الَحقيقة الغائبة |
|
ما على القارئ بأس لو انزعج ، فالانزعاج للحق مكرمة ، وأن تنزعج للحق فهذا أفضل كثيراً من أن تنبهر بالباطل ، وجزء من هذا الانزعاج مرجعه إلى ما ذكرناه في بداية الحديث ، وهو أن النفس تهوى أن تقرأ ما تحب أن يكتب لها ، وتتعشق أن تسمع ما تهوى أن يقال لها ، بصرف النظر عن موقعه من الحق أو موقفه من الحقيقة ، أما الحق فهوى أن الإسلام الدولة كان انتقاضاً من الإسلام الدين ، وعبئاً عليه ، لأن الإسلام كما شاء له الله دين وعقيدة ، وليس حكماً وسيفاً وأما الحقيقة فهي أن البشر هم البشر في كل العصور ، يستوي في ذلك عصر الراشدين أو الأمويين أو العباسيين أو عصرنا الحديث ، وأن الحديث عن جنة الأرض هراء لا قيمة له ، وغثاء لا نفع فيه ، وباطل لا جدوى منه . ولعل القارئ قد أدرك في ثنايا الحديث ، أننا في حديث التاريخ قد توجهنا للحاضر ، واستلهمنا المستقبل ، وأننا في توجهنا لهذا واستلهامنا لذاك قد أرهقنا أنفسنا كثيراً بالتوقف أمام ما نفزع له ، وبتحليل ما نجزع منه ، ولست أدري هل يصدقني القارئ أم لا ، إذا ذكرت له أنني منعت نفسي كثيراً من الخوض في بعض الأحداث ، تجنباً لفحش في القول أو مبالغة في المجون . ولعلي نجحت في أن أوازن بين وجهي الصورة ، التي نقلوها لنا حلماً فأنزلناه في رفق إلى أرض الواقع ، فإذا به واقع مر ، قليلاً ما يسر ، وكثيراً ما يفجع ، ولست أدري هل أصبت أم أخطأت ، وهل كان على أن أفعل ما يفعله الكثيرون ، حين يتجاهلون ما يقرب من ألف عام من حكم الأمويين والعباسيين ، لكي يتوقفوا أمام عامين لا أكثر ، هما فترة حكم عمر بن عبد العزيز ، وحين يختارون من فترة الراشدين ما يدير الرؤوس وما يدفع الشباب الغض إلى محاولة تحطيم المجتمع ، طامعاً في أن يعيد أيامهم ، ويـبنى على منوالهم ، بينما لو تأملنا فترة حكمهم الكاملة لتمهلنا كثيراً ، وتحسبنا كثيراً ، وربما حمدنا الله على ما نحن فيه ، ليس هجوماً عليهم – معاذ الله – فهم في أعلى عليين كصحابة أجلاء ، وفقهاء دين عظماء ، لكنا نتناولهم من زاوية آخرى هي زاوية السياسة ، ونقيهم بميزان آخر هو ميزان الحكم ، وهم من هذه الزاوية ، وبهذا الميزان ، بشر يجوز عليهم ما يجوز علينا من نقد ، ويتعرضون لما نتعرض لهم من أخطاء ، وحسب القارئ أن يتأمل معنا فترة حكمهم ، ويتعجب وهو يرى ثلاثين عاماً ، يتعاقب فيها أربعة خلفاء ، يموت ثلاثة منهم بحد السيف أو الخنجر ، واحد على يد غلام المجوسي وهو أمر يفجع ، وواحد على يد الرعية وهو أمر يفجع ويفزع ، وواحد على يد مسلم متطرف وهو أمر يفزع ، ويقضي الخليفة الأخير فترة حكمه كلها ساعياً إلى التمكن من الحكم سدي ، وإلى فرض ولايته على الدولة الإسلامية كلها دون جدوى ، وينهي به الأمر محصوراً في الكوفة داعياً الله أن يبدله خيراً من قومه ، وأن يبدل قومه أسوأ منه . ثم لعلنا ننزعج ونحن نكشف أن الفترة على قصرها قد حفلت بالحروب الأهلية الكبرى ، فقد بدأت بها ، وانتهت بها ، بدأت بحروب الردة في عهد أبي بكر ، وانقضت سنواتها الخمس الأخيرة في سلسلة من الحروب الأهلية أولها حرب الجمل بين كبار الصحابة ، ثم حرب صفين بين على ومعاوية ، ثم حرب النهروان بين على والخوارج عليه ، ثم سلسلة متصلة من الحروب الصغيرة بين جيوش علي وجيوش الخوارج ، وحسبنا أيضاً أنها بدأت مقبلة على الدين من الخليفة ومن الرعية ، وانتهت مقبلة عليه من الخليفة ، مدبرة عنه من الرعية بقدر