بوتقة ظهور
الإسلام
جرجس سال وهاشم العربي
استهلال
هذا الكتاب . مقالة في الاسلام :
هو دليل كامل للمشتغلين بدراسة العقائد . ومرشد طويل الباع للعاكفين على مقارنة الاديان . وهو مرجع يعول عليه ولا يستغنى عنه لمن رام معرفة حقة عن الاسلام في بيآته السابقة والناشئة واللاحقة . وفي تأثراته الجمّة بما سبقه وعايشه من الملل والنحل في أدق أركانه وأصوله وفروعه . وهو بالتالي وثيقة تاريخية سيبقى على مر الايام , لانه مستمد قيمته من الموضوع الخطير الذي ينتصب حياله , ومن الحق الذي يصبو اليه ويعلن عنه .
فلم يغفل فيه كاتبه ناحية من نواحي الاسلام الا سلط عليها أنوار العقل ‘ وأصول البحث العلمي النزيه . وأعطى كل ناحية فيه ما تستحقه من التحليل والبيان بموضوعية خالصة , وأمانة قاطعة . فجاء محكم الفكرة , قوي الحجة , عميق النظرة . وكان فيه كاتبه ملتزم النصفة بادي النزاهة . بعيدا عن الهوى والهوس والغرض مما حمل الغلاة في الدين من مواطنيه على اتهامه بالمروق عن مسيحيته .
عرّب هذا الكتاب السيد
هاشم العربي الشهير ثم قام بتذييل فصوله الثلاثة الأولى بأبحاث منه جامعة مانعة
فجاءت مع الكتاب " كتابا برأسه كبير الفائدة يغني مطالعه ودارسه عن كثير من مطولات
الكتب العربية ، ويقفه على المهم من تاريخ العرب ، ويلخص له بوجيز العبارة وزخم
المعاني : ماهو الاسلام وما هو القرآن " .
يسرنا ونحن نقدم هذا
السفر النفيس الذى هدانا وألهمنا الله الى اخراجه من جديد أن نزفه الى قراء العربية
عموما والى مراسلينا الاعزاء خصوصا ، وأن ننوه الى الأمور التالية :
أولا : لاحظنا في
الكتاب بعض الأخطاء اللغوية أو المطبعية واشارات الى بعض العادات والاحكام ،
والحكام والنظم التي كانت سائدة أيام المؤلف وعفي عليها الزمن فتركناها كما هي
أمانة للنقل وحفظا على سلامة التأليف .
ثانيا : أصدرنا الكتاب
في أربعة أجزاء بحسب الموضوعات الرئيسية المدرجة فيه ثم اخترنا لها عناوين تتناسب
وموضوع كل جزء منها وذلك على الشكل التالى :
1.
حقائق عن العرب في
الجاهلية .
2.
بوتقة ظهور
الاسلام.
3.
أسرار عن القرآن
.
4.
جذور الشرع في
الاسلام.
ثالثا: كان
الكتاب متسلسل الفصول والأرقام ، وكانت الذيول الثلاثة المشار اليها مدرجة في آخرة
، فأثبتنا كل ذيل مع الفصل الذى يتصل به ، وجعلناهما جزءا واحدا . وتلافيا لاضطراب
تسلسل أرقام الصفحات استعضنا عنها بأرقام عربية ، أما أجزاء الكتاب الباقية فقد
جعلنا منها جزءا واحدا وهو الرابع والاخير من الكتاب.
رابعا:
استخرجنا للكتاب اسئلة لكل فصل وذيل وأثبتناها في نهايتهما . فجاءت الأجزاء الأربعة
مسلسلات دراسية ومسابقات بحيث يتسنى لكل مشترك فيها الحصول على جائزة مفيدة من
كتبنا القيمة في حالة نجاحه.
نسأل الله
العلي العظيم أن يتقبل عملنا المتواضع هذا ويسبغ عليه من روحه ستر الكمال والبركة
وعين الرضى لتعميم فائدته وليؤول المجد كله لله بربنا يسوع المسيح.
الناشرون.
وفي طريق الخطاي لم يقف
مزمور 1: 4
الفصل الثاني
في البحث
عما كانت عليه حال النصرانية واليهودية أيام ظهور محمد والطرق التي سلكها محمد
لتأسيس دينه وما أعانه على ذلك من الشؤون .
اذا أنعمنا
النظر في ما كتبه مؤرخو الكنيسة منذ القرن الثالث للميلاد الفينا حال الأمة
النصرانية لذلك العهد بعيدة جدا عما وصفها به بعض المصنفين وذلك أنها فضلا عن كونها
لم تكن مؤيدة بالنعمة الفعالة والغيرة والتقوى راسخة على اساس التعليم الصحيح وعلى
الاتحاد وثبات الايمان كما زعموا ، كان رعاتها مشتغلين بالمطامع الشخصية يتخذون
العويص من مسائل الدين ذريعة للمشاجرات والمماحكات وقد انقسموا فيها الى فرق وبدع
لا تعد ونفوا من صدورهم ما ندب إليه الإنجيل من الموادعة والمحبة والمؤاساة وعدلوا
إلى المناوآت والضغائن وسائر أنواع المفاسد حتى أنهم بينما كانوا يتماحكون في
أوهامهم في الدين اضاعوا جوهر الدين نفسه وكادت مشاجراتهم فيه تستأصله بتة ومعظ ما
ننكره الآن على بعض فرق النصرانية من باطل العقائد والفساد انما نشأ وتأصل في تلك
الأعصر المظلمة فعاد بالنفع على الاسلام وأعان على انتشاره ونخص من تلك العقائد
بالذكر عبادة القديسين والصور فانها كانت قد بلغت وقتئذ مبلغاً يفوق كل ما نراه
اليوم عند بعض فرق النصارى .
أما
الكنيسة الشرقية فانها أصبحت بعد انفضاض لمجمع النيقاوي مرتبكة بمناقشات لا تكاد
تنقضي وانتقض حبلها بمماحكات الاريوسيين والنساطرة واليعقوبية وغيرهم من اهل البدع
, على أن الذي ثبت بعد البحث أن كلا من بدعتي النساطرة واليعاقبة كانت بأن تدعى
اختلافا في لفظ التعبير عن المعتقد أولى من ان تدعى اختلافا فى المعتقد نفسه وبأن
تدعى حجة يتعنت بها كل من المتناظرين على الآخر أولى من أن تدعى سبباً موجباً
لالتئام مجامع عديدة يتردد اليها جماعة القسس والاساقفة ويتماحكون ليعلي كل واحد
منهم كلمته ويحيل القضايا الى هواه . ثم ان نافذى الكلمة منهم واصحاب المكانة في
قصر الملك كان كل واحد منهم يختص نفراً من قواد الجيش أو من اصحاب الخطط يكون له
عليهم الولاء ويتقوى بهم وبذلك صارت المناصب تنال بالرشي والنصفة تباع وتشترى
جهارا.
أما
الكنيسة الغربية فقد كان فيها من تهالك داماسوس واورسكينوس في المشاحنة على منصب
الاسقفية ، أي اسقفية رومة ما افضى الى احتدام نار الفتنة وسفك الدماء بين حزبيهما
حتى ان الوالي لما رأى انه لا قبل له بقمع هذا الشر انصرف عن المدينة وترك
المتنازعين وشأنهما وكان الفوز بعد ذلك لداماسوس . قيل استحر القتل في الناس في هذه
النازلة حتى بلغ عدد القتلي في كنيسة سيكينيوس وحدها مائة وسبعة وثلاثين في يوم
واحد . ولم يكن من العجيب ان يشتد حرصهما على تبوّؤ ذلك المنصب المهم لانه كان من
يتبوأة يصبح ذا دنيا عريضة وينال من صلاة السيدات الرومانيات ثروة وافرة فيخرج في
المواكب والابهة بالمركبات والمحفات مسرفا في ترف العيش ولا اسراف الملوك خلافاً
لما كان عليه اساقفة المدن الصغيرة من الاقتصاد والزهد ولو بعض الشيء .
وكان اكثر
ما تنشأ هذه المناقشات عن القياصرة انفسهم ولا سيما القيصر قسطنطيوس فانه اذ لم
يقدر أن يميز بين صحيح الدين المسيحى وخرافات العجائز رَبك الدين بكثير من المسائل
الخلافية بدلا من أن يلم شعث أهل الخلاف فيه فاسعر بذلك نار مشاحنات عديدة كلما
خمدت اضرمها بغيرها مما لا نهاية له . ثم ازدادت هذه الحال سوءاً على عهد
يوستنيانوس فانه لم يؤثر أن يقصر في الغيرة على الدين عن اساقفة القرن الخامس
والسادس حتى كان اذا قضى بقتل من يخالفه في المذهب لا يرى انه جاء به شيئا
فرياً.
فلما فشا
في أولياء الأمور وأرباب الدين هذا الفساد في العقائد والأخلاق والسيرة نشأ عنه
بالطبع فساد سيرة العامة من الناس فأصبحوا على اختلاف طبقاتهم وليس لأحدهم هم سوى
جمع الأموال من الوجوه المحللة أو المحرمة ثم اتلافها في سرف العيش وانتهاك حرمات
الله.
هذا ما كان
عليه حال النصرانية في غير بلاد العرب أما حالها في بلاد هذه الأمة التي هي موضوع
بحثنا فلم تكن خيراً من ذلك فقد اشتهرت هذه البلاد منذ القديم بكثرة البدع ولعل ذلك
مسبب عن حرية القبائل واستقلالهم . فكان في نصارى العرب قوم يعتقدون أن النفس تموت
مع الجسد ثم تنشر معه في اليوم الآخر وقيل أن أريجانوس هو الذي دس فيهم هذا المذهب
. وكم وكم من بدعة انتشرت في جزيرة العرب حتى لا نقول نشأت فيها فمن ذلك بدعة كان
اصحابها يقولون بألوهية العذراء مريم ويعبدونها كأنما هى الله ويقربون لها اقراصاً
مضفورة من الرقاق يقال لها كلّيرس وبها سمى أصحاب هذه البدعة كليريين.
وهذه
المقالة بألوهية مريم كان بعض أساقفة المجمع النيقادي يقولون بها أيضاً فانهم كانوا
يزعمون ان مع الله الآب الهين هما عيسى ومريم ومن هذا كانوا يدعون بالمريميين .
وكان بعضهم يذهب إلى انها تجردت عن الطبيعة البشرية وتألهت . وليس هذا ببعيد عن
مذهب قوم من نصارى عصرنا قد فسدت عقيدتهم حتى صاروا يدعونها تكلمة الثالوث كأنما
الثالوث ناقص لولاها . وقد أنكر القرآن هذا الشطط لما فيه من الشرط (1) ولا جرم ثم
اتخذه محمد ذريعة للطعن في عقيدة التثليث.
