مقدمة
كثيراً ما يتردد على مسامعي كالأسطوانة المشروخة أسئلة مثل: هل حقاً تقرأ الكتاب المقدس؟ وأحياناً يقولون: الكتاب المقدس ليس إلا كتاباً عادياً، عليك أن تقرأ ... ثم يذكرون بعضاً من كتبهم المفضلة.
وهناك من يحتفظون بالكتاب المقدس في مكتباتهم. ويقولون بفخر أنهم يضعونه جنباً إلى جنب مع روائع الكتب مثل «الأوديسة» لهوميروس، و«روميو وجولييت» لشكسبير، و«كبرياء وتحامل » لجين أوستن. وربما كان كتابهم المقدس مهملاً يعلوه التراب، ولكنهم لا يزالون يعتبرونه أحد الأعمال الأدبية الكلاسيكية.
وهناك آخرون يسخرون من الكتاب المقدس ويضحكون على فكرة الاهتمام به وتمضية الوقت في قراءته. وبالنسبة لهؤلاء فإن وجود نسخة من الكتاب المقدس في المكتبة ليس إلا دليلاً على الجهل.
لقد أزعجتني التساؤلات والتعليقات السابقة ولكني توصلت أخيراً إلى أنها مجرد عبارات تفوَّه بها أناس منحازون أو متحاملون أو جهَّال.
يجب أن يوضع الكتاب المقدس في أعلى مكان بمفرده. فالكتاب المقدس كتاب فريد . إن الأفكار التي كنت أتلمسها لأصف بها الكتاب المقدس مجموعة في كلمة فريد .
ولابد أن وبستر كان يفكر في «كتاب الكتب» عندما كتب تعريفه لكلمة unique الإنجليزية التي تعني فريد: (1)- واحد فقط، مفرد، وحيد. (2)- مختلف عن كل ماعداه، ليس له مثيل ولا يعادله شيء.
أما الأستاذ م. مونتيرو وليامز، الأستاذ السابق للغة السنسكريتية فكان له هذا الرأي. فبعد أن أمضى اثنين وأربعين عاماً في دراسة الكتب الشرقية، قارن بينها وبين الكتاب المقدس وقال: كوِّم هذه الكتب جميعاً على الجانب الأيسر من مكتبتك، أما كتابك المقدس فضعه على الجانب الأيمن وحده تاركاً بينهما مسافة كبيرة ... إذ أن هناك هوة كبيرة تفصل فصلاً تاماً أبدياً ما بين الكتاب المقدس وما يطلق عليه الكتب المقدسة في الشرق ... وهي هوة حقيقية لا يمكن تخطيها من خلال أي علم أو فكر ديني. (Collett, AAB, 314, 315)
إن الكتاب المقدس يتميز عن جميع الكتب الأخرى. فهو فريد، مختلف عن كل ما عداه في الأوجه التالية (وغيرها الكثير):
1(أ) فريد في ترابطه
إن الكتاب المقدس هو الكتاب الوحيد الذي:
1- كُتِبَ علي مدي خمسة عشر قرناً من الزمان تقريباً.
2- كتبه أكثر من أربعين كاتباً يعملون فى مختلف نشاطات الحياة، فمنهم الملوك والقادة العسكريون والفلاحون والفلاسفة والصيادون وجباة الضرائب والشعراء والموسيقيون ورجال الدولة والعلماء والرعاة. فعلي سبيل المثال:
- موسى: قائد سياسي وقاضي، تعلم في مصر.
- داود: ملك وشاعر وموسيقي وراعي غنم ومحارب.
- عاموس: راعي غنم.
- يشوع: قائد عسكري.
- نحميا: ساقي أحد الملوك الوثنيين.
- دانيال: رئيس وزراء.
- سليمان: ملك وفيلسوف.
- لوقا: طبيب ومؤرخ.
- بطرس: صياد.
- متَّى: جابي ضرائب.
- بولس: معلم ديني.
- مرقس: سكرتير لبطرس.
3- كُتب في أماكن مختلفة:
- كتب موسى في البرية.
- كتب إرميا في جب السجن.
- كتب دانيال على جانب التل وفي القصر.
- كتب بولس داخل السجن.
- كتب لوقاً أثناء رحلاته.
- كتب يوحنا وهو في المنفى في جزيرة بطمس.
4- كتب فى أوقات مختلفة:- كتب داود في أوقات الحرب والبلاء.
- كتب سليمان في أوقات السلم والرخاء.
5- كتب فى أحوال نفسية مختلفة:
- كتب البعض وهم في قمة الابتهاج.
- آخرون كتبوا وهم في عمق الأسى واليأس.
- كتب البعض في أوقات الثقة والطمأنينة.
- كتب آخرون في أوقات القلق والحيرة.
6- كتب فى ثلاث قارات:
- آسيا.
- أفريقيا.
- أوربا.
7- كتب بثلاث لغات:
- العبرية: وهي لغة شعب إسرائيل والعهد القديم كله تقريباً. وصفت في ملوك 18: 26-28 وفي نحميا 13: 24 باللسان اليهودي، وفي إشعياء 19: 18 لغة كنعان.
اللغة العبرية لغة تصويرية لا تصف الأحداث الماضية فحسب بل ترسم صورة لفظية لها. وهي لا تقدم صورة عريضة فقط بل مشهداً متحركاً. إن تسلسل الأحداث يعاد تصويره مرة أخرى داخل العقل. (لاحظ الاستخدام المتكرر لكلمة انظر behold وهو تعبير عبري انتقل إلى العهد الجديد.) إن مثل هذه التعبيرات العبرية: قام وذهب، فتح شفتيه وتكلم، رفع عينيه ونظر، رفع صوته وبكى، توضح القوة التصويرية للغة العبرية. (Dockery, FBI, 214)
- الآرامية: وهي اللغة الشائعة للشرق الأدنى حتى عصر الإسكندر الأكبر (من القرن السادس حتى القرن الرابع ق.م.)Albright, AP, 218) ) كتبت الأصحاحات 2 إلى 7 من سفر دانيال ومعظم عزرا 4 إلى 7 باللغة الآرامية، كما توجد عبارات متفرقة في العهد الجديد كتبت بالآرامية أشهرها صرخة يسوع وهو فوق الصليب: إيلي، إيلي، لما شبقتني؟ وتعني: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟ (مت 27: 46).
اللغة الآرامية قريبة جداً من الناحية اللغوية، من اللغة العبرية ومشابهة لها من حيث التركيب. كتبت النصوص الآرامية الموجودة في الكتاب المقدس بنفس أشكال الحروف للكتابة العبرية. وخلافاً للغة العبرية، تستخدم الآرامية مدى أوسع من المفردات اللغوية كما تشمل الكلمات المستعارة، ومجموع أكبر من أدوات الربط. وتشتمل الآرامية أيضاً على نظام مركب من الصيغ الزمنية للفعل نشأ عن استخدام تصاريف الفعل المختلفة مع الضمائر أو مع الأشكال المختلفة من فعل الكينونة. ورغم أن اللغة الآرامية أقل موسيقية وشعرية من اللغة العبرية، إلا أنها قد تكون أكثر تفوقاً من جهة الدقة التعبيرية.
