التالي

من تاريخ جمع القرآن وتدوينه

إن تاريخ جمع القرآن يُلقي ظلاًّ ثقيلا على سلامة حرفه ، موضوع اعجازه .

بعد وفاة النبي ظهرت محاولات فردية ثم رسمية لجمع القرآن .

أولا : المحاولات الفردية لجمع القرآن

إن تعدّد أنواع الجامعين ، وتنوّع المصاحف المجموعة المختلفة تثير شبهات .

1 – في المحاولات الفردية اختلفوا في أول مَن حاول جمع القرآن .

قيل أن أول مَن حاول جمع القرآن علي بن أبي طالب . بعد بيعة أبي بكر قعد في بيته . فقيل لأبي بكر : كره بيعتك ! فأرسل إليه فقال : أكرهتَ بيعتي ؟ قال : لا واللهِ ! قال : ما أقعدك عني ؟ قال : رأيتُ كتاب الله يُزاد فيه فحدّثت نفسي أن لا ألبس ردائي إلاّ لصلاة حتى أجمعه . قال له أبو بكر : فإنك نِعم ما رأيت ! – هذا حديث محمد بن سيرين عن عكرمة . وقيل جمع علي القرآن كما أُنزِل الأول فالأول ، بحسب تاريخ نزوله . وأخرجه ابن أشته في (المصاحف) من وجه آخر عن ابن سيرين أنه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ (1) .

ويُرجع أهل السنة الفضل في جمع القرآن لأبي بكر الصديق . "أخرج ابن أبي داود في (المصاحف) بسند حسن عن عبد خير قال : "سمعت عليًّا يقول : أعظم الناس في المصاحف أجرًا أبو بكر . رحمة الله على أبي بكر هو أول مَن جمع كتاب الله" ! لكن ابن أبي داود ينقل أيضا الحديث المناقض لابن سيرين عن عكرمة أن عليًّا كان أول من جمع القرآن(2) .

ــــــــــــــــــــــــ

(1) السيوطي : الاتقان 59:1 ؛ قابل تفسير الطبري 63:1 ؛ قابل دروزة : القرآن المجيد 55

(2) المصادر نفسها

"وأخرج ابن أبي داود من طريق الحسن أن عمر بن الخطاب سأل عن آية في كتاب الله فقيل : كانت مع فلان قُتل يوم اليمامة . فقال : إنّا لله ! وأمر بجمع القرآن فكان أول مَن جمعه في المصحف" . يفسّره السيوطي : "المراد بقوله (فكان أول مَن جمعه) أي أشار لجمعه" (1) .

وهكذا ينسبون الأولية في جمع القرآن الى كلٍّ من الخلفاء الراشدين الأربعة .

لكن لم يكن لهم في مهام خلافتهم متّسع من الوقت للاهتمام شخصيا بجمعه . لذلك أخرج ابن اشته في كتاب (المصاحف) عن ابن بريدة قال : "أول من جمع القرآن في مِصحف سالم ، مولى أبي حذيفة ، أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه فجمعه . ثم ائتمروا ما يسمونه . فقال بعضهم سمّوه : السفر . قال ؛ ذلك تسمية اليهود ، فكرهوه ، فقال : رأيتُ مثله في الحبشة يُسمى المصحف ، فاجتمع رأيهم على أن يسموه المصحف" . فسّره السيوطي : "وهو مجمول على أنه كان أحد الجامعين بأمر أبي بكر" (2) .

لاحظ الاختلافات وكثرة الاحتمالات في قصة جمع القرآن .

والحديث المعتمد عن صحيح البخاري أن أبا بكر الصديق ، بإشارة عمر ، أمر زيد بن ثابت في جمع القرآن ؛ "فتتبعت القرآن أجمعه من العُسب واللخاف وصدور الرجال ... فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر" (3) . فيكون زيد بن ثابت هو أول جامع للقرآن . والشبهة الكبرى في ذلك أن زيدا ، على حياة النبي ، لم يكن قد بلغ الحلم بعد .

2 – وذكروا أيضا أنّ أمهات المؤمنين ، أزواج النبي ، قد حاولن هنّ أيضا جمع القرآن .

فذكروا أن عمر بن رافع ، مولى حفصة ، بنت عمر وزوج النبي ، جمع لها مصحفا ، عُرف باسمها . وهذا يُلقي شبهة أخرى على الصحف التي جمعها زيد بأمر أبي بكر وعمر ، "فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر" كما نقل البخاري من حديث زيد بن ثابت .