وفضلاً عن
ذلك فقد اجتمع أيضا في جزيرة العرب عدد وافر من الفرق المختلفة الاسماء لجأوا اليها
هرباً من اضطهاد القياصرة فادخل محمد كثيراً من عقائدهم في دينه كما سترى ، أما
اليهود الذين كانوا في سائر البلاد أذلاء لا يعتد بهم فقد قويت شوكتهم في بلاد
العرب حيث لجأ كثير منهم على أثر خراب بيت المقدس وهوَّدوا كثيراً من ملوك العرب
وقبائلهم . ولذا كان محمد في بادئ امره يداريهم حتى أنه أخذ عنهم كثيراً من
مقالاتهم ورسومهم وعاداتهم تألفاً لهم لعلهم يشايعونه لكنهم جرياً على سننهم
المألوفة في العناد لم ينقادوا له بل ناصبوه العداوة وكانوا من أشد خصمائه يحاربونه
ويكايدونه دائماً ولم يتأت َّ له قهرهم إلا بعد المشقة والعناء وتعريض نفسه لتهالك
أوودت به آخر الأمر . وما ذكرناه من شدة بغضهم له ولَّج في قلبه آخر الأمر بغضة لهم
تضاهيها فصار يعاملهم في باقي عمره باقبح ما كان يعامل به النصارى ويكثر الطعن فيهم
في قرآنه وقد تابعه المسلمون على ذلك إلى يومنا هذا فهم يفرقون بين اليهود والنصارى
ويعدون اليهود أحقر أمه على وجه الأرض وأذاها.
(1)
سورة المائدة :
116
ومما زاد فى خور قوى
الروم انهماكهم كافةً في الترف وتخنثهم وانحطاطهم عن فتوة آبائهم وزاد على ذلك
الرهبانية والاضطهاد وكلاهما من أعظم أسباب الدمار ..
أما الفرس فانهم كانوا
قد أخذوا في الانحطاط من قبل محمد بمدة وذلك لانشقاق عصاهم بسبب المذاهب المنكرة
التي نشرها في بلادهم ماني ومزدك . أما مذهب ماني فمعروف (1) ، وأما مزدك فانه ادعى النبوة على عهد
خسروا قباذ وزعن أن الله بعثه ليأمر
بشيوع النساء والأموال بين الناس كافة لأنهم كلهم أخوة أولاد أب واحد (2) ، وكان
يتوهم أن ذلك يحسم أسباب المنازعات من بينهم لانها انما تحدث بسبب النساء والمال
فانقاد قباذ إلى مذهب هذا المضل وأباح له على ما تقتضيه هذه السنة الجديدة أن يخلو
بالملكة زوجته الا ان ابنه انو شروان الجأ مزدك بعد الجهد الجاهد الى العدول عن ذلك
ولو لم يتلاف الأمر بعد أبيه بقتل مزدك وأصحابه والمانوية أيضاً لا فضت هذه البدع
بمملكة الفرس إلى وشيك الدمار . وفي عهد انو شروان هذا ولد محمد ، وكان انو شروان
يلقب بالعادل وهو لعمري خليق بهذا اللقب وهو آخر من كان من الأكاسرة أهلاً للملك
لأن خلفاءه ما زالوا يتنازعونه من بعده حتى دمرته العرب . وذلك أن هرمز ابنه كان
شديد الفظاظة والعنف حتى أبغضته الرعية وثار عليه اخوة زوجته فسملوا عينيه واضطر أن
ينزل عن الملك لابنه ابرويز وكان قد خرج عليه بإغراء بهرام ثم مات هرمز مخنوقا .
أما ابرويز فانه اضطر بعد ذلك بقليل أن ينزل عن الملك لبهرام لكنه استنجد بموريقس
عاهل الروم فاسترده وبقي فيه زمنا ثم اظهر الجور فى آخر مدته فابغضته الرعية
وراسلوا العرب في ذلك سراً وآخر الأمر خالعه ابنه شيرويه وسجنه ثم قتله وتعاقب على
المملكة بعده ستة ملوك في مدة ست سنين ينازع أحدهم الآخر فتضعضعت لذلك أحوال الفرس
بتة.
(1)
ظهر ماني في أيام
سابور بن اردشير وقتله بهرام بن هرمز بن سابور سنة 277 للميلاد . أخذ دينا بين
المجوسية والنصرانية وكان يقول بنبوة عيسى وينكر نبوة موسى قال محمد الوراق
صاحب الفهرست
ان
ماني زعم
أن العالم مصنوع من أصلين قديمين هما النور والظلمة وانهما أزليان سرمديان وانه ما
من شيء الا وهو من أصل قديم .. انظر ايضا كتاب الملل والنحل .
ولا عبرة
بما فعلوه أيام ابرويز من الاغارة على الشام ونهب بيت المقدس ودمشق لأن ذلك لم يكن
لقوتهم بل لوهن الروم يومئذ حتى إذا زحف عليهم هرقل بجيش الروم أخرجهم عما كانوا
استولوا عليه من بلاده وعن شيء من بلادهم أيضاً ، وكذلك لا يعتد بما كان لهم من
قليل السلطان في اليمن أيام كانت العرب مستضعفة لتفرُّق كلمتها حتى نصبوا فيه
الملوك الأربعة المتقدمين علىمحمد فانه لما اجتمعت كلمة العرب بالإسلام غلبوهم
وهزموهم في كل المواقع ولم يمض إلا قليل من السنين حتى قهروهم تمام القهر وثلوا
عرشهم .
وبينما كان
الروم والفرس على ما وصفنا من الضعف والانحطاط أيام محمد كان العرب يستفحل أمرهم
وينمو عديدهم بمن كان ينضم إليهم من مملكة الروم نفسها إذ كان عنف الحزب المتغلب
فيها يضطر كثيراً من أهلها أن يهاجروا الى بلاد العرب اذ كانت وقتئذ بلاد الحرية
وملجأ أميناً لمن لم يكن له في بلاده حرية في دينه ولا راحة في دنياه . ثم ان العرب
فضلا عن كثرة عددهم لم يكن ترف الروم والفرس ورخاء عيشهم معروفا عندهم بل كانوا
بعكس ذلك متعودين جميع أنواع المشاق وشظف العيش والتقتير لا يكادون يأكلون لحماً
ولا يشربون خمراً ولا يفترشون غير الأرض . وكان ماهم عليه من الهيئة السياسية من
أعون الذرائع لنجاح محمد في مأخذه الذي شرع فيه وذلك أن تشعب قبائلهم وعدم انقيادهم
لرئيس واحد يجمع كلمتهم كان مما لابد منه في أول الأمر لاذاعة دينه وتأسيس سلطانه
اذ لو كانوا متضامنين متحدين مجتمعي الكلمة لما كان من المحتمل أن يتأتي له ذلك
لكنهم لما دانوا بدينه أصبح اجتماع القبائل وتضامها مما لا بد منه أيضاً إذ لم يكن
لولاه ليتأتي لهم من الفتوح وعظمة الشأن ما تأتي .
والذي يترجح عندى أن
هذه الحال أعني ما كان عليه المشرق من الاضطراب في أمور السياسة والدين لم تكن
خافية على محمد فانه لكثرة تجوله في البلاد في أوائل أيامه بقصد التجارة لا بد أن
يكون قد وقف على الكثير منها حق الوقوف ولست أقول أنه كان يطمح ببصره من أول وهلة
إلى المدى البعيد الذي سمت إليه نفسه بعد ذلك حينما ساعده الحظ ولكن لا يبعد انه
بسبب اختلال تلك الأحوال كان يحدّث نفسه بشيء من النجاح فيما يتصدى له إذ كان من
الحذق والدهاء بمكان حتى كان قادراً على الانتفاع بكل حادثة تحدث وعلى أن يحول إلى
فائدة نفسه ما عساه أن يكون تهلكة لغيره ، وأعلم أن طريقه لم تكن في أول امره سهلة
بل كانت وعرة منذ مولده إلا انه دمثها في قليل من الزمان . وذلك ان أباه عبد الله
وهو ثالث أولاد عبد المطلب لا بكرهم كما وهَم قوم، أدركته الوفاة في حياة عبد
المطلب وترك زوجته وابنه محمدا في فاقة لأنه لم يكن له من المال سوى خمسة أبعرة
وجارية حبشية (1) وكان محمد عند وفاة أبيه طفلاً فكفله جدّه عبد المطلب مدة حياته
ولما حضرته الوفاة أوصي به أبا طالب وهو بكر أولاده وأخو عبد الله من نفس أمه فكفله
أبو طالب أحسن كفالة ودرّبه في التجارة لأنه كان تاجراً واستصحبه لذلك إلى الشام
ولم يكن له من العمر وقتئذ سوى ثلاث عشرة سنة ثم حسن لخديجة وهى أرملة ذات شرف ونسب
أن تتخذه فيخرج في تجارتها فخدمها محمد خدمة أرضتها حتى تزوجت به أخيرا فجعلته بذلك
نداً لأغنى أهل مكة .
(1)
أبو الفداء
فلما حصل
بهذا الزواج السعيد على ثروة واسعة وقع في خلده أن يضع ديناً جديداً أو كما قال هو
أن يعيد الدين الحق القديم دين آدم ونوح وموسى وعيسى وسائر النبيين (1) بأن ينسخ ما
كان عليه أكثر قومه من الشرك ويستأصل البدع التي زعم أن متأخرى اليهود والنصارى قد
أحدثوها في ذلك الدين ويردَّه إلى ما كان عليه من الخلوص أي الاقتصار على عبادة اله
واحد لا غير.
وليس من
غرضي هنا أن أقطع بالسبب الذي دفع محمداً إلى ركوب هذا الأمر هل كان محض هوس منه في
أمر الدين أم رام أن يتذرع به إلى الرئاسة وقضاء شهوات البدن كما ذهب إليه جمهور
مؤلفي النصارى . على أنه لا يمتنع
عندى أن يكون الأمر كما قالوا ولكنه من المحتمل أيضاً أن هذا الرجل لم يقصر مطامعه من أول وهلة على
ادراك تلك الغاية الشخصية لا غير ولا ينكر أن المقصد الذي بنى عليه دعوته وهو رد
الوثنيين من العرب إلى معرفة الاله الحق وعبادته دون غيره هو مقصد حميد شريف خلافاً
لما زعم أحد علمائنا المتأخرين من انه أبدل قومه من وثنيتهم ديناً آخر هو مثلها في
القبح .