ولعل الفترة التي عاشتها اللغة الآرامية كلغة حية هي من أطول الفترات عرفتها أي لغة. فقد استخدمت خلال عصر الآباء الكتابي ولا يزال القليلون يتحدثون بها اليوم. لقد انبثقت عن اللغة الآرامية، وشقيقتها السرياينة، لهجات كثيرة في أماكن وعصور مختلفة. ولما كانت الآرامية تتميز بالبساطة والوضوح والدقة، فقد تلاءمت بسهولة مع شتى متطلبات الحياة اليومية. وهي كلغة تناسب العلماء والطلاب والمحامين والتجار بنفس الكفاءة. ولقد وصفها البعض بأنها اللغة السامية المتكافئة مع اللغة الإنجليزية. (Dockery, FBI, 221)
- اليونانية: وهي لغة العهد الجديد كله تقريباً. وكانت أيضاً هي اللغة العالمية في عصر المسيح،كما أصبحت الإنجليزية في عالمنا المعاصر:
اعتمدت الكتابة اليونانية على هجائية يعتقد أنها مستعارة من اللغة الفينيقية وتم توفيقها مع النظام الصوتي واتجاه الكتابة للغة اليونانية. كانت اللغة اليونانية في بادئ الأمر تكتب من اليمين إلى اليسار مثل اللغات السامية الغربية، ثم أصبحت تكتب في الاتجاهين جيئة وذهاباً، وأخيراً أصبحت تكتب من اليسار إلى اليمين.
عملت الغزوات التي قام بها الإسكندر الأكبر على نشر اللغة والثقافة اليونانية. إذ حلت اليونانية الهلّينية أو الشائعة Koine محل اللهجات الإقليمية على نطاق واسع ... وأضافت اللهجة الشائعة الكثير من التغييرات الإقليمية إلى اليونانية الفصحى، ومن ثم أصبحت أكثر عالمية. كما عمل تبسيط القواعد اللغوية أيضاً على توفيق أوضاع اللغة اليونانية لتناسب الثقافة العالمية. وأصبحت اللغة الجديدة، بعد أن عكست لغة الكلام الشعبي البسيط، هي اللغة الشائعة الاستخدام في الأمور التجارية والدبلوماسية. وهكذا فقدت اللغة اليونانية الكثير من ملامح الأناقة والدقة البالغة بها نتيجة لتطورها من اليونانية الكلاسيكية إلى اليونانية الشائعة. ومع ذلك فقد احتفظت بصفاتها المميزة من قوة وجمال ووضوح وقدرة بلاغية منطقية.
ومن الجدير بالملاحظة أن الرسول بولس كتب رسالته إلى المسيحيين في روما باللغة اليونانية وليس اللاتينية. كانت الإمبراطورية الرومانية في ذلك الوقت عالماً يونانياً من الناحية الثقافية، باستثناء المعاملات الإدارية.
إن المفردات اللغوية اليونانية في العهد الجديد بها من الثراء ما يكفي للتعبير عن الفروق الدقيقة في المعنى على النحو الذي يريده الكاتب. فعلي سبيل المثال، استخدم العهد الجديد كلمتين مختلفتين للتعبير عن المحبة (نوعين مختلفين من المحبة)، وكلمتين مختلفتين للتعبير عن كلمة آخر (آخر من نفس النوع أو آخر من نوع مختلف)، وكلمات عديدة للدلالة على أنواع شتى من المعرفة. ومن الجدير بالذكر أن بعض الكلمات قد أهملت، مثل كلمة eros (وتعبر عن نوع ثالث من الحب) وبعضها شاع استخدامه في الثقافة الهلِّينية إبان هذا العصر. (Dockery, FBI, 224-25, 227)
8-كتب بعدد كبير من الأساليب الأدبية المتنوعة منها:
- الشعر.
- النثر التاريخي.
- القصيدة الغنائية.
- القصة الرومانسية.
- الرسائل التعليمية.
- المكاتبات الشخصية.
- المذكرات.
- أدب الهجاء.
- السيرة.
- السيرة الذاتية.
- الشريعة.
- النبوة.
- الأمثال.
- القصة الرمزية.
9- ويعالج الكتاب المقدس مئات الموضوعات الجدلية التي تنشئ نوعاً من تعارض الآراء متي طرحت، إذ تناول كتَّابُه مئات الموضوعات الشائكة (مثل الزواج والطلاق والزواج الثاني، والجنسية المثلية، والزنا، وإطاعة ذوي السلطة، والصدق والكذب، وتنمية الشخصية، وتنشئة الصغار، وطبيعة الله وإعلاناته). إلا أن كتَّاب الكتاب المقدس من التكوين إلى الرؤيا تناولوا هذه الموضوعات بتوافق وانسجام عجيب.
10- على الرغم من تنوع موضوعاته، إلا أن الكتاب المقدس يتناول قصة واحدة تتكشف للعيان على نحو تدريجي وهي قصة فداء الله للبشرية. وفي هذا يقول نورمان جايسلر ووليم نيكس: إن الفردوس المفقود في سفر التكوين يصبح الفردوس المردود في سفر الرؤيا. فبينما يغلق الباب المؤدي إلى شجرة الحياة في سفر التكوين، فإنه يفتح للأبد في سفر الرؤيا (Geisler/ .Nix, GIB 86, 28)
إن الخيط الرئيسي الذي يربط أجزاء الكتاب المقدس هو موضوع الخلاص من الخطية والدينونة من خلال التغيير الكامل للحياة ونوال السعادة الأبدية في محضر الله الواحد الرؤوف القدوس.
11- وآخر الأمور وأهمها على الإطلاق هو أنه من بين جميع شخصيات الكتاب المقدس، فإن الشخصية البارزة من أول الكتاب إلى آخره هي شخصية الله الحي الحقيقي الواحد المعلنة في شخص يسوع المسيح.
تأمل أولاً العهد القديم: الشريعة تضع حجر الأساس لعمل المسيح، الأسفار التاريخية تمهد الطريق لعمل المسيح، الأسفار الشعرية تتطلع لعمل المسيح، والنبوات تعلن انتظار عودة المسيح. وفي العهد الجديد، الأناجيل تسجل عرضاً تاريخياً لحياة المسيح، وأعمال الرسل يحكي قصة البشارة بالمسيح، والرسائل تقدم تفسيراً لتعاليم المسيح، وسفر الرؤيا يعلن إتمام كل شئ في المسيح. (Geisler/Nix, GIB 86, 29). إن شخص المسيح هو المحور الرئيسي الذي يدور حوله الكتاب المقدس من أوله إلى آخره.
