التالي

بحث ثالث

التوحيد القرآني ما بين التشبيه والتنزيه

أولاً : الإجماع على أن آيات الصفات الإلهية من المتشابه في القرآن

من يقول إن حرف التوحيد واحد في التوراة والانجيل والقرآن، ل ا يشك بالتوحيد الخالص في الاسلام : " ألا لله الدين الخالص " (الزمر 3). لكن هذا التوحيد الخالص قد جاءأيضاً في القرآن غارقاً في التشبيه. فادعاء الاعجاز في التوحيد، والبلاغ القرآني به، لأنه جاءَ بأسلوب التجريد والتنزيه اللذين ل ا نجدهما في التوراة والانجيل، ولا في الموسوية والمسيحية، لا يستند الى الواقع القرآني. فالوحي يتكلم بلغة الناس، وللبشريه كلها، لا لعلماء الكلام وحدهم، فلا بد له أن يأتي بأسلوب التشبيه في تنزيله.

للسيوطي في (الاتقان) فصل : " من المتشابه آيات الصفات " (2: 6-8). يستفتحه بقوله : " وجمهور أهل السنة، فهم السلف وأهل الحديث، على الايمان بها، وتفويض معناها المراد منها الى اللّه تعالى، ولا نفسّرها، مع تنزيهنا له عن حقيقتها " . فهم يقرون بالاجماع بالمتشابه في آيات الصفات الالهيّة. وهي متشابهة لأنها كلها تشبيه، لا تجريد فيها ولا تنزيه.

ثانياً : صورة اللّه في القرآن

1- " الرحمن على العرش استوى " (طه 5)؛ " ثم استوى على العرش " (7: 54؛ 10: 3؛ 13 : 2؛ 25 : 59؛ 32 : 4؛ 57 : 4). فهو " رب العرش العظيم " (9: 129؛ 23 : 86؛ 27 : 26)، فسبحان اللّه رب العرش " (21: 22)، " : " وهو رب العرش الكريم "

(23 : 116)، " رفيع الدرجات ذو العرش " (40 : 15)، " ذو العرش المجيد " (85 : 15)، " ذي العرش " (17 : 42)، " عند ذي العرش " (81 : 20). ومن الملا ئكة حملة العرش : " الذين يحملون العرش " (40 : 7 " ، " ويحمل عرش ربك " (69 : 17)؛ " حافّين من حول العرش " (39 : 75).

وعند الخلق " كان عرشه على الماء " (11: 7) يسبح كالفُلْك. و " عرش " اللّه، هو لفظاً، كعرش يوسف " ورفع أبويه على العرش " (12: 100)؛ أ و كعرش ملكة سبأ: " قيل: أهكذا عرشك " (27: 42)، " أيكم يأتيني بعرشها " (27: 38)، " نكّروا لها عرشها " (27: 41).

فالقرآن يصوّر الجبار كملك الكون " على العرش استوى " ، ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية " (69: 17)، "والملك على أرجائها" (69:17)، " حافين من حول العرش " (39: 75). إنها صورة رائعة، لكنها غارقة في التشبيه، بلا تنزيه ولا تجريد. وقد صدمت هذه الصورة علماء الكلام، وملأوا كتبهم من البحث في " الرحمن على العرش استوى " .

وينقل السيوطي سبعة تفاسير لا يستوي منها واحد، فيردّها جميعاً، ويتوقف هو في تفسيرها. بل ينقل عن أم سلمة قالت : ":" الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول، والاقرار به من الايمان، ، والجحود به كفر ". وعن مالك أنه سئل عن الآية فقال : " الكيف غير معقول، واستواء غير مجهول، والايمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ".

2- نفس اللّه : " ويحذركم اللّه ن ف سه " (3: 28 و 30)، " كتب على نفسه الرحمة " ( 6: 12)، " كتب ربكم على نفسه الرحمة " (6: 54). ويرفع في ما لفظ " النفس " من مجاز قوله : " تعلم ما في نفسي، ول ا أع ل م ما في نفسك " (المائدة 116)، فاللّه له نفس كما عيسى له نفس.