ومما لا شك فيه أن
محمداً كان معتقداً حق الاعتقاد صحة الركن الأعظم من دينه أعني ركن التوحيد ولذا
كان جل اهتمامه موجهاً إليه وأما ما سواه من سائر أركان الإسلام وفرضة فإنما هي
توابع وملحقات نشأت عن ذلك الأصل بحكم الضرورة ولم تكن مما تعمد وضعه .
(1)
سورة البقرة :
122-131
فإذا تقرر
أن محمداً كان في سريرته مقتنعاً بصحة ركن التوحيد من دينه وهو الركن الذي زعم أنه
قد زاغ عنه الناس طراً لا الوثنيون فقط بل النصارى أيضاً على اختلاف فرقهم ممن
يتخذون عيستى إلها على ماهي حقيقة مذهبهم وممن فسدت عقيدتهم حتى عبدوا العذراء مريم
والقديسين والصور وكذلك اليهود الذين جعلوا عزرا ابناً لله كما عرفهم القرآن (1)
سهل علينا أن ندرك كيف خيل له أنه اذا أنقذ الناس من وهذة هذه الضلالات فيكون أتى
عملاً صالحاً يستحق المثوبة وكيف استدرجته المخيلة المتقدة التي لا يخلو منها
اعرابي أن يتوهم أن العناية الالهية قد ناطت به القيام بعبء هذا الأمر الخطير ولعل
هذا الوهم كان يزداد تأصلا في مخيله بما كان عليه من حب العزلة حتى طفق يجاور في
غار حراء بالقرب من مكة شهراً في كل عام .
ولمنكر هذا الهوَس من
محمد أن يقول كيف يكون محمد ذا هوس وقد أبدى من الحزم والحصافة في تتبع مقصده ما لا
يبيديه ذو هوس في الدين ولا يعقل صدوره من رجل محتد الدماغ.
(1)
سورة براءة :
30
فنجيب نعم ان المهوسين
لا يسلكون كلهم على نهج الرزانة والتحرز الذي سلكه محمد إلا أننا كثيرا ما رأينا
أناسا قبله قد حادوا عن مقتضى المعقول من جهة واحدة أو في أمر واحد وكانت أفعالهم
فيما سوى ذلك غاية في الحزم والسداد وبعد فانه لما كان انتشار الاسلام فجأة ونشأ عن
تغلب اصحابه على النصارى اندثار كنائس المشرق التي كانت قبله زاهية مزهرة كانت
كراهية النصارى لهذا الدين الذي عاد عليهم بالوبال أمراً لا بد منه فلا عجب والحالة
هذه أن يفرغوا جهده في تقبيحه وتهجين واضعه ووصفهما بأقبح الأوصاف إلا أن الحق يقال
أن الضرر الذى لحق بالنصرانية بسبب محمد كان على الأكثر ناشئا عن جهله لا عن خبث
طويته لأنه لم يكن له معرفة تامة بالنصرانية النقية الصحيحة وانما عرف من عقائدها
ما كان في غاية الفساد على عهده (1) فلا بدع أن يبطل أصالةً ما ظن أن اصلاحه مستحيل
.
(1)
" أي مذهب المريميين
والنساطرة وغيرهم من أصحاب البدع اللاجئين إلى بلاد العرب كما مر ".
وأما انه كان كسائر
بني جلدته شديد الميل إلى النساء فطرة فطرت عليها العرب فهو نفسه قد أقر بذلك (1)
وكثيرا ما عابه به خصومه من أهل الجدل منا واتخذوا من تعدد ازواجه حجة قاطعة على
فرط شبقه وهذا ما يلزم عنه عندهم انه كان شريراً ومن كان كذلك فهو بحكم الضرورة
كذاب وقد عزب عنهم ان تعدد الزوجات وان حرمته النصرانية كان في أيام محمد أمراً
مألوفاً عند العرب وغيرهم من أمم المشرق وما كان يعد من المنكرات ولا ينحط مقام من
يأتيه فلذا اباحة محمد بعض الاباحة لامته وهؤلاء يحتجون في أثبات حله بحجج كثيرة
اخصها أنه قد استحله رجال قد شهد لهم الناس كافة بالصلاح وكان بعضهم أنبياء (2)
وفضلاً عن ذلك فالفروض والأحكام المتعلقة بالنكاح والطلاق والخصائص الأخرى التي
خولها محمد لأمته بنص القرآن قد أخذت كلها عن شرع اليهود كما سترى ولذا ساغ له ان
يعدّها عادلة سديدة اذ هي مما يعلمه ويعمل به اصحاب دين موحي به من الله.
(1)
" وذلك قوله حبب إلي
من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة "
(2)
" اشارة إلى آباء
العهد القديم كابراهيم وداود وسليمان
وغيرهم " .
ومهما كانت
الأسباب التي حدَت محمداً إلى ما أقدم عليه فلا شك أنه قد توفرت فيه الشرائط التي
لا بد منها لأنجاز ما شرع فيه وقد شط مصنفو المسلمين في إطرائه واطنبوا في مدح
فضائله ديناً وأخلاقاً كالتقوى والصدق والعدل والسماحة والعفو والاتضاع والاقتصاد
وقالوا انه قد بلغ من سخائه انه قلما كان يُبقى بيده ما يزيد على حاجة عياله بل كان
كثيراً ما يعطي الفقراء مما أعده لعياله حتى كان لا يحول عليه الحول إلا وقد نفد كل
ما كان عنده وفي صحيح البخاري ما معناه ان الله عرض عليه مفاتيح كنوز الأرض فردّها
. ومع أن هذا الإطراء لا يخلو عندي من مظنة الغلوّ لورود الكثير منه عن تلقين الهوى
فمن الجائز ان نعتبر ان محمداً وهو رجل أعرابى قد نشأ في الوثنية ولم يكن عارفاً
بما يجب عليه حق المعرفة كان صالح الأخلاق ولم يكن من الشر والخبث على مايصفه به
خصومه .
لا جرم أن
من كان الخبث والدعارة بحيث يزعمون
فهيهات ان يتأتى له أن ينجح في أمر كالأمر الذي تجشمه محمد اذ لا بد له من شيء من
الرثاء والتستر . أما خلوص طويته فليس البحث عنه من ولايتي ولا خلاف في أنه كان في
غاية الحذق والذكاء بارعاً في فن التحبب والتودد إلى الناس وقد وصفه المؤرخون
الشرقيون بحصافة العقل وقوة الذاكرة وعزز هذه المواهب الطبيعية بما اكتسبه من معرفة
الناس والخبرة بهم وبما استفاده في اسفاره من الاختبار .
قالوا وكان قليل اللغو
دائم البشر لين الجانب سهل الخلق أنيساً يؤلف أصحابه كثير التواضع لمن هم دونه (1)
وزاد على ذلك كله ما كان عليه من حسن الخلق وظرافة الخُلق والتلطف في العشرة وهذه
ولا شك صفات قد أعانته كثيراً على ان يكون مقبولاً عند الذين يحاول استمالتهم
.
(1) أبو
الفداء .
أما
المعارف التحصيلية فمن المقرر انه لم يكن منها على شيء البتة.
وذلك أنه نشأ وتربى
على ما ألفته قبيلته من عدم الاكتراث بدراسة فنون البلاغة بل الاستخفاف بها لزعمهم
ان لسانهم أفضل الألسنة وهم انما كانوا يتقنون معرفته بالممارسة لا بالدراسة
ويقتصرون في تزيينه على حفظ قصائد من الشعر مما يروم ان فيه فائدة لهم في أحوال
التقلب والمعاش . على أن أمية محمد هذه فضلاً عن أنها لم تعد عليه بالضرر ولا صدته
عما كان شارعاً فيه فانه حوّلها إلى نفعه فزعم ان ما جاء به من ا لقرآن انما هو وحي
من عند الله وأنه يستحيل أن يكون هو الذي اختلقه وزوره اذ لا يقوم في العقل أن
أمياً يستطيع أن يصنف كتاباً فيه ما في القرآن من البراعة لفظاً ومعنى (1) وبذلك
دفع عن نفسه حجة دامغة من حجج خصومه وصار أهل ملته يفتخرون بأمية صاحبهم بدلاً من
أن يخجلوا منها واتخذوها برهاناً مبيناً يثبت انه رسول الله ولا يستنكفون من أن
يدعوه النبي الأمي كما دعاه القرآن (2).
أما الدين الذي جاء به
والغاية التي توخاها فيما ادعى نزوله عليه من الوحي الذي أحكم وضعه على وفاق اغراضه
فذلك سيكون موضوع بحثنا في الفصول التالية . أما ما بقى من هذا الفصل فسأتكلم فيه
بما يمكن من الإيجاز من الطرق التي سلكها لإتمام الأمر الذي شرع فيه وما عرض له من
الحوادث التي أعانته على انجاح مسعاه .