ــــــــــــــــــــــــ

(1) الاتقان 59:1

(2) الاتقان 59:1

(3) صحيح البخاري . قابل السيوطي : الاتقان 59:1

وذكروا أيضا أن أبا يونس ، مولى عائشة ، بنت أبي بكر وزوج النبي المفضّلة ، جمع لها مصحفا عُرف أيضا باسمها . وقد روى عروة بن الزبير حديثا عن عائشة : "إن سورة الأحزاب كانت تُقرأ في زمن النبي مئتي آية . فلما كتب عثمان المصاحف لم نُقدر منها إلاّ ما هو الآن" ، أي (73 آية) . وروي عن حميدة بنت أبي أوس قالت : "قرأ عليَّ أبي ، وهو ابن ثمانين ، في مصحف عائشة : (يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليمًا – وعلى الذين في الصفوف الأولى) ، وذلك قبل أن يغيّر عثمان المصاحف " .

فعليُّ يشهد بأن كتاب الله يُزاد فيه ؛ وعائشة تشهد بأن عثمان غيّر المصاحف .

فهناك تيّار ينسب جمع القرآن الى كل من الخلفاء الراشدين . وهناك تيار ينسبه الى موالي أمهات المؤمنين .

3 – وهناك تيار ثالث ينسب مصاحف أخرى لأئمة القراء الذين أوصى بهم النبي : مصحف عبد الله بن مسعود ، ومصحف أُبي بن كعب ، ومصحف معاذ ، ومصحف سالم ، مولى حذيفة . وأشهرهما مصحف ابن مسعود ، ومصحف أُبي . "وإن المصحفين ظلاّ موجودين يُقرأان إلى ما بعد عثمان بمدة طويلة ، وإن ترتيب سور كل منهما مغاير لترتيب الآخر من جهة ، ومغاير لترتيب المصحف العثماني من جهة أخرى . وإن في أحدهما زيادة ، وفي أحدهما نقص "(1) . فلم تكن الفاتحة ، ولا خاتمة القرآن (المعوذتان) في مصحف ابن مسعود ، وكان يحكهما ويقول ؛ إنهما ليستا من كتاب الله(2) . فابن مسعود يشهد بأن ( الفاتحة ) ليست من القرآن .

وفي مصحف أُبي ، كانت سورة اسمها " الحفد " وأخرى اسمها " الخلع " وكان عليّ يعلّمهما الناس ، وعمر بن الخطاب يُصلّي بهما . وقد أسقطهما عثمان في الجمع الأخير(3) .

4 – وهذا هو الواقع القائم بين هذه التيارات : كان الناس في الأقطار يقرأون القرآن بقراءَة القرّاء المختلفة . روى ابن الأثير (86:3) أن الأمة قبل عثمان كانت تقرأ القرآن في أربع نسخ مختلفة : نسخة أُبي في دمشق ، ونسخة المقداد في حمص ، ونسخة ابن مسعود في

ــــــــــــــــــــــــ

(1) دروزة : القرآن المجيد 56

(2) دروزة : القرآن المجيد 57

(3) دروزة : القرآن المجيد 57

الكوفة ، ونسخة الأشعري في البصرة . وممّا يدل على اختلافها البعيد اقتتال أهل الشام وأهل العراق في معارك أذربيجان ، بسبب قراءاتهم المختلفة للقرآن الواحد . وهذا ما أفزع القائد حذيفة (وكان مولاه سالم قد جمع له قرآنا) ففزع الى عثمان بن عفان يحرّضه على توحيد المصاحف .

وحديث الأحرف السبعة ، يرفع النصوص المختلفة من أربعة الى سبعة .

قال حذيفة بن اليمان : "غزوتُ مرج أرمينية فحضرها أهل العراق والشام . فإذا أهل الشام يقرأون بقراءَة أُبي بن كعب ، فيأتون بما لم يسمع به أهل العراق ، فتكفرهم أهل العراق . وإذا أهل العراق يقرأون بقراءَة ابن مسعود ، فيأتون بما لم يسمع به أهل الشام ، فتكفّرهم أهل الشام" (1) .

وهذا الاختلاف والاقتتال والتكفير في حرف القرآن ، في الثغور والفتوحات ، قد وصل الى الغلمان والمعلمين في بيوت حفظ القرآن . "وقد رُوي حديث عن أنس بن مالك جاء فيه : إنّ الناس اختلفوا في القرآن على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون . فبلغ ذلك عثمان ، فقال : عندي تكذبون وتلحنون فيه ! فمن نأى عني كان أشدّ تكذيبا ولحنا ! يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إمامًا" (2) .