نقل السيوطي : " قال ابن اللبان : أولها العلماء بتأويلات ، منها ان النفس عبّر بها عن الذات. قال : وهذا وان كان سائغاً في اللغة، ولكن تعدّي الفعل اليها (بقي)المفيدة للظرفية، محال عليه تعالى. وقد أولها بعضهم بالغيب أي (ولا اعلم ما في غيبك وسرك). قال : وهذا حسن لقوله في آخر الآية : انك انت علام الغيوب " – لا ش ىء يدل على المشا كلة ، واللّه في " نفسه " علام الغيوب : فنفسه والغيب عارف ومعروف، لا ش ئ واحد. فالتشبيه بالبشر في ذات اللّه قائم.

3 - وجه اللّه : " فثَمَّ وجه اللّه " (2: 115)؛ " ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام " (الرحمن 27)، " إلاّ ابتغاء وجه اللّه " (2: 272)، " ابتغاء وجه ربهم " (13: 22)، " إنا نطعمكم لوجه اللّه " (76: 9)، " إلاّ ابتغاء وجه ربه " (92: 20)، " خير للذين يريدون وجه اللّه " (30: 38)، " تريدون وجه اللّه " (30: 39).

نقل السيوطي : " وهو مؤول بالذات … .. أو بالجهة … . أو المراد اخلاص النية " . أجل انه تأويل. لكن يمنع ظاهر النص من ذلك. فإن جاز المجاز في بعض التعابير، فلا يصح كما في قوله : " ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام " . فمن يستوي على العرش كبشر، له وجه كبشر.

4 - عين اللّه، أعين اللّه : " وألقيت عليك محبة مني، ولتُصْنَع على عيني " (طه 39 )؛ " واصنع الفلك بأعيننا " (11: 37؛ 23: 27)، " تجري بأعيننا " (54: 14)، " فأنك بأعيننا " (52: 48).

نقل السيوطي : " هي مؤولة بالبصر أو الادراك. بل قال بعضهم : انها حقيقة في ذلك، خلافاً لتوهم بعض الناس انها مجاز، وانما المجاز في تسمية العضو بها " .

5 - يد اللّه : يد اللّه فوق أيد يهم " (48: 10)، " ان الفضل بيد اللّه " (3: 73؛ 57: 29) ، " لا تقدّموا بين يدَي اللّه " (49: 1)، " يد اللّه مغلولة " ) (5: 64)، " بل يداه مبسوطتان " (5 : 67)، " من بيده ملكوت كل ش ىء " (23: 88)، " فسب ح ان الذي بيده " (36: 83)، " تبارك الذي بيده " (67: 1)؛ " والسموات مطويات بيمينه " (39: 67)، ويوم الدين، يكون الخالصون " أصحاب اليمين " (56: 27 و 38 و90 و91)؛ " لما خلقت بيدَيَّ " (38: 75). فالله تعالى له يدان، مثل الانسان، وان كان " ليس كمثله شيء " (42: 11).

نقل السيوطي : " وهي مؤولة بالقدرة. قال الأشعري : إن اليد صفة ورد بها الشرع؛ والذي يلوح من معنى هذه الصفة انها قريبة من معنى القدرة، إلاّ أنها أخص، والقدرة أعم. وقال البغوي : في قوله " بيدَيَّ " – في تحقيق الله التثن ية في اليد – دليل على أنها ليست بمعنى القدرة والقوة والنعمة؛ وانما هما صفتان من صفات ذاته. قال ابن اللبان: فإن قلتَ فما حقيقة اليدين في خلق آدم ؟ قلت : اللّه اعلم بما اراد " . أجل هناك تعابير مجازية، ولكن هناك ايضاً تعابير

مجازية، لكن نهناك ايضاً تعابير تؤخذ على ظاهرها وحقيقتها، كقوله " خلقتُ بيدَيَّ " ، حيث ترد توكيداً وتحقيقا للخلق، وتوكيداً وتحقيقاً للبعث : " مطويات بيمينه " .