وعلي الرغم من أن الكتاب المقدس يحوي الكثيرمن الأسفار التي كتبها كتَّاب كثيرون، إلا أنه في ترابطه يبين أنه كتاب واحد. وعلي حد قول ف.ف. بروس فإن أي عضو في الجسم البشري لا يمكن فهمه إلا في ضوء ارتباطه بالجسم كله، وهكذا فإن أي جزء في الكتاب المقدس لا يمكن فهمه إلا في ضوء ارتباطه بالكتاب المقدس كله(Bruce, BP, 89). . إن كل سفر يمثل فصلاً في الكتاب الواحد الذي نسميه الكتاب المقدس. وينتهي بروس إلى النتيجة التالية:
يبدو الكتاب المقدس للوهلة الأولى كمجموعة من الكتابات الأدبية اليهودية في المقام الأول. ولكن إذا بحثنا عن الظروف التي كُتبت فيها الأسفار المختلفة للكتاب المقدس، لوجدنا أنها كتبت في فترات منفصلة على مدى ما يقرب من 1400 عاماً. كتب الكتاب المقدس في بلدان متنوعة من روما غرباً إلى ما بين النهرين وربما فارس شرقاً. واختلف كتَّابه بعضهم عن البعض الآخر، ليس فقط أنه كان يفصل بينهم مئات السنين ومئات الأميال، ولكن أيضاً لأنهم كانوا من مختلف مهن الحياة. فمنهم الملوك ورعاة الغنم والجنود والمشرِّعون والصيادون ورجال الدولة ورجال البلاط الملكي والكهنة والأنبياء، ومنهم معلم للشريعة كان صانعاً للخيام وآخر كان طبيباً أممياً، هذا فضلاً عن آخرين لا نعرف عنهم شيئاً غير ما تركوه لنا من كتابات. أما مادة الكتاب المقدس فتنتمي إلى مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأنواع الأدبية. فهي تتضمن التاريخ والقانون (المدني والجنائي والأخلاقي والديني والصحي) والشعر الديني والرسائل التعليمية والشعر الغنائي والأمثال والقصة الرمزية والسيرة والمكاتبات الشخصية والمذكرات الشخصية واليوميات، هذا بالإضافة إلى الأنواع الكتابية المميزة مثل النبوات والكتابات الرؤية.
ومع كل هذا، فلا يُعدّ الكتاب المقدس مجرد مجموعة من المختارات الأدبية إذ أن هناك وحدة تربط بين أجزائه. هذا فضلاً عن أن مؤلفات المختارات جمعها شخص ما، ولكن الكتاب المقدس لم يجمعه أحد. (Bruce, BP, 88)
قارن أسفار الكتاب المقدس بمجموعة الكلاسيكيات الأدبية الغربية التي يطلق عليها أعظم كتب العالم الغربي. وهي تحتوي على مختارات من أكثر من 450 عملاً أدبياً كتبها ما يقرب من 100 مؤلف على مدى نحو خمسة وعشرين قرناً، ومن هؤلاء المؤلفين على سبيل المثال لا الحصر: هوميروس وأفلاطون وأرسطو وأفلوطين وأغسطينوس وتوما الأكويني ودانتي وهوبس وسبينوزا وكلفن وروسو وشكسبير وهيوم وكانط وداروين وتولستوي ووايتهيد وجويس. وبينما يعد هؤلاء جزء لا يتجزأ من التراث الفكري الغربى، إلا أن هناك غالباً تفاوتاً كبيراً بين آرائهم في كافة الموضوعات تقريباً. وبينما تتفق هذه الآراء في بعض الأمور، إلا أن بها من المواقف ووجهات النظر المتعارضة المتضاربة الشئ الكثير. وفي الواقع، فإن هؤلاء الكتَّاب كثيراً ما كانوا يحيدون عن موضوعاتهم لنقد وتفنيد أفكار من سبقوهم.
ذات يوم زارني أحد مندوبي أعظم كتب العالم الغربى. كان يبحث عن بائعين لهذه المجموعة. وضع أمامي خريطة تصف هذه المجموعة وأخذ يتحدث لي ولزوجتي عنها لمدة خمس دقائق. وبعد ذلك أمضينا ساعة ونصف الساعة نحدثه عن الكتاب المقدس باعتباره أعظم الكتب في التاريخ.
وتحديته أن ينتقي عشرة فقط من مؤلفي مجموعة أعظم الكتب، من مهنة واحدة وجيل واحد ومكان واحد وعصر واحد ومزاج واحد وقارة واحدة ولغة واحدة، وكلهم يتناولون موضوعاً جدلياً واحداً. ثم سألته: هل يتفق هؤلاء المؤلفون مع بعضهم البعض؟
سكت قليلاً ثم أجاب بالنفي.
فسألته: ماذا ستجد إذاً ؟
فأجاب على الفور: خليطاً .
وبعد ذلك بيومين سلَّم حياته للمسيح. إن تفرُّد الكتاب المقدس كما أوضحنا سلفاً لا يثبت أنه كتاب موحى به. ومع ذلك فهو يتحدى أي شخص يبحث بإخلاص عن الحقيقة كي يفحص بعناية خصائصه الفريدة في ضوء ترابطه وتوافق موضوعاته. إن مندوب أعظم الكتب أخذ على عاتقه هذا الأمر فعرف المخلِّص من خلال دراسته للكتاب المقدس.
2(أ) فريد في توزيعه
لا يعد أمراً غير عادي أن نسمع عن كتب ظهرت على قائمة أكثر الكتب مبيعاً محققة مبيعات تصل إلى بضعة مئات الألوف من النسخ. والأمر الأكثر ندرة من ذلك أن تجد كتباً قد حققت مبيعات تزيد عن المليون نسخة، أما الأكثر ندرة على الإطلاق أن تجد كتباً قد وصلت مبيعاتها إلى ما يربو على العشرة ملايين نسخة. ومن المذهل حقاً أن تعرف أن عدد الكتب المقدسة التي بيعت يقدر بالبلايين. نعم، البلايين. إن عدد النسخ التي تم طباعتها للكتاب المقدس بأكمله أو لأجزاء مختارة منه تفوق أي كتاب آخر في التاريخ. وربما يعارض البعض قائلين إن كتاباً ما قد وزع منه في شهر أو عام معين أكثر مما وزع من الكتاب المقدس. غير أنه ليس هناك كتاب آخر يستطيع أن يضاهي الكتاب المقدس في إجمالي عدد النسخ الموزعة منه.
طبقاً لتقرير توزيع الكتاب المقدس لعام 1998 الصادر عن اتحاد جمعيات الكتاب المقدس، في هذا العام وحده قامت هذه الجمعيات بتوزيع 20.8 مليون نسخة كاملة من الكتاب المقدس و20.1 مليون نسخة أخرى من العهد الجديد. وإذا ما أضفنا ما تم توزيعه من أجزاء الكتاب المقدس (أي أسفار كاملة منه) والمقتطفات المأخوذة عنه (مقتطفات قصيرة في موضوعات معينة)، يصبح إجمالي عدد النسخ التي تم توزيعها من الكتاب المقدس أو أجزاء منه في عام 1998 وحده 585 مليوناً - وهذا الرقم المذهل يقتصر على الكتب المقدسة الموزعة من خلال جمعيات الكتاب المقدس وحدها.
