لقائي مع المسيح

لقائي برب المجد

 

مقدمة الناشر

 باسم الآب والابن والروح القدس إله واحد آمين

 كنت

 لقائي برب المجد

 عمل الرب العجيب

 رحلتي مع الصليب

 خروجي من مصر

 

لم أكن أعرف أن الله قد تركني أتعالى وأرتفع لأنه سوف يدعوني أن أترك كل هذا. لم أكن أعرف أن الله يكسبني كل هذه المهارات والذكاء والقوة لأنه سوف يستخدمني في عمل آخر.

 

ولم أكن أعرف أن الله قد وهبني قوة الشخصية وعذوبة الحديث وقوة الحجة لأنه يريد أن يستخدم كل ذلك لغرض آخر. كنت أمشي في المدرسة وكأني أتحدى الجميع، لا يستطيع أحد أن يقف أمامي، لقد أصبحت المدرسة مملكتي وتوجت عليها ملكة بلا منازع.

 

ولكن رغم هذا كله كنت حزينة، وكان هناك فراغ بداخلي، إني أحب الله بكل قلبي ولكني بعيدة عنه، كان هناك حاجز بيني وبين الله. ربما يكون هذا الحاجز من كثرة ذنوبي، وسألت نفسي يوماً هذا السؤال: إذا مت الآن بماذا أقابل الله؟ بذنوب فقط . . لا . . لابد أن أعمل لآخرتي. أنا غنية، علي أن أسافر إلى السعودية لاعتمر. وبالفعل تمت إجراءات سفري بسرعة عجيبة، واشتريت ملابس العمرة، وركبت الطائرة وصلت إلى مطار جدة في الواحدة بعد منتصف الليل، ثم أخذت سيارة إلى مكة، ورغم مشقة السفر إلا أنني لم أستطيع أن أصبر إلى صباح اليوم التالي. ودخلت إلى الكعبة وكلي شوق أن أكون قريبة من الله، وأن أعبر ذلك الحاجز الذي يبعدني عنه، ووقفت أصلي وأدعو الله ربي وأقول له أنا أحبك ولكنني بعيدة عنك، قربني إليك، اجعلني أشعر بك، المسني، ربما يكون الشيطان يحاول أن يجعلني لا أشعر بك. وظللت أطوف حول الكعبة لعل شيئاً ما يحركني، ولكن بدون جدوى.

 

رجعت إلى بلدي بعد عشرة أيام وأنا محطمة أكثر من ذي قبل، وعرفت أن هناك شيء ما، خطأ بي أنا، وعلي ألا أكف بل يجب ان أرضي الله أولاً وأن أبحث عنه وعن الطريق الذي يوصلني إليه.

 

وكنت دائماً أسأل نفسي هل معقول أن يخلقنا الله لنكون عبيداً له ثم سوف يحاسبنا بهذه الطريقة المرعبة؟ لا هناك شيء خطأ. لابد أن أعرفه يوماً ما . . هل معقول أن يكون الله بهذه القسوة؟ لا . . هذا غير معقول! لقد خلق الله لنا هذا العالم لنتمتع به، وجعلنا متسلطين على كل شيء فيه، وهذا معناه أنه يحبنا . . وظللت في حيرتي أبحث ولكن دون جدوى، كان الفراغ الذي بداخلي يعذبني، وبعدي عن الله يعذبني أكثر. وحاولت أن أنسى كل شيء واستمتع بحياتي وكل ما وهبني الله، ولكني لم انجح رغم أني امتلك كل شيء، مركزاً مرموقاً، أشهر من نار على علم في وزارة التربية والتعليم وكل الإدارات التعليمية، دخلي كبير جداً فأنا حاصلة على بكالوريوس تربية رياضية عام 1963، ومنذ تخرجي وأنا أعمل ولي مدة خدمة طويلة فأنا في الدرجة الأولى ثم أن أني أحصل على دخل كبير من الإشراف على المجموعات وأعمال الطباعة. لدي ثلاثة أولاد متفوقين في دراستهم وناجحين في حياتهم، ولي شقتي الخاصة بي رغم أني لم ادخلها منذ أن استأجرتها، ولي سيارتي الخاصة، وأنا مطلقة منذ عام 1983.

 

وفي أحد الأيام سألتني ابنتي قائلة: "ماما هل أستطيع أن أتزوج من شاب مسيحي؟" ثرت وصرخت في وجهها: "لأ طبعاً موش ممكن، وإذا فكرت مجرد التفكير في هذا الموضوع سوف أقتلك بنفسي." أضافت قائلة: "إنه مهندس من أسرة كبيرة وكل أسرته مهاجرة في أمريكا . . سوف أسافر معه ونتزوج هناك ولن يعرف أحد في مصر إلا أنت." صرخت مرة أخرى: "أنت مجنونة كيف تكوني مسلمة وتتزوجي من شاب مسيحي! هذا حرام" وطلبت منها أن تعاهدني أن لا تتصرف أي تصرف دون علمي.