فالتكفير والاقتتال في مدارس القرآن ، وفي غزوات الفتح ، على صحة حرف القرآن ، شهادة قائمة على وقوع التحريف في نص القرآن ، قبل الجمع العثماني . وأنى لعثمان ولجانه المختلفة الوصول الى النص الأصلي المنزل ، بعد أن أمسى قبل جمعه سبعة أحرف ، أي سبعة نصوص ، بقراءات مختلفة . إن إتلاف عثمان ، برضى الصحابة لجميع المصاحف سوى مصحفه ، برهان قاطع على اختلافها في حرف القرآن ، ودليل قائم على استحالة الوصول الى النص الصحيح المنزل المعجز .

ففي الوضع القائم للقرآن على سبعة أحرف ، عند وفاة النبي ، شبهة أولى ضخمة على صحة حرف القرآن . وفي الوضع الذي انتهوا إليه عند الجمع العثماني شبهة أخرى ضخمة

ــــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الطبري 60:1 قابل دروزة : القرآن المجيد ص 63

(2) المصدر نفسه

على صحة حرف القرآن . وهذه الشبهات التاريخية القائمة لا يصح معها ادّعاء وسلامة الحرف القرآني ، موضوع التنزيل ، وموضوع التحدي بإعجاز القرآن . فالتحدي بإعجاز حرف القرآن ، لا أساس له . والواقع التاريخي "لحفظ" القرآن ينقض معجزة "حفظه" المزعومة .

ثانيا : المحاولات الرسمية لجمع القرآن

إن المحاولات الرسمية لجمع القرآن تمت على مراحل تثير أيضا الشبهات .

1 – الاصدار الرسمي الأول للقرآن ، في زمن أبي بكر .

يؤخذ من حديث زيد بن ثابت ، في صحيح البخاري أنه كان أول جامع للقرآن ، بأمر أبي بكر الصديق ، بناءً على نصيحة عمر بن الخطاب ، " فإن القتل قد استمرّ يوم اليمامة بقراء القرآن ، وإني أخشى أن يستمر القتل بالقراء في المواطن"(1) . وشعور زيد بهذا التكليف يدل على استحالة الجمع بعد أن استمر القتل بقراء القرآن : "فو الله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مِمّا أمراني به ، من جمع القرآن" !

والشبهة الثانية على هذا الجمع الأول هي في تكليف زيد بن ثابت ، وقد كان غلاما لم يبلغ الحلم بعد على حياة النبي . لذلك أيضا قال قوله السابق ! فما السر في تكليف زيد بن ثابت بجمع القرآن على عهد أبي بكر ، ثم على عهد عمر ، ثم على عهد عثمان ، ولم يكن زيد من الذين أوصى النبي بأن يأخذوا القرآن عنهم ؟ فقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن العاص قال : "سمعت النبي يقول : خذوا القرآن من أربعة ؛ من عبد الله بن مسعود ، وسالم ، ومعاذ ، وأبي بن كعب" . وهما اثنان من المهاجرين واثنان من الأنصار . وقد قُتل سالم مولى أبي حذيفة في وقعة اليمامة . ومات معاذ في خلافة عمر . ومات أبي بن كعب وابن مسعود في خلافة عثمان وكانا يشنّعان عليه في طريقة جمعه للقرآن ، وتولية زيد بتلك المهمة ؛ "فقد كان ابن مسعود من أحفظ الناس للقرآن . هو ، فيما كان يقول ، قد أخذ من فم النبي نفسه سبعين سورة من القرآن ، ولم يكن زيد بن ثابت قد بلغ الحلم بعد" (2) .

ــــــــــــــــــــــــ

(1) السيوطي : الاتقان 59:1

(2) طه حسين : الفتنة الكبرى : 1 عثمان ص 183

ففي سنّ زيد ، جامع القرآن الرسمي ، شبهة ضخمة على صحة جمعه . وفي ما أسندوه اليه من عمل شبهة أخرى . جاء عنه في صحيح البخاري : "فتبعت القرآن أجمعه ... فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر"(1) . وينقل البخاري عنه حديثا ثانيا ينقضه : "قال ابن حجر : ووقع في رواية عمارة بن غزية أن زيد بن ثابت قال : فأمرني أبو بكر فكتبتُه في قطع الأديم والعُسُب ؛ فلما توفّي أبو بكر وكان عمر كتبت ذلك في صحيفة واحدة فكانت عنده – قال : والأول أصح ؛ إنما كان في الأديم والعُسُب أولا قبل أن يُجمع في عهد أبي بكر ، كما دلت عليه الأخبار الصحيحة المترادفة"(2) .