وهذا يعني أنه لو اصطف جميع من حصلوا على كتب مقدسة أو أجزاء من الكتاب المقدس في عام 1998 وتسلم كل منهم كتاباً مقدساً كل خمس دقائق، فإن هذا يحتاج إلى أكثر من اثنين وتسعين عاماً وهو ما قامت به جمعيات الكتاب المقدس في هذا العام وحده.
وطبقاً لما ورد في تاريخ الكتاب المقدس الصادر عن جامعة كمبريدج فإنه لم يشهد أي كتاب آخر مثل هذا التوزيع المتواصل. (Greenslade, CHB, 479)
والناقد الذي يقول: إن هذا لا يبرهن على أن الكتاب المقدس هو كلمة الله. ريما يكون على حق. ولكن هذا بالتأكيد يبرهن أن الكتاب المقدس كتاب فريد.
3(أ) فريد في ترجمته
إن عدد ترجمات الكتاب المقدس لا يقل أهمية أبداً عن عدد مبيعاته. فمعظم الكتب لا تترجم إلى اللغات الأخرى. وتلك التي تترجم، تنشر معظمها بلغتين أو ثلاثة على الأكثر. وتندر الكتب التي يصل عدد ترجماتها إلى ما يزيد على الاثنتي عشرة لغة. طبقاً لاتحاد جمعيات الكتاب المقدس، ترجم الكتاب المقدس (أو بعض أجزاءه) إلى أكثر من 2.200 لغة! ورغم أن هذا الرقم يصل إلى ثلث لغات العالم المعروفة فقط وعددها 6.500 لغة، إلا أن هذه اللغات تمثل الأداة الرئيسية للتواصل لما يربو على التسعين بالمائة من سكان العالم. وفي كل أنحاء العالم، ليس هناك كتاب آخر في التاريخ قد تمت ترجمته وإعادة ترجمته وتفسيره أكثر من الكتاب المقدس.
إن الكتاب المقدس هو أحد أولى أمهات الكتب التي ترجمت. ونحو عام 250 ق.م. ترجم العهد القديم من العبرية إلى اليونانية وأطلق على هذه الترجمة اسم الترجمة السبعينية. Unger, UBD, 1147) ) وكان الغرض الأساسي من هذه الترجمة هو أن يقرأها اليهود المقيمون بالإسكندرية والمتحدثون باللغة اليونانية ولم يعودوا يقرأون اللغة العبرية.
ومنذ ذلك الوقت يسعى المترجمون جاهدين لنقل الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد إلى اللغات المختلفة سواء كان لها أبجدية مكتوبة أم لا. وفي مؤسسة وايكليف لمترجمي الكتاب المقدس وحدها، هناك ما يزيد على الستة آلاف من المترجمين. وهم يتعاملون مع أكثر من 850 لغة مختلفة في خمسين دولة لإنتاج ترجمات جديدة أو منقحة للكتاب المقدس. (Barnes, OCB, 823) ومن بين هذه اللغات هناك 468 لغة يترجم إليها الكتاب المقدس للمرة الأولى. وطبقاً لما قاله تيد بيرجمان الذي يعمل في «معهد سمر» للغويات فإنه بهذا المعدل سوف يصبح الكتاب المقدس متاحاً بكل لغات العالم تقريباً فيما بين عامي 2007 و2022 ، وهذا يعني أنه لن يمضي هذا الجيل قبل أن نشهد أول نـص تتم ترجمته إلى كـل لغات العالم.
ليس هناك كتاب آخر في التاريخ يستطيع أن يضاهي الكتاب المقدس في ترجمته.
4(أ) فريد في بقائه
1(ب) على مر الزمن
رغم أن الكتاب المقدس قد دِّون أول مرة على مواد قابلة للفناء، وكان من الضروري نسخه مرات ومرات لمئات السنين قبل اختراع آلات الطباعة، إلا أنه ظل صحيحاً أسلوباً ومعنىً ولم يواجه خطر الفناء. وإذا ما قورن بغيره من الكتابات القديمة، فإن الكتاب المقدس له ما يؤيده من المخطوطات ما يفوق مخطوطات أي عشرة أعمال أدبية من الكلاسيكيات القديمة مجتمعة معاً. (طالع الفصل الثالث).
ويشير جون وارويك مونتجمري إلى أن الشك في نصوص أسفار العهد الجديد من شأنه أن يلقي بالشك على جميع الأعمال الكلاسيكية القديمة، فليس هناك وثيقة من العصر القديم تثبت المراجع صحتها على النحو الذي تثبت به العهد الجديد. (Montgomery, HC 71, 29) ويعبر عن الفكرة نفسها بروس ميتسجر، أستاذ جامعة برينستون وأحد رواد نقد النص الكتابي في العالم، قائلاً إنه على النقيض من النصوص الأخرى القديمة، يقف الناقد لنصوص العهد الجديد موقف الحائر أمام غزارة مخطوطاته. (Metzger, TNT, 34)
ويعلق برنارد رام على دقة وكثرة مخطوطات الكتاب المقدس قائلاً: لقد حفظ اليهود هذه المخطوطات بعناية شديدة لم تعرفها أي مخطوطة أخرى. فمن خلال المازورا massora العليا والوسطى والسفلى حافظوا محافظة شديدة على كل حرف ومقطع وكلمة وفقرة. وكان عندهم طبقات خاصة من الشعب مهمتها الوحيدة حفظ ونقل هذه الوثائق بأمانة ودقة تامة، فكان هناك الكتبة والفريسيون والمازوريين. فـأي شخـص أحصى حروف ومقاطع وكلمات كتابات أفلاطون أو أرسطو أو شيشرون أو سينكا؟ (Ramm, PCE 53, 230-231)
ويقارن چون لي في كتابه أعظم كتاب في العالم بين الكتاب المقدس وكتابات شكسبير:
في بحث نشرته مجلة «نورث أمريكان رفيو» أورد أحد الباحثين بعض المقارنات المثيرة للاهتمام بين كتابات شكسبير والكتاب المقدس، وهي تبين أن مخطوطات الكتاب المقدس قد نالت من الاهتمام والعناية ما لم تنله أي كتابات أخرى حتى عندما سنحت الفرصة للحفاظ على النص الأصلي الصحيح بوسائل الطباعة بدلاً من استخدام وسائل النسخ اليدوي. كتب يقول: من الغريب أن نصوص شكسبير التي بقيت لفترة تقل عن المائتين والثمانية أعوام لا تحظى بالثقة والصحة التي يحظى بها العهد الجديد، الذي له الآن أكثر من ثمانية عشر قرناً من الزمان، منها خمسة عشر قرناً على الأقل كان خلالها عبارة عن مخطوطات ... باستثناء عشرة أو عشرين آية فقط يمكن القول بأن كلمات كل آية من آيات العهد الجديد صحيحة تماماً باتفاق العلماء، حتي أن أي خلاف ينشأ فيما يختص بقراءتها يرجع إلى تفسير معاني الكلمات وليس إلى الكلمات نفسها. ولكن في كل عمل من أعمال شكسبير السبعة والثلاثين هناك مئات القراءات المختلف عليها بين الدارسين وأكثرها يؤثر جوهرياً في معنى الفقرات التي توجد بها. (Lea, GBW, 15)