 

وهبني الله أنا وابنتي هبة عظيمة كنت في أي موقف أو مشكلة أسأل الله فيجيبني في رؤيا لدرجة أني كنت أعرف نتائج امتحانات أولادي قبل ظهورها. طلبت من ابنتي أن تسأل الله هل من الممكن أن تتزوج هذا الشاب وأن تخبرني بصدق بماذا أجابها الله. وفي صباح اليوم التالي روت لي ابنتي ما رأت فقالت: "رأيت أني أسير في شارع واسع على شاطئ مياه كثيرة، ولما قربت من نهاية الشارع وجدت أني في مفترق طريق، لم ادر أي الطريقين أختار، فوجدت ثلاث فتيات محجبات قلن لي تعال معنا، لكني لم أشعر بالراحة أن أذهب ووجدت طفلة جميلة ترتدي فستاناً أخضر به صلبان بيضاء كثيرة، أخذت بيدي وسرت معها وأنا سعيدة." وعندما انتهت من حديثها لم أفهم ما المقصود بهذه الرؤيا، وقلت لها بشدة "أنت تهذين لأنك معجبة بهذا الشاب وتريدين الزواج منه ولكن أنا غير موافقة ولا تضطريني أن استخدم أسلوباً آخر معك،" وأمرتها ألا تعود إلى مقابلة هذا الشاب أو مجرد التفكير في هذا الموضوع، ووعدتني بذلك وانتهى الأمر ونسينا الموضوع.

 

حدث خلاف بيني وبين سكرتيرة المدرسة المسلمة، وطلبت نقلها من المدرسة وإحضار سكرتيرة أخرى أمينة، فحضر الموجه المالي والإداري ووعدني بنقلها وأن تحل محلها سكرتيرة أخرى أمينة . . نشيطة . . مؤدبة: ولكن مسيحية. في بادئ الأمر لم أوافق على دخول سكرتيرة مسيحية، وذلك لأني سوف اضطر إلى التعامل معها، بظروف عملي. ولكني عدت ووافقت لأنه أقنعني انه من أهم شروط السكرتيرة الأمانة، وهذا الشرط موجود، وهو يثق فيها أكثر من نفسه "على حد قوله." جاءت السكرتيرة الجديدة "سامية" ودخلت مكتب المديرة، وكنت بالطبع جالسة لأوى من تكون. وكانت دهشتي عندما وجدتها تترك جميع من بالمكتب وتحييني بكل رقة . . وجدتني أبتسم لها باستنكار ولكنها لم تبال، ولاحظت أنها تعلق على صدرها صليباً جلدياً كبيراً، فقلت في نفسي إنها جديدة في المدرسة ولا تعرف من أنا وما أريد ولابد أن أحداً سوف يخبرها، وأنها لا محال سترضخ لأوامري.

 

وفي اليوم التالي أرسلت إليها لتأتي إلى مكتبي، وبعد لحظات قرعت الباب ودخلت فأشرت لها بالجلوس فجلست، ومكثت أحدق فيها وأنا في دهشة أنها مختلفة تماماً، قوية، شجاعة، وفي نفس الوقت مؤدبة لأقصى درجة، واثقة من نفسها لا تبالي بنظراتي لها. في داخلها ما افتقده أنا وأبحث عنه، ولأول مرة أشعر أني صغيرة، نعم أنا أصغر منها رغم أنها في الثلاثين من عمرها وأنا في الخامسة والأربعين من عمري . . بدأت أناقشها في طريقة تعاملنا، ويا للعجب أنها تريد أن تريحني أنا وتتحمل هي العبء الأكبر، إنها تشعرني أنها تحبني . . لماذا تحبني؟ رغم أني واثقة أن جميع مسيحيي المدرسة قد حذروها مني.

 

في داخلي كنت معجبة بها، وبدأت أميل إليها. طريقة كلامها مختلفة، صوتها رقيق، أسلوبها مؤدب، إنها مختلفة تماماً، لها نظرة عميقة وثابتة، كلها هدوء وسلام. لاحظت أنها لا تزال تعلق الصليب الجلدي الكبير، ولكني لم أجرؤ أن أكلمها كلمة واحدة. أنها أحسن مني رغم أني ملكة لكنني شعرت أنها أحسن مني. أحببت سامية . . وبدأت بيننا صداقة . . كنت أرغب الكلام معها لأعرف ما بداخلها . . وكنت أختلق الأسباب لأتستدعيها إلى مكتبي. كان ذلك في شهر 9 عام 1987. كنت أتحدث معها لمدى ساعات ولا أمل، بل أريد المزيد، وفي يوم قلت لها "تصدقي بالله يا سامية" ردت علي قائلة بكل ثقة "لا إله إلا الله" ولم أصدق ما سمعت . . كانت صدمة عنيفة وقوية، وقلت لها في دهشة "المسيحية تقول إله واحد" ردت بكل ثقة "نعم إله واحد آمين" فقلت لها "إن ما أعرفه أنكم تقولون أن الله هو المسيح وهو العذراء مريم." قالت في قوة "لا هذا شرك بالله ونحن غير مشركين، نحن نعبد إله واحد" وأضافت بهدوء "العذراء مريم والدة المسيح هي إنسانة عادية وليست إله" . . شعرت كأن هرماً كبيراً ينهار. المسيحية تقول إله واحد . .؛ ؛ هذا غير ما كنت أعرف لقد ظلمتهم بجهلي . . كلي شوق أن اسمع المزيد مع أني محطمة وأشعر بالخجل. وتذكرت كل ما فعلته بالمسيحيين . . يا لجريمتي الشنعاء . . ولم أقف عند هذا الحد كنت أريد أن أعرف المزيد وقلت لها "كلميني عن المسيحية." وعندما بدأت سامية الكلام . . عندما فتحت فمها فوجئت برائحة بخور زكية . . عجباً لم أشتم مثلها من قبل وشعرت أني في غيبوبة لا أعرف أهذا حلم أم حقيقة! حاولت أن أبدو متماسكة وأصغيت إليها بكل انتباه وهي تقول "نشأت القديسة العذراء مريم يتيمة الأبوين وتربت تربية دينية في الهيكل حتى بلغت سن الثانية عشر من عمرها، فخطبت إلى أحد الشيوخ ليتكفل بها، وقبل أن يتزوجها حملت بالسيد المسيح" قاطعتها قائلة "نعم هذا الكلام صحيح . . إنه مكتوب أيضاً في القرآن." ولم أقو على الاستمرار في الحديث . . إني متعبة . . ضعيفة . . منهارة. أنهيت الحديث معها . . تركتني وخرجت وهي لا تدر ما يدور بداخلي . . لقد أشعلت ناراً بداخلي لا أقوى عليها، وبدأت أسأل نفسي: من هو المسيح؟ إن مجرد ذكره يحرك بداخلي أحاسيساً عجيبة لم أشعر بها من قبل، إن اسمه فيه راحة. إني أحبه ولا أعرف القدر الكافي عنه . . لابد أن أعرفه جيداً، وبدأ شوقي إليه يأكلني ، زاد حبي لسامية لدرجة أني كنت انتظر الصباح لأذهب إلى المدرسة لأقابلها وأشعرتني هي أنها تحبني من اللحظة الأولى، وأكدت لي حبها في معاملتها معي، رغم تحذير جميع مسيحيي المدرسة لها، لكنها كانت مندفعة نحوي بقوة عجيبة.

