)

ه-البارسيون..

بعد الغزو الإسلامي لفارس كاد يقضي على الزرادشتية، فلم يتبقى من أتباع زرادشت إلا أعداد قليلة جدا، وكان جزء من أتباع زرادشت قد هاجروا إلى الهند وعرفوا بالبارسيين..
"أم الباقون من أتباع زرادشت فقد هاجروا إلى بلاد الهند في القرنين السابع والثامن واستطونوا هناك –وخاصة في مدينة بومباي- في ظروف أقل عناء، وأطلقوا على أنفسهم إسم "parsis" أي البارسيين أو الفرس القدماء..وعرف عنهم حيثما حلوا، كرم الأخلاق، والكفاية في العمل، والكرم في المعاملة، وهم دائما موضع تقدير مواطنيهم واحترامهم".(15) 3- كتبهم المقدسة..

أ-"الأفستا"..

الكتاب المقدس لدى أتباع زرادشت، وأخذ به "ماني" أيضا، و"الأفستا" هو الإسم الشائع أو "الأوستا" كما في الكتب الفارسية والأوربية ،ويتضمن بعض الشروحات يطلق عليها "الزند أفستا" ..
"أما الزند فهو التفسير الفهلوي الذي كتب في عهد الساسانيين واشتقاقه من azanti بمعنى الشرح والبيان. ولهذا الشرح شرح يعرف ببازند أي إعادة الشرح ولغته أكثر وضوحا من لغة زند".(16)
ويوجد إجماع على أن ما وصلنا من "الأفستا" هو جزء صغير ويعزى إلى كل من "الفتح المقدوني و"الفتح العربي" بعد ذلك دورا كبيرا في فقد أجزاء كبيرة من "الأفستا".. أما الجزء الصغير المتبقي فينقسم إلى :

1-اليزنا أو اليأسنا وهي أقدم أجزاء الأفستا المتبقية وتشمل بعض الطقوس الدينية الخاصة بالكهنة وتشمل أيضا "الجاثات" وهي أحاديث زرادشت وعددها سبعة عشر.
2-الفسبرد أو الوسبرد ويشتمل هذا الجزء على 24 فصلا المشتملة على الطقوس الدينية وأناشيد الفقهاء.
3-الفندايد أو الوندايد ويشتمل على 22 فصلا تشرح فقه الزرادشتيين وقوانينهم الأخلاقية.
4-اليشت وهي التسبيحات الغنائية.
5-الخرد أفستا أو الأفستا الصغرى وتشتمل على مجموعة من الصلوات.
وبالطبع لم يظهر "الأفستا" كله في وقت واحد، بل ألفت أجزاءه في أزمنة متباينة، وأقدمها هو "اليأسنا" وهو الذي يحتوي على أحاديث زرادشت.

ب-الكتب المانوية..

كان "ماني" يقدس "الأفستا" كما ذكرنا، وبالإضافة للأفستا كانت هناك كتابات مقدسة لدى أتباع "ماني" خطها "ماني" بنفسه، لكن ضاع أكثرها.
يقول د.رمسيس عوض في كتابه "الهرطقة في الغرب" ..
"ألف ماني عددا كبيرا من الكتب باللغتين السوريانية والفارسية. لكن هذه الكتب ضاعت، كما أنه سطر رسالة بعنوان الرسالة الجوهرية بدأها بقوله إنها "من ماني رسول يسوع المسيح المبعوث من عناية الأب" ..ومن ناحية وضع "ماني" من عنده إنجيلا أسماه "آرتن" ادعى أن الله أوحى به إليه، وإليه وإلى كتابات معلمهم الأخرى يستند المانويون في عبادتهم".(17)
وفي كتاب "إيران في عهد الساسانيين" نجد ذكر لبعض كتابات "ماني" المتبقية، كالإنجيل الذي ألفه "ماني" وكتاب "الأصلين" وغير ذلك.(18)

4- كيفية التأثير..