فهل كان القرآن الذي جمعه زيد ، على زمن عمر ، في صحف أم في صحيفة واحدة ؟ ثم ، لمّا توفي عمر ، هل كانت الصحف عند حفصة بنت عمر ، كما في صحيح البخاري ، أم كانت في ربعة عمر ، من حيث جاءَ بها عثمان ؟ كما أخرج أبو داود في سنته(3) . وهذا الجمع الأول لم يوقف الخلاف في حروف القرآن ، حتى عمّ التكفير والاقتتال .

2 – الاصدار الثاني للقرآن كان على زمن عثمان بن عفان ، عام 25 بعد الهجرة .

رأينا أن سبب جمع عثمان الجديد للقرآن كان بسبب اقتتال الغلمان والمعلمين في المدارس ، واقتتال وتكفير المحاربين بعضهم بعضا في الحروب والفتوحات .

ولدينا روايتان على الجمع العثماني . الرواية الأولى أن اللجنة العثمانية لجمع القرآن كانت من أربعة : زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص وعبد الرحمان بن الحارث . روى البخاري : "فأرسل الى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردّها اليك . فأرسلت بها حفصة . وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : اذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شئ من القرآن ، فاكتبوه بلسان قريش ، فإنه إنما نزل بلسانهم . ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ، ردّ عثمان الصحف الى حفصة . وبعث الى كل أُفق بمصحف ممّا نسخوا . وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يُحرق " (4) .

ــــــــــــــــــــــــ

•  السيوطي : الاتقان 59:1

•  السيوطي : الاتقان 60:1

•  دروزة القرآن المجيد 64

•  دروزة : القرآن المجيد 63

الرواية الثانية أن اللجنة العثمانية كانت من اثني عشر رجلا من قريش والأنصار ، وأن صحف زيد كانت في ربعة عمر ، لا عند حفصة . "أخرج أبو داود حديثا جاء فيه : "لمّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف ، جمع له اثني عشر رجلا من قريش والأنصار ، فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجيئ بها" (1) .

وهنا تنهال علينا الشبهات تترى في الجمع العثماني .

أولا : بما أن عمل اللجان العثمانية يقتصر على نسخ مصحف زيد ، فلِم وصية عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : "إذا اختلفتم أنتم وزيد في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنه إنما نزل بلسانهم" – فالخلاف في القرآن واقع ، والاختلاف في تدوين حرفه منتظر . فهذه شهادة على شبهة مزدوجة : إن في مصحف زيد قرآنا ليس بلسان قريش ؛ وأنّ بمصادر القرآن التي يجمعونه منها ما ليس بلسان قريش الذي نزل به .

ثانيا : إذا كان الجمع العثماني مجرد نسخ للصحف التي كتبها زيد على زمن أبي بكر ، أو الصحيفة التي كتبها على زمن عمر ، فكيف يمكن الاختلاف فيما بين الجامعين ؟ فلم يكن الأمر إذن مجرد نسخ ، بل هو جمع جديد للقرآن ، كما قال : "يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما" (الطبري 60:1) . والجمع الجديد دليل الشبهة على الجمع الأول ، كما أن الجمع الأول دليل الشبهة على الجمع الثاني : فلو كان الجمعان واحدا ، لما وقع الخلاف .

ثالثا : في الروايتين على الجمع العثماني تعارض في تكوين اللجنة من أربعة أم من اثني عشر رجلا ، وفي وجود صحف زيد في بيت حفصة أم في ربعة عمر .

رابعا : إذا كان الخلاف محذورا في اللجنة الرباعية ، فهل يكون مأمونا في اللجنة الاثنعشرية ؟

خامسا : والشبهة الكبرى في إمامة زيد للجان العثمانية ، ولم يكن زيد قد بلغ الحلم في زمن النبي ؛ ولم يكن من الأربعة الذين أوصى بأخذ القرآن عنهم .