وذلك انه قبل أن يتصدى
للدعوة العامة رأى أنه لا بد له أن يبتدئ أولاً بدعوة أهل بيته فلما كان ذات يوم
معتزلاً مع عترته في غار حراء الذي مر ذكره كما كان يفعل من قبل كاشف زوجته خديجة
بمبعثه واعلمها بظهور جبريل له وبأنه أخبره ان الله بعثه رسولاً ثم تلا عليها بعض
فقرات (3) وادعى ان الله أنزلها عليه على يد جبريل وقص عليها ما جرى له مع جبريل
المذكور في ظهوره هذا الأول
(1)
أنظ سورة العنكبوت :
47-50 وتفسيرها
(2)
سورة الأعراف : 156-
158
كما هو مسطور في كتب السيرة المحمدية ففرحت خديجة بذلك وقالت له ابشر فو الذي نفسي بيده اني لأرجو ان تكون نبي هذه الامة وللوقت اخبرت ابن عمها ورقة بن نوفل بما سمعته وكان نوفل نصرانياً فكان يقرأ ويكتب بالحروف العبرانية زكان له أيضاً حظ من العلم بالتوراة والانجيل فوافقها على ما ذهبت اليه من أمر بعلها وقال لها ان الناموس (1) الذي كان يأتي موسى النبي قد أتى الآن محمداً (2) وكان هذا في شهر رمضان من السنة الاربعين من عمر محمد فدعيت سنة مبعثه . ثم لما آنس حسن هذه البداءة جرَأه ذلك على استتمام مسعاه فشرع أولاً في دعوة الأفراد لانه خشى ان يخاطر بالامر كله ان اعلنه للناس فجأةَ فلم يمضِ الا قليل من الزمان حتى آمن به نفر من أهل بيته وهو زوجته خديجة ومولاه زيد بن حارثة ( فأعتقه (3) فصار اعتاق العبيد اذا اسلموا سنة للمسلمين ) وابن عمه عليُ ابن أبي طالب وهو وقتئذ مراهق فكان بعد ذلك يقول عن نفسه انه أول المؤمنين غير معتد بخديجة وزيد . ثم تصدى بعد هذا لدعوة عبدالله بن أبي قحافة المكي أبا بكر وهو من ذوي الوجاهة في قريش وكان محمد قد ادرك ان انقياد هذا الرجل لدعوته مما يروج بضاعته كما جرى الامر بعد قليل فانه لما آمن به أبو بكر
(1) قال المعرب الناموس لفظ معرب من
اليونانية وأصله فيها نومس ومعناه شرع (2) أبو الفداء (3)
أبو الفداء
استمال نفراً من وجهاء مكة وهم عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوَام وطلحة بن عبيدالله الى الاقتداء به وهؤلاء الستة من زعماء الصحابة مع نفر آخرين هم الذين آمنوا بمحمد في مدة السنين الثلاث الأُول من مبعثه فلما رأى في نهاية هذه المدة انه قد صار له حزب كافِ للقيام بنصرته كفَّ عن كتمان دعوته وصرّح ان الله أمره ان يصنع صاعاً من طعام وان يجمع له بني عبد المطلب حتى يكلمهم ويبلغهم ما أمر به فدعاهم وهم نحو من أربعين رجلاً فلما همّ محمد ان يكلمهم نهض عمه أبو لهب فخاطبهم بما حملهم على التفرق قبل استماع كلامه فاضطرَّ ان يدعوهم ثانية في الغد فلما اجتمعوا خاطبهم فقال ما أعلم انساناً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني ربي ان ادعوكم اليه فأيكم يوازرني على هذا الامر على ان يكون أخي ووصي وخليفتي فيكم فأحجم القوم جميعاً حتى قام عليٌّ فقال أنا اكون وزيرك عليهم فأخذ محمد برقبته وقال هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا فاندفع القوم يقهقهون ويقولون لابي طالب قد أمرك ان تسمع لابنك وتطيعه (2) فلم يزد
(1) سورة المدثر : 2 وتفسيرها (2) أبو الفداء
السنة العاشرة لمبعث محمد اخبر محمد ابا طالب ان الله لم يرض عن التحالف الذي عقدته قريش وانه سلط على الصحيفة أرضة (أي دودة الشجرة) فلم تدع فيها غير أسماء الله ولا يبعد ان يكون ذلك أمراً قد بلغه اليه أحد الناس سراً فخرج أبو طالب الى قريش واعلمهم بما سمع وعرض عليهم انه ان كان الامر كذباً دفع اليهم ابن اخيه وان كان صدقاً فلينتهوا عن القطيعة وينقضوا تحالفهم على بني هاشم فرضوا بذلك ثم نظروا في الصحيفة فاذا هي كما قال فتعجبوا من ذلك جداً ونقضوا التحالف
وفي هذه السنة مات ابو طالب وله من العمر بضع وثمانون سنة والذي عليه اكثر المؤرخين انه مات على الكفر الا ان آخرين يزعمون انه لما احتضر أسلم ويوردون ابياتاً من نظمه اثباتاً لزعمهم.
وبعده بثلاثة أيام وقيل بشهر حل بمحمد رزبئة أخرى وهي موت زوجته خديجة فدعيت هذه السنة عام الحزن (1) فازدادت قريش بعد موتهما ايذاء لمحمد ولا سيما نفر منهم منهم كانوا قبيل ذلك من اقرب الناس مودة اليه فاضطر ان يفر منهم الى موضع آخر فتحول الى الطائف وهي بلدة على ستين ميلاً الى الشرق من مكة ومعه مولاه زيد وهناك دعا رجلين من اشراف ثقيف سكانها الى دينه فلم يلبياه
(1) أبو الفداء وابن الشحتة
الامر بطمع في انه سيكون لحديثه من شديد الحرمة عند المسلمين ما صار له من ذلك بعد موته وأنت تعلم ايضاً انه لم يدع المعجزات قط فالاولى اذاً ان يقال انه جعل هذه القصة حيلة يرفع بها جاهه عند قومه وذلك بان يدَعي انه شافه ربه في السماء كما شافهه موسى في الطور وأنه تلقى منه توٌا بعض فروض ورسوم وكان قبل ذلك يقنعه من امته ان يؤمنوا ان ذلك كان يأتيه على يد جبريل
ومهما يكن من هذا فان أصحابه وجدوا هذه القصة أشد سخفاً من ان يصدقها أحدُ منهم وكانت سبباً لخذلانهم له حتى كادت تأول بامره الى البوار لو لم يقم أبو بكر بتزكيته فقال انه يصدقها (1) لان الصادق يعني محمداً قالها فعادت الى محمد ثقة أصحابه به بل زادت زيادة ضمنت له انه مهما قال بعد ذلك واقترح تلقى منه بالسمع والطاعة.
وعندي ان هذه الخرافة على ما فيها من السخف والحماقة هي من أدق الحيل التي دبرها محمد واعظم شئ رفع قدره الى المنزلة العالية التي بلغها بعد ذلك
وفي هذه السنة وهي التي يدعوها المسلمون عام الرضوان أتى مكة اثنا عشر رجلاً من أهل يثرب عشرة من الخزرج واثنان من الأوس فبايعوا محمداً في العقبة وهي تل الى الشمال من مكة. وهذه
(1) ولذلك دعي الصديق
البيعة تدعى بيعة النساء لا لأنها كان فيها نساء بل لان المبايعين لم يلزمهم فيها حمل السلاح للدفع عن محمد أو عن دينه كما لا يلزم النساء شئ من ذلك والحلف فيها هو عين الحلف الذي صارت النساء بعد ذلك يحلفن به كما تجده في القرآن (1) وهو ببعض تصرف ان لا يشركوا بالله شيئاً ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم (2) ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم ولا يعصوا النبي في معروف. فلما استوثق منهم في ذلك كله ردهم الى يثرب وبعث معهم واحداً من أصحابه اسمه مصعب بن عمير ليفقههم في أصول دينهم الجديد ويعلمهم رسومه.
فلما قدم مصعب يثرب استمال كثيراً من أهلها الى الاسلام وساعده على ذلك من كان قد أسلم بها من قبل وكان في من استمالهم رجل من أشرافها اسمه أسيد بن حضير وآخر اسمه سعد بن معاذ وهو أمير الأوس ثم أخذ الاسلام بعد ذلك يمتد ويفشو سرعةً حتى صار لا يخلو منه بيت في يثرب.
وفي السنة التالية وهي سنة ثلاث عشرة لمبعثه عاد مصعب الى مكة ومعه من مسلمي يثرب ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ونفر ممن لم يكن قد أسلم بعد فلما بلغوا مكة أرسلوا يعرضون على محمد ان
(1) سورة 6:12 (2) "وهو ما كلن بعض عرب الجاهلية يفعلونه فيقتلون اولادهم خوف الاملاق"
يكونوا من أنصاره وكان محمد وقتئذِ شديد الاحتياج الى ذلك لان اعداءه كانوا قد اشتدوا عليه في مكة حتى أصبح مقامه بها ذا خطرِ عليهِ فلذلك قبل ما عرضه عليه هؤلاء الرجال وواعدهم الاجتماع بهم بالعقبة. فلما جنه الليل وافاهم اليها ومعه عمه العباس ولم يكن العباس وقتئذ مؤمناً بابن أخيه الا انه كان يود نجاحه فقام فيهم خطيباً وقال يا معشر الخزرج ان محمداً منا حيث علمتم وقد منعناه من قومنا وهو في عزٍ ومنعة في بلده وانه قد أبى الأنحياز اليكم واللحوق بكم فان كنتم تقفون عندما دعوتموه اليه وتمنعونه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك وان كنتم ترون انكم مسلموه وخاذلوه فمن الآن فدعوه ’ فقالوا بل نمنعه ممن خالفه ولا نخذله ’ فقال محمد ابايعكم اذن على ان تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم واولادكم ودار الكلام بينهم واستوثق كل فريق من الآخر ثم سألوا محمداً فقالوا ان قتلنا دونك فأي شئ لنا ؟ فقال الجنة قالوا فابسط يدك فبسط يده فبايعوه (1) ثم ردهم الى يثرب بعد ان اختار منهم اثنى عشر رجلاً جعلهم على الباقين تقياء كما كان الحواريون بالاضافة الى باقي تلاميذ عيسى (2)
وكان محمد منذ ابتداء امره الى هذا الوقت (3) انما يتذرع لنشر دينه بذرائع مقسطة لا تتوجه عليه فيها لومة لائم فكان نجاح
(1) ابو الفداء (2) ابن هشام (3) "يريد وقت هجرته الى يثرب وهي الهجرة التي ابتدأ منها تاريخ المسلمين"
امره قبل الهجرة يجب لهذه العلة ان يعزى الى الاقناع لا الاكراه لانه لم يكن مأذوناً له قبل هذه البيعة اعني بيعة العقبة الثانية ان يكره احداً على الاسلام بل كان في كثير من السور التي ادعى انها انزلت عليه وهو بعد في مكة يصرح بانه ما عليه سوى البلاغ والانذار وانه لم يؤمر باكراه احد على الدخول في دينه وانه سواء عليه آمن الناس ام لم يؤمنوا وانما الامر لله فقط. وفضلا عن انه لم يأذن لاصحابه في الاكراه كان يحضهم ان يصبروا على ما ينوبهم من الاذى بسبب ايمانهم ولما أضطهد هو نفسه آثر ان يهجر مكة مسقط رأسه وان ينصرف الى يثرب على ان يقاوم مضطهديه. غير ان هذا التجلد والاناة لم يكونا في السنين الاثنتي عشرة التي مرت منذ دعوى النبوة سوى نتيجة ضعفه وقوة اعدائه ولذلك فانه اول ما اشتد ساعده بانصاره من اهل يثرب وامكنه ان يناهض اعداءه صرح بان الله قد أذن له ولانصاره ان يدفعوا عن انفسهم اذى الكفار (1) ثم لما استفحل امره لم يلبث حتى ادعى انه قد اذن له ان يبادئهم القتال ويقطع الشرك ويقيم الدين الحق بالسيف (2) وذلك انه تبين له بالخبرة انه لا يقدر ان يبلغ ما في نفسه بالسرعة المقصودة ما لم يكسر شوكتهم ويهد ركنهم دفعة واحدة كما عرف ايضاً ان كل من
(1) سورة الحج : 40 وتفسيرها (2) سورة الانفال : 40 "وجاء في الحديث قوله أمرت أن اقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله"
حدث أمراً جديداً اذا كان اعتماده على قوته فقط وامكنه الاكراه فقلما يكون عليه منه خطرُ (1) . وبناءً على هذا قال بعض اهل السياسة ان كل من كان من الانبياء شاكيٌ السلاح فاز وكل من كان منهم اعزل خاب وان موسى وقورش ورومولوس وغيرهم لم يتأتٌ لهم وضع شرائعهم واحكامهم وحمل الناس على الانقياد لها مدة مديدة لولا السيف . واول كلام في القرآن يبيح لمحمد حمل السلاح للدفع عن نفسه هو قوله في سورة الحج أذن للذين يقاتلون بانهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير . ثم أنزل في ذلك بعد هذه الآية آيات اخرى كثيرة .