2(ب) خلال عصور الاضطهاد
لقد ظل الكتاب المقدس صامداً أمام الهجمات الشرسة لخصومه، فقد حاول الكثيرون حرقه أو منعه أو حظره بموجب القانون منذ عصر الأباطرة الرومان حتى عصرنا الحاضر إبَّان الحكم الشيوعى. (Ramm, PCE' 53, 232)
في عام 303م أصدر الإمبراطور الروماني دقليديانوس أمراً بمنع المسيحيين من العبادة والقضاء على كتابهم المقدس. وتم نشر مرسوم إمبراطوري في كل مكان يأمر بهدم الكنائس وحرق الكتاب المقدس وتجريد ذوي المناصب العليا من حقوقهم المدنية وتجريد المواطنين العاديين من حريتهم إذا ما تمسكوا بإيمانهم المسيحي. (Greenslade, CHB, 476)
ويسجل لنا المؤرخ الكنسي يوسابيوس في القرن الرابع الميلادي المفارقة التاريخية لهذه الحادثة فكتب يقول إنه بعد ربع قرن من صدور قرار دقليديانوس أصدر الإمبراطور الروماني قسطنطين قراراً بإعداد خمسين نسخة من الكتاب المقدس على نفقة الدولة. (Eusebius, EH, VII, 2, 259)
وبعد عدة قرون قال الملحد الفرنسي الشهير فولتير الذي مات عام 1778 ، أنه في خلال مائة عام من ذلك الوقت ستختفي المسيحية من الوجود وتدخل التاريخ. ولكن ماذا حدث؟ أصبح فولتير نفسه تاريخاً، بينما ظل الكتاب المقدس ينتشر يوماً بعد يوم في أرجاء العالم المختلفة حاملاً معه البركات أينما ذهب. فمثلاً بنيت الكاتدرائية الإنجليزية في زانزيبار في موقع سوق النخاسة القديم ووضعت مائدة العشاء الرباني في الموقع الذي كان العبيد يُجلدون فيه. ويزخر العالم بمثل هذه المواقف ... كما قال أحدهم : إن محاولة منع انتشار الكتاب المقدس كمحاولة إيـقاف قرص الشمس الـملـتهب عن الدوران. (Collett, AAB, 63)
أما بالنسبة لنبوءة فولتير عن اختفاء المسيحية والكتاب المقدس في خلال مائة عام يشير جايسلر ونيكس إلى أنه بعد خمسين عاماً فقط من وفاة فولتير قامت جمعية الكتاب المقدس بجنيف باستخدام مطبعته ومنزله لنشر الكتاب المقدس. (Geisler/Nix, GIB' 68, 123, 124)
إن خصوم الكتاب المقدس يجيئون ويمضون، ولكنه يبقى صامداً. لقد صدقت كلمات الرب يسوع عندما قال: «السماء والأرض تزولان، ولكن كلامي لا يزول». (مر 13: 31)
3(ب) بالرغم من النقد
أوضح هـ. ل. هستينجز الطريقة الفريدة التي صمد بها الكتاب المقدس أمام هجمات الملحدين والمتشككين:
لقد حاول الملحدون على مدى ثمانية عشر قرناً دحض هذا الكتاب والنيل منه، ومع ذلك فهو صامد اليوم كصخرة. فهو يزداد انتشاراً كما يزداد حب الناس له واعتزازهم به وقراءتهم له اليوم أكثر من أي وقت مضى. إن الهجوم الذي يشنه الملحدون على الكتاب المقدس، على كثرته وتنوعه، يشبه طَرْق مطرقة صغيرة على بناء الهرم. عندما اقترح الملك الفرنسي اضطهاد المسيحيين في فترة حكمه، قال له أحد رجال الدولة والمحاربين القدماء: يا سيدى، إن كنيسة الله هي سنْدان أبلى مطارق كثيرة. لقد حاولت مطارق الملحدين هدم هذا الكتاب لعصور طويلة، فبليت المطارق وبقي هو. وإن لم يكن هذا الكتاب هو كتاب الله، لاستطاع البشر القضاء عليه منذ زمن بعيد. لقد حاول النيل من الكتاب المقدس أباطرة وباباوات، ملوك وكهنة، أمراء وحكام، فماتوا هم وبقي هو. (Lea, GBW, 17-18)
ويضيف برنارد رام قائلاً:
لقد قرعت الأجراس معلنة موت الكتاب المقدس لآلاف المرات، فأُعد الموكب الجنائزي ووضع شاهد القبر وقُرئت الصلوات، ولكن الكتاب ظل حياً. ولم يتعرض أي كتاب آخر للنقد والتجريح والقدّح والذم مثلما تعرَّض له الكتاب المقدس. فأي كتاب في الفلسفة أو الدين أو علم النفس أو الأدب الكلاسيكي أو الحديث تعرَّض لمثل هذا الكمّ الهائل من محاولات الهجوم والنقد كالكتاب المقدس؟ وبهذا الكم من الحقد والشك؟ أو هذا التفصيل والتدقيق في كل فقرة وسطر فيه وفي كل تعليم له؟. ولا يزال الملايين يحبون الكتاب المقدس ويقرأونه ويدرسونه. (Ramm, PCE' 53, 232-233)
لجأ دارسو الكتاب المقدس في وقت ما إلى النتائج الأكيدة للنقد العالي. ولكن نتائج النقد العالي لم تعد أكيدة كما كنا نعتقد من قبل. ولنأخذ مثلاً الفرضية الوثائقية ، إن أحد أسباب ظهورها - فيما عدا الأسماء المختلفة المستخدمة للإشارة إلى الله في سفر التكوين - هو القول بأن الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب المقدس لا يمكن أن يكون موسى هو كاتبها، بعد أن أثبتت النتائج الأكيدة للنقد العالى أن الكتابة لم تكن معروفة في أيام موسى، ولو وجدت فقد كان من النادر استخدامها. ومن ثم استنتج الدارسون أنها كتبت في عصر لاحق. فأخذ النقاد يعملون عقولهم ووضعوا نظرية تفترض أن هناك أربعة من الكتَّاب - يشار إليهم بالحروف D, P, E, J جمعوا الأسفار الخمسة معاً. ووضع هؤلاء النقاد هيكلاً نقدياً ضخماً حتى إنهم نسبوا أجزاء الآية الواحدة إلى كتاب مختلفين! (طالع الجزء الثاني من الكتاب لمعرفة تفاصيل أكثر عن الفرضية الوثائقية).