يقول طه حسين(2) : "وقد يمكن أن يُعترض عليه في أنه كلّف كتابة المصحف نفرًا قليلا من أصحاب النبي ، وترك جماعة من القراء الذين سمعوا من النبي وحفظوا عنه ،

ــــــــــــــــــــــــ

(1) دروزة : القرآن المجيد 64

(2) الفتنة الكبرى – عثمان ص 183

وعلّموا الناس في الأمصار . وكان خليقا أن يجمع هؤلاء القراء جميعا ويجعل إليهم كتابة المصحف . ومن هنا نفهم غضب ابن مسعود . فقد كان ابن مسعود من أحفظ الناس للقرآن وهو فيما كان يقول قد أخذ من فم النبي نفسه سبعين سورة من القرآن ، ولم يكن زيد بن ثابت قد بلغ الحلم بعد ! فإيثار عثمان لزيد بن ثابت وأصحابه ، وتركه لابن مسعود وغيره من الذين سبقوا إلى استماع القرآن من النبي وحفظه عنه ، قد أثار عليه بعض الاعتراض . وهذا شئ يفهم من غير مشقة ولا عناء"

وسادسا : إن أمر عثمان في طريقة جمع القرآن وتدوينه كانت أمره للرهط القرشيين الثلاثة : "إذا اختلفتم أنتم وزيد في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم" . وإعجاز القرآن يقوم على التحدي " بمثله " . وعند اختلاف الجامعين كانوا يكتبون القرآن بلسان قريش ، فهم اذن في تدوين القرآن قد أتوا "بمثله" .

سابعا : والشبهة الضخمة على المصحف العثماني هي تحريق ما عداه من المصاحف ، حتى مصاحف الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين . وهذه الشبهة الضخمة ذات حدين : فهي تلحقه لأنه قضى عليها ؛ وهي تلحقها لأنه يعارضها . ولو كانت المصاحف واحدة لما احتاج عثمان إلى تحريقها !

وكان الصحابة يتمسكون بمصاحفهم بسبب الحديث الشريف : "نزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف" ! "فعثمان حين حظر ما حظر ، وحرَّق ما حرّق من الصحف ، إنما حظر نصوصا أنزلها الله ، وحرَّق صحفا كانت تشتمل على قرآن أخذه المسلمون عن رسول الله . وما ينبغي للإمام أن يلغي من القرآن حرفا أو يحرق من نصوصه نصًّا"(1) . وهذا ، في رأينا ، سبب الفتنة البعيد الذي أودى بحياة عثمان في الثورة عليه وقتله . فقد "أنكر ابن مسعود ، وأنكر معه كثير من الناس ما كان تحرق المصاحف . واشتد نقد ابن مسعود لعثمان . وكان يخطب الناس يوم الخميس من كل أسبوع . وكان يقول في ما يقول . "إن أصدق القول كتاب الله ، وأحسن الهدى وكل ضلالة في النار" !(2) فكأنه أفتى باغتياله .

فكان ما كان مما لستُ أذكره فظن خيرًا ولا تسأل عن الخبر !

ــــــــــــــــــــــــ

(1) طه حسين : الفتنة الكبرى – عثمان ص 181 – 182

(2) طه حسين : الفتنة الكبرى – عثمان ص 160

ثامنا : وهذه هي ميزات توحيد النص العثماني :

•  شهد علي بن أبي طالب : "رأيت كتاب الله يزاد فيه" فنقّحه ، فلم يأخذ عثمان بذلك .

•  وكتب علي في مصحفه الناسخ والمنسوخ كله ، فأسقط عثمان من المنسوخ كثيرا .

•  شهد ابن عمر أنه بعد الجمع العثماني "ذهب منه قرآن كثير" !

•  وشهدت عائشة أنه كان من القرآن "قبل أن يغيّر عثمان المصاحف" .

•  وعدل عثمان عن الترتيب التاريخي الذي أخذ به علي وآل البيت ، الى الترتيب التنسيقي بحسب الطول فالقصر ، كما اعتمد جماعة بني أمية . والترتيب ناحية من الإعجاز فتلك الميزات في التوحيد العثماني للنص القرآني شبهات عليه .

تاسعا : يقول السيوطي بأن في الحرف العثماني الناجي ما هو "بغير لغة الحجاز" ، وما هو "بغير لغة العرب" ، مع أن القرآن نزل بلغة قريش ، وقد أمر عثمان بكتابته بلسانهم . وهذه الرواسب دلائل على أن حرف التنزيل لم يبق سالمًا في المصحف العثماني مع ما بذلوه من حرص حين جمعه وتدوينه .