 

من حين إلى آخر كانت تراودني أفكار شريرة، وبالتالي كنت أضع سامية تحت الاختبار لأتأكد من صدقها، فمثلاً كنت أحياناً أعطيها مبلغاً على أساس أنه ألف جنيه وأضيف إليه عشرة جنيهات وأؤكد لها أني قمت بعد المبلغ جيداً، ولكن بعد لحظات أجدها عائدة بالعشرة جنيهات وهي تقول "وجدت هذه زيادة." كررت اختباراتي لها ولكنها في كل مرة كانت تؤكد أنها فعلاً صادقة وأمينة. لجأت إلى طريقة أخرى وهي محاولة إثارتها بطريقة كلامي أو بالسخرية مما تقول، ولكنها كانت دائماً قوية، لم تفقد سلامها ولا هدوءها وكانت دائماً مبتسمة، وكأنها تعرف دائماً ما أدبر لها.

 

مرت الأيام وأنا لا أستطيع أن أشغل نفسي بموضوع آخر، أو حتى أن أكف عن التفكير في هذا الموضوع، وكنت من حين لآخر اطلب من سامية أن تكلمني عن المسيح، وعن تعاليمه، وكانت في كل مرة تبدأ فتح فمها أشم رائحة البخور، وراودني الشك لماذا هذه الرائحة مرتبطة بالحديث عن المسيح؟ ربما كانت سامية تخفي شيئاً ما في جيبها أو في يدها ثم تطلق هذه الرائحة لكي تقنعني بصدقها، وظللت أراقبها وهي تتكلم، وفكرت ربما كانت هذه الرائحة قوية لأننا في مكان مغلق، أخذتها لأكلمها في الشرفة ولكني وجدت نفس الرائحة وربما أقوى، قررت أن أكلمها في حديقة المدرسة ولكن الشيء العجيب أني أجد الرائحة أقوى من كل مرة، وتأكدت من أن سامية ليست مصدر الرائحة، ولكن الله يريد أن يؤيدها فيما تقول.

 

اختلت كل موازيني وشعرت أني تائهة، أين الحقيقة؟ إني أحب الله من كل قلبي وكياني ولكنني أشعر أني بعيدة عنه ويؤلمني هذا البعد، وهذا الفراغ الذي بداخلي يعذبني. هناك حاجز بيني وبين الله وكل ما أريده هو أن أعبر هذا الحاجز وأصل إلى الحبيب . . إني أحبه وفي نفس الوقت أخاف منه، وأعلم جيداً أنه سيأتي يوماً أقف بين يديه واقدم له كشف حساب عن حياتي، ولكن لا أرى في حياتي إلا ذنوبي . . لا . . لا بد أن أعرف الحقيقة مهما كلفني!!

 

وفي يوم 25 من نوفمبر 1987 تأخرت سامية عن الحضور إلى مكتبي، وشعرت أني من أشد الحاجة إليها فأرسلت في طلبها، وبعد لحظات دخلت إلى مكتبي وهي سعيدة متهللة فسألتها "لماذا أنت فرحة هكذا؟" قالت في هدوء "اليوم يبدأ صوم الميلاد المجيد" قلت لها وأنا ساخرة "صوم . . وهل في المسيحية صوم . . وهل تصومون فعلاً أم تأكلون وتشربون وتقولون صوم" فأجابت بكل ثقة "نعم نصوم وصوم حقيقي، وننقطع عن الطعام فترة طويلة ولكن كل فرد حسب مقدرته، ونصوم عن أشياء أخرى كثيرة لكي تكون فترة الصوم مقدسة."

 

ولم أجد شيئاً أسخر منه بعد أن سمعت ما قالته، ومكثت أحدق فيها وأنا صامتة حتى وقع نظري على شيء صغير يشع منه الضوء بجوار الصليب الجلد الكبير، سألتها "ما هذا" ردت "هذه أيقونة للعذراء القديسة مريم،" قلت في نفسي ولم أجرؤ أن أرفع صوتي "هل كان في عصر العذراء مريم مصور أو رسام أخذ لها صور أو رسمت لها صورة حتى يعرفوا ما إذا كانت هذه فعلاً صورتها أم لا!! يا لسذاجة المسيحيين!! إني أقسم أن هذه الصورة هي خيال أحد الفنانين رسمها وقال هذه هي العذراء مريم وصدقه جميع المسيحيين." وقبل أن أنتهي من حديثي مع نفس وإذ بالأضواء تختفي، وأرى أمامي من له ضوء أقوى ورائحة بخور قوية وكثيفة، وكأن عمود من دخان انتهى بسيدة رقيقة جميلة بيضاء، ناصعة البياض، رقيقة الملامح، واقفة أمامي ترتدي ثوباً سماوياً وعلى رأسها طرحة بنفس اللون ويديها ممدودتان لأسفل وتنظر إلي . . لم أحتمل هذا المنظر وصرخت صرخة مكتومة قائلة "العذراء مريم" وكأني في غيبوبة لم أصدق ما رأيت، ولكني رأيتها بنفسي وفي الحال اختفت.

