السابق

تمهيد المعجزة دليل النبوة الأوحد

ما هى المعجزة ؟


المعجزة ، فى اللغة ، هى "ما أعجز به الخصم عند التحدى " .
و المعجزة ، فى اصطلاح علم الكلام " أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدى ، سالم عن المعارضة " . هذا هو التعريف الذى تعارف عليه علماء الكلام ، كما أورده السيوطى فى ( الأتقان فى علوم القرآن 2 : 116 ) . فأركان المعجزة ثلاثة .

نرى ضرورة المعجزة و صحة النبوة فى الكتاب ، أى التوراة و الإنجيل و القرآن ، ثم فى علم الكلام ، و نقارن ما بين المعجزة و الإعجاز .

أولا : ضرورة المعجزة لصحة النبوة ، بحسب الكتاب
ثانيا : ضرورة المعجزة لصحة النبوة ، بحسب علم الكلام
ثالثا : مابين الاعجاز و المعجزة

أولا : ضرورة المعجزة لصحة النبوة ، بحسب الكتاب

فى التوراة و الإنجيل و القرآن ، إن المعجزة ، على أنواعها ، دليل النبوة الأوحد ، فلا تصح النبوة بدون معجزة . هذا مبدأ إلهى مقرر ، متواتر بالاجماع عند الأنبياء و المرسلين، حتى سماه القرآن : " سنة الأولين " ( الكهف 55 ) و " السلطان المبين " ( غافر 23 ) الذى يؤتيه الله رسله برهانا إلهيا على صحة رسالتهم ، و صدق نبوءتهم و دعوتهم .

1 – فى التوراة

فمنذ التوراة ، جعل الله نفسه المعجزة دليل النبوة . لما تجلى الله لموسى فى سيناء ليرسله إلى بنى إسرائيل و إلى فرعون و ملئه ، ثبت له و للناس رسالته بمعجزة العصا و معجزة اليد البرصاء ( الخروج 3 – 4 : 2 ) . ثم ارسله و المعجزة بيده : " خذ بيدك العصا تصنع بها المعجزات ... و صنع موسى المعجزات على عيون الشعب فأمن الشعب" ( الخروج 4 : 18 - 31 )

و القرآن نفسه يشهد بأن المعجزات كانت عند موسى دلائل النبوة : " و لقد أرسلنا موسى بأياتنا و سلطان مبين " ( غافر 23 ) ، " و لقد أتينا موسى تسعة أيات بينات " ( الإسراء 101 ، القصص 30 – 36 ، طه 17 : 23 ، الشعراء 30 – 33 ) ، و يفصلها ( الأعراف 104 – 136 ) ، حتى أمن بنو إسرائيل ، و عجز سحرة مصر عن المعارضة ، و سلم فرعون و آمن عند غرقه ( يونس 90 ) . فالمعجزة هى " السلطان المبين " الذى به يشهد الله لنبيه أنه أرسله ليبلغ كلام الله ، فلا نبوة بدون معجزة .

2 - فى الإنجيل

و فى الإنجيل جعل السيد المسيح المعجزات دلائل النبوة : " إن كنت لا أعمل أعمال أبى ( الله ) فلا تصدقونى . و لكن إن كنت أعمالها ، و لا تريدون أن تصدقونى ، فصدقوا هذه الأعمال " ( يوحنا 10 : 37 – 38 ) ، ثم يستشهد بالكتاب لنفسه ، و يستشهد بسابقة يحيى المعمدان ، و لكنه يستشهد خصوصا بأعماله المعجزة : " و إن لى شهادة أعظم من شهادة يوحنا : إن الأعمال التى أتانى الآب أن اعملها ، هذه الأعمال عينها التى أنا أعملها هى تشهد لى بأن الآب ( الله ) قد أرسلنى " ( يوحنا 5 : 36 ) .