اما جواز استخدامه للسلاح في سبيل الدفاع عن نفسه وكف عادية مضطهديه فالظاهر انه لا كلام فيه واما جواز اتخاذ السيف بعد ذلك لاقامة دينه فامر لا اتعرض لبت الحكم فيه في هذا الموضع على ان جواز تحكيم السيف في امور الدين او وجوبه من المسائل التي لم يتفق عليها ولا ريب ان اكراه البشر على الدخول في دين ما يدل على ان الدين الذي تتخذ مثل هذه الوسائط لنشره ليس نعم الدين . ومن الغريب ان كلاً من اصحاب الاديان المختلفة ينكر الاكراه على غيره الا انه يستجيزه لنفسه ولنشر دينه الخاص به
(1) "يريد انه لا خطر عليه من الاكراه اذا كان اعتماده على قوة السلاح"
زاعماً ان الدين الباطل لا يجب ان يقوم بالسيف لكن ذلك واجب للدين الحق ولذلك ترى ان الاكراه يأتيه من قدر عليه بمقدار ما ترى ان المكرهين يشكون منه . ومهما يكن من هذا فمن جملة الحجج الدامغة على ان الاسلام ليس من الله في شئ بل هو من وضع الناس انه ما قام ولا امتدَ الا بالسيف وان النصرانية هي من الله لانه لم يكن لها من سلاح غير الحق وبهِ غلبت قوات العالم كلها وذلك بعد ان لقيت ما لقيت من الاضطهاد وصدمات الاعداء في القرون الثلاثة الاولى فلم تتزعزع بل اضطرت قياصرة الروم انفسهم ان يعنوا لها في اخر الامر طائعين وتلك آية لم يبقَ بعد ذلك معنى لاستمرارها لان النصرانية اصبحت وهي متمكنة راسخة في البلاد والوثنية ملغاةُ شرعاً فاعان ذلك كثيراً في القرون التالية على انتشار النصرانية وبوار الوثنية .
وقد خرج بنا هذا الاستطراد عما كنا فيه فنرجع الى ذلك ونقول انه لما امن محمد على نفسه بما ابرم مع اهل يثرب من عهد التناصر صيالاً ودفاعاً امر اصحابه بالهجرة اليها (1) فخرجوا ارسالاً وتخلف هو وابو بكر وعلي وادعى انه لم يؤذن له بعد في الهجرة فحذرت قريش عاقبة هذا التخلف ورأوا ان صد محمد عن الفرار الى
(1) "ولهذا دعوا بالمهاجرين كما دعي اهل يثرب بالانصار لمناصرتهم اياه بعد بيعة
يثرب مما لا يسعهم اهماله فاجتمعوا في دار الندوة للتشاور في امره وعزموا على قتله بعد ان عرضت عليهم طرق اخرى اقل فظاعة من القتل يبلئون بها مأربهم فنبذوها (1) وعينوا لقتله غلاماً من كل بطن ليضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل كلها فلا تتصدى بنو هاشم للاخذ بثاره لانهم لا يقوون على قتال قريش كلها
فما كاد تواطؤهم هذا يتم حتى بلغ محمداً فادعى حينئذٍ ان جبريل هبط عليه وكاشفه بما عزمت عليه قريش وامره بالهجرة الى يثرب ودعا علياً وامره ان ينام على فراشه ويلتحف ببرده الاخضر وانما رام بذلك ان يكيد اعدائه ففعل عليُ كما امر وهرب محمد بمعجزة خارقة كما زعموا الى دار ابي بكر ولم يشعر المتواطئون على قتله مع انهم كانوا قاعدين له عند باب داره ينظرون من صبر الباب لكنهم رأوا علياً نائماً فتوهموا انه محمد فما برحوا يحرسون الباب حتى اصبحوا فلما هب عليُ من نومه تحققوا انهم قد كيدوا وخدعوا.
وسار محمد من دار ابي بكر الى غار بثور وهو جبل اسفل مكة الى الجنوب الشرقي منها وكان معه ابو بكر وعامر بن فهيرة مولى ابي بكر ووثنيُ اسمه عبد الله بن ارقط كانوا قد استأجروه ليدلهم على
(1) "رقد عددها البيضاوي في تفسير الآية 30 من سورة الانفال "
الطريق فتواروا في ايديهم لولا ان الله نجاهم بمعجزة اخرى . قال قوم عمي القريشيون الذين كانوا يطلبونهم فلم يجدوا الغار . وقال آخرون لما دخل محمد وصاحباه الغار فرخت حمامتان عند مدخله ونسجت العنكبوت بيتها عليه فغطتهُ فلم يفتشول فيه ولما احس ابو بكر بطلوع قريش ورأى ما فيه محمد من الخطر حزن اشفاقاً عليه فعزاه محمد بقولَه لا تحزن ان الله معنا (1) فلما انصرف اعداؤهم خرجوا من الغار وساروا قاصدين يثرب لكنهم نكبوا عن الجادة واخذوا في طريق اخرى فنجوا بجدهم من الذين كانوا في طلبهم او بمعجزة كما بقول المسلمين وبلغوا يثرب سالمين وكان عليُ قد تخلف عنهم ليؤدي الودائع لاربابها فلما اداها وافاهم الى يثرب بعد ثلاثٍ (2).
وكان اول شئٍ فعله محمد بعد بلوغه يثرب انه بنى مسجداً لعبادته وداراً لكناه (3) وذلك في قطعة ارض كانت قبل ذلك مربداً وقيل مقبرة وكانت في ملك يتيمين يقال لهما سهلُ وسهيل ابنا عمروٍ (4) . ولما استقر مقامه بالمدينة واصبح فضلاً عن الدفاع عن نفسه قادراً على مهاجمة اعدائه شرع يوجه سرايا قليلة العدد انتقاماً
(1) سورة براءة : 40 (2) ابو الفداء (3) "فصارت بعد استيطانه اياها تدعى المدينة أي مدينة محمد ونحن سندعوها كذلك فيما بقي من هذه المقالة" (4) ابو الفداء
من قريش عما كانت تؤذيه به وكان اول بعث بعثه تسعة رجال فقط فاصابوا عيراً لقريش وانتهبوها واسروا اثنين من رجالها . ولبث على ذلك الى ان كانت الحرب المشهورة بحرب بدر في السنة الثانية من الهجرة انتصر فيها على قريش نصرة عظيمة فاعتزٌ من ذلك اليوم وعظم امره ولهذا اليوم ذكر مشهور في تواريخ المسلمين
واذ كان قصدي وصف النهج الذي اتخذه محمد للفوز في ما كان آخذاً فيه لا كتابة سيرته اضرب صفحاً عن تفصيل مغازيه وتعدادها ولكني اقول بالاجمال انها كانت كثيرة وقد احصاها بعض المؤرخين فكانت سبعاً وعشرين غزاةً شهدها محمد بنفسه وقاتل في تسع منها (1) وهذه سوى البعوث والسرايا التي سيرها لكنه لم يحضرها بنفسه (2) . وكان يقوم ببعض نفقة الجيش من الزكاة التي كان تابعوه يتبرعون بها في اول الامر لهذه الغاية ثم جعلها بحذقه المعهود احد اركان الاسلام اما الباقي فكان يقوم به من الفيءٍ وهو خمس الغنائم فكان يجعله في بيت المال لهذا المقصد وهذا أيضاً ادعى انه مما أمر به الله (3)
ولم يمض على محمد الا بضع سنين حتى ازداد شأنه خطراً وشوكته قوةً وذلك مما فاز به من الظفر في اكثر مغازيه وان كان
(1) , (2) المسعودي وابو الفداء (3) الانفال : 42
قد أخفق في بعضها (1) . وفي السنة السادسة من هجرته خرج معتمراً الى مكة في الف وأريعمائة رجل وكان مسالماً لا يريد حرباً فلما بلغ الحديبية وهي موضوع بعضه في الحرم أرسلت اليه فريش يعلمونه انهم لا يأذنون له في دخول مكة او يدخلها عنوة فجمع رجاله وأخذ عليهم يمين الطاعة وبايعوه ببيعة الرضوان وصمم علىمناجزة القوم بمكة لكن جاءه من قبلهم عروة بن مسعود كبير الثقفيين (2) يسأله الصلح فاتفقا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين وكتبا بذلك عهداً وكان من جملة ما في العهد ان من أحب ان يدخل في عقد محمد دخل فيه
ولا بأس ان نذكر لك ههنا تبياناً لما كان عليه المسلمين منذ ذلك الوقت من شديد الاحترام والتعظيم لنبيهم ما قاله عروة بن مسعود لقريش بعد عودته اليهم قال أني جئت كسرى وقيصر في ملكهما فوالله ما رأيت ملكاً في قومه بمثل محمد في أصحابه كان لا يتوضأ الا ابتروا وضوءه ولا يبصق الا ابتدروا بصاقه ولا يسقط من شعره شئُ الا اخذوه تبركاً (3)
(1) منها يوم احد أصيب فيه المسلمين وهزموا (2) " كذا قال المصنف وقال غيره ان عروة هذا هو الذي أرسلوه أولا ليقول لمحمد انهم لا يدعونه يدخل مكة اما الذي بعثوه في الصلح فهو سهيل بن عمرو" (3) ابن الاثير وابو الفداء وابن هشام والقاضي عياض
وفي السنة السابعة من هجرته شرع يفكر في نشر دينه فيما وراء جزيرة العرب فأرسل الى من تاخمها من الملوك رسلاً بكتب يدعوهم فيها الى الاسلام فلم يخب سعيه تماماً . نعم ان كسرى ابرويز ملك الفرس مزٌق كتابه وقال ايكاتبني بهذا وهو عبدي ورد الرسول من فوره ولما بلغ ذلك محمداً قال مزٌق الله ملكه . وبعد قليل من هذا جاءه رسولُ من قبل بأذان ملك اليمن وكان عاملاً عليه للاكاسرة كما تقدم وأعلمهُ أن ابرويز يأمر باشخاصه اليه ليلته تلك ان الله قد سلط على ابرويز ابنه شيرويه فقتله (1) وقال له أيضاً سيبلغ يني وسلطاني ملك كسرى فقل لباذان ليسلم فرجع الرسول الى باذان وبعد ذلك بأيام قلائل وردت مكاتبة شيرويه الى باذان بقتل أبيه كسرى ابرويز وان لا يتعرض لمحمد فأسلم باذان ومن معهُ من الفرس (2) . لكن هرقل قيصر الروم اكرم رسول محمد كما يقول مؤرخو العرب ووضع الكتاب على مخدة وردُ الرسول ردّا جميلاً وزعم بعضهم انه لولا خوفه على نفسه وملكه لأسلم (3) . وكتب
(1) كما تقدم في أول الفصل (2) ابو الفداء (3) الجنابي وابن الاثير "وهاك صورة الكتاب على ما في الصحيحين " من محمد رسول الله الى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى اما بعد فأني ادعوك بدعاء الاسلام أسلم تسلم ويؤتك الله أجرك مرتين وان توليت فان عليك اثم الاريسيين ويا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم لا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً ارباباً من دون الله فان تولوا فقولوا اشهددوا بأنا مسلمون "".