عاشرا : ما معنى تعدّد جمع القرآن ؟ يقول محمد صبيح(1) : "لماذا لم يأمر أبو بكر أو عمر بنسخ صور ممّا كتب زيد بن ثابت ؟ ...ولماذا لم يحرص كبار الصحابة على أن يكون لكل واحد منهم ، أو لدى بعضهم على الأقل ، نسخ من هذه الصحف ؟ – الجواب على هذا السؤال عسير" . وأعسر منه الجواب على هذا السؤال : لماذا فُضّل مصحف زيد بن ثابت ، وكان غلاما لم يبلغ الحلم بعد في حياة النبي ، على مصحف عليّ بن أبي طالب ، وهو الشاهد الأسبق للقرآن والدعوة والسيرة ؟ وعلى مصحف ابن مسعود ، وهو الذي "لزم النبي لزوما متصلا في سفره وإقامته ، حتى كاذ يُعدّ من أهل بيته . فكان أثناء إقامة النبي صاحب اذنه ؛ وكان اذا قام النبي ليخرج ألبسه نعليه ومشى بين يديه بالعصا فإذا بلغ مجلسه خلع نعليه فوضعهما في كمه ودفع إليه العصا وقام على إذنه . وكان في السفر صاحب فراش النبي وصاحب وضوئه . وكان النبي يحبه حبًّا شديدًا ويوصي بحبه"(2) . فكأن محمدا يسلك سلوك اسقف النصارى في جماعته ، وابن مسعود "قوّاصه" !

ــــــــــــــــــــــــ

•  الاتقان 134:1 و136

•  عن القرآن ص 184

وأعسر أكثر الجواب على هذا السؤال أيضا : لقد رضى أبو بكر ثم عمر بمصحف زيد : فَلِمَ يرفضونه في زمن عثمان ، كما يظهر من وصيته لجامعي الحرف العثماني : "اذا اختلفتم أنتم وزيد في شئ من القرآن" ، ويفرضون بالحديد والنار المصحف العثماني ؟ يحق لنا أن نقول : ألا يترك هذا التصرف شبهة لا تزول على مصحف زيد ثم على المصحف العثماني الناجي معا ؟

أخيرا ، بعد نزول القرآن على سبعة أحرف ، وبعد الرخص النبوة الأربع بقراءة القرآن على سبعة أحرف ، "وقد كانت المصاحف بوجوه القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أُنزل بها القرآن"(1) ، وإجازة القراءات المختلفة ، على الحروف المختلفة بلغات العرب جميعها ، وإباحة القراءَة بالمعنى من دون الحرف ، وذلك مدة أربعين سنة ، منذ بدء التنزيل حتى الجمع العثماني سنة خمس وعشرين للهجرة كما روي عن ابن حجر (2) ، بعد هذا كله واختلافهم في حرف القرآن حتى التكفير والاقتتال قبل التوحيد العثماني –هل كان بإمكان اللجان العثمانية ، وقد مات أكثر حفظة القرآن وقرائه ، وجميع الجامعين غير معصومين ، أن تصل الى النص المنزل الذي لا تشوبه شائبة ؟ إن البرهان القاطع على أنه لا يمكن أن تصل اليه أن عثمان قد أتلف سائر المصاحف ليحمل الأمة على مصحفه . وقد استأذن السيدة حفصة في خرق الصحف التي جمعها زيد بأمر أبي بكر وعمر ، وكانت أمانة عندها من أبيها عمر بن الخطاب . كلها شبهات يحار فيها العقل والايمان ، ولا جواب لها . والنتيجة الحتمية لهذا كله شبهة على صحة الحرف العثماني ، وعلى صحة التحدّي بإعجازه .

3 – الموقف التاريخي من الجمع العثماني

إننا نوجز الموقف التاريخي من الجمع العثماني بما قاله أبو جعفر النحاس(3) : "إن رسول الله قال : (أُنزِل القرآن على سبعة أحرف) . فرأى عثمان (ر.) أن يزيل منها ستة ، وأن يُجمع الناس على حرف واحد . فلم يخالفه أكثر الصحابة ... وأراد عثمان أن يختار من

ــــــــــــــــــــــــ

(1) طه حسين : الفتنة الكبرى : عثمان ص 159

(2) الاتقان 62:1

(3) الاتقان 61:1 قابل ابن الخطيب ص 40 – وبعضهم يقول سنة ثلاثين بعد الهجرة

السبعة حرفا واحدا هو أفصحها ويزيل الستة . وهذا من أصح ما قيل فيه ، لأنه مروي عن زيد بن ثابت"

فيحق لنا أن نتساءَل : هل اتلاف ستة أحرف منزلة من الأمانة لحفظ القرآن ؟ هل كانت لجان عثمان معصومة لاختيار " أفصح " الأحرف السبعة ؟ يصح الجزم بأنها لم تكن معصومة ، والنبي وحدَه كان يعلم الأفصح ، ولم يبيّنه ، بل أطلق القراءَة بها جميعا لأن كل حرف منها "كافٍ شافٍ" . فإن اتلافها شبهة قائمة على صحة الاعجاز في الحرق العثماني .

