احكام أهل الذمة

 

فصل الأصناف التي تؤخذ منها الجزية

ولا يتعين في الجزية ذهب ولا فضة بل يجوز أخذها مما تيسر من أموالهم من ثباب وسلاح يعملونه وحديد ونحاس ومواش وحبوب وعروض وغير ذلك .

وقد دل على ذلك سنة رسول الله وعمل خلفائه الراشدين وهو مذهب الشافعي وأبي عبيد .

ونص عليه أحمد في رواية الأثرم وقد سأله يؤخذ في الجزية غير الذهب والفضة? قال نعم دينار أو قيمته معافر .

والمعافر ثياب تكون باليمن .

وذهب في ذلك إلى حديث معاذ رضي الله عنه الذي رواه في مسنده بإسناد جيد عن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله لما بعثه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر .

ورواه أهل السنن وقال الترمذي . حديث حسن .كتاب أحكام أهل الذمة، الجزء 1، صفحة 129.


وكذلك أهل نجران لم يأخذ في جزيتهم ذهبا ولا فضة وإنما أخذ منهم الحلل والسلاح .

فروى أبو داود في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال صالح رسول الله أهل نجران على ألفي

حلة النصف في صفر والنصف في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعلى ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يقرون بها والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد أو غدرة على ألا يهدم لهم بيعة ولا يخرج لهم قس ولا يفتنون عن دينهم مالم يحدثوا حدثا أو يأكلوا الربا .

وهو صريح في أن أهل الذمة إذا أحدثوا في الإسلام أو لم يلتزموا ما شرطوا عليهم فلا ذمة لهم وقد دل على ذلك القرآن والسنة واتفاق الصحابة رضي الله عنهم كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

قال الزهري أول من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى وقد أخذ منهم الحلل وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ النعم في الجزية .

وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يأخذ الجزية من كل ذي صنعة من متاعه من صاحب الإبر إبرا ومن صاحب المسان مسان ومن صاحب الحبال حبالا ثم يدعو الناس فيعطيهم الذهب والفضة فيقتسمونه ثم يقول خذوا فاقتسموا فيقولون لا حاجة لنا فيه فيقول أخذتم خياره وتركتم شراره لتحملنه. كتاب أحكام أهل الذمة، الجزء 1، صفحة 130و131.


فيؤخذ من عروضه بقدر ما عليه من الجزية هذه سنة رسول الله

وخلفائه التي لا معدل عنها فقد تبين أن الجزية غير مقدرة بالشرع تقديرا لا يقبل الزيادة والنقصان ولا معينة الجنس .

قال الخلال العمل في قول أبي عبدالله على ما رواه الجماعة أنه لا بأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص على ما رواه عنه أصحابه معينة الجنس في عشرة مواضع فاستقر قوله على ذلك .

وهذا قول سفيان الثوري وأبي عبيد وغيرهم من أهل العلم .

وأول من جعل الجزية على ثلاث طبقات عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعلها على الغني ثمانية وأربعين درهما وعلى المتوسط أربعة وعشرين وعلى الفقير اثني عشر وصالح بني تغلب على مثلي ما على المسلمين من الزكاة .

وهذا يدل على أنها إلى رأي الإمام ولولا ذلك لكانت على قدر واحد في جميع المواضع ولم يجز أن تختلف .

وقال البخاري قال ابن عيينة عن ابن أبي نجيح قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار قال جعل ذلك من أجل اليسار وقد زادها عمر أيضا على ثمانية وأربعين فصيرها خمسين درهما .

واحتج الشافعي رحمه الله تعالى بأن الواجب دينار على الغني والفقير والمتوسط بأن النبي قدرها بذلك في حديث معاذ رضي الله عنه وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا ولم يفرق بين غني وفقير وجعلهم ثلاث طبقات وسنة رسول الله أحق أن تتبع من اجتهاد عمر .

ونازعه الجمهور في ذلك وقالوا لا منافاة بين سنة رسول الله وبين ما فعله عمر رضي الله عنه بل هو من سنته أيضا وقد قرن رسول الله بين سنته وسنة خلفائه في الاتباع فما سنه خلفاؤه فهو كسنته في الاتباع وهذا الذي فعله عمر رضي الله عنه اشتهر بين الصحابة ولم ينكره منكر ولا خالفه فيه واحد منهم البتة واستقر عليه عمل الخلفاء والأئمة بعده فلا يجوز أن يكون خطأ أصلا .