كتاباً الى النجاشيّ يدعوه الى الاسلام مع انه فيما زعموا كان قد أسلم من قبل وكتب أيضاً الى المقوقس حاكم مصر فاكرم رسوله ورده بهدايا ثمينة وكان فيما اهداه جاريتان احداهما وهي التي تدعى مارية القبطية حظيت عنده كثيراً (1) . ثم ارسل بكتب الى كثير من ملوك العرب يدعوهم الى الاسلام منهم الحارث بن أبي شمر ملك غسان فلما قرأ كتابه قال ها انا سائرُ اليه فعندها قال محمد باد ملكه . ومنهم هوذة بن علي ملك اليمامة وكان نصرانياً قد أسلم اولاً ثم ارتد فاغلظ الجواب وقال ان جعل لي الامر من بعده اسلمت ونصرته فقال محمد لا ولا كرامة اللهّم اكفنيه فمات بعد قليل ومنهم المنذر بن سلوة ملك البحرين فاسلم هو وكل عرب بلاده (2)
وكانت السنة الثامنة من الهجرة ميمونة على محمد ففي أوائلها اسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وهما من رجال الحرب المبرزين والاول منهما هو الذي فتح الشام بعد ذلك بقليل كما فتح غيرها من البلاد والثاني فتح مصر . وفي اوائلها أيضاً سير محمد ثلاثة آلاف رجل على الروم ليأخذوا بثأر رسول له كان قد بعثهُ بكتاب الى عامل قيصر على بصرى يدعوه الى الاسلام كما بعث الى غيره من الملوك فقتله واحد من عرب غسان في مؤتة وهي بلدةٌ بالبلقاء على مسيرة ثلاثة
(1) الجنابي (2) ابو الفداء وغيره من المؤرخين
ايام من بيت المقدس فالتقى الفريقان بالقرب من هذه البلدة وكان الروم أكثر عدداً من انضم اليهم من عرب الشام فهزموا المسلمين في أول صولة وقتلوا ثلاثة من قوادهم وهم زيد بن حارثة مولى محمد وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة فلما تولى قيادتهم خالد بن الوليد المتقدم ذكره هزموا الروم واتّخذوا فيهم وغنموا منهم غنائم وافرة (1) وعلى أثر هذه الموقعة دامي خالد سيفاً من سيوف الله دعاه بذلك محمد (2)
وفي هذه السنة ايضاً فتح محمد مكة بسبب نقض أهلها ما كانوا ابرموه من الصلح قبل ذلك بسنتين كما اسلفنا وذلك ان بني بكر وكانوا في عقد قريش لقوا بني خزاعة وكانوا في عقد محمد فقتلوا منهم نفراً واعلنهم على ذلك قوم من قريش فخشيت قريش التباعة وندمت على نقض العهد وقدم ابو سفيان الى المدينة يريد تلافي الامر وتجديد العهد فخاب من قصده وذلك لان هذا الالتقاض سر محمداً فلم يلبياه فرجع الى مكة خائباً وتجهز محمد من فوره ليفاجئ قريشاً قبل ان يتأهبوا وخرج اليهم بعد قليل في جيش كان يزداد يوماً
(1) الجنابي (2) ابو الفداء وغيره من المؤرخين
فيوماً حتى بلغ عدده حين قارب مكة عشرة آلاف ولما لم يكن لاهلها قبلُ بمثل هذا العسكر الكثيف نزلوا على حكم محمد واسلم ابو سفيان فأمن على نفسه وقتل من المشركين ثمانية وعشرون رجلاً قاتلهم خالدٌ خلافاً لامر محمد اذ كان قد نهي عن القتال فلما دخل محمد مكة واذعنت له قريش امن اهلها كافة الا ستة رجال واربع نسوةِ كانوا اشد جرماً عنده من غيرهم وكان بعضهم قد ارتد عن الاسلام فاهدر دماءهم لكن لم يقتل منهم سوى ثلاثة رجال وامرأة واحدة واسلم الباقون فعفا عنهم وفازت واحدة من النسوة بنفسها هرباً (1) .
وقضى محمد ما بقي من هذه السنة في بعث السرايا حول مكة ليكسروا الأصنام ويدعوا العرب الى الاسلام فظفروا بمرادهم وهو غير عجيب في ذلك الوقت
اما السنة التالية وهي التاسعة من الهجرة فالمسلمون يدعونها عام الوفود وذلك ان العرب كانت قبلها في انتظار عاقبة الحرب بين محمد وقريش فلما اذعنت له قريش وهي اول قبائل العرب واعظمهن شأناً وذرية اسمعيل الصريحة لا تنكر العرب ذلك عرف باقي العرب انهم لا طاقة لهم بحرب محمد ولا عداوته فدخلوا في دينه افواجاً (2) وبعثوا اليه الوفود يبايعونه مدة اقامته بمكة وبعد قفوله عنها الى
(1) السيرة لابن هشام (2) "وقد أشار الى ذلك في سورتي النصر والفتح ".
المدينة في هذه السنة نفسها وكان من جملة من اسلم وارسل الوفود للمبايعة خمسة من افيال حمير (1)
وفي السنة العاشرة من هجرته أرسل علياً الى اليمن يدعوا اهله الى الاسلام قالوا فاسلمت همدان كلها في يوم واحد ثم تابع اهل اليمن كلهم على الاسلام الا نصارى نجران فانهم آثروا اعطاء الجزية .
وهكذا تأصل الاسلام وانقطع الشرك في بلاد العرب كلها عدا اليمامة ومحمد حيُّ بعدُ لأن وفاته كانت في السنة التالية . وانما خرجت اليمامة عن سائر بلاد العرب لانه قام فيها رجلٌ يقال له مسيلمة وادّعى النبوة مبارياً في ذلك محمداً فتبعه خلقٌ كثير ولم يقدر المسلمون على قهره الا في خلافة ابي بكر (2) فلما قهر اجتمعت كلمة العرب على دينٍ واحدٍ فتأتى لهم من الفتوح ما تأتى وما افضى الى انتشار الاسلام في قسم كبير من المعمور.
(1) , (2) ابو الفداء "وسيمر بك في الفصل الثامن من هذه المقالة طرف من غير مسيلمة هذا ".
أسئلة مسابقة الفصل الثاني من كتاب
مقالة في الإسلام
أجب على عشرة أسئلة
فنرسل لك أحد كتبنا جائزة لإجتهادك . وأكمل أيضاً أسئلة الذيل في الصفحة 60 من هذا
الكتاب .
1.
نشأت بعض البدع كما
تسربت بعض العبادات الفاسدة الى النصرانية فأفاد منها الإسلام . فما هي تلك البدع
والعبادات ؟
2.
ما
هي البدعة المختصة بمريم العذراء والتي انتشرت بين النصارى العرب في
الحجاز؟
3.
ما
الذى دعا محمد إلى الطعن في عقيدة التثليث ؟
4.
أذكر بعض الأسباب التي
ساعدت على ظهور الإسلام وانتصاره ؟
5.
كيف تسنى لمحمد
التجوال في البلاد الخاضعة للروم والفرس ؟
6.
ما
الركن الأهم في الإسلام الذي يعتبر باقي الأركان توابع له وملحقات نشأت بالضرورة
؟
7.
ما
هي الأمور الثلاث التي حببت إلى محمد من الدنيا كما قال؟
8.
من
أين استقى محمد بعض الفروض والأحكام والخصائص الأخرى ؟
9.
ما
اسم العام الذى مات فيه أبو طالب عم محمد وخديجة أولى نسائه ؟
10.يماذا أراد محمد
التشبه حين جعل اثني عشر نقيبا على رأس من آمن به من ثيرب؟
11.في
أي صورة ومتى بدأ محمد تصريحاته الحربية بدفع أذى الكفار أولا ثم بقتالهم أينما
وجدوا؟
12.كم
غزوة قام بها محمد بنفسه وفي كم واحدة قاتل بالسيف بعد وصوله المدينة ؟
13.أذكر منزلة محمد عند
أهل المدينة بالمقارنة مع قيصر وكسرى.
14.أيعقل اسلام النجاشي
على يد من هاجر إليه من أوائل المسلمين ثم بعد ذلك يدعوه محمد للإسلام
؟
15.أرسل أجوبتك مع عنوانك
الكامل إلى :
نور الحياة
Light of
life. P.O.BOX 13 A-9503
تذييل الفصل الثانى :
كان محمد من أهل
البيتوتات وان لم يكن متصل النسب باسماعيل ولو لم يمت أبوه قبل جده لم يكن من
المستبعد أن سيادة قريش التي ذكرنا أنها انتهت إلى جده كانت تصير إليه . وكان ولا
شك قد تنبه لذلك بعدما بلغ أشده فكان يتلهف على ما فاته منه ويلتمس الذرائع إلى
الحصول عليه لأنه لم يكن في طاقته أن يناله عنوة ففتق له ذهنه أن يتوسل إليه بذريعة
الدين لأنها كانت سهلة عليه بالنظر إلى ما كانت عليه حالة قومه وبلاده لذلك العهد .