قال الحارث المحاسبي في كتاب (فهم السنن)(1) : فإن قيل : كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع وصدور الرجال ؟ قيل : لأنهم كانوا يُبدون عن تأليف معجز ونظم معروف قد شاهدوا تلاوته من النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة . فكان تزوير ما ليس منه مأمونا ، وإنما كان الخوف من ذهاب شئ من صحفه" . إنّما لو صحّ أنهم "يبدون عن تأليف معجز ونظم معروف قد شاهدوا تلاوته من النبي" لما اختلفوا في حرف القرآن حتى الاقتتال والتكفير ؛ ولما أتلف عثمان الأحرف الستة وسائر المصاحف غير مصحفه .

أجل لم يخالف عثمان " أكثر الصحابة " . لكنه خالفه أئمتهم كعلي بن أبي طالب وابن مسعود . ويذكرون أنه أبي كابن مسعود أن يُسلّم نسخته الى عثمان لينقحها أو يتلفها ، بحجة أنها كانت كاملة وكان ابن مسعود يقول : "يا أهل العراق اكتموا المصاحف التي عندكم وغلّقوها" (2) . وكذلك أبى أُبَي بن كعب أن يسلّم مصحفه . وأنس بن مالك يُهمل المصحف العثماني ويصطنع لنفسه مصحفا على مثال مصحف ابن مسعود ، ومصحف أُبي . وهذه المصاحف الأربعة كانت متقاربة في اختلافها مع المصحف الأميري العثماني المفروض . وفي تقاربها بعضها لبعض أو في اختلافها جملة مع المصحف العثماني شهادة عليه .

وهذا الموقف ، بعد الجمع العثماني ، يلقي الشبهة على عصمة الحرف العثماني وصحته وإعجازه ، فلا يصح التحدي به .

وتلك المصاحف الأربعة سلمت من الاتلاف العثماني لتقع في غيره .

ــــــــــــــــــــــــ

(1) كتاب الناسخ والمنسوخ ص 37 و159

(2) قابل الاتقان 60:1

4 – الإصدار الأخير القائم للقرآن هو من الحجّاج

كان الحجاج بن يوسف ، من بني ثقيف ، عميل الأمويين المروانيين على العراق . وأحد دهاة السياسة العالميين عبر التاريخ ، ومن أكبر جزّاري البشرية . يقول دروزة(1) : " هناك رواية أن المصحف المتداول ، إنما هو مصحف الحجاج وجمعه وترتيبه ... وأن الحجاج قد جمع المصاحف المتداولة ، ومصاحف عثمان وأبادها" . ويقول ابن الخطيب (الفرقان 49 – 50) : "قيل : أن أول من أمر بنقطه وشكله هو عبد الملك ابن مروان . فتصدّى لذلك عامله الحجاج بن يوسف الثقفي . فأمر الحسن البصري ويحيى بن يعمر ففعلا ذلك . وقيل إن أول من نقطه أبو الأسود الدؤلي . وقيل : نصر بن عاصم الليثي . وقيل غير ذلك . والقول الأول هو الأرجح" .

واختلافهم في صاحب تنقيط القرآن وتشكيله ، يهدم هدم الأستاذ دروزة(2) لرواية مصحف الحجاج : "ولعل الرواية محرفة من حادثة عناية الحجاج بإعجام القرآن أو نقطه ، ممّا صار نساخ المصاحف بعدها يأخذون به" . ينقضه أيضا ما ثبت أنه "قد غيّر الحجاج بن يوسف الثقفي في المصحف اثني عشر موضعا " (3) . فلم يقتصر دور الحجاج على التنقيط والتشكيل .

وقد سمعتُ من بعض الراسخين في العلم أن جمع الحجاج الجديد للقرآن إنما كان لإسقاط ما بقي بعد إسقاط عثمان ممّا لا يليق بحق بني أمية ، وخصوصا لإقحام آية الإسراء في مطلع سورة "بني اسرائيل" ، وذلك لتحويل حج أهل الشام من مكة إلى بيت المقدس ، اتقاءً للفتنة المستعرة بمكة على بني أمية . فصارت سورة "بني اسرائيل" سورة "أسرى" ثم "الاسراء" . وفي آية الاسراء شاهد على هذا الاقحام فهي لا تمت بصلة الى السورة ، ولا إلى ما قبلها في النسق أو في ترتيب النزول .