 

أفقت لأجد سامية أمامي منهارة . . تبكي وأنا أيضاً أبكي. اكتشفت أني أنا الساذجة وأنها هي الحقيقة وشعرت لأول مرة في حياتي أني محطمة . . أنا لا شيء . . إني مثل قشة تتخبط . . ماذا أفعل ساعدني يا ربي أن أتحمل.

 

انصرفت من المدرسة عائدة إلى منزلي . . نظرت إلى أولادي الثلاثة وقلت ماذا سيكون موقفهم لو عرفوا أني أصبحت مسيحية وماذا سيكون وضع والدهم! إنه مدير عام بوزارة الأزهر . . صحيح أني مطلقة منذ عام 1983، ولكن حرصاً على مصلحة الأولاد وشكل الأسرة العام في المجتمع اتفقنا أن نعيش معاً في منزل واحد كأزواج، لكننا منفصلون تمام الانفصال.

 

تذكرت أسرتي والمراكز المرموقة التي يشغلونها، إني سوف أكون عاراً على الجميع، وأنا . . ومركزي الذي وصلت إليه بكفاح، هل أحطم كل هذا؟ أنا في حيرة . . وهل يتركوني وشأني . . لا إذا أخذتهم الشفقة سوف يضعوني في مصحة عقلية، وربما من تأخذه الحمية ويقتلني، ولن يعاقبه القانون لأنه ينفذ حد الردة.

 

ووجدت الحل . . لقد خلقني الله مسلمة في أسرة مسلمة، فما ذنبي؟ لن أفكر في هذا الموضوع مرة أخرى ولن أحطم كل شيء بنفسي، لابد أن امنع سامية هذه عن الحضور إلى مكتبي أو الكلام معي في أي موضوع خارج عن العمل. واستسلمت لما أنا فيه وقررت أن أصلي أكثر لعل الله يهديني، وأيضاً لابد أن أقرأ القرآن كثيراً ولا أدع لنفسي أي وقت فراغ للتفكير مرة أخرى. وفي أول يوم أمسكت المصحف وأخذت أقلب في صفحاته وقادني الله إلى سورة مريم إلى أن وصلت إلى:-

 

"واذكر في الكتب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً (16) فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً (17) قالت أني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً (18) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً (19) قالت أني يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً (20) قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً (21) فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً (22)فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً (23) فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً (24) وهزي إليك بجذع النخلة تسقط عليك رطباً جنياً (25) فكلي واشربي وقري عيناً فإما ترين من البشر أحداً فقولي أني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم أنسياً (26) فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً (27) يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً (28) فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً (29) قال أني عبد الله آتاني الكتب وجعلني نبياً (30) وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصني بالصلوة والزكوة ما دمت حياً (31) وبرا بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً (32) والسلم علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً (33).

 

وازدادت النار داخلي اشتعالاً . . لابد أن أعرف الحقيقة . . إن ما بداخلي أقوى من أن أسكته أو استسلم لوضعي . . لا . . وبدأت أسأل نفسي لماذا كل هذه الكرامة لهذه السيدة إذا كانت أم لبشر عادي؟ ولماذا يولد المسيح بهذه المعجزة الخارقة للطبيعة إذا كان بشراً أو نبياً؟ ولماذا خصه الله بصفاته شخصياً: يحيي الموتى . . يشفي المرضى . . يفتح أعين العميان . . يطهر البرص وأيضاً يقول عنه صحيح البخاري "لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم المسيح أبن مريم حكماً مقصفاً." جزء 2 صفحة 458.

 

وأين هو الآن؟ إنه حي في السماء منذ ألفي عام وإلى قيام الساعة . . لا . . إنه غير البشر . . إنه أعظم بكثير . . ولكن من هو؟ لا أستطيع أن أكتم ما بداخلي . . أريد الحقيقة ودار بداخلي صراع بين شعوري القوي بأن هناك حاجز بيني وبين الله يجعلني أسلك في طريق خاطئ، وبين إصراري العجيب أن أصل إلى الحقيقة.

 

مرت أيام طويلة وثقيلة حتى انتهى عام 1987 وبدأ عام 1988، وبدأ أقباط مصر يحتفلون بعيد الميلاد ورجعت أسأل نفسي، عيد الميلاد!! عيد ميلاد من؟ ميلاد المسيح . . من هو المسيح؟

 