أ-اختلاط العرب بالفرس في الجاهلية
اختلط العرب بالفرس قبل الإسلام، وانتقل إليهم شيئا من حضارة وثقافة الفرس، وكان ذلك عبر "عرب الحيرة"..
"وكانوا هم –عرب الحيرة-الصلة بين الفرس وعرب الجزيرة،يحملون إليهم التجارة الفارسية ويبيعونها في أسواقهم.ويبشرون بالفرس ومدنيتهم".(19)
ولم تقتصر تلك الصلة على التجارة والسياسة بل وصلت إلى الدين والأدب..
"كان عرب الحيرة أرقى عقلا ومدنية من عرب الجزيرة لتحضرهم ولمجاورتهم مدنية الفرس العظيمة..وكان منهم من يعرف الفارسية..ولا شك أن معرفة بعض هؤلاء الحيريين للغة الفرس كانت واسطة لنقل شيء من حضارتهم وآدابهم إلى العرب"(20)
"..أضف إلى ذلك ما ذكره "ابن رسته"في "الأعلاق النفيسة"من أن أهل الحيرة علموا قريشا الزندقة في الجاهلية، والكتابة في صدر الإسلام".(21)
ومن المعروف أن لفظة "زندقة" لم تكن معروفة قديما بالمعنى الشائع المرادف "للإلحاد"، بل يفهم منها أتباع "الزند"، أو أتباع "ماني" ، وسيأتي تفصيل ذلك لاحقا.
إذن لم يكن نبي الإسلام بعيدا عن الثقافة الفارسية التي كانت معروفة بين العرب قبل الإسلام، وأضف إلى ذلك ما عرف به محمد من ميول دينية، وحيرة، وتساؤل، فشخص مثل هذا لن يكون صعبا عليه معرفة الكثير عن الدين الفارسي من خلال سؤال من اختلط بالفرس، بل وبعض أتباع دينهم، وحتى بدون السؤال، فإن القصص الفارسية –ولابد أن جزءا منها كان دينيا-كانت شائعة جدا كما سيتضح.