إقبالها على الدنيا ، دليلنا على ذلك ما ذكرناه من ثروات ، وما رصدناه من اقتراب حثيث من معاوية ، وابتعاد حثيث عن علي ، وإذا كان البعض في البداية قد قارن بين الطعام الشهي على مائدة معاوية ، والحق الجلي على لسان علي ، فإن النهاية كان انتصاراً لا شك فيه للطعام الشهي ، واندحاراً لا شبهة فيه للحق الجلي ، وما هكذا كان الإسلام الدين أو يكون ، لكنه هكذا كانت الدولة الإسلامية وهكذا تكون ، شأنها شأن أي دولة دينية على مدى التاريخ الإنساني كله ، لا يغرنك فيها عذب الحديث في البدء ، فالعبرة بالخواتيم ، وقد كانت الخواتيم مرة دائما ، وأمر منها أن لا نستوعب درسها ، وأن لا نستفيد من تجربتها . وأن يدعو البعض إلى تكرارها في بلاهة يحسدون عليها ، وكأنه مطلوب منا أن نقرأ التاريخ لكي نعيد أخطاءه . وإذا كنا نتحدث هكذا عن عهد الراشدين ، فكيف يكون الحال على يد المعاصرين ، الذين لم نعرف الإرهاب إلا على أيديهم ، ولم يعرف مجتمعنا الآمن حوادث الاغتيال السياسي إلا على يد فرسانهم المغاوبر ، ولم ترق دماء الأبرياء إلا على يد مجاهديهم الأوشاس ، وحتى في انتخابات الاتحادات الطلابية الأخيرة ، لم يفتهم أن يرفعوا شعاراً غريباً يعكس أسلوب تفكيرهم ، وهو " صوتك دانة " وكأنهم لم يميزوا بعد بين الديانة والدانة ولم يعرفوا من الإسلام إلا العنف والإدانة ، ولم يروا فيه ما رأيناه من وجوه كلها سماحة ونور ورحمة. وربما تصور القارئ في بعض أجزاء الكتاب أنني أحرض الدولة على المتطرفين وأدفعها إلى مواجهتهم ، ولعلي أصحح له ، فالمقصود ليس مواجهة التطرف في الفكر ، وإنما المقصود هو مواجهة العنف ، ومقاومة الإرهاب ، ولعل أحداً يدلني على كيفية مقاومة العنف بالقبلات ، ومواجهة السيف بالأحضان ، واستقبال القنابل بالكلمات الدافئة ، ولعل المنكرين على ما يرونه تشدداً ، ينظرون حولهم إلى أعرق دول العالم في الممارسة الديمقراطية ، ليشاهدوا كيف يواجه العنف في أيرلندا ، وكيف تواجه إيطاليا إرهاب الألوية الحمراء ، وكيف تواجه ألمانيا الغربية البادر ما ينهوف . وكيف لم يتوقف أحد لكي يحلل دوافعهم أو يبرر أفعالهم كما يفعل البعض هنا ، عن تصور يكون هكذا الموقف الصحيح ، طالما أن الإرهابيين أعداء لخصمه اللدود : الدولة ، بينما لو فكر قليلاً ، لأدرك أن المستهدف ليس الدولة ، بل النظام الذي نحن جميعاً جزء منه ، والأمان الذي نسعى جميعاً إلى تحقيقه وصونه ، والشريعة التي هي الموئل والملاذ ، ولو كان صبية الجهاد أو أمراءهم أهل حديث لنصحت بحوارهم ، ولو كانوا أهل رحمة لنصحت بمجادلتهم بالحسنى ، ولو كانوا أهل نكير لدعوت إلى مقارعتهم بالحجة ، لكنهم تجاوزوا النكير إلى التفكير ، وتجاوزوا القول إلى القتل ، وتجاوزوا المنطق إلى حل الدم ، وهنا لا مفر من إكمال مسيرة الديموقراطية ، حتى لا يحتجوا علينا بضيق الساحة ، ولا مفر من الرد على دعواهم بالمنطق حتى نجتذب منهم من بقي في قلبه مساحة للسماحة ، ولا مفر من إعمال نصوص القانون لردع العنف وعزل أصحابه عن حركة المجتمع ومساره ، وفرزهم بعيداً عن المعتدلين في التيار الإسلامي السياسي ، وفيهم أساتذة أجلاء وعلماء أفاضل ، ومحاورون قادرون ، وأهل علم وفقه ، ورجال سماحة وفضل ، وهم وإن اختلفوا معنا يدعون لنا بالهداية ، وندعو لهم بالمثل ، دون أن يكفرونا ودون أن يفقدوا من احترامنا ذرة ... هم يؤمنون بالإسلام ديناً ودولة ، وهذا حقهم ، ونحن نراه ونؤمن