و على التخصيص ، كلما أدعى السيد المسيح لنفسه سلطانا إلهيا أكده بالأعمال المعجزة . لما نسب لذاته سلطان الله نفسه على مغفرة الخطايا ، بمناسبة شفاء مقعد فى كفر ناحوم ، أبرأه بكلمة منه على مشهد من الجماهير المزدحمة ، يشهد بهذه المعجزة الخارقة لسلطانه المعجز . أدعى أنه " نور العالم " ، فشفى الأكمة ، أى الأعمى منذ مولده ، شهادة للحقيقة المنزلة معه و فيه . علم أمام الجماهير فى بيت عنيا : " أنا القيامة و الحياة " – و لا يبنس ذلك لنفسه إلا اله أو كافر مجنون – و نادى لعازر الميت من القبر فاحياه شهادة للسلطان الإلهى الذى يدعيه لنفسه . و قد أعطى قيامته الشخصية من الموت و القبر معجزته الكبرى .

و القرآن يصدق شهادة الإنجيل أن رسالة المسيح كانت بتأيد روح القدس و المعجزات : " و أتينا عيسى أبن مريم البينات ، و أيدناه بروح القدس " ( البقرة 87 ) . فامتاز السيد المسيح على سائر المرسلين بتأييد روح القدس الدائم له . ثم يعدد القرآن أربعة أنواع من المعجزات التى يفضل فيها المسيح سائر النبيين : " و رسولا الى بنى إسرائيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم : انى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ، و أبرىْْء الأكمة و الأبرص ، و أحيى الموتى بإذن الله ، و أنبئكم بما تأكلون و ما تدخرون فى بيوتكم : إن فى ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين " ( آل عمران 49 ) . و توج معجزاته بمعجزة رفعه حيا إلى السماء ، تلك المعجزة خالدة التى لم يحلم بمثلها نبى و لا رسول ( النساء 158 ) .

3 – فى القرآن

للقرآن فلسفة رائعة فى ضرورة المعجزة لصحة النبوة .

فالقرآن يسمى المعجزة " سنة الأولين " التى لا تبديل لها و لا تحويل " فهل ينظرون إلا سنة الأولين ! فلن تجد لسنة الله تبديلا ! و لن تجد لسنة الله تحويلا " ( فاطر 43 ) . و بدون معجزة لا يوجب الله على الناس الإيمان : " و ما منع الناس أن يؤمنوا ، إذ جاءهم الهدى ، و يستغفروا ربهم ، إلا أن تأتيهم سنة الأولين ، أو يأتيهم العذاب قبلا " ( الكهف 55 ) . فقد امتنع مشركو مكة عن الإيمان بالدعوة القرآنية ، " بالحكمة و الموعظة الحسنة " ، لأنها لم تقترن بالمعجزة المطلوبة ، " سنة الأولين " ، و رضحوا لها بالجهاد فى المدينة " بالحديد الذى فيه بأس شديد م منافع للناس " ( الحديد 25 ) . ففى فلسفة القرآن و فى عرف الناس جميعا ، إن المعجزة سنة النبوة : " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسول الله " الأنعام 124 لذلك ، إذ يتشدق بعض أهل زماننا بقولهم : " إن حكمة الله أقتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبوة سيدنا محمد عليه السلام ، و برهانا على صحة رسالته و صدق دعوته ( 1 ) " ، فهم إنما يتتقدون حكمة القرآن فى ضرورة المعجزة للنبوة ، و سنة الله فى أنبيائه .

و القرآن يسمى المعجزة أيضا " السلطان المبين " من الله لتأييد أنبيائه : " و لقد أرسلنا موسى بآياتنا و سلطان مبين إلى فرعون و ملئه " ( هود 96 – 97 ) ، " ثم أرسلنا موسى و أخاه

هارون بآياتنا و سلطان مبين إلى فرعون و ملئه " ( المؤمنون 45 – 46 ) ، و لقد أرسلنا موسى بآياتنا و سلطان و هامان و قارون " ( غافر 23 – 24 ) . فالمعجزة هى السلطان المبين من الله لصحة النبوة . و الشعب فى كل زمان لا يؤمن بنبوة إلا بسلطان المعجزة المبين :

" قالت رسلهم : أفى الله شك ، فاطر السماوات و الأرض ، يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم و يؤخركم إلى أجل مسمى ! قالوا : إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا : فأتونا بسلطان مبين " ( ابراهيم 10 ) .

" قالت رسلهم : أفى الله شك ، فاطر السماوات و الأرض ، يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم

ــــــــــــــــــــــــ

( 1 ) الاستاذ دروزة : سيرة الرسول 1 : 226 .