ب-شيوع القصص الفارسية
شاعت القصص الفارسية بين ما شاع من ثقافة الفرس بين العرب قبل الإسلام ..
"وقد كان لعرب الحيرة أمرائهم وتاريخهم أثر كبير في الأدب العربي والحياة العقلية للعرب عامة،فأحاديث جذيمة الأبرش أساطير الزباء ..والخوزق والسدير والتغني بهما وبعظمهما ،والأقاصيص حول سنمار باني الخورنق والأمثال التي ضربت فيه،ويوما النعمان :يوم نعيمه ويوم بؤسه،كل هذه وأمثالها شغلت جزءا كبيرا من الأدب العربي،وكلها تتعلق بأدب الحيرة وحياتهم".(22)
إذن فإن القصص الفارسية شاعت في أرض الجزيرة وفي قريش ،ومما لا شك فيه أن القصص كان بعضها دينيا .
"جاء في سيرة ابن هشام أن النضر بن الحارث(23) كان من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا فذكر بالله وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله ، خلفه في مجلسه إذا قام ،ثم قال :أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه ، فهلم إلي ،فأنا أحدثكم أحسم من حديثه !ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار، ثم يقول :بماذا محمد أحسن حديثا مني ؟ قال ابن هشام:وهو الذي قال-فيما بلغني-:"سأنزل مثل ما أنزل الله".(24)
ج-لفظة زندقة وانتشار الأديان الفارسية في جزيرة العرب
يوجد غموض كبير يحيط بأصل هذه الكلمة..
"فلفظ زنديق غامض مشترك قد أطلق على معان عدة، مختلفة فيما بينها على الرغم مما قد يجمع بينها من تشابه .فكان يطلق على من يؤمن بالمانوية ويثبت أصلين أزليين للعالم :هما النور والظلمة .ثم اتسع المعنى من بعد اتساعا كبيرا حتى أطلق على كل صاحب بدعة وكل ملحد".(25)
"..هنا يجب أن ننتبه إلى نقطة خطيرة لها أهميتها في تاريخ التفكير الديني إذ تطالعنا باللغة الفارسية كلمة "زندق" ونفهمها في الأصل كانت من معانيها تابع "الزند" ومن ثم نفهم أن الزندقة إنما نعت لا يعني قط الحيدة ولا يرادف معنى المروق وأن استعماله في معنى الإلحاد على العموم إنما هو معنى حدث بعد،فليس النعت إلا نعتا لأتباع وأهل كتاب مقدس بل "منزل" يحمل اسم "الزند" وليست الزندقة إلا تسمية كانت لأتباع الزند!".(26)
ويقول أحمد أمين في كتابه "فجر الإسلام"..
"ويقول ابن قتيبة في كتابه "المعارف" عند كلامه على أديان العرب في الجاهلية:"كانت النصرانية في ربيعة وغسان وبعض قضاعة ،وكانت اليهودية في حمير وبني كنانة وبني الحارث بن كعب وكندة ،وكانت المجوسية في تميم منهم زرارة ،وحاجب ابن زرارة ومنهم الأقرع بن حابس،كان مجوسيا،وكانت الزندقة في قريش،أخذوها من الحيرة": وظاهر من تعبيره هذا أن الزندقة التي يعنيها دين خاص من أديان الفرس بدليل قوله إنهم أخذوها من الحيرة ":وظاهر من تعبيره هذا أن الزندقة التي يعنيها دين خاص من أديان الفرس بدليل قوله إنهم أخذوها من الحيرة ،والحيرة كانت تحكم حكم الفرس كما علمت.وقريب من هذا ما قاله الجوهري في الصحاح :الزنديق من الثنوية وهو معرب والجمع الزنادقة ،وقد تزندق ،والاسم الزندقة. فظاهر من هذا أن الزندقة مذهب خاص كاليهودية والنصرانية..ويقول بعضهم :إن كلمة زنديق في الأصل معناها بالفارسية الذي يتبع زند، ثم أطلق على المانوية ،لأنهم كانوا يأخذون زند وغيره من الكتب المقدسة، ويشرحونها على مذهبهم بطريقة التأويل".(27)
بل إن لفظة "زندقة" كانت تستخدم للدلالة على أتباع "ماني" أو أتباع "الزند" حتى وقت متأخر، ففي أواخر حكم "المهدي" بداية من163هجرية وهي الفترة التي اشتدت فيها ملاحقة الزنادقة، كان من ضمن الوسائل التي يستخدمها الذين يحاكموا الزنادقة للتأكد من توبتهم..
" أن يجعلوهم يبصقوا على صورة "ماني".(28)
د-مدرسة "جند يسابور" وانتشار الزرادشتية في قريش!!
كما عرفنا بوصول الدين الفارسي إلى العرب وإلى قريش خاصة، فيبدو أن بعض القريشيين ممن انبهروا بالدين والحضارة الفارسية أرادوا المزيد من المعرفة والتميز ..
"فإن أسواق الحيرة كانت للتجارة العربية مقصدا ..ومدرستها "جند يسابور" التي شيدها سانور بن أردشير التابع للدين الزرادشتي، كانت كعبة ترسل إليها الطبقة الثرية من قريش أبنائها..كالحارث بن كلدة وابنه النضر بن الحارث من أطباء العرب".(29)
وتتابع أبكار السقاف في كتابها "الدين في شبه الجزيرة العربية" الحديث عن مدى التغلغل للدين الفارسي في الجزيرة العربية وقريش خاصة..
"..حيث كانت الزردشتية تخيم دينا رسميا، كان يمتد إلى بطون شبه الجزيرة عامة وإلى مكة خاصة التيار الزرادشتي متوغلا بدين المحور منه "نبي رسول" عنه رسخت في المعتقد الفارسي العقيدة بأنه جاء آخر الزمان وأن عليه تنزل وحي السماء بواسطة "الروح" أو كبير الملائكة الذي أسرى به إلى السماء ليعود إلى الأرض بشيرا بالدين الحق…وهادرا امتد هذا التيار لينصب في جوانب من القلب القريشي حيث استقر فيها هذاالدين الذي عرف نسبة إلى كتابه المقدس "بالزندقة" وعرف أصحابه بالزنادقة-ومن هنا علق بالوعي الزمني أن في قريش قد انتشرت "الزندقة" لتسطر يد الزمن أن قريشا قد تزندقت!".(30)
هنا تتضح الصورة كاملة لمدى انتشار الدين الفارسي في قريش، وإلى أي مدى كان قريب وقوي التأثير على تفكير محمد، مثل اليهودية والمسيحية، فلم تكن قريش بعيده عن التأثر بهذه الأديان، ولم تكن "الأمية" –في حالة ثبوتها- حجة تصلح لتعطيل القول بالتأثر والمعرفة بالتيارات والأديان المختلفة.
ه-سلمان الفارسي وغيره ممن كان يجالسهم نبي الإسلام
يعرف سلمان الفارسي بأنه هو الذي أشار على نبي الإسلام بحفر "الخندق" عند الغزوة التي عرفت بالاسم نفسه.
ولسلمان مكانه كبرى في الإسلام ويتضح ذلك من الكلمة المشهورة لنبي الإسلام "سلمان منا أهل البيت".(31).