وجاء اليوم السابع من يناير 1988 وكان يوم عطلة لجميع مسيحيي المدرسة. وعدت من المدرسة حزينة، خائفة، وكان الجو شديد البرودة وكنت أنام في غرفة ابنتاي، ونام الجميع إلا أنا. كنت قلقة!! . . لابد أن أكون صادقة مع نفسي!! لماذا أنا خائفة؟ أليس الله أحق أن أخاف منه . .! وكيف أقول أني أحب الله أكثر من نفسي وأنا لا أريد الحقيقة . .! ألا يستطيع الله أن يحميني وأن يدافع عني؟ وتوجهت إلى الله بكل صدق، وصرخت إليه وكأنه جالس أمامي: يا رب أنت تعلم كم أحبك، وأخاف منك، وكم أرجو لقياك بغير ذنوب . . أرجوك يا رب عرفني الحقيقة! كيف اصل إليك؟ ثم أعود أقول ما ذنبي يا ربي . . أنا ولدت في عائلة مسلمة، هل ستحاسبني . . أشعر بخوف شديد . . لا يا ربي أرجوك . . أنت وهبتني نعمة عظيمة منذ صغري، كلما سألتك أجبتني في رؤيا، أرجوك لا تحرمني من هذه الهبة العظيمة، أرجوك يا رب إذا كانت المسيحية هي الطريق إليك يكفيني أن أرى صليباً، أما إذا كان الإسلام هو الطريق أرني أية علامة وأعدك يا ربي أني سوف أنفذ كل ما تطلب مني، لا يهمني أحد غيرك  . . لن أخاف من أحد . . ليفعلوا بي ما يفعلوا، المهم في النهاية هو أنت . . لا يهمني مركزي، المهم هو مركزي عندك . . لا يهم أولادي . . أنت أولاً . . أنت ترعاهم . . وإن قتلوني فإنهم يقصرون الطريق إليك . . لم أكن في حياتي كلها صادقة مثل ما كنت في تلك الليلة . . ولم أشعر أيضاً أني قريبة من الله مثل ما شعرت تلك الليلة، إني أشعر وكأني جالسة أمام الله أكلمه . . وكنت تارة أبكي . . وتارة أتذلل إليه . . وتارة أعاتبه بشدة. وظللت على هذه الحال حتى الثالثة صباحاً. شعرت إني متعبة ومرهقة ودارت رأسي فوضعت المنبه إلى جواري لاستيقظ في السادسة صباحاً، ومددت جسمي المنهك على السرير، وأغمضت عيني وشعرت بدوخة ولكني لم أنم!! وفجأة وجدتني أرتدي فستاناً لونه رمادي مغشى بالفضة، طويل إلى الأرض، وأكمامه طويلة، وفي وسطي حزام عريض بنفس اللون، وعلى رأسي طرحة بنفس اللون، وأنا سعيدة جداً بهذا الفستان، وأسأل نفسي من أين لي هذا الفستان الجميل، إني لم أره من قبل، لم أر مثله في حياتي، يا للعجب! ونظرت لأسفل وإذ بي حافية القدمين . .! كيف أكون بهذه الأناقة وحافية القدمين . . ولكني لم أبال . . قلت أن الفستان طويل للأرض وهو يغطي قدمي ووقعت قدمي ووقعت عيني على الأرض وكانت مفاجأة . . ما هذا اللون الجميل . . أنه أخضر حقيقي . . لم أر مثل هذا اللون العجيب من قبل، وما هذا الملمس الناعم، وظللت أحرك قدمي على الأرض لعلي أعرف ما هذا الملمس! نجيله ناعمة . . أم سجاد . . لا إنها حرير . . ورفعت رأسي لأرى ما يعجز اللسان عن وصفه، أنه يشبه القصور التي في الخيال . . لا إنه أعظم من الخيال . . إنه ما لا يصل إليه خيال . . إنه مكان واسع به أعمدة عالية لا تستطيع العين أن تصل إلى نهايتها . . ومبطنة بحرير لامع يضوي بأضواء عجيبة . . ورائحة البخور . . إني أعرف تلك الرائحة، إنها مثل الرائحة التي ظهرت مع سامية ولكن أزكى منها . . وإذ بنسمة هواء باردة منعشة تسري في جسدي وتشعرني براحة عجيبة، وكأن طيور ترفرف فوق رأسي ولكني لا أراها بل أشعر بها فقط . . هدوء وسعادة وراحة تسري بجسدي مع تلك النسمة . . رحت أتمشى وأتفقد المكان، وإذ بي أمام كرسي عال وعظيم، لا يجلس عليه أحد، ومن خلفه شبه قبة الكنيسة . . رحت أتمشى وأتمشى وأتمتع بكل ما في المكان، حتى رأيت رجالاً كبار السن واقفين على هيئة قوس، كأنهم في شرف استقبال . . وكانوا يرتدون ملابساً بيضاء ناصعة البياض وعلى رؤوسهم غطاء أبيض به أشياء تضوي، ولحيتهم البيضاء الناصعة تتدلى، . . وكانوا يهمسون وهم يقولون شيئاً، حاولت أن اقترب منهم لعلي أفهم ما يقولون . . لكني لم أفهم . . فتركتهم ورحت أتمتع بما أرى . . أن عيني تعجز عن احتواء المكان أو حتى الوصول إلى نهايته . .

 

فجأة دخل شخص، لا أعرف من أين دخل أو كيف دخل . . ووجدت هؤلاء الرجال يسجدون له وسار في اتجاه الكرسي العظيم العالي . . لم يسر بخطوات على الأرض . . لا إنه سار وكأنه محمول على السحاب أو كطيف، حتى وصل إلى الكرسي وجلس عليه . . ويا للعجب أني أسير خلفه . . دون أن أفكر ودون إرادتي . . إني أتبعه . . سجدت عند قدميه يغمرني شعور عجيب . . إنه مزيج من الفرح والخوف . . سعادة . . هدوء . . سلام عجيب، مع رعدة شديدة تسري في جسدي، وكأنها تيار كهرباء . . لا أستطيع السيطرة على جسدي . . إنه يرتعد بشدة . . سألت نفسي، ما هذا الشعور العجيب؟ ومن هذا الذي أسجد له أنا وكل هؤلاء الرجال؟ لابد أن أرفع رأسي وأنظر إليه . . لأرى من هو؟ وجاهدت حتى استجمعت قواي ونظرت إليه . . يا إلهي ما هذا الذي أراه؟ إن لساني يعجز عن وصفه!! لن أجد الكلمات المناسبة لوصفه . . ما هذا الوجه المضيء؟ وما هذه البشرة البلورية؟ ما هذا الجمال؟ إنه يبدو متعباً . . مرهقاً . . حزيناً . . يرتدي ثوباً لونه فاتح، وعلى كتفه الأيسر شال قرمزي داكن اللون، وبدى شعره الأصفر المنسدل حتى كتفيه كقطعة من القطيفة!!