ثم اكتشف علماء الآثار الحجر الأسود . (Unger, UBD, 444) وهذا الحجر عليه كتابة مسمارية تحوي شريعة حمورابي المطوّلة. هل كانت هذه الكتابة لاحقة لموسى؟ كلا! إنها كانت سابقة لعصر موسى. وليس هذا فقط، ولكنها سبقت كتابات موسى بثلاثة قرون على الأقل. Unger, UBD, 444 ولدهشة النقاد كانت هذه الكتابات أقدم من موسى الذي كان يعتقد النقاد أنه رجل بدائي لا يعرف الكتابة.
يالسخرية التاريخ! ولا تزال الفرضية الوثائقية تدرَّس، ولكن معظم مبادئها الأساسية (النتائج الأكيدة للنقد العالي) قد ثبت عدم دقتها.
ولقد افترضت النتائج الأكيدة للنقد العالي أنه لم يكن هناك وجود للحثيين في زمن إبراهيم حيث لم يسجل التاريخ عنهم شيئاً فيما عدا ما سجله الكتاب المقدس. فلابد أن وجودهم هو من قبيل الأساطير. ومرة أخرى ثبت خطأ هذا الاعتقاد إذ أن البحوث الأثرية قد كشفت عما يثبت أنه كانت هناك حضارة حثية واستمرت لما يزيد على 1200 عام.
ويقول إيرل رادماخر، الرئيس السابق للمعهد الغربي المعمداني المحافظ نقلاً عن نيلسون جليك، الرئيس السابق لمعهد اللاهوت اليهودي بكلية هيرو يونيون بسينسيناتي وواحد من أكبر ثلاثة علماء أثريين: استمعت إليه (جليك) عندما كان يتحدث في معبد عمانوئيل بدالاس، إحمر وجهه وقال: لقد اتهمت بأنني أعلم بالوحي الحرفي المطلق للكتاب المقدس. وأريد أن يفهم الجميع أنني لم أعلم بهذا قط. فكل ما قلته إنني في جميع بحوثي الأثرية لم أجد قط أثراً واحداً يتعارض مع أي عبارة في كلمة الله.(Radmacher, PC,50)
أما روبرت ديك ويلسون، الملم بأكثر من خمس وأربعين لغة، فبعد أن أمضي حياته في دراسة العهد القديم يخلص إلى ما يلى: يمكنني القول بأن دراستي للكتاب المقدس التي دامت لخمسة وأربعين عاماً كانت تؤدي أكثر فأكثر إلى تعميق إيماني بأن لدينا من خلال العهد القديم سجلاً تاريخياً صحيحاً لتـاريخ الشعـب الإســرائيلى. (Wilson, WB, 42)
إن الكتاب المقدس فريد في قدرته على الصمود أمام هجمات النقاد. ولا يضاهيه أي كتاب آخر. ومن الأجدر بمن يبحث عن الحقيقة أن يفحص كتاباً يتمتع بهذه الصفات.
5(أ) فريد في تعاليمه
1(ب) نبواته
يقول ويلبر سميث، الذي كوّن لنفسه مكتبة شخصية تحوي خمسة وعشرين ألف مجلد:
مهما كان يعتقد الشخص بشأن موثوقية ورسالة هذا الكتاب الذي نسميه الكتاب المقدس، هناك اتفاق عام على أنه يعد من وجوه كثيرة من أكثر الكتب تميزاً بين جميع الكتب التي كتبت على مدى ما يقرب من خمسة آلاف عام عرفها الجنس البشري من الكتابة.
إنه الكتاب الوحيد الذي كتبه شخص، أو مجموعة من الأشخاص، ويحوي مجموعة كبيرة من النبوات التي تتصل بشعوب معينة وبشعب إسرائيل وبكل الشعوب على وجه الأرض، ومنها ما يتصل بمدن معينة وبالمسيح الآتي. في العالم القديم كانت هناك وسائل كثيرة مختلفة لمعرفة المستقبل، فيما كان يعرف باسم العرافة، ولكننا لا نجد في الأدب اليوناني واللاتيني كله، رغم وجود كلمات مثل: نبي أو نبوة، أي نبوة حقيقية محددة لحادث تاريخي عظيم يتوقع حدوثه في المستقبل البعيد، أو أي نبوة عن مخلص يظهر في الجنس البشري.
ويوافق جايسلر ونيكس على هذا الرأي. ففي كتابهما مقدمة عامة للإنجيل - الذي يعد مرجعاً مفيداً - كتبا:
طبقاً لما ورد في تثنية 18، كان النبي يعد كاذباً إذا لم تتحقق نبوءاته مطلقاً. ليس هناك نبوة غير مشروطة في الكتاب المقدس عن أحداث معينة لم تتحقق حتى يومنا هذا. فهنـاك مئـات النبـوات، بعضهـا قيـل قبـل مئــات السنين، تحققت حرفياً. إذ سجل العهد القديم نبوات حددت زمن (دانـيال 9)، ومدينة (ميخا 5 : 2)، وطبيعة (إشعياء 7 : 14)، ميلاد المسيح، كما سجل عشرات الأحـداث الأخـري المرتبـطة بحيـاتـه ومـوتـه وقيامته (إشعيـاء 53). كما تحققت نبوات أخرى كثيرة منها دمار أدوم (عوبديا 1)، ولعنة بابل (إشعياء 13)، ودمـار صور (حزقيال 26) ونينـوى (نحميـا 1-3) وعـودة إسـرائيل إلى أرضه (إشعياء 11 : 11). هناك كتب أخرى تدعي الوحي الإلهي مثل كتاب المورمون وبعض أجزاء الفيدا (الهندوسية). ولكن لا يحوي أي من هذه الكتب أي نبوة. ومن ثم تعد النبوات المحققة دليلاً قوياً على صدق وحـي الكتاب الـمقـدس وتفرده. (Geisler/Nix, GIB' 86, 196)
2(ب) تاريخه
تقدم لنا الأسفار من سفر صموئيل الأول وحتي سفر أخبار الأيام الثاني ما يقرب من خمسة قرون من تاريخ الأمة الإسرائيلية. وتسجل لنا موسوعة التاريخ القديم الصادرة عن جامعة كمبريدج The Cambridge Ancient History (Vol. 1, p. 222) ما يلى: كان الإسرائيليون عباقرة في تسجيلهم للتاريخ، ويعد العهد القديم أقدم كتابة تاريخية موجودة.