لكن هل امتد دور سلمان لنواحي أخرى مهمة ؟
يقول لوي ماسينيون في بحثه "سلمان الفارسي والبواكير الروحية للإسلام في إيران" المنشور ضمن كتاب "شخصات قلقة في الإسلام" الذي يحوي أكثر من دراسة ألف بينها وترجمها د.عبد الرحمن بدوي..
"وعلم التفسير إنما ولد في العراق، والكوفة خاصة. فبعد التفسير المنسوب إلى ابن عباس-والذي لم يبق به شيء موثوق بصحته-نجد تفسير الضحاك بن مزاحم(المتوفى سنة 105هجرية) في خمس روايات .وإنا لنرى الضحاك هذا ،الذي وجدنا من قبل أنه كان يعترف باعتزاء سلمان إلى النبي ،يفسر الآية 103 من سورة النحل "ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر…" قائلا إن "الأعجمي" أستاذ محمد "غير العربي" الوارد في هذه الآية يقصد به سلمان ،(وقال بهذا من بعد البيضاوي ،وتاريخ إسلام سلمان غير موثوق به إلى حد يضطر أنصار هذا التفسير إلى عد هذه الآية مدنية والمفروض أنها مكية).فكأن الضحاك كان يعتقد إذا أن سلمان أعان النبي على معرفة الكتب الدينية السابقة على ما أنزل إليه.وهذا محتمل جدا من الناحية التاريخية ،وفي هذه الحالة يكون سلمان قد شهد نشوء أول تأويل مما نجد في القرآن نفسه بعض تباشير منه خليقة بالنظر عند من يظنون أن محمدا قد أراد أن يشارك بشخصه في الأحوال الوجدانية النموذجية للأنبياء السابقين وذلك بقصها وروايتها (طه:30، التحريم:4،10=تباشير مذهب الشيعة)".(32)
والآية كاملة..
"ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين" النحل 103
فيوجد إذن شكوك حول الدور الذي لعبه سلمان مع نبي الإسلام، والذي إذا كان صحيحا سيكون من المؤكد أن سلمان كان مصدرا رئيسيا للكثير من العقائد الفارسية التي دخلت في تكوين الإسلام.
والبعض يقول بشخص آخر هو المقصود من الآية..
فيذكر "القرطبي" في تفسيره..
"اُخْتُلِفَ فِي اِسْم هَذَا الَّذِي قَالُوا إِنَّمَا يُعَلِّمهُ ; فَقِيلَ : هُوَ غُلَام الْفَاكِه بْن الْمُغِيرَة وَاسْمه جَبْر , كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ … وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيّ عَنْ عِكْرِمَة وَقَتَادَة أَنَّهُ غُلَام لِبَنِي الْمُغِيرَة اِسْمه يَعِيش , وَكَانَ يَقْرَأ الْكُتُب الْأَعْجَمِيَّة ..الْمَهْدَوِيّ عَنْ عِكْرِمَة : هُوَ غُلَام لِبَنِي عَامِر بْن لُؤَيّ , وَاسْمه يَعِيش . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن مُسْلِم الْحَضْرَمِيّ : كَانَ لَنَا غُلَامَانِ نَصْرَانِيَّانِ مِنْ أَهْل عَيْن التَّمْر , اِسْم أَحَدهمَا يَسَار وَاسْم الْآخَر جَبْر . كَذَا ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ وَالْقُشَيْرِيّ وَالثَّعْلَبِيّ ; إِلَّا أَنَّ الثَّعْلَبِيّ قَالَ : يُقَال لِأَحَدِهِمَا نَبْت وَيُكَنَّى أَبَا فُكَيْهَة , وَالْآخَر جَبْر , وَكَانَا صَيْقَلَيْنِ يَعْمَلَانِ السُّيُوف ; وَكَانَا يَقْرَأْنَ كِتَابًا لَهُمْ . الثَّعْلَبِيّ : يَقْرَأْنَ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل . الْمَاوَرْدِيّ وَالْمَهْدَوِيّ : التَّوْرَاة . فَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرّ بِهِمَا وَيَسْمَع قِرَاءَتهمَا , وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ : يَتَعَلَّم مِنْهُمَا , فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة وَأَكْذَبَهُمْ . وَقِيلَ : عَنَوْا سَلْمَان الْفَارِسِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; قَالَهُ الضَّحَّاك . وَقِيلَ : نَصْرَانِيًّا بِمَكَّة اِسْمه بَلْعَام , وَكَانَ غُلَامًا يَقْرَأ التَّوْرَاة ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ الْقُتَبِيّ : كَانَ بِمَكَّة رَجُل نَصْرَانِيّ يُقَال لَهُ أَبُو مَيْسَرَة يَتَكَلَّم بِالرُّومِيَّةِ , فَرُبَّمَا قَعَدَ إِلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ الْكُفَّار : إِنَّمَا يَتَعَلَّم مُحَمَّد مِنْهُ , فَنَزَلَتْ . وَفِي رِوَايَة أَنَّهُ عَدَّاس غُلَام عُتْبَة بْن رَبِيعَة . وَقِيلَ : عَابِس غُلَام حُوَيْطِب بْن عَبْد الْعُزَّى وَيَسَار أَبُو فَكِيهَة مَوْلَى اِبْن الْحَضْرَمِيّ , وَكَانَا قَدْ أَسْلَمَا . وَاَللَّه أَعْلَم"
فلو أخذنا بالتفسير القائل بأن شخص آخر غير "سلمان" هو المقصود من الآية، فإننا في كل الأحوال نستنتج من هذه الآية شيوع خبر مجالسة نبي الإسلام للعديد من "العجم" الذي كان لهم الفضل بتعريفه على العديد من العقائد التي ساهمت في تكوين الدين الإسلامي.

الصفحة الرئيسية