 

وما كل هذا الحزن؟ إنه مغمض العينين ويضع كلتا يديه على ركبتيه ورأسه مطأطئ إلى أسفل، إن العين لا تمل النظر إليه . . إنه يبدو وكأنه كان يتفقد شيئاً ما، وهو غير راض . . بل بالعكس . . إنه حزين . . ورجعت أسأل نفسي مرة أخرى . . من يكون هذا العظيم؟ أهو ملك؟ لا لم أر ملكاً بهذا الجمال . .! ومن يستطيع أن يغضب هذا العظيم؟ ورحت أحدق في وجهه الجميل المضيء المريح . . وإلى رقبته . . إنها كعامود بلور نقي . . وإلى بشرته الناصعة البياض . . وإلى وجهه المضيء كلما نظرت إليه كلما ازددت تعلقاً به، وازددت شوقاً إلى معرفته أكثر وأكثر ومعرفة من هو؟ وفجأة فتح عينيه ونظر إلي . . لم أحتمل نظرة عينيه فسقطت على وجهي . . يا إلهي!! من أرى!! ما هذه العينين؟ إني أشعر أني سوف أموت أو يغشى علي مما رأيت . . إن عينيه واسعتين يخرج منهما شعاع قوي كأشعة الشمس وحدقتا عينيه كبيرتان وكأن الكرة الأرضية كلها في حدقتي عينيه ولونهما عجيب أزرق صافي، كالسماء الصافية أو المياه النقية، يميل إلى الخضار . . وما هذه الأشعة التي وقعت علي من عينيه، إنها تسري في جسدي مثل الكهرباء . . لم احتمل النظر إليه للحظة . . كلي شوق إليه . . لقد أحببته. أريد أن أنظر إليه . . وجمعت قوتي . . لابد أن أنظر إليه مرة أخرى . . نعم ورفعت رأسي ونظرت إليه . . يا للعجب أنه ينظر إلي . . أنه يقترب بوجهه مني . . لكن ما هذه النظرة . . كله حب وحنان ورقة . . قال وهو يستعطفني بصوت هادئ "خلاص يا ناهد" سقطت على وجهي . . لم أستطيع أن أتحمل كل هذا الحب وكل هذا الحنان وكل هذه الرقة!! لا لن أجد الكلمات المناسبة لوصف ما أرى . . ولكن من أنا حتى يستعطفني هذا العظيم بهذه الطريقة، إنه أشد حناناً من الأم الرؤوم على ابنها القاسي . . وهذا العظيم يعرف اسمي؟! ويناديني باسمي . . إنه يعرفني جيداً ولكن ماذا يقصد بكلمة خلاص أنا لا أفهم قصده؟ هل أسأله؟ لا هذا لا يسأل أنه يطاع فقط، دار هذا الحديث بسرعة بيني وبين نفسي ولكن علي الآن أن أجيبه بسرعة، فقلت وأنا لا أستطيع السيطرة على نفسي "أيوه خلاص . . خلاص" كلي شوق إليه، علي أن أجمع قوتي وأنظر إليه مرة ثانية، وبالفعل رفعت رأسي لأنظر إليه، أنه يقترب مني أكثر وينظر إلي . . بنفس الحب والحنان والرقة يستعطفني مرة ثانية ويقول "متأكدة يا ناهد" إن الأشعة الخارجة من عينيه تسري في جسدي وكأنه يرى أعماقي . . وللمرة الثانية أسقط بين قدميه، لم أرى في حياتي كلها مثل هذا الحب والحنان والطيبة، ولكن كل هذا لي أنا!! من أنا حتى يعطيني كل هذا؟ وأيضاً سألت نفسي . . متأكدة من ماذا؟ أنا لا أفهم ما يقصد ولكن علي أن أطيعه، لا أجرؤ أن أسأله أجبته دون أن أرفع رأسي "أيوه متأكدة . . متأكدة" أحبه لأني أشعر بحب لا مثيل له . . وللمرة الثالثة أستجمع قواي و أرفع رأسي لأنظر إليه، ورغم الخوف الذي يتملكني . . وجسدي الذي يرتعد بشدة ولا أستطيع السيطرة عليه، لكن هناك راحة وسلام وسعادة تغمرني. نظرت إليه، يا للعجب أنه يقترب مني أكثر وأكثر . . نفس النظرة ونفس الصوت الهادي ويقول "يعني أطمئن يا ناهد" يا إلهي هذا العظيم يريد أن يطمئن مني أنا؟ ولكن على أي شيء يريد أن يطمئن؟ لابد أن أطيعه وبنفس الطريقة جاوبته وأنا لا أفهم ما يقصد "أيوه أطمئن . . أطمئن" ثم أضاف "انظري ليّ " قلت له "موش قادرة" قال بكل تأكيد " لا تخافي . . انظري لي" وعندما سمعت كلمة لا تخافي زال مني الخوف في الحال . . رفعت رأسي ومكثت أحدق في وجهه الجميل الذي يعجز اللسان عن وصفه . . لاحظت أن الأشعة القوية الخارجة من عينيه أصبحت محتملة وكأن عيناه تضيئان بأنوار. ما هذا يا إلهي؟ حب . . حنان . . رقة . . طيبة . . نقاء . . براءة، لن أجد الكلمات المناسبة لأعبر بها عما أرى.