وقد نص الشافعي على استحباب العمل به فقال الواجب على كل رجل دينار لا يجزئ أقل من ذلك فإن كان الذمي مقلا ولم يكن موسرا ولا متوسطا عقد له الإمام الذمة على دينار في كل سنة وإن كان متوسطا فيستحب أن يقول له الإمام جزية مثلك ديناران فلا أعقد لك ذمة على أقل منهما ويحمل عليه بالكلام فإن لم يقبل حمل عليه بعشيرته وأهله فإن لم يقبل وأقام على بذل الدنيار قبل منه وعقدت له الذمة وإن كان موسرا فيستحب أن يقال له جزية مثلك أربعة دنانير لا أقبل منك أقل منها ويتحامل عليه بالكلام ويحمل عليه بعشيرته وقومه فإن لم يفعل واقام على بذل الدينار قبل منه وعقدت له الذمة عليه .

قلت ولا يخلو حديث معاذ من أحد وجوه ثلاثة الأول أن يكون أمره بذلك لأن الغالب على أهل ذمة اليمن إذ ذاك الفقر وقد أشار مجاهد إلى ذلك في قوله إنما جعل على أهل الشام ثمانية وأربعون درهما من أجل اليسار .

الوجه الثاني أنهم كانوا قد أقروا بالجزية ولم يتميز الغني منهم من الفقير والصحابة إذ ذاك لم يسكنوا اليمن بل كانوا مع النبي إذ هو حي بين أظهرهم فلما لم يتفرغوا لتمييز غنيهم من فقيرهم جعل رسول الله الجزية كلها طبقة واحدة فلما مات رسول الله وتفرق الصحابة في البلاد وسكنوا الشام تفرغوا لتمييز طبقات أهل الذمة ومعرفة غنيهم وفقيرهم ومتوسطهم فجعلوهم ثلاث طبقات وأخذوا من كل طبقة ما لا يشق عليهم إعطاؤه . كتاب أحكام أهل الذمة، الجزء 1، صفحة 13و133و134.


الوجه الثالث أن النبي لم يقدرها تقديرا عاما لا يقبل التغيير بل ذلك موكول إلى المصلحة واجتهاد الإمام فكانت المصلحة في زمانه أخذها من أهل اليمن على السواء وكانت المصلحة في زمن خلفائه الراشدين أخذها من أهل الشام ومصر والعراق على قدر يسارهم وأموالهم وهكذا فعل رسول الله فإنه أخذها من أهل نجران حللا في قسطين قسط في صفر وقسط في رجب .

وقال مالك عن نافع عن أسلم أن عمر رضي الله عنه ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام .

وقال الليث بن سعد عن كثير بن فرقد ومحمد بن عبدالرحمن بن غنج عن نافع عن أسلم عن عمر رضي الله عنه أنه ضرب الجزية على أهل الشام أو قال على أهل الذهب أربعة دنانير وأرزاق المسلمين من الحنطة مدين وثلاثة أقساط زيت لكل إنسان كل شهر وعلى أهل الورق أربعين درهما وخمسة عشر صاعا لكل إنسان قال ومن كان من أهل مصر فإردب كل شهر لكل إنسان قال ولا أدري كم ذكر لكل إنسان من الودك والعسل .

وعلى هذا فلو كان فيهم من لا يقدر إلا على بعض دينار لوجب قبوله منه بحسب قدرته .

وهذا قياس جميع الواجبات إذا قدر على أداء بعضها وعجز عن جميعها كمن قدر على أداء بعض الدين وإخراج بعض صاع الفطرة وأداء بعض النفقة إذ لا يقدر على تمامها وغسل بعض أعقابه إذا عجز عن غسل جميعها وقراءة بعض الفاتحة في الصلاة إذا عجز عن جميعها ونظائر ذلك .

قال أبو عبيد والذي اخترناه أن عليهم الزيادة كما يكون لهم النقصان وللزيادة التي زادها عمر رضي الله عنه على وظيفة النبي للزيادة التي زادها هو نفسه حين كانت ثمانية وأربعين فجعلها خمسين .

ولو عجز أحدهم عن دينار لحطه من ذلك حتى قد روي عنه أنه أجرى على شيخ منهم من بيت المال وذلك أنه مر به وهو يسأل على الأبواب وفعله عمر بن عبدالعزيز .

وقال أبو عبيد ولو علم عمر أن فيها سنة مؤقتة من رسول الله ما تعداها إلى غيرها . كتاب أحكام أهل الذمة، الجزء 1، صفحة 135.و136.

الصفحة الرئيسية