فالمعجزة على أنواعها ، هى سلطان الله المبين لصحة النبوة ، و سننه المتواترة فى رسله .

ثانيا : ضرورة المعجزة لصحة النبوة ، بحسب علم الكلام

لقد أجمع أهل العلم قاطبة من المسلمين بأن المعجزة دليل النبوة الأوحد ، و ذلك قديما و حديثا .

1 – قديما انقسم المسلمون ثلاث فئات بالنسبة إلى معجزة القرآن :

أهل السنة و الجماعة اختلقوا فى الحديث و السيرة للنبى العربى معجزات تفوق معجزات الأنبياء الأولين كلها ، و لم يحترموا موقف القرآن السلبى من كل معجزة لمحمد . و ذلك لأيمانهم الشعبى بضرورة المعجزة لصحة النبوة .

و اقتصر العلماء من أهل الإعجاز على اعجاز القرآن معجزة له . فكان ذلك ردا منهم على أهل الحديث و السيرة . قال الباقلانى ( 1 ) : " إن نبوة النبى معجزاتها القرآن " .

و فصل الجوينى ( 2 ) فقال " لا دليل على صدق النبى غير المعجزة . فإن قيل : هل فى المقدور نصب دليل على صدق النبى غير المعجزة ؟ قلنا : ذلك غير ممكن ! فإن ما يقدر دليلاعلى الصدق لا يخلو إما أن يكون معتادا ، و إما أن يكون خارقا للعادة : فإن كان معتادا يستوى فيه البر و الفاجر ، فيستحيل كونه دليلا ، و إن كان خارقا للعادة يجوز تقدير وجوده ابتداء من فعل الله تعالى ، فإذا لم يكن بد من تعلقه بالدعوى ، فهو المعجزة بعينها " .

و قال ابن أبى الاصبع ( 3 ) : " لابد لكل رسول من الاتيان بخارق قرين دعوى النبوة ، ليتحدى به من بعث إليهم ليكون علامة صدقه " . فلا صحة لنبوة بدون معجزة .

و ترى من هذا التحليل ما أوجزه السيوطى ،خاتمة المحققين القدماء فى أركان المعجزة الثلاثة ،وفى ضرورتها :أمر خارق للعادة ،مقرون بالتحدى ،سالم عن المعارضة.و قد قسم المعجزة الى نوعين :المعجزة الحسية ،والمعجزة العقلية أو اللغوية أى الأعجاز. فقال ( 4 ) : المعجزة "إما حسية و إما عقلية . و أكثر معجزات بنى إسرائيل كانت حسية لبلادتهم و قلة بصيرتهم . و أكثر معجزات هذه الإمة عقلية لفرط ذكائهم و كمال افهامهم ، و لأن هذه الشريعة لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة خصت بالمعجزة العقلية الباقية ليراها ذوو البصائر " .

ــــــــــــــــــــــــ

( 1 ) إعجاز القرآن ، ص 4

( 2 ) الإرشاد ، ص 331

( 3 ) بديع القرآن ، ص 307

( 4 ) الاتقان 2 : 116 .

فإجماع العلماء قديما على أن القرآن وحده معجزة محمد : لذلك ، فى باب معجزة النبى العربى اقتصروا على كتب الاعجاز . و هذا اقرار منهم بأنه ليس لمحمد معجزة حسية تشهد له ، كما سنرى ذلك من القرآن نفسه .

و الفريق الثالث من الأقدمين ، المعتزلة ، ما فتئوا يرددن " بأن الله لم يجعل القرآن دليل النبوة " ! و سنرى بأن القرآن الذى يصرح باعجازه لم يجعل اعجازه برهان النبوة .

فموجز تاريخ الكلام قديما فى معجزة محمد ان علماء الكلام المسلمين أجمعوا على ضرورة المعجزة لصحة النبوة ، لكنهم استنكروا ان معجزة حسية تشهد للنبى العربى ، و اقتصروا معجزته على اعجاز القرآن . فأنكر المعتزلة كون القرآن معجزة تشهد لمحمد ، مع قولهم باعجاز القرآن .

2 – و حديثا يفترق المسلمون ثلاث فرق فى تقدير معجزة محمد : فئة التقليديين الذين لم يزالوا غائصين فى رواسب الماضى ، و فئة العلماء الذين يجعلون القرآن وحده معجزة محمد ، و فئة المتحررين الذين ينادون بأنه لا ضرورة للمعجزة لصحة النبوة .