6- جنب اللّه : " على ما فرّطت في جنب اللّه " (39: 56) ان صفة المجاز بادية على التعبير. لكن اللّه جنباً، كما له وجه ويد، وإن كان " ليس كمثله شيء " .

7- صفة الحركة : " وجاء ربك والملك " (86: 22)، " أو يأتي ربك " (6: 158)، " اذهب انت وربك فقاتلا " (5 : 24). فاللّه يتحرك كالانسان. ومَن يُحمل على العرش يجول فيه : " ويحمل عرش ربك " (69: 17)، ويأتي الى حساب عباده كما يجيء ملا ئكته معه. ففي التعابير مجاز، لكن فيها أيضاً حقيقة على مثال المخلوق، وان كان " ليس كمثله شيء " .

وهناك صفات التجسيم كالقرب، والفوقية، والعندية، والمعية. وهناك التشبيه بتعابير الاعراض النفسانية كالحب، والغضب، والرحمة، والرضى، والعجب والمكر والاستهزاء والحياء. ومن له " نفس " كنفس الانسان، له عوارضها، وله اعمالها، وان كان " ليس كمثله شيء " .

ثالثاً : اختلافهم ما بين الظاهر والتأويل

لذلك قال العلماء : " كل صفة يستحيل حقيقتها على اللّه تعالى تفسّر بلا زمها " كما نقل السيوطي. لكن هذا تفسير وتأويل لصريح ال قرآن وظاهره. ومذهب أهل السنة والجماعة على الأخذ بالظاهر، أكثر منه بالتأويل. نقل السيوطي : " اتفق الفقهاء كلهم من المشرق الى المغرب على الايمان بالصفات، من غير تفسير، ولا تشبيه. وقال الترمذي : المذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة انهم قالوا : نروي هذه الاحاديث كما جاءَت، ونؤمن بها، ولا يقال كيف، ولا نفسّر، ولا نتوهّم. وذهبت طائفة من أهل السنة الى أننا نؤولهاعلى ما يليق بجلاله تعالى "

فهو مذهب ت أ ويل، لا تفسير باللغة والبيان.

فالتشبيه في وصف اللّه وصفاته هو اسلوب القرآن وعقيدته.ولا تجد تجاهه في القرآن كله ما يحمل على التنزيه والتجريد سوى قوله : "ل ي س كمثله شىء ( الشورى 11)؛ و لله

المثل الاعلى " ( النحل 60)، " وله المثل الأعلى " ( الروم 27)؛ " لا تدركه الابصار، وهو يدرك الأبصار " ( الانعام 103). فقوله " ليس كمثله شيء " ينفي المثلية، ولا ينفي التشبيه " بالمثل الاعلى " . وقوله " يدرك الابصار ولا تدركه الابصار " يدل على التفاوت في الادراك بالبصر، لا على نفي البصر في اللّه. وتعابير القرآن تأتي ما ببين المجاز والحقيقة في ذالك، ولكن مجازها لا يمنع الحقيقة في غيرها.

فالتشبيه اسلوب القرآن في التوحيد، مثل التوراة : " ومن قبله كتاب موسى اماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً " الاحقاف 12)، فليس فيه، من العقيدة الإلهية، ما يمتاز به إلاّ أنه " كتاب مصدق لساناً عربياً " .

وفي الانجيل والمسيحية عقيدة التجسّد، تجسد كلمة اللّه من مريم، ليست من التجسيد في شيء، ولا من التشبيه في ا لتوحيد في شيء. وليس قي الانجيل من تعابير التشبيه في التوحيد، كالقرآن والتوراة، شيء يذكر.

وهذا الواقع القرآني القائم على التشبيه في التوحيد، مع إشارة بعيدة الى التنزيه والتجريد هل هو من الاعجاز في البلاغ ؟

تلك شبهة ثالثة على البلاغة القرآنية.

التالي