ويبدأ أستاذ الآثار البارز ألبرايت بحثه المعروف «العصر الكتابى» بهذه الملاحظات:
يفوق التقليد القومي العبري جميع ما عداه من حيث وضوح صورة تسلسل الأنساب والأصول القبلية. فعبثاً نبحث عما يماثل ذلك في حضارات مصر أو بابل أو أشور أو فينيقية أو اليونان أو روما. وليس هناك ما يشبه ذلك في تقاليد الشعوب الجرمانية. كما لم تنتج حضارات الهند والصين أي شئ مماثل، إذ أن كتاباتها التاريخية المبكرة عبارة عن تراكمات أدبية مشوهة لتقاليد الأسر الحاكمة ليس بها أي أثر للرعاة أو الفلاحين غير أنصاف الآلهة أو الملوك الذين تبدأ بهم هذه السجلات. وليس هناك أي تلميح في الكتابات الهندية التاريخية القديمة (البورانات) أو الكتابات اليونانية التاريخية المبكرة يشير إلى حقيقة أن كلاً من الهنود الآريين والهلينيين كانوا قبلاً بدو وهاجروا إلى مواطنهم اللاحقة في الشمال. ويذكر الأشوريون بشكل غير واضح أن حكامهم الأوائل، الذين يذكرون أسماءهم دون أي تفاصيل عن منجزاتهم، كانوا من سكان الخيام، ولكن من أي مكان قدموا، فهذا أمر قد سقط من ذاكرة التاريخ منذ زمن بعيد. (Finkelstein, JTHCR, 3)
أما فيما يتعلق بـ سجل الأمم الوارد في تكوين 10، يقول ألبرايت: يقف هذا السجل وحيداً تماماً في الكتابات القديمة وليس له مثيل ولو من بعيد عند اليونان. ويبقي سجل الأمم وثيقة دقيقة بشكل مذهل. (Albright, RDBL, 70-72)
3(ب) شخصيته
قال لويس س. شيفر، مؤسس معهد لاهوت دالاس ورئيسه الأسبق: إن الكتاب المقدس ليس بالكتاب الذي يريد البشر أن يكتبوه لو استطاعوا، أو بالكتاب الذي يستطيعون أن يكتبوه لو أرادوا.
يتعامل الكتاب المقدس بكل صراحة ووضوح مع أخطاء الشخصيات الواردة به، حتى لو كانت هذه الأخطاء تنعكس سلباً على رجال الله المختارين الذين من بينهم القادة وكتَّاب الوحي الإلهي أنفسهم. ومن أمثلة ذلك:
- يذكر خطايا الآباء الأولين. (تك 12: 11-13، 49: 5-7).
- يذكر خطايا الشعب. (تث 9: 24).
- يذكر خطية زنا داود مع بثشبع ومحاولته إخفاء ذلك (2 صم: 11-12).
- يسجل الإنجيليون أخطاءهم الشخصية وأخطاء الرسل (مت 8: 10-26 ، 26: 31-56 ، مر6: 52 ، 8: 18 ، لو 8: 24 و 25 ، 9: 40-45 ، يو10: 6 ، 16: 32).
ü يذكر الاضطرابات داخل الكنيسة (1كو1: 11، 15: 12، 2كو2: 4).
ويركز الكتاب المقدس على الحقيقة وليس الوهم والخيال فهو يقدم الصالح والطالح، الصواب والخطأ، الأفضل والأسوأ، الأمل واليأس، البهجة والألم في الحياة. ومن الطبيعي أن يكون الكتاب المقدس هكذا لأنه في نهاية الأمر وحي الله ولأنه ليست خليقة غير ظاهرة قدامه، بل كل شئ عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا. (عب 4 : 13).
6(أ) فريد في تأثيره على الأدب
في كـتابه «أعظم الكلاسيكيات الإنجليزية»، كتب كليلاند ب. مكافي يقول: لو ضاعت كل الكتب المقدسة في مدينة معينة، لأمكن إعادة جمع كل أجزائه الأساسية من الكتب الأخرى التي تقتبس عنه والموجودة في المكتبة العامة لهذه المدينة. هناك مؤلفات تغطي كل الأدباء العظماء تقريباً، تبين كيف أثَّـر الكتــاب المقدس فيهم. (McAfee, GEC, 134)
كتب جابريل سيفان يقول: ليس هناك وثيقة أخرى بين يدي البشرية تقدم كل هذا للقارئ - تعاليماً دينية وأخلاقية، نظماً اجتماعية وقوانين شرعية، تفسيراً للتاريخ، وكل هذه المشاعر الإنسانية من أفراح وأطراح وآمال والتي عبر عنها أنبياء وقادة إسرائيل بقوة وصدق لا نظير لهما. (Sivan, BC, xiii)
وفيما يتعلق بالعهد القديم، يضيف قائلاً:
منذ فجر الحضارة لم يكن هناك كتاب ملهم لإبداعات الكتَّاب مثل العهد القديم، الكتاب المقدس العبري. لم يكن له منازع في تأثيره الأدبي على الشعر والدراما والقصة. كتب الشاعر الألماني هاينريتش هايني عام 1830 يصف أهميته بالنسبة للشعر الغنائي قائلاً: الشروق والغروب، الوعد وتحقيقه، الميلاد والموت، الدراما البشرية كلها، كل شئ في هذا الكتاب ... إنه كتاب الكتب، موسوعة الكتب. لقد وجد الكتَّاب من مختلف الأقطار والثقافات على مدى أكثر من ألف سنة في الكتاب المقدس بأفكاره المتنوعة واتساقه الكامل معيناً فريداً لا ينضب زاخراً بالموضوعات والشخصيات. وعمل الكتاب على إعادة صياغة وتفسير هذه الموضوعات لتصوير الحقائق الخالدة - مثل الله والإنسان أو الصراع بين الخير والشر أو الحب أو الغيرة أو صراع الإنسان من أجل الحرية أو الحقيقة أو العدالة.(Sivan, BC, 218)
ويقول كل من سوزان جالاجر وروجر لوندن إن: الكتاب المقدس هو أحد أهم الوثائق في تاريخ الحضارة، ليس فقط لمكانته ككتاب موحى به، ولكن أيضاً لتأثيره العميق على الفكر الغربي. باعتبارها رؤية عالمية سادت على مدى أربعة عشر قرناً من الزمان على الأقل، لعبت المسيحية والنص المحوري العظيم لها دوراً رئيسياً في تكوين الثقافة الغربية. ومن ثم استقت الكثير من النصوص الأدبية من الكتاب المقدس والتقليد المسيحى، حتى في العصر ما بعد المسيحي الحالي. (Gallagher/ Lundin, LTEF, 120)
وينـوه إيلـي ويـزل، الكاتـب الـروائي الشهير والحائز على جائزة نوبل للسلام إلى أن: الكتـاب الـمقـدس كتاب موحى به ومصدر للوحي كذلك، ولا مثيل لتأثيـره سواء علـى الـمستوى الاجتماعي والأخـلاقي، أو على مستـوى الإبداع الأدبـي. إننا كثيـراً ما ننسى أن الكتاب المقدس يتصل أيضاً بالمجـال الفنـي. فشخصياته درامية وقصصهم الدرامية خالدة وانتصاراتهم وهزائمهم مؤثرة. فكل صرخة تحرك مشاعرنا وكل نداء يؤثر فيـنا. إن أشعـار الكتاب الـمقدس التي كتبت في عصر سابق تعد في حد ذاتها أشعاراً خالدة. فهي تخاطبنا بشكل جماعي وفردي على مدى القرون.(In Epilogue of Liptzen, BTWL, 293)