وذاك أن العرب كانت قد سئمت من الوثنية ونزعت نفوسها إلى الدخول في دين آخر كائناً
ما كان وقد أدرك ذلك منها من قبل محمد رجال كثيرون يدعون بالحنفاء ( وانما دعوا
بذلك لحنفهم أي ميلهم عن الوثنية ) فكانوا يحرضون قومهم على اطراح عبادة الأصنام
والكف عن الحج إلى مكة والطواف بكعبتها عراة ونبذ ما يتبع ذلك من الرسوم القبيحة
ويدعونهم إلى التدين بدين لا شرك بالله فيه فنجح تحضيضهم في كثير حتى تنصر منهم من
تنصر وتهود منهم من تهود وفي الجملة كانت الوثنية قد هرمت وذهب ما كان لها من
الحرمة عندهم ولم يبق من يتمسك بها سوى الرعاع وسدنة الكعبة لما كان لهم في
المحافظة على الحج ورسومه من المصلحة الدنيوية . فركن محمد بما فطر عليه من ذكاء
الفؤاد ونفوذ البصيرة أن في هذه الحالة فرصة مواتية يسترد بها ما فاته من السؤدد
فانتهزها ونوى أن يحذو حذو الحنفاء . إلا أنه كان يعوزه أمر لا بد منه لمن يقوم
مقام الواعظ النصيح وهو معرفة شيئ من أمر الدين الذي كان يروم أن يدعو إليه فلذا
كان يتطلب من يقفه عليه واتفق أن قدم في تلك الأثناء إلى مكة راهب نسطوري اسمه عند
مؤرخي المسلمين بحيرا وعند غيرهم سرجيوس وكان قد أحدث في بلاده حدثاً أنكره عليه
أصحابه فأخرجوه من الجماعة وقطعوه وامتنعوا من مخاطبته على ما جرت به العادة منهم
في مثل هذا الضرب . فندم على ما فرط منه وأراد أن يفعل فعلاً يكون كفارة عن ذنبه
ووسيله له عند أصحابه فصار إلى بلاد العرب حتى انتهى إلى مكة فرأي غالب أهلها على
صنفين من الدين وهما اليهودية وعبادة الأصنام فشرع يفكر في ما يفعله لرد أهلها عن
الشرك ويتطلب رجلاً منهم يستعين به على غرضه حتى عثر بمحمد ولا يبعد انه كان بينهما
سابق معرفة . فلما وقف على ما يضمره وتيقن نزوع نفسه إلى الانخراط في سلك الحنفاء
وتبين له ما هو عليه من فصاحة اللهجة وبلاغة المنطق ظن أنه ظفر بضالته فأخذ يتلطف
به حتى استماله إلى مراده وسمى نفسه نسطوريوس لأنه رام بتغيير اسمه أن يثبت بدعة
النساطرة ويثبتها في جزيرة العرب وما زال يخلو به ويكثر مجالسته ويلقي عليه الشي
بعد الشي ويقفه على ما كان يجهله حتى أدبه وفقهه بمقدار ما يستطاع تأديب الأمي
وتفقيهه فرسخ في ذهنه من أصول النصرانية ما كان مشوباً ببدعة النساطرة وهذا سبب ما
في الإسلام من عقائدهم وما في القرآن من ذكر النصرانية بما يحاكي مقالتهم فيها ومن
ذكر القسيسين والرهبان بخير ومن تزكية النصارى عموماً والشهادة لهم بأنهم أقرب مودة
إلى المسلمين .
فلما ظن كل واحد من
هذين الرجلين أنه وجد عند صاحبه ما كان يلتمسه تواطآ على الشروع في ما كانا
يتوخيانه لأول فرصة تسنح وكان لمحمد عادة أن يعتزل مع زوجته في حراء مرة كل عام
فلما صار هذه المرة إلى معتزله نابته فيه نوبة من مرض عصبي كان قد مني بشيء منه وهو
طفل ثن أفضى تواتره عليه إلى اختلال في ما يدعوه الأطباء بالجهاز العصبي فلذلك كان
كلما عرض له ما يوجب تهيج هذا الجهاز تنبهت من ذلك مشاعره تنبهاً يجسم في حسه ما
كان متصورا في ذهنه حتى ليجزم بل ليحلف أنه رأي أو سمع أو لمس ما لا وجود له على
الحقيقة في غير وهمه فلذا كان كثيراً ما يخاطب من لا يراه غيره ويسمع من الخطاب ما
لا يسمعه غيره (1) ،
(1) روي عنه وقد سئل عن الوحي انه قال يأتينى أحياناً مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا يكلمني فأعي ما يقول
وكان على الجملة يحلم
وهو مستيقظ وهذا سبب نسبتهم اياه إلى الجنة والوسواس والهوس وهذا أيضاً سبب جزمه
بصحة ما توهمه من أمر إرم ذات العماد وما تخيله أو حلم به من أمر الإسراء والمعراج
وكانت هذه الحالة تجهده جدا كلما عرضت له حتى ليفصد جبينه عرقا ويضطرب ويرعد
كالمقرور فيزملونه ويدثرونه (1)
فلما افصمت عنه تلك
النوبة وكان قد صمم على الشروع فيما واطأ عليه نسطوريوس أخبر زوجته بما توهم أنه
وقع له فعلاً أي أن جبريل هبط عليه بالوحي وضغطه وأنبأه بأن الله اختاره نبياً
وبعثه إلى قومه رسولاً ومبشراً ونذيراً فلم يشق عليها أن تصدقه في ما قال لأن لفظ
الوحي والنبي والرسول وما جرى هذا المجرى لم يكن له من المعنى عندها ولا عند غيرها
من مشركي قريش ما صار له من ذلك عندهم بعد توطد الإسلام بل كان النبي عندهم رجلاً
صالحاً ينصح لقومه في أمر الدين والمعاد كما كان يفعل الحنفاء،
(1)
انظر سورة المزمل
والمدثر وتفسيرهما . وهذا المرض من جملة الأشياء التى حولها إلى نفعه فزعم أنه من
اضطرابه لهبوط جبريل بالوحي عليه وقد انتدب ابن خلدون مع علمه وفلسفته لتأييد هذا
الزعم فجعل الإغماء من علامات النبوة وأنه من لقاء الملك الروحاني وحاول أن يثبت
ذلك من قول القرآن : " انا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً " وغاب عنه أن القرآ، انما أراد
الثقل معناه المجازى اذ ليس للقول زنة في الحقيقة حتى يثقل أو يخف وغاب عنه أيضاً
أن هذا الإغماء كان يعتري محمد من قبل دعواه النبوة ومن قبل لقاء الملك الروحاني
وليس ابن خلدون وحده هو الذي قال ذلك بل ان علماءهم كافة تهافتوا على هذه الحجة
السخيفة لينفوا عن نبيهم ما كان مصاباً به من المرض الطبيعى أفتراهم يعتقدون أيضاً
أن صحة الجسم من شرائط النبوة!
ثم ان اليونان انفسهم
كانوا يدعون شعراءهم أنبياء ملهمين وتابعهم على ذلك بولس الرسول فدعا اراتوس الشاعر
الكريتي وقد تمثل ببيت من شعره نبياً (6) ولم يعن بذلك سوى انه حكيم . أما النبي
بالمعنى الذى صار محمد يريده آخر الأمر فلم يكن معلوماً عند زنادقة قريش ولذا سهلت
عليه دعوى النبوة بادئ بدء بينهم لأنه أمن أن يطالبوه بمصداق عليها كما طولب بعد
ذلك فوقف معهم عند حد النصح والوعظ مدة متطاولة ثم رأى أيضا أنه لا بأس من استعمال
الوعد والوعيد أحياناً فاستعملهما ونصب نفسه مبشرا ونذيرا(7)
------------------------------------
(1)
سورة الأسرى : 95 (2)
سورة الكهف : 110 (3) سفر الخروج 7: 1
(4)
سفر الايام الاولى 25:
1 (5) سفر الملوك الأول 18: 29 (6) تيطس 1: 12 وعرف ان الشاعر اراتوس لأنه هو صاحب
ذلك البيت
(7) سورة الفرقان :
58
أما الوعد فانه عرف من
شدة انهماكهم على الملاذ الشهوانية ونهمهم وتشوقهم إلى ما لا يكادون يظفرون به في
بلادهم من المياة الدافقة والرياض الظليلة والفواكة الغضة أن هذه الأشياء حببت
إليهم حتى كان الحصول عليها منتهى السعادة عندهم وغاية الترف لا يعلمون وراءها
نعيماً آخر وهذا ولا جرم مما يعقل من قوم ينكرون البعث وهم فوق ذلك يسكنون بلادا
واقعة في المناطق الحارة من الأرض بحيث تشوي شمس الصيف ادمغتهم وتحرق الرمضاء
أقدامهم وبين ذلك السموم تلفح وجوههم فوعدهم بما كانوا يحبونه وقال لهم انهم ان
اصاخوا إلى وعظه ونصحه في الدنيا فثوابهم في الآخرة جنات تجري من تحتها الأنهار
فيها من كل فاكهة زوجان ولهم فيها أزواج مطهرة حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون
متعففات مقصورات في الخيام لم يطمثهن قبلهم انس ولا جان يحلون فيها من أساور من ذهب
ويلبسون ثيابا خضرا من سندس واستبرق متكئين فيها على الأرائك والنمارق المصفوفة
والزرابي المبثوثة والسرر الموضونة متقابلين ويطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب
وأباريق وكأس من معين بيضاء لذة للشاربين لا يصدعون عنها ولا ينزفون ولحم طير مما
يشتهون وفاكهة مما يتخيرون وغير ذلك من أصناف التنعم والملاذ الجسدانية (1).
(1)
وقد ذكر المصنف في
الفصل الرابع من مقالته جملة وافية في وصف الجنة المحمدية وما أعد فيها للمؤمنين من
أصناف التنعم .
