التالي

بحث ثان

أحكام الشريعة المحكمة قليلة ، فليست دليلا على إعجاز القرآن كلّه

أولا – الإعجاز التشريعي يكون في آيات القرآن المحكمات ، لا في آياته المتشابهات ، لأن المحكمات هن أم الكتاب : "هو الذي أنزل عليك الكتاب ، منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب ، وأخر متشابهات" (آل عمران 7) . وبما أن المتشابه من القرآن ، وهو أكثره ، "ما يعلم تأويله إلاّ الله ، والراسخون في العلم يقولون : آمنا ، كلٌّ من عند ربنا" (آل عمران 7) ، فليس فيه من الاعجاز في التشريع شئ . وبما أن الآيات المحكمات هي "أوامره الزاجرة" ، على حدّ قولهم في شبه إجماع(1) ، "عن مجاهد قال : المحكمات ما فيه الحلال والحرام ، وما سوى ذلك منه متشابه يصدق بعضه بعضا ؛ وعن الربيع قال : المحكمات هي أوامره الزاجرة " – فإن أحكام الشريعة هي في أوامره الزاجرة في الحلال والحرام ، المبيّنة في الآيات المحكمات .

ثانيا – وآيات الأحكام المحكمات قليلة : "قال الغزالي وغيره : آيات الأحكام خمسماية آية . وقال بعضهم : مائة وخمسون . قيل : ولعلّ مرادهم المصرّح به ، فإن آيات القصص والأمثال يُستنبط منها كثير من الأحكام"(2) . والأحكام القرآنية على نوعين : "من الآيات ما صُرّح فيه بالأحكام ، ومنها ما يؤخذ بطريق الاستنباط ، إما بلا ضمّ إلى آية أخرى ... وإمّا به . "ويستدل على الأحكام تارة بالصيغة ، وهو ظاهر؛ وتارة بالأخبار" .

بناءً عليه ، هذه هي النتيجة المذهلة في اعجاز القرآن :

1 – بما أن القرآن يعلن أن آياته المحكمات هنّ أم الكتاب ، فهن إذن موضوع اعجازه . وهذه الآيات المحكمات هي آيات الأحكام الخمسماية في الحلال والحرام من

ــــــــــــــــــــــــ

(1) السيوطي : الاتقان 2:2 – 3

(2) السيوطي : الاتقان 130:2

أصل ستة آلاف وستماية وستين آية . نقل النحاس(1) عن الحافظ الفارسي : "وبعد فهذا كتاب جمعت فيه جميع ما في القرآن من الآيات الناسخة والمنسوخة ، موجزة على حسب آيات القرآن : ألف آية أمر ؛ وألف آية نهي ، وألف آية وعد ، وألف آية وعيد ، وألف آية عبر وأمثال ، وألف آية قصص وأخبار ، وخمسماية حلال وحرام ، وماية آية دعاء وتسبيح ، وست وستون منسوخ . الجملة 6660 آية" . وهكذا لا يصح التحدي بإعجاز القرآن ، لأن آيات المحكمات ، في أحكام الحلال والحرام ، هي 500 من أصل 6660 .

2 – لا يصح التحدّي بالإعجاز التشريعي إلاّ بالأحكام المحكمة المصرح بها . ولا يصح التحدّي على الاطلاق بالأحكام المستنبطة استنباطا .

والمشهود في أحكام القرآن المحكمة المصرّح به أنها مائة وخمسون . قال السيوطي : "قال الغزالي وغيره : آيات الأحكام خمسماية آية . وقال بعضهم : مائة وخمسون ؛ قيل : ولعل مرادهم المصرح به"

فإذا كانت أحكام القرآن المحكمة المصرّح بها هي فقط مائة وخمسين ، من أصل 6660 آية هي القرآن كله ، فلا يصح التحدي بإعجاز القرآن كله ، بسبب ماية وخمسين آية . كما لا يصح التحدي بتشريع القرآن بسبب ماية وخمسين آية محكمة مصرح بها . فلا يصح الحكم بالبعض على الكل ، وبالجزء على سائر الأجزاء . والإصرار بالحكم على هذه الطريقة ، لا منطق فيه ، ولا حكمة ، ولا إعجاز .

3 – أحكام القرآن عن طريق التصريح والاستنباط هي خمسماية آية أو حكم . أما أحكام التوراة فهي ست مائة وثلاثون آية أو حكما . والكتاب إمام القرآن في العقيدة وفي الشريعة . فليس الإعجاز التشريعي في القرآن ميزة انفرد بها ، حتى يصح التحدي به عن طريق القياس والمقابلة .

4 – ناحية من الشريعة هي الدستور الاخلاقي . والشرعة الأخلاقية في القرآن هي "الكلمات العشر" لموسى على سيناء : "قال : يا موسى اني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ، فخُذْ ما آتيتُك وكن من الشاكرين . وكتبنا له في الألواح من كل شئ موعظة ،

ــــــــــــــــــــــــ

(1) أبو جعفر النحاس : الناسخ والمنسوخ ص 260

وتفصيلا لكل شئ" (الاعراف 144 – 145) . وتلك الكلمات العشر يردّدها القرآن بصور مختلفة ، مع هذه الفاتحة : "قلْ : تعالوا أتلُ ما حرَّم ربّكم عليكم" (الانعام 151) . فحتى في التشريع الأخلاقي يقتدي القرآن ويهتدي بهدىالكتاب الإمام ، والكتاب المنير ، التوراة والانجيل .

وعليه ، فليس التشريع القرآني وجها من وجوه الاعجاز في القرآن . ولا يقوم تحدٍّ باعجاز القرآن بسبب ماية وخمسين آية من أحكامه المحكمة المصرح بها في "آياته المحكمات (اللواتي) هنّ أم الكتاب" !

التالي