من أغرب ما قرأنا للتقليديين فى " معجزة النبى " مقالا فى مجلة ( الفكر الإسلامى ص 36 ) التى تصدرها دار الفتوى فى بيروت ، عدد ايلول سنة 1970 ، جاء فيه " أما معجزة نبينا صلعم فقد كانت ذا شعب ثلاث :

" تناولت الشعبة الأولى ما ظهر على أيدى كافة الرسل من الأمور الكونية و الغيبية :

فنبع الماء بين أصابعه ، و سعت الشجرة اليه ، و أنبأته الشاة أنها مسمومة ، و حن الجذع اليه ، و غير ذلك كثير !

" وظهرت الثانية فى شخصية محمد و تكوينه الخلقى المدهش . فقد نشأ فقيرا يتيما محروما من عطف الأم و حبها و حنانها ، أميا ، و فى قوم أمين ، قساة القلوب ، فظاظ الطباع ، حداد الألسنة ، جفاة النفوس ، غلاظ الأكباد . فكان مع ذلك على ما وصفنا من الرقة و الحلم و سعة الصدر و حلاوة اللسان و الشمائل العجيبة ، التى لا تتكون إلا فيمن منحه الله من عنايته ما منح النبى صلعم .

" أما الثالثة ، و هى الأساسية ، فهى القرآن الكريم ، لأنها المعجزة العقلية العلمية الدائمة على الدهر ، لا ينالها تشويه ، و لا يشعر بها تحريف ، تنطق بلسان النبى ، و تثبت بقاء رسالته على وجه الدهر إلى أن يرث الله الأرض و من عليها " .

لقد أحسن صاحب المقال باستدراكه " و هى الأساسية " ، لأن القرآن وحده معجزة محمد باجماع العلماء المسلمين . أما الشعبة الأولى فهى أساطير من الحديث و السيرة لا يأخذ بها عالم ، و موقف القرآن السلبى من كل معجزة ينقضها نقضا مبرما . و أم الشعبة الثانية ، المعجزة الشخصية ، فمع شهادة القرآن بأنك " لعلى خلق عظيم " فلم يعتمدها معجزة لنبيه ، و لا ينطبق عليها تعريف المعجزة للسيوطى . نذكر من ذلك أسطورة " أمية محمد " ، و أسطورة " فقر محمد " الذى أغناه زواجه من السيدة خديجة قبل البعثة بخمس عشرة سنة ، أكثر من سائر تجار قريش مجتمعين . فى هذا الكتاب نوجز المعجزة الشخصية ، فى فصل ، و نفرد لها كتابنا : " المسيح و محمد فى عرف القرآن " . و فى موقف العلماء تقييم حقه لمثل مقال المجلة المذكورة .

فعلماء العصر يشهد فريق المحافظين منهم ، مثل الدكتور حسين هيكل فى ( حياة محمد ) : " لم يرد فى كتاب الله ذكر لمعجزة أراد الله بها أن يؤمن الناس كافة على أختلاف عصورهم برسالة محمد إلا القرآن " . و كان الأستاذ دروزة ( 1 ) اصرح فى قوله : " ان حكمة الله اقتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبوة سيدنا محمد عليه السلام ، و برهانا على صحة رسالته ، و صدق دعوته " .هذا هو الواقع القرآنى . فلم يبقى الا اعجاز القرآن معجزة لمحمد .

لكن بما أن الاعجاز البيانى للخاصة من العرب الفصحاء لا للعامة ، و لا لجميع الأجانب من الناس كلهم ، فقد أخذ بعض أهل العصر ينكرون ضرورة المعجزة لصحة النبوة ، بخلاف كتب الله كلها ، و بخلاف علماء المسلمين حتى عصرنا .

فالمعجزة هى دليل النبوة الأوحد .

