التالي

بحث رابع

في معرفة حفّاظه ورواته (الإتقان 72:1)

إن واقع البيئة ، وواقع السيرة النبوية ، يدلاّن على أن حفظ القرآن قام على حفظه في الصدور ، لا على تدوينه في الأحجار والقشو ر . فصحة حفظه تقوم على "معرفة حفّاظه ورواته" . وقد جمع السيوطي من الأحاديث ما يحمل على الشبهة والريبة .

الواقع الأول : "روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول : خذوا القرآن من أربعة (من عبد الله بن مسعود ، وسالم ، ومعاذ ، وأبَي بن كعب) . أي تعلموا منهم . والأربعة المذكورون اثنان من المهاجرين ، وهما (ابن مسعود وسالم) واثنان من الأنصار (معاذ وأبي) . وسالم هو ابن معقل مولى أبي حذيفة ؛ ومعاذ هو ابن جبل ... وقد قتل سالم ، مولى أبي حذيفة في وقعة اليمامة ؛ ومات معاذ في خلافة عمر ؛ ومات أبي وابن مسعود في خلافة عثمان . وقد تأخر زيد بن ثابت وانتهت اليه الرئاسة في القراءَة ، وعاش بعدهم زمنا طويلا" . فالنتجية الحاسمة لهذا الحديث الصحيح أن زيد بن ثابت لم يوصِ النبي بأخذ القرآن عنه . ولم يحضر نزول القرآن بمكة ، لحداثة سنه ، وهو انصاري . فإسناد رئاسة قراءَة القرآن وجمعه اليه موضوع نظر . ولمّا جمع زيد بن ثابت القرآن الجمع الأخير على زمن عثمان كان القراء الأربعة الذين أوصى بهم النبي قد توفوا . فلم يبق له من سند لا شبهة عليه .

الواقع الثاني : أجل لا نحصر حفظة القرآن بالأربعة الموصى بهم . لكن جاء "في الصحيح في غزوة بئر معونة ان الذين قتلوا بها من الصحابة كان يقال لهم القراء . وكانوا سبعين رجلا ... وقال القرطبي : قد قتل يوم اليمامة سبعون من القراء ، وقتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ببئر معونة مثل هذا العدد" . فعلى عهد النبي ثم في حروب الردّة على أيام أبي بكر كان قد قُتل من القراء نحو أربعين وماية قارئا . وذلك قبل أن يباشر زيد بن ثابت بأمر أبي بكر ، على نصيحة عمر ، بجمع القرآن . فالنتيجة الحاسمة الثانية أن أكثر حفظة القرآن قد ماتوا قبل جمعه وتدوينه . وحفظته من الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين كانوا يحفظون شذرات ، ولا يحملون القرآن كله ، وأنّى لهم الفراغ مع النبي وبعده .

الواقع الثالث ، في ثلاثة أحاديث متعارضة :

"روى البخاري أيضا عن قتادة قال : سألتُ أنس بن مالك ، مَن جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أربعة كلهم من الأنصار ، أبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد . قلتُ : مَن أبو زيد ؟ قال أحد عمومتي . وروى أيضا من طريق ثابت عن أنس : مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة ، أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد (عم أنس بن مالك) . وفيه المخالفة لحديث قتادة من وجهين حدهما التصريح بصيغة الحصر في الأربعة . والآخر ذكر أبي الدرداء بدل أبي بن كعب . وقد استنكر جماعة من الأثمة الحصر في الأربعة" .

والظاهر أنه جمع حفظ ، لا جمع تدوين – وإلاّ فلا معنى لتدوين زيد بن ثابت . والمشكل أنهم " كلهم من الأنصار " ، لم يشهدوا التنزيل في مكة ؛ وليس بينهم عبد الله بن مسعود ولا سالم ، وكلاهما من المهاجرين . والتعارض الأكبر بين هذين الحديثين ، والحديث البخاري الأول أنه ليس بينهم أحد – سوى أبي زيد – ممن أوصى النبي بأخذ القرآن عنهم . ولا ذكر لأبي زيد في قصة تدوين القرآن . وفي قول أنس أنه "لم يجمعه غيرهم" . وهو متعارض مع حديث وصية النبي بأخذ القرآن عن غيرهم . فممّن أخذوا القرآن ؟

ويأتي الحديث الثالث فيغمرنا بالظلمة : "أخرج ابن اشته بسند صحيح عن محمد بن سيرين قال : مات أبو بكر ولم يُجمع القرآن ؛ وقتل عمر ولم يُجمع القرآن . قال ابن اشته : قال بعضهم يعني لم يُقرأ جميع القرآن حفظا ؛ وقال بعضهم هو جمع المصاحف" . وحديث ابن سيرين ينقض قصة جمع القرآن وتديونه بواسطة زيد بن ثابت على أيام أبي بكر وعمر .

والنتيجة الحاسمة الكبرى أن حفظ القرآن ثم جمعه يقومان على أكتاف زيد بن ثابت ، وهو فتى أنصاري على حياة النبي ؛ ولم يوصِ النبي بأخذ القرآن عنه . فرئاسته في قراءَة القرآن وجمعه وتدوينه محل شبهة ، بسبب سنه على حياة النبي ، وبسبب وصية النبي في أخذ القرآن عن غيره . فهل التاريخ الثابت من الحديث الصحيح يدل على معجزة في حفظ القرآن ؟

التالي