وأما الوعيد فانه نحا
فيه إلى ما هو أشد أذى لهم وأبلغ نكاية عليهم فأوعدهم ان نبذوا نصحه بنار جهنم
الشديدة الزفير يخلدون فيها ويكون أهونهم عذابا بها من ينتعل بنعلين منها يغلى
منهما دماغه كما يغلى المرجل حتى ليتمنى الموت فلا يجده وأنهم ان يستطعموا يطعموا
من الزقوم والغسلين وان يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه ويصب من فوق
رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود وأن لهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن
يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق . وعدد لهم زيادة على ذلك ما
أحاق في الدنيا نفسها من العقاب بالذين كفروا قبلهم فذكر لهم مما جاء من ذلك في
التوراة طوفان نوح وهلاك قوم لوط وبلايا قوم فرعون ومما جاء منه في خرافاتهم هلاك
عاد وثمود . وهو انما كان في ذلك كله يخاطب قومه من قريش ولا يتعرض لغيرهم ولو أنه
بقي معهم على هذا النهج من الوعظ والنصح لم يضطهدوه إلا أنه تخطاه إلى الطعن في
آبائهم والقدح في عقائدهم وسب معبوداتهم وشرع أيضا يعرض نفسه على غيرهم ممن كان لهم
خلطة بأهل الكتاب ويصرح لهم بأنه رسول الله إليهم ونبيه فلقي من ذلك عنتاً لأنهم
طالبوه بحجة تؤذن برسالته لما سبق في معلومهم من أن للرسل والأنبياء بالمعنى الذى
أراده علامات تشبه مدعاهم أهمها وقوع الخوارق لهم شاهدة بصدقهم مما لا يقدر عليه
العباد وانما تقع للنبي والرسول منهم في غير محل قدرته وليس له فيها إلا التحدي بها
بإذن ربه أي الاستدلال بها على صدق مدعاه من قبل وقوعها فتنزل منزلة القول الصريح
من الله أنه صادق . فاقترحوا عليه أن يأتيهم بمثل ما أتي به الأنبياء الذين تقدموه
ممن جعل يقص عليهم أخبارهم وما فعلوه من الآيات والخوارق وقد عد اقتراحاتهم فيه في
القرآن فذكر منها قولهم له لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك
جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو تسقط السماء علينا كسفاً أو يكون
لك بيت من زخرف أو ترقي في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرأه
فيشهد أنك رقيت بالجسم وفي اليقظة لا في الحلم وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن
جاءتهم آية ليؤمنن وقالوا أيضاً اللهم ان كان هذا الذي يدعيه محمد هو الحق من عندك
فامطر علينا حجارة من السماء وأئتنا بعذاب أليم لتكذيبنا بما يدعيه وإنما قالوا ذلك
لأنهم كانوا يروم من العدل لو كان محمد رسول الله إليهم أن يظهر الله لهم على يده
آية فان اصروا علىالكفر بعدها قضى بهلاكهم عن بينة اذ كان في نفوسهم انه تعالى ما
كان معذباً حتى يبعث رسولا (1) ويؤيده بما يؤذن ببعثته . إلا أن محمدا والحق أولى
ان يقال لم يدع المعجزاء بادئ بدئ بل كان ينفيها عن نفسه (2) وينهى أصحابه عن
نسبتها إليه (3) وما ادعى ما ادعاه منها آخر الأمر إلا مضطرا وهذا ظاهر من أول
القرآن إلى آخره وان كره المفسرون والمؤرخون (4) ولذا كانت أجوبته في اول الأمر
مرتبكة يلجأ فيها الى المراوغة والمعاريض حيث أقبل يعدد لهم أصناف الخوارق التي
يقدر عليها خالق العالمين ومبدع الأكوان الذي لا يعجزه شيء فقال لهم أنه تعالى يعلم
ما تحمل كل أنثى وهو عالم الغيب والشهادة وسواء عنده من اسر القول ومن جهر به ومن
هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ولعمرى انهم على جهلهم وأميتهم لم يكونوا ليجهلوا ان
الاله الذي زعم محمد أنه رسوله إليهم يقدر على هذه الخوارق وعلىاعظم منها بل على كل
شيئ وانما كانوا يطالبون مدعي تلك الرسالة ان يكون هو نفسه قادراً على شيء منها
بإذن ربه وأن يأتي بها مصداقا لما يدعيه .
(1) سورة الاسرى :
16 (2) كما جاء في أحاديث
كثيرة من جملتها قوله ما من الأنبياء الا وأوتى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر
وانما كان الذى اوتيته وحيا اوحى إلي . وفي هذا نفي بين لسائر المعجزات الاخرى (3) وذلك أنه لما مات ابنه ابراهيم
واتفق كسوف الشمس ذلك اليوم قال اصحابه انها كسفت لموت ابراهيم فنهاهم عن قول ما
تيرتب عليه نسبة المعجزات اليه وقال ان الشمس والقمر لا يكسفان لموت احد ولا لحياته
. (4) اذ لا داعى لولاه الى
بسط الاعذار وتكرار القول ان الآيات عند الله وانه لم يمنع من الارسال بها الا ان
كذب بها الاولون وانها اذا جاءت لا يؤمنون وغير ذلك مما يترتب عليه انه لم يأت بشء
منها.
فلما افحموه بهذا
الاحتجاج واعيته الحيل اضطر أن يدعي معجزة ما فقال أن معجزته القرآن فعارض بذلك
نفسه لأنه كان قد نفي الاعجاز ع ن القرآن تضمينا في مواضع متعددة من الكتاب نفسه
وهذا بين لمن لا يمارى ألا ترى ان خصومه لم يفتروا عن مطالبته بآية كما يقر هو نفسه
في غير ما موضع من كتابه وانه لم يفتر قط عن مجاوبتهم بأن الآيات عند الله لا عنده
ولو كان من اول الامر معتقداً أن القرآن معجزة بل ان كل جملة منتظمة منه معجزة وان
كانت من كلمة أو كلمتين (1) لكان من أسهل الأشياء عليه أن يسكتهم بقوله لهم هاكم
المعجزات التي تطالبوننى بها وهى ما يتلى عليكم كل يوم من آي القرآن وسوره ، فصمته
عن هذه الحجة مدة متطاولة يدل دلالة قطعية على انه لم يكن من أول الأمر يعتقد ان
القرآن معجزة ولذلك تبادر إلى ذهنه ولا خطرت بباله الا بعد ان مضى على دعوة النبوة
حين من الدهر وبعد أن اعيته الحيلة في صرفهم عن اقتراح الآيات وكان قبل ذلك يقنعه
منهم أن يقتنعوا ان القرآن نزل على قلبه لا بحروفه والفاظه بل بمعناه فقط وذلك وحيا
والهاما على حد ما كان يتوهمه من نزول التوراة على قلب موسي والانجيل على قلب عيسى
(2)
------------------
(1)
كما قال القاضى عياض
في الشفاء
قال ابن خلدون في
المقدمة السادسة من تاريخه ان اعظم المعجزات واشرفها واوضحها دلالة القرآن ، لأن
الخوارق تقع أحياناً مغايرة للوحي الذي يتلقاه النبي وتأتى المعجزة شاهدة به .
والقرآن هو بنفسه الوحي المدعى وهو الخارق المعجز ودلالته في عينيه ولا يفتقر إلى
دليل أجنبى عنه كسائر الخوارق مع الوحي فهو أوضح دلاله لاتحاد الدليل والمدلول فيه
(انتهى ) وهذا منقوض بنص القرآن نفسه وذلك قوله وما يعلم تأويله إلا الله،
----------------
(1)
سورة الحجر : 6 (2)
سورة النحيل : 105
وكيف يكون ذلك اوضح
المعجزات دلالة وهو بلغة لا يفهمها غير العرب ولو نقل إلى غيرها لم يكن له معنى
ينسق وكان أكثره ضربا من المعاياة . بل هو بالنظر إلى العرب أنفسهم مفتقر إلى
التأويل الرباني لأنه لا يتأتي لهم بدونه أن يفهموا معانيه المستغلقة فيدركوا ما
فيه من المعجزات اللهم الا من كان منهم ذا سجية فائقة كالمفسرين وليس لكل الناس بل
ليس لكل العرب انفسهم هذه السجية . على أن الناس كلهم علماءهم وجهلاءهم عربهم
وعجمهم يقدرون أن يدركوا ما في احياء الموتى مثلا من المعجزة لأنها وان كانت في زعم
المفسرين دون معجزة القرآن في العظم والشرف فان لها عليها مزية وضوح الدلالة لأن الناس
كافة حتى اجلاف العرب أنفسهم قادرون على ادراكها أما القرآن فلا يسطيع أن يقدره حق
قدره غير الراسخين في العلم وهذا اذا كانوا مسلمين وكان لسانهم عربياً واتاهم
تأويله من السماء !!!
ثم ادعى معجزة اخرى
فقال انه اسري به من المسجد الحرام أي الكعبة التي بمكة إلى المسجد الأقصى أي هيكل
سليمان الذي ببيت المقدس (1) وعرج به من هناك إلى السماء فشافه ربه . إلا ان صحابته
أنفسهم فضلا عن سائر الناس لم يصدقوا بهذه
المعجزة
--------------------------------------------------------------------
(1)وكان قد خرب وعفت
آثاره من قبل ان هذا الاسراء بزهاء خمسائة وخمسين سنة قال ابن الشحنة خربه تيطس بعد
رفع المسيح بأربعين سنة وهذا لا يجهله أحد سوى الراسخين في العلم !!
وصرحت أم هانئ وهي بنت
عمه وكان مبيته عندها تلك الليلة ببطلانها فقالت أنه لم يفارقها ولم تفقد جسده .
فهذا مع ما جاء فى القرآن نفسه من وصف القصة بأنها رؤيا هو الذي حدا بعض فرق
المعتزلة إلى القول أنه أسري به في النوم لا في اليقظة فكفرهم أهل السنة والجماعة
وجزموا أنه أسري به فعلا بالجسم مستنين في ذلك إلى ما جاء من تفاصيل المعراج في
الحديث المشهور الذي مر تلخيصه في احدى حواشي الفصل الثانى من مقالتنا وهو حديث لا
يشك أحد منهم في صحته وكيف يرتابون منه والبخاري لم يثبته في صحيحه إلا بعد أن توضأ
وصلى ركعتين! لكن محمد لما استتب له الأمر واوحى إليه أن الحديد فيه بأس شديد تناول
السيف باحدى يديه والقرآن بالأخرى واكره العرب على التصديق بمعجزتيه هاتين (1) وانت قد رأيت ان احداهما وهي القرآن لم
تكن حسية أي مما يدرش بشيء من الحواس الطبيعية وستقف على ردها بعيد هذا ، أما
الأخرى فلم تكن سوى وهم جسمته له مشاعره ولم يعاينها أحد غيره ولم يكن له عليها من
شاهد سوى نفسه فان كان نبياً فهو بلا نبوة ، وان كان رسولاً فهو بلا معجزة ..
-------------
(1)
الا ان العلماء لم
يرضهم ان لا يكون له سوى معجزتين فلذلك اختلقوا له معجزات تربى في كثرتها وغرابتها
وخرقها العادة على كل معجزات موسى وعيسى وسائر الأنبياء
أسئلة مسابقة ذيل الفصل الثاني من كتاب مقالة في الاسلام.
أكمل أجوبتك من القسم
الأول في هذا الكتاب وأجب على خمسة اسئلة من مسابقة هذا الذيل فتأخذ الجائزة
المذكورة.
1.
إلا وصلت إليه الوثنية
قبل محمد؟
2.
ماذا كان جواب العرب
على محمد حين قال لهم : ان القرآن معجزتى الكبرى؟
3.
هل
يتسنى لغير المفسرين وعلماء الكلام واللغة فهم القرآن ؟
4.
بم
نعب العرب محمد وقرآنه ؟
5.
ما
المقصود بالمعاياة التى أكثر القرآن ضربا منها؟
6.
بم
صرحت أم هانئ ازاء قصة الاسراء والمعراج وهل هناك اجماع اسلامى على
الاسراء؟
7.
ماذا يشترط في الانسان
ليكون نبيا أو رسولا ؟
أرسل اجوبتك مع عنوانك
الكامل إلى :
نور الحياة
LIGHT OF
LIFE.P.O.BOX 13
A-9503