فهل يشهد القرآن لمحمد بمعجزة ؟

و هل يعتبر القرآن اعجازه معجزة له ؟

ثالثا : مابين الاعجاز و المعجزة

فى كتابنا " نظم القرآن و الكتاب – الكتاب الأول : اعجاز القرآن " درسنا واقع القرآن فى اعجازه . و فى هذا " الكتاب الثانى :معجزة القرآن " ندرس هل يصح اعجاز القرآن معجزة له ؟

لقد قسم اهل الاعجاز المعجزة غلى نوعين :حسية و عقلية . المعجزة الحسية هى كل عمل الهى يفعله الله تعالى على يد نبيه يشهد له بالنبوة ، و العقلية هى اعجاز القرآن فى النظم و البيان .

ــــــــــــــــــــــــ

( 1 ) سيرة الرسول 2 : 226

و قالوا : إن اعجاز القرآن فى النظم و البيان معجزة عقلية تفوق جميع معجزات الانبياء السابقين الحسية ، لذلك فنبؤة محمد تفوق جميع النبؤات .

1 – لكن الواقع القرآنى يشهد ، كما سنرى ، بوقف القرآن السلبى من كل معجزة ! لذلك كل ما جاء في الحديث و السيرة من معجزة حسية منسوبة إلى محمد ينقضها موقف القرآن السلبى الصريح من كل معجزة له و لنبيه ، و كل ما رأوه من معجزات فى " آياته المتشابهات " ينقضها صريح " آياته المحكمات " .

2 – فليس من القرآن من معجزة حسية . و الواقع القرآنى يشهد بإن محمدا لم يأتى بمعجزة : " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله " ( الانعام 124 ) ، " فلياتنا بآية كما أرسل الأولون " ( الأنبياء 5 ) ، " و أقسموا بالله جهد إيمانهم : لئن جائتهم آية ليؤمنن بها " ( الأنعام 109 ) ، " و ما منع الناس أن يؤمنوا ... الا أن تأتيهم سنة الأوليين " ( الكهف 55 )

فالمعجزة هى سنة النبوة ، و القرآت يشهد صراحة نحو خمس و عشرين مرة ، غير الشهادات الضمنية المتواترة ، أن ليس فى القرآن و السيرة من معجزة . و يشهد القرآن أيضا ، كما سنرى ، أن المعجزة قد منعت عن محمد منعا مطلقا ، من حيث المبدأ : " و ما منعنا أن نرسل بالآيات الا أن كذب بها الأولون " . ( الاسراء 59 ) ، فمهما كان السبب ، إن المعجزة قد منعت عن محمد منعا مبدئيا ، و من حيث الواقع : " و إن كان كبر عليك اعراضهم فإن استطاعت أن تبتغى نفقا فى الأرض ، أو سلما فى السماء ، فتأتيهم بآية " ( الانعام 35 ) – " فافعل : المعنى أنك لا تستطيع ذلك ، فاصبر حتى يحكم الله " ( الجلالان ) . فالمعجزة على أطلاقها منعت أيضا عن محمد منعا واقعيا . فإن امتناع المعجزة على محمد هو مبدأ وواقع ، و هذا بنص القرآن القاطع .

3 – لكن القرآن يتحدى باعجازه ، و هذه هى معجزته العقلية . و شهادة القرآن خير جواب . بما أنه يشهد بمنع المعجزة عن محمد ، فليس اعجاز القرآن المشهود بمعجزة له .

و سنرى أن اختلافهم فى وجه الاعجاز يجعله ايضا معجزة متشابهة . و القرآن يقسم نفسه إلى محكم و متشابه ، و المحكم فيه هو بالاجماع احكامه الشرعية . ففى " متشابه القرآن " ، و هو أكثره ، حكم القرآن نفسه على نفسه أن اعجازه ليس بمعجزة : " منه ايات محكمات ، هن أم الكتاب ، و أخر متشابهات ... و ما يعلم تأويله إلا الله ، الراسخون فى العلم يقولون : أمنا به ، كل من عند ربنا " ( ال عمران 7 ) . كما فى " محكم القرآن " حكم على نفسه بوجود الناسخ و المنسوخ فى أحكامه ( البقرة 106 ) ، و قيام " التبديل " فى آية ( النحل 101 ) .

و سنرى أيضا ، من حيث الجدالية ، أن الدين للعامة ، و الاعجاز البيانى للخاصة من العرب : فلا يصح اعجاز للخاصة من العرب معجزة للعالمين ، و حاشا لله أن يعجز العالمين بما لا طاقة لهم فيه . ففى ذلك يصح قول السيوطى : " ما لا يمكن الوقوف عليه ، لا يتصور التحدى به " ( لاتقان 2 : 117 ) ، فكيف و هو " ما يعلم تأويله الا الله " ، و يكتفى الراسخوان فى العلم بالتسليم به !

