التالي

بحث سابع

الدلالة ما بين الإعجاز والمعجزة

إن الناس حتى اليوم على شهادة السيوطى وابن خلدون فى المفاضلة بالدلالة ما بين الاعجاز والمعجزة.

يقول السيوطى (الاتقان 2 : 116): " اعلم ان المعجزة أمر خارق للعادة - مقرون بالتحدى - سالم عن المعارضة" . ثم يقول: " وهى إما حسية وإما عقلية . وأكثر معجزات بنى اسرائيل كانت حسية لبلادتهم وقلة بصيرتهم. وأكثر معجزات هذه الأمة عقلية لفرط ذكائهم وكمال أفهامهم".

ثم يقول: " ولأن هذه الشريعة، لما كانت باقية على صفحات الدهر الى يوم القيامة، خُصت بالمعجزة العقلية الباقية ليراها ذوو البصائر ... إن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض اعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها. ومعجزة القرآن مستمرة الى يوم القيامة، وخرقه العادة فى اسلوبه وبلاغته ... إن المعجزات الماضية الواضحة كانت حسية تشاهد بالأبصار ... ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة ... وقال تعالى: " أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم" ، فأخبر ان الكتاب آية من آياته كاف فى الدلالة، قائم مقام معجزات غيره وآيات مَن سواه من الأنبياء".

ففى عرفهم أن معجزات الأنبياء حسية وقتية كانت وانقرضت، فلا تدوم للشهادة. واعجاز القرآن معجزة عقلية دائمة قائمة فى حرف القرآن.

هذا ما أوجزه ابن خلدون فى قوله: " واعلم ان أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة القرآن ... لاتحاد الدليل والمدلول فيه ". وقال: " ان الخوارق فى الغالب تقع مغايرة للوحى الذى يتلقاه النبى، ويأتى بالمعجزة شاهدة على صدقه" - فهى زائدة عليه من خارجه. " والقرآن هو نفسه الوحى المدّعى، وهو الخارق المعجز: فشاهده فى عينه ولا يفتقر الى دليل مغاير له مع الوحى، كسائر المعجزات".

ونقول: لكن معجزة الاعجاز البيانى هى لغوية عقلية . وفى هذا عينه، هى قاصرة عاجزة عن الدلالة المطلقة لكل الأمة، ولسائر الأمم. فالمعجزة اللغوية العقلية لا يفقهها إلا الأقلية من الناس، وتبقى دلالتها عند الأكثرية لا معنى لها ولا فائدة فيها.

بينما المعجزة الحسية، وان انقضت، فإن شهادتها للنبوة والتنزيل لا تنقضى. فإن معجزات موسى ومعجزات عيسى تشهد الى يوم القيامة، ولجميع الناس على السواء، بلا استثناء، أن الله أنزل التوراة على موسى والانجيل على عيسى. وفى الفطرة البشرية، والخبرة الانسانية، ان أعم وأفضل ما يُعلم هو ما يقوم على الحس والمشاهدة، على البصر أكثر من البصيرة. فهو ملموس محسوس، لا يمارى فيه أحد.

" هذه عصا موسى. انها عصا من العصى. لا أكثر ولا أقل ... ومع هذا فهى بين يديه تحمل ما تحمل من قوى الحق التى تعجز يد البشر على ان تنال منها منالاً. يلقيها من يده فإذا هى حية تسعى. ويضرب بها البحر فينفلق، فإذا كل فرق كالطود العظيم. ويضرب بها الحجر فتنفجر منه اثنتا عشرة عيناً" .

" كذلك معجزات عيسى: يهتف بالميت فيصحو: ويشير الى الأكمه والأبرص فيبرأ ... وليس فى صوته الذى يهتف به شىء يخالف مألوف الأصوات المعروفة للناس. انه مجرد كلمة تنطلق من فم؛ فإذا هى حياة، واذا هى روح تسرى فى موات فتبعثه من مرقده ... ومجرد اشارة تتجه الى أعمى فإذا هو مبصر، أو الى أصم فإذا هو سميع مجيب.

" واذن فليس الشأن فى هذا الصوت أو فى تلك الاشارة، وانما هو قوة قادرة، لا تُرى، قد جعلت لهذه الكلمة ولتلك الاشارة هذا الأمر المعجز.

" وليس للناس إزاء هذا الانقلاب الشامل لطبائع الأشياء، وخروجها على مألوف الحياة عندهم، رأى أو نظر. وانما هو الدهش والعجب . أو الحيرة والتبلد. اذ ماذا يرى الناس أو يقولون فى كلمة يحيا بها الميت؟ وماذا يرى الناس أو يقولون فى إشارة يبرأ بها الأكمة أو الأبرص؟

" أما القرآن الكريم فشأنه غير هذا الشأن وأمره على خلاف هذا الأمر" - إنه اعجاز كلمات وألفاظ وعبارات. " انها معجزة لا ترى بالعين، ولا تُلمس باليد".

ولذلك فدلالة المعجزة أقوى وأعم وأظهر من دلالة الاعجاز. لا يجادل مؤمن فى معجزات موسى ومعجزات عيسى. إنما أهل الاعجاز فما يزالون مختلفين فى وجه الاعجاز، وبالتالى فى وجه دلالته على النبوة والكتاب. فالمعجزة تشهد شهادة قاطعة لجميع الناس. والإعجاز البيانى قد يشهد شهادة مشبوهة لبعض الناس.

يقول الخطيب : " مع هذا الاجماع على أن القرآن هو معجزة الرسول ، ومع هذا الاجماع ايضاً على وقوع الاعجاز به . . . فإن الوقوف على الجهة التى كان منها الاعجاز القرآنى، أمر لم تلتق عنده الآراء ولم يكن محل اتفاق بين الباحثين والناظرين فى وجوه الاعجاز فى كل زمان ومكان . . . وليس كذلك الشأن فى معجزات الأنبياء. اذ كل معجزة كانت تنادى معلنة فى وضوح عن صفتها التى أعجزت بها. وتسير بصراحة الى الجهة التى جاء منها الاعجاز، فيعلم الناس ماذا فى المعجزة من دلائل الاعجاز".

فلا يصح ان يكون اعجاز القرآن معجزة الله على صحة النبوة والتنزيل.

____________________________

(1) عبد الكريم الخطيب: اعجاز القرآن 1 : 65 و 119 - 121

(1) عبد الكريم الخطيب: اعجاز القرآن 1 : 118

التالي