والبرهان الأكبر على أن إصدار الحجاج للقرآن لم يقتصر على إعجام القرآن وتنقيطه هو إتلاف المصاحف العثمانية وسائر المصاحف المتداولة . فلو لم يكن في جمع الحجاج من

ــــــــــــــــــــــــ

(1) جامع الترمذي ، أبواب التفسير ، في آخر سورة التوبة

(2) المصدر نفسه

(3) القرآن المجيد ص 83

تصحيف أو تحريف ، لما كان من داع لاتلاف المصاحف العثمانية وهي في حرفها واحدة مع نسخ الحجاج !

وليس من المعقول أن تضيّع الأمة نسخ المصحف الإمام ! ولا أن تسهر عليها كأثمن ما في الوجود ! إن ضياعها من الوجود جميعا كان بقدرة قادر ، هو الحجاج ! يقول الأستاذ دروزة(1) : "من المحتمل أن لا تكون إحدى نسخ مصاحف عثمان الأصلية موجودة اليوم ؟ – مع ما يُقال عن وجود بعضها قولا غير مؤيَّد بشاهد ، ووصف عياني ، موثوقين" . ويقول الدكتور صبحي الصالح(2) : "وإن الباحث ليتساءَل : أين أصبحت المصاحف العثمانية اليوم ؟ – ولن يظفر بجواب شاف عن هذا السؤال ، فوجود الزركشة والنقوش الفاصلة بين السور ، أو المبيّنة لأعشار القرآن ، ينفي أن تكون المصاحف الأثرية في دار الكتب بالقاهرة عثمانية ، لأن المصاحف العثمانية كانت مجرّدة من كل هذا" .

والنتيجة الحاسمة لفقدان النسخ العثمانية – وهي المصحف الأميري الذي أجمع الأمة على تلاوته الخلفاء الراشدون – أن الحجاج قد أتلفها ، وما أتلفها إلاّ ليحرّف فيه !

ومن لا يتورع عن هدم الكعبة ، بيت الله ، هل يتورّع عن مسّ القرآن ، كتاب الله ؟ مَن يُعدّون من ضحاياه نحوًا من ماية وثلاثين ألفا أسلمهم للجلاّد ، ومَن مات وسجونه تعج بنحو خمسين ألفا من الرجال ، وثلاثين ألفا من النساء ، هل يتورّع في تصفية القرآن من الإشارات الجارحة لبني أمية ؟ ومن إقحام ما اقتضت مصلحتهم بإقحامه كآية الإسراء ؟

لا شك أن الخصومة التي قامت في الجاهلية بين بني أمية وبني هاشم ، ثم امتدت الى الاسلام ، وكان من نتائجها انقسام الأمة والحروب الأهلية المتواصلة ، التي نخرت عظام الدولة الاسلامية منذ قيامها حتى القضاء عليها . وخروجها من يد العرب ؛ وكان من نتائجها أيضا دون شك إصدار القرآن الأول على يد زيد بن ثابت من دون أئمة الصحابة كعلي وابن مسعود ، واصدار القرآن الثاني على يد عثمان والثورة عليه وقتله ، وإصدار القرآن الثالث والأخير ، الحي الباقي ، على يد الحجاج – قد لعبت دورها في تصفية القرآن كما وصل الينا . فليس في العالم اليوم ، بعد الحجاج ، إلاّ "القرآن المصفّى" .

ــــــــــــــــــــــــ

(1) القرآن المجيد ص 84

(2) ابن الخطيب : الفرقان ص 50

وبما أن القرآن الحالي المتداول هو أخيرا من جمع الحجّاج وإخراجه – كما يتضح من إتلاف أو ضياع المصاحف العثمانية – فكفى بالحجاج شبهة دائمة على صحة الحرف القرآني وعلى صحة إعجازه .

وإننا لنصرّح : إن هذا التحفّظ لا يمنع صحة القرآن الجوهرية التي ندين بها ، ونشهد لها .

لكن بما أن إعجاز القرآن قائم على صحة حرفه المنزل ، فبعد نزوله على سبعة أحرف وإتلاف ستة منها ، وبعد قرائَته بحسب الرخص النبوية الأربع ، وبعد تصفيته بالعرضات النبوية السنوية ، والاصدارات الثلاثة التاريخية التي كان مسك الختام فيها إصدار الحجّاج ، وبعد الاتلاف الشامل لسائر النسخ الأخرى على يد عثمان ، والاتلاف الكامل على يد الحجاج ، فلا يصح القول بإعجازه منزل في حرف القرآن ، ولا بمعجزة في "حفظه" . وادعاء ذلك إنما هو التجنّي على التاريخ الثابت من المصادر الاسلامية نفسها .

التالي