4 – و القرآن نفسه شاهد عدل على أنه لا يعتبر اعجازه معجزة له . و الاعجاز الحق الوحيد الذى يقول به هو الاعجاز فى الهدى : " فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا : لولا أوتى مثل موسى ! ... قل : فأتوا بكتاب من عند الله أهدى منهما أتبعه ، إن كنتم صادقين " ( القصص 48 – 49 ) . فالقرآن و الكتاب هما فى الهدى سواء ، بل يعتبر الكتاب " إمام " القرآن فى الهدى ( هود 17 ، الاحقاف 12 ) . فتحدى القرآن لإعجازه موجه للمشركين ، لا للكتاب و أهله . لذلك فهو لا يعتبر اعجازه معجزة له على الاطلاق .

5 – و فى القرآن شهادة ناطقة غفل عنها القوم حتى اليوم . ففيما هو يتحدى المشركين بقوله : قل : لئن اجتمعت الأنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا " ( الاسراء 88 ) ، نراه يشهد شهادة قاطعة بوجود " مثل " القرآن فى زمانه ، عند النصارة من بنى اسرائيل : " و شهد شاهد من بنى اسرائيل على مثله" ( الاحقاف 10 ) . لاحظ وحدة التعبير ، " مثله " ، فى التحدى و فى شهادة الواقع التى لا يمكن لأحد ان يمارى فيها – و هذه الشهادة القاطعة حجة ناطقة على أن القرآن لا يعتبر اعجازه معجزة له .

6 – و نحن لا نقتصر المعجزة على خاصية و عقلية . بل نستجمع فى هذا الكتاب وجوه المعجزة جميعها ، لأستكمال النظر فيها أبعد من المتقدمين و المتأخرين .

ففى القسم الأول ، نرى المعجزات الحقيقية : المعجزة الحسية ( أى الافعال المعجزة ) ، و المعجزة الغيبية ( أى الإنباء بالغيب ) ، و المعجزة الشخصية فى السيرة و النبوة و الرسالة ، و المعجزة الظرفية من حيث البيئة و شمول الدعوة " حفظ " القرآن ، و المعجزة الذاتية فى التنزيل و فى التأليف ، و المعجزة الموضوعية فى الهدى و الشريعة و" العلم " و التاريخ ( القصص القرآنى ) . تلك أنواع ستة تشمل المعجزة من كل وجوهها .

و فى القسم الثانى نرى المعجزة البيانية ، من الأسس الضعيفة لأعتبار الأعجاز معجزة ( أمية محمد ، القرآن كلام الله فهو معجز بذاته ، وجه الاعجاز مجهول ) ، إلى حقيقة شهادة القرآن لاعجازه ، إلى الإعجاز فى فصاحة لغته مع " غريب القرآن " فيها ، إلى الإعجاز فى بيانه مع متشابهاته ، إلى الإعجاز فى بلاغته مع " متشابه القرآن " ، و ناسخه و منسوخه ، إلى الاعجاز فى جدليته ، مع " مشكلة و موهم الاختلاف و التناقض فيه " ، إلى الاعجاز في أسلوبه و نظمه ، و هو نظم الكتاب بحسب الاسلوب الآرامى ، لا العربى . و يأتى فصل الخطاب : ايصح هذا الاعجاز معجزة الهية ؟

7 – و اننا نستفتح كتابنا بهذا التصريح : اننا نؤمن ايمانا علميا باعجاز القرآن .

هذا هو موقفنا الذى يجب أن يفهمه كل من يطالع هذا الكتاب .

لكن بما أن المعجزة على أنواعها هى برهان النبوة الأوحد

يظل السؤال المحرج الذى حير العلماء من مسلمين و غير مسلمين قائما :

هل يشهد القرآن لمحمد بمعجزة ؟ هذا ما نراه فى القسم الأول ؟ هل يعتبر القرآن إعجازه المشهود معجزة له ؟

هذا ما نراه فى القسم الثانى . هدانا الله إلى السراط المستقيم .

السابق