ويشير هارولد فيش الأستاذ المتقاعد بجامعة بار- إيلان إلى أن: الكتاب المقدس قد تغلغل في أدب العالم الغربي لدرجة يصعب قياسها. وفي العصور الوسطى وما تلاها كان بمثابة مَعين لا ينضب من الرموز والأفكار وأساليب فهم الحقيقة، أكثر من أي كتابات أخرى قديمة أو حديثة. وهذا الأثر يمكن تتبعه ليس فقط في النصوص التي تتعامل مباشرة مع الشخصيات أو الموضوعات الكتابية، ولكن أيضاً في عدد كبير من الأشعار والأعمال المسرحية والكتابات الأخرى التي لا تتصل موضوعاتها بالكتاب المقدس بشكـل صـريـح ولكن تتبنى رؤية كتابية للبشرية والعالم. (Fisch,HCBD, 136)
في كتابه تشريح النقد ، الذي أضحى واحداً من المؤلفات الكلاسيكية، يشير الناقد الأدبي العالمي الشهير نورثروب فراي إلى أن: الأدب الغربي قد تأثر بالكتاب المقدس أكثر من أي كتاب آخر. (Frye, AC, 14)
وبعد خمسة وعشرين عاماً كتب فراي يقول: سرعان ما أدركت أن دارس الأدب الإنجليزي الذي لا يعرف الكتاب المقدس لا يستطيع فهم الكثير مما يقرأه: إذ أن أفضل الطلاب التزاماً بالضمير الأخلاقي سوف يسيئ فهم الدلالات والمعاني على نحو مستمر. (Frye, GC, xii)
ويصف المؤرخ فيليب شاف عام 1933 تفرد الكتاب المقدس وشخص المخلص:
إن يسوع الناصري هذا، دونما مال أو سلاح، أخضع الملايين من البشر أكثر ممن أخضعهم الإسكندر أو قيصر أو نابليون. ودونما علم أو ثقافة، ألقى الضوء على حقائق بشرية وإلهية أكثر من جميع الفلاسفة والعلماء مجتمعين. ودونما فصاحة أو بلاغة، نطق بكلمات الحياة كما لم ينطق بها أحد قبله أو بعده، وأحدث أثراً يفوق مقدرة الخطباء والشعراء. ودون أن يكتب سطراً واحداً، حرك أقلاماً كثيرة وأثرى الكثير من العظات والخطب والمناقشات والمجلدات التعليمية والأعمال الفنية وأشعار المدح بالموضوعات أكثر من كل الفنانين العظماء في العصور القديمة والحديثة.
ويضيف برنارد رام قائلاً:
هناك دراسـات ببـلوغرافيـة مركبة ليس لها مثيل في أي علم أو قسم آخر من الـمعرفة البشرية. فمنذ عصر الآباء الرسل عام 95م وحتي العصور الحديثة هناك نهر أدبي عظيم واحد ينبـع من الكتاب الـمقـدس - قوامـيس ومـعاجم الكتاب الـمـقدس، وموسوعات الكتاب الـمقدس، وأطالس الكتاب المقدس، وجغرافيا الكتاب الـمقدس. وفيما عـدا ذلك نـذكر أيضاً الـدراسـات الببلوغرافية الكثـيرة التي تتصـل باللاهـوت، والتعليم الديني، والإنشاد الديني، والإرساليات، ولغــات الكتاب المقدس، وتاريخ الكنيسة، والتراجم الدينية، والشعائر الدينية، والتفاسيـر، وفلسـفـة الدين، وعلـم الدفاع عن العقيدة وغيرها. فهناك عدد لا يحصى...
ليس هناك كتاب آخر في تاريخ البشرية كله أوحى لكتابة كل هذا العدد الكبير من الكتب الأخرى مثل الكتاب الـمقدس. (Ramm, PCE' 53, 239)
7(أ) فريد في تأثيره على الحضارة
الكتاب المقدس فريد أيضاً في تأثيره على الحضارة. ويقول جايسلر ونيكس في إيجاز بليغ:
يتضح تأثير الكتاب المقدس وتعاليمه في العالم الغربي لكل دارسي التاريخ. كما يتضح تأثيره على مجريات الأحداث في الغرب أيضاً. لقد تأثرت الحضارة بالكتاب المقدس أكثر من تأثرها بأي كتاب أو سلسلة كتب أخرى في العالم. ولا يصل أي عمل ديني أو أخلاقي عظيم في العالم إلى عمق المبادئ الأخلاقية للمحبة المسيحية أو إلى قمة المفاهيم الروحية لتعاليم الكتاب المقدس عن الله. إن الكتاب المقدس يقدم أسمى المثل للبشر، المثل التي شكلت الحضارة. (Geisler, GIB 86, 186-187)
ويقول جرادي دافيس في الموسوعة البريطانية الجديدة : لقد قدَّم الكتاب المقدس رؤيته لله والكون والبشرية إلى كافة اللغات الغربية الرائدة ومن ثم إلى المنظومة الفكرية للإنسان الغربى.(Davis, EB, 904) . ويقول أيضاً: منذ اختراع الطباعة (منتصف القرن الخامس عشر)، أصبح الكتاب الـمقـدس أكثـر مـن مجرد ترجمة للأدب الشرقي القديم. فلم يكن كتاباً وافـداً، بل كان أقـرب المصادر والمراجع المألوفة والموثوقة للمُـثل الفكـرية والأخلاقية والروحية في الغرب.(Davis, EB, 905)
ويقول جابرييل سيفان: لقد أعطى الكتاب المقدس قوة للمناضل من أجل الحرية وقلـباً جديداً للمضطهد ومثالاً للمصلـح الاجتمـاعي ووحـياً للكـاتب والفنان. (Sivan, BC, 491)
أما الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو فيهتف قائلاً: انظروا إلى أعمال فلاسفتنا، فمع فخامة أسلوبها كم هي وضيعة وحقيرة مقارنة بالكتاب المقدس! فهل يمكن لكتاب بهذه البساطة والسمو في نفس الوقت أن يكون مجرد عمل بشرى؟
ويشيـر كينـيث ل. وودوارد فـي مجلة «نيـوزويـك» إلى أنه بعد ألفـي عـام. تحـسب القـرون نفسها من وقـت ميـلاد يسـوع النـاصري. وبنهايــة هذا العام سوف تسجل التقاويم في الهنـد والصين ومثيلاتها في أوروبا وأمريكا والشرق الأوسط فجر ألفية جديدة. (Woodward, "2000 Years of Jesus," Newsweek March 29, 1999, p. 52).
8(أ) نتيجة منطقية
إن البراهين سالفة الذكر لا تثبت أن الكتاب المقدس هو كلمة الله. ولكنها في رأيي تشير إلى تفوقه وتفرده بالنسبة لأي كتاب آخر على وجه الإطلاق.
قال لي يوماً أحد الأساتذة: إن كنت شخصاً واعياً، فسوف تقرأ الكتاب الوحيد الذي جذب إليه الأنظار أكثر من أي كتاب آخر، إن كنت تبحث عن الحق. ومن المؤكد أن هذه الصفات تنطبق على الكتاب المقدس وحده.
|