به ديناً فحسب وهذا حقنا ، وبعضهم يؤمن بالعمل السياسي ، ومن حق هذا البعض علينا أن نسانده في دعواه ، وأن نرفع عقيرتنا بأعلى صوت مطالبين له بمنبر الرأي ، وهم في النهاية معنا في خندق واحد ، لأن موقف الإرهابيين منهم أشد ، ونذيرهم لهم أعنف ، ونكيرهم عليهم أقسى ، وحكمهم عليهم أسوأ ، ولو صدقت النوايا لوصلنا معه إلى كلمة سواء ، ولتقابلنا في منتصف الطريق ، هم بالاجتهاد المستنير ، وبرؤية العصر ومعايشته ، وبقبول متغيراته ، وبتقدير ظروفه ، وبالتأسي بعمر في اجتهاده ، وبالإيمان بالوحدة الوطنية ، وبالإنصاف لقوانيننا الحالية ، ونحن بإدراك أن الديمقراطية تسعنا وتسعهم ، وأن المستقبل لنا دون إنكار لهم أو عليهم ، وأن مصر أغلى من المزايدة عليها بالقشور لا الجوهر ، والمظاهر لا المضامين ، وأن الإسلام الصحيح هو التقدم ، وهو مصلحة المجتمع ، وهو الحاق بالحضارة ، وهو تحصيل العلم ، وأن المساحة الخصوصية في قضية الدين أوسع وأرحب ، وأن فرض الرأي على الآخرين لا يجوز ، وأن التشريع للبشر ، أما مبادئ التشريع وأصول العقيدة فهي لله ، وأن الإسلام يعني بالغايات قبل الوسائل . وأن العصر الأول للإسلام لن يأتي إلينا ، وأننا لن نعود إليه ، فكلا الأمرين مستحيل ، وأن التفكير يسبق التكفير ، والعقل يسبق النقل ، والسماحة تسع الجميع ، وأن الحساب آت لا محالة ، في الآخرة وليس في الدنيا وأن الإسلام لا يعرف الكهنوت ، ولا يعرف رجال الدين ، ولا يعطي قدسية لأحد ، ولا يمنح عصمة لأحد ، ولا يمنع النقد عن أحد ، فلا عصمة لأحد غير الرسول ، ولا قدسية لأحد غيره ، وأنه ليس في الإسلام أزياء ، وليس له ألقاب ، وليس لأحد كائناً من كان أن يدعي أنه حامي حمى الإسلام ، فكلنا مسلمون ، وكلنا حماة الإسلام ، وكلنا أيضا حماة الوطن ، كل الوطن ، وكلنا عشاق لها ، وكلنا مناضلون من أجله ، أرضاً وسماء ، مسلمين وأقباطاً ، لسنا فاتحين وليسوا أسارى حرب ، نحن جميعاً مواطنون ، لسنا أغلبية وليسوا أقلية ، نحن جميعاً مصريون ، لسنا حكاماً وليسوا محكومين ، نحن جميعاً حاكمون محكومون ، وكلنا عشاق لهذه الأرض ، وكلنا مدافعون عنها ، وقبل ذلك كله مدافعون عن وحدة الصف وتلاحم الصفوف . أعلم أن الحديث قد طال ، وأخشى أن يكون قد تشعبن ولعلي أوجز العرض والقصد في الرفض الكامل لخلط أوراق السياسة بالدين ، وفي التأكيد على الفصل بينهما ، حجتي في ذلك ما يلي : أولاً : أن البينة على من ادعى ، وإذا كنا ندعو للفصل فحجتنا جلية فيما هو قائم ، أما دعاة الوصل فعليهم أن يوضحوا لنا كيف يكون ، ولا مناص عن صياغة برنامج سياسي كامل ، وهو في تقديرنا أمر عسير عليهم ، وإن كان يسيراً علينا أن ندرك الأسباب ، وقد عرضناه بالتفصيل في الكتاب . ثانيا : إننا نقبل في منطق الصواب والخطأ في الحوار السياسي ، لأن قضاياه خلافية ، يبدو فيها الحق نسبياً ، والباطل نسبياً أيضاً ، ونرفض أن يدار الحوار السياسي على أساس الحلال والحرام ، حيث الحق مطلق والباطل مطلق أيضاً ، وحيث تبعة الخلاف في الرأي قاسية لكونه كفراً ، وتبعة الاتفاق والمتابعة قاسية أيضاً لمجرد كونها في رأي أصحابها حلالاً ، حتى وإن خالفت المنطق ، بل حتى وإن خالفت الحلال ذاته ، ولم تكن أكثر من اجتهاد غير صائب تسانده سلطة الحاكم باسم الدين ، ويؤازره سلطان العقيدة في ساحة غير ساحتها بالقطع ، ولعل ممارسة النميري في السودان لا زالت في الأذهان ، ولعل مباركة علمائنا الأفاضل لما فعله النميري وقت أن كان في السلطة لا زالت في الوجدان ، ولعل نقدهم المرير له ونكيرهم اللاذع عليه بعد أن ترك السلطة واضح للجميع ولعلنا نتساءل دون أن نغضب أحداً ، هل هو الخداع فلا نقبل منهم قولاً ، أم هي الغفلة فلا نقبل منهم ريادة ؟ أم هو الخطأ – وكل ابن آدم خطاء فندعو لهم بالمغفرة ؟ وقريب من هذا موقفهم من الرئيس السابق في مبادرة السلام حين رفعه بعضهم إلى أعلى عليين بالقرآن والسنة ، وهبط به بعضهم إلى أسفل سافلين بالقرآن والسنة ، وركونا حيارى ، بل إن شئت الدقة أسارى، لعلامات التعجب والاستفهام ، ومالنا نذهب بعيداً وأمامنا الآن حوار دائر بين فريقين منهم ، بشأن كافراً وبعضهم يراه قديساً ، بينما نحن الرعية – الحيارى – الأسارى – نضرب كفاً بكف ونحن نتابع حواراً لا يدور بين رأي ورأي أو بين صواب وخطأ ، بل بين كفر وإيمان ، وهو ما نرفضه دون أن يؤثر هذا على ما في وجداننا من عقيدة ، وما في قلوبنا من إيمان . ثالثا : إن وقائع التاريخ التي سردناها في الكتاب ، تنهض دليلاً دامغاً على ضرورة الفصل ، وعلى خطورة الوصل ، وعلى سذاجة المتنادين بعودة الخلافة . رابعاً : إذا تجاوزنا وقائع التاريخ وانتقلنا إلى ممارسات نظم قائمة ترفع شعار الإسلام ، وتتبنى مفهوم الحكم به ، فإننا نرى أنها جميعاً حجة في صالح الفصل ، ودليل جديد على خطورة الوصل ، وكم نتمنى أن يحتج بها البعض حتى نلزمه حجته ، غير أنا نحسب أن أحداً لن يفعل ، لما نعلم ويعلم . خامسا : يبقى السبب الأخير والأهم ، وهو أن الفصل هو السبيل الوحيد للحفاظ على الوحدة الوطنية ، وأن الوصل هو السبيل الأكيد لهدم صرحها العتيد ، لا يغني عن ذلك التشدق بمقتطفات من التاريخ تؤكد على السماحة والتسامح في معاملة أهل الذمة ، فقد ضربنا صفحا عن أضعافها مما يؤكد العكس ، وتقشعر له الأبدان ، ونحن نؤمن بأن الإسلام قد بلغ الذروة في التسامح مع أهل الكتاب ، بل ومع الكافرين ، لكن القرآن لا يفسر نفسه بنفسه ، والإسلام لا يطبق نفسه بنفسه ، وإنما يتم ذلك من خلال المسلمين ، وما أسوأ ما فعل المسلمون بالإسلام ، ولسنا في حاجة إلى نكأ الجراح أو إثارة النعرات أو تفجير الخلافات ، يقدر ما نحن في حاجة إلى تأكيد الإيجابيات ولم الشمل وتماسك الصفوف . يا إلهي ... كم تردى المناخ وكم نحن في حاجة إلى عودته من جديد كما كان ، أحكي لكم ، واسمحوا لي ، عن قصة لا أتذكرها إلا ويطفر الدمع ، ويهتز الوجدان ، وهي قصة حدثت منذ سنوات قريبة ، يوم تشييع جنازة عريان سعد ، وعريان سعد قبطي مصري ، تطوع لقتل يوسف وهبة رئيس وزراء مصر ، القبطي الديانة ، والذي قبل رئاسة الوزارة في مصر حين امتنع الوطنيون ، حتى لا يكون القتل على يد مسلم فتثور الفتنة ، وقد نجا يوسف وهبة ، وسجن عريان سعد ، وعندما دق ناقوس الكنيسة لحظة تشييع جثمانه ، تصادف أن علا صوت مئذنة مجاورة بالآذان ، وهنا .. أجهش الجميع بالبكاء .. وشعر الجميع أنه هكذا يكون وداع عريان .. لنا أن نبكي معهم بكاء الرجل العظيم ، على رمز عظيم شيعناه ، وتراث عظيم أضعناه ، وتاريخ عظيم نسيناه .. أقسم لك يا عريان ، أن الآذان والناقوس سوف يتعانقان على هذه الأرض دائماً ، فالكل عابد الله ، عاشق للوطن ، وسوف تبقى مصر يا عريان ، شامخة كما أردت وكما نريد ، منيعة على الفرقة ، مستعصية على الفتنة ، مستحيلة الانقسام .. ويا عقلاء مصر ... هل نلتقي سويا على كلمة سواء ؟ |