 

ومرت لحظات . . لا أمل من النظر إليه . . وكلما نظرت إليه ازددت شوقاً إليه، ثم قال في هدوء: "ماذا ترين" وشعرت أنه يريد أن يختبرني! فسكت لحظة أفكر ثم قلت له "أرى منظر طفل،" وفي الحال زالت علامات الحزن، لكنه لم يبتسم ثم رأيت الدموع تنهمر من عينيه وكأنها سيل. لا ليس سيل فقط إنما نهر يجري على خديه إلى ملابسه . . وبكيت بشدة معه، وظل جسدي يرتعش بقوة لدرجة كبيرة، مع أني في قرارة نفسي أشعر أني سعيدة وأن إجابتي صحيحة وأنه راض عني . . ومرت لحظات . . أفقت على جسدي يرتطم بالسرير . . فتحت عيني . . أين أنا؟ وأين هو؟ أين ما كنت أرتدي؟ ومرت فترة وكأني فاقدة الذاكرة . . أرفض الواقع . . أريد أن أعود إلى ما كنت فيه . . أشعر بمرارة . . أريد أن أعود إليه ساعدني يا ربي أن أحتمل غربتي على الأرض بعيدة عنك دون أن أراك، أحبك من كل كياني، أحبك من أعماق قلبي أشعرتني أنك تحبني حباً لم أر مثله في حياتي. إن الأشعة الخارجة من عينيه صهرت جسدي وأبدلته بآخر . . وكان في كل مرة يكلمني يهز رأسه في استعطاف، وعيناه المضيئتان ترسمان دوائر من نور . . إنها أمامي لا زلت أراها . . وأيضاً صوته الهادئ الحنون في أذني لا أستطيع أن احتمل!! إنه فوق كل عقل وخيال أو تصور، إنه مزيج عجيب رغم كل الرقة والحنان والحب والطيبة، بدى في منتهى القوة، إنه عجيب!! لا أستطيع وصفه، وبعد أن هدأت قليلاً أيقظت ابنتي، إنها نائمة إلى جواري ومن قوة الرؤيا ظننت أنها رأت معي ما رأيت، وسألتها في لهفة "هل رأيت من كان يكلمني؟" ولاحظت علامات الدهشة على وجهها . . وقالت في هدوء "اهدي يا ماما . . من كان يكلمك؟" . . وصفته لها فقالت "هذا وصف ملاك، لابد أنه ملاك" ولم تقنعني أجابتها . . لا . . إني أعرفه جيداً، أعرف من هو، وأعرف ما يقصد بهذه الكلمات، وتركتها وخرجت من الحجرة وذهبت نحو غرفة ابني . . رويت له كل ما حدث وسألته نفس السؤال وبدت عليه نفس علامات الدهشة، إنه لم يرني من قبل بهذه الحالة وقال في هدوء "اهدي يا ماما لابد أنه ملاك، إنه وصف ملاك" ولكن لا . . أنا أعرف من هو . . ولكني لم أستطيع أن اصدق نفسي، وبعد فترة استيقظ زوجي من نومه على صوتي، وسألته هو أيضاً فرد قائلاً "ربما يوسف أن له نفس الأوصاف" ولكن . . لا ليس يوسف الصديق . . اعرف من هو ولكن من عظم المفاجأة أريد أن يؤكد لي أحد. ارتديت ملابسي بسرعة ونزلت اجري إلى المدرسة، إني أكاد أن أطير، لا أشعر بخطواتي على الأرض، يملكني شعور غريب كأني من عالم آخر، أنا غريبة في هذا العالم، إن ما رأيت وسمعت أعظم من أن يتحمله بشر.

 

دخلت حجرة سامية وسألتها بلهفة: من له هذه الأوصاف؟ وبدأت أصف لها وأشرح لها كل ما حدث وأنا لا أستطيع أن أتمالك نفسي من شد البكاء، ولا أستطيع السيطرة على جسدي . . إني أرتعد بقوة، فمنذ بدأت أروي لها ما حدث وكأني أعيشه مرة ثانية، إني أرى عينيه تضيئان بأنوار أمامي، وأسمع صوته الحنون الهادئ في أذني. وبعد أن انتهيت بدت على سامية علامات الدهشة والذهول وقالت "سوف أعرض عليك مجموعة من الصور وعليك أن تتعرفي على صورته،" فتحت حقيبة يدها وأخرجت مجموعة كبيرة من الصور وأعطتها لي، نظرت إلى الصور واحدة بعد الأخرى وبسرعة التقطت صورة الحبيب من بين الصور وقلت لها "هذه الصورة له، ولكنه أبدع بكثير منها" ولم انتظر إجابة سامية فمن نظرتها لي عرفت أنه هو . . لم تستطع هي أن تجيبني من هو وقالت "سوف أسأل أبونا أولاً وبعد ذلك أجاوبك."

 

تركتها وتوجهت إلى مكتبي وتذكرت الأستاذ مفيد، إنه مدرس علوم بالمدرسة لابد أنه جالس في مكتبي وينتظرني كعادته، منذ عامين ويلازمني كظلي رغم كل ما بدى مني ضد مسيحيي المدرسة، أجده يتفانى في خدمتي ومساعدتي، لقد تحمل مني الكثير. تطاولي عليه، تصرفاتي السيئة، خروجي عن حدود الأدب مع كل المسيحيين، بل بالعكس كان يرد على أسائلتي بكل إحسان، لم استطع يوماً أن أفقده سلامه أو هدوءه.

 

دخلت مكتبي وإذ به جالس بجوار مكتبي يقرأ في الجريدة اليومية كعادته وحينما نظر إلى أسرع قائلاً "ما بك." جلست إلى مكتبي وأنا أشعر أني أكاد أن أسقط على الأرض . . قلت له "مفيد لقد رأيت رؤية عجيبة أريد أن أخبرك بها" قال في لهفة "قولي كل شيء بالتفصيل" وبدأت أروي له كل ما رأيت وبالتفصيل وكنت لا أستطيع السيطرة على نفسي من شدة البكاء، وبدأت علامات الذهول على وجه مفيد. وبعد أن انتهيت قال "أرجوك سامحيني أعيدي مرة أخرى ما قلتيه" وكررت مرة ثانية، وإذ به يريدني أن اكرر للمرة الثالثة، كررت له، وشعرت أن مفيد يرى ما رأيت وأنا أروي له، رفع رأسه لأعلى وقال "أشكرك يا رب" وأضاف في هدوء قائلاً "أتريدين فعلاً أن تعرفي من هو؟" قلت له بكل ثقة "نعم، طبعاً" قال بهدوء "إنه المسيح." رغم إني أعرف أنه هو، ورغم أني متأكدة أنه هو . . فوجئت بهذا النبأ. وانهرت تماماً وأخذت أبكي بشدة وأرتعد، حاول مفيد تهدئتي ولكن دون جدوى، خرج من حجرتي وأغلق خلفه الباب وتركني وحدي. لا أعرف كم مضى من الوقت وأنا في هذه الحالة، لكني كنت أشعر به من حين لآخر يفتح الباب وينظر كيف حالي، حتى هدأت . . دخل حجرتي مرة أخرى وجلس بجواري، التفت إليه وقلت "من أنا حتى أرى المسيح؟ ومن أنا حتى يكلمني بهذه الطريقة؟ إنه يستعطفني بكل حب وحنان ورقة؟ وماذا يعني بخلاص يا ناهد . . متأكدة يا ناهد . . أطمئن يا ناهد؟ أكاد أن أفقد عقلي! كل هذا الحب لي أنا؟ كل هذا الحنان لا أستطيع أن أصدق نفسي أنا لم أكن نائمة أنا كنت مستيقظة، أنا لم أكن في منزلي أو سريري . . لا . . لقد كنت في مكان آخر. لساني يعجز عن وصف ما رأيت . . لا توجد الكلمات المناسبة" . . رد علي قائلاً "نعم نحن لا نستحق شيئاً ولكنه لا يعطينا حسب استحقاقنا إنه يعطي من غنى مجده." قلت له "إني أخجل من نفسي . . يا لذنوبي! أريد أن أنسحق في التراب ندماً على ما فات من عمري دون أن أعرفه، إن ذنوبي كجبل على أكتافي ، ورغم كل هذه الذنوب يقابلني بهذا الحب؟" أجابني بكل هدوء "إنه يحب الخطاة، وعندما يتوبوا، هو يقول أنسى كل خطاياكم ولا أعود أذكرها . . إنه السيد المسيح إلهنا الطيب" قلت له "ماذا يجب علي أن أفعل الآن" قاطعني قائلاً "لا شيء، اصبري وهو سوف يكمل عمله معك ويرشدك ولكن اهدئي وحاولي أن تكوني طبيعية" وتركني وانصرف.

 

مرت أيام وأنا أواصل الليل بالنهار، لا أرى غير عينيه المضيئتين، ولا اسمع غير صوته الحنون، يا لعظم محبتك لنا نحن الخطاة. وفي أحد الأيام كنت أكلم إلهي الحبيب وسألته "إلهي . . إني أخجل من نفسي . . لماذا كل هذه البركة والنعمة. لا أستطيع أن أرفع رأسي أمامك خجلاً من ذنوبي . . أرشدني يا رب ماذا أفعل؟ أكاد أن أذوب انسحاقاً واشتياقاً إليك . . أعن ضعفي . . ساعدني أن أتحمل، ولكن لماذا أنا . . من أنا حتى ألقاك وتنعم علي بكل هذا؟" وفي الحال جاء رد الحبيب "أنت لك رسالة" يا للعجب!! ولم أصدق ما سمعت وكررت مرة أخرى "لماذا" ورد علي مرة ثانية "أنت لك رسالة" صرخت "أنا يا ربي" وللمرة الثالثة "أنت لك رسالة . . اهدئي واطمئني . . ولا تستعجلي . . لكي لا تضيعي كل شيء."

 

وسادني سلام وهدوء وقلت للرب "إلهي أنا ملك لك، لتكن إرادتك لا إرادتي، سلمتك نفسي لتفعل بي ما تشاء، لا أريد غير وجهك الحبيب، عرفت من اللحظة الأولى كم يحبني، ليتني أستطيع أن أحبك بالقدر الكافي، أي شرف وعزة وكرامة أن يستخدمني الرب، ساعدني يا ربي وقوني أن أكون على الصورة التي ترضاها . . سامحني واغفر لي . . تفضل يا ربي وتربع على عرش قلبي بلا شريك . . أنا لك وسأظل لك ما دمت حية ولكن أرجوك احفظني فيك إلى النفس الأخير."

 

وهكذا أصبحت "ناهد" بعد لقاء رب المجد. كل العالم لا شيء . .

لا يوجد على الأرض شيء يساوي نقطة من دموع الحبيب . .

معه لا أريد شيئاً . . فيه الحب والسلام والأمان

فيه الشبع . . نعم كل الشبع

 

الصفحة الرئيسية