التالي

بحث أول

موضوع القصص القرآني وهدفه

يأتي القصص القرآني كبرهان للتوحيد والنبوة ، من تاريخ البشرية ، بعد الاستشهاد بمشاهد الخليقة التي تشهد لخالقها : "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق" (فصلت 53) .

أولا : هدفه تثبيت النبي وذكرى للعرب

ففي نظرية القرآن يُوجَز تاريخ البشرية بسيرة النبوة مع أقوامها ، كأنه صراع متواتر بين الايمان والكفر . ويرمي القرآن ، من وصف هذا الصراع الديني ، الى غايتين : الأولى " لنثبّت به فؤادك " (32:25 ؛ 120:11) ؛ الثانية اتعاظ أهل مكة بمثل الماضين : " فاقصص

القصص لعلّهم يتفكرون " (الأعراف 176) ؛ "أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم" (غافر 21 و81) ؛ "انظر كيف كان عاقبة المنذَرين" (الصافات 73) ؛ "انظر كيف كان عاقبة المكذبين" (الزخرف 25) .

فهدف القصص القرآني المزدوج يدل على أنه ليس في اعجازه معجزة له : فغايته الأولى تثبيت فؤاد النبي في أزماته النفسية والايمانية التي تملأ القرآن المكي ؛ فلو كان في اعجاز القصص معجزة لكان ثبت فؤاد محمد منذ القصة الأولى . والواقع القرآني يشهد بأن أزمات الايمان ظلت تساور محمدا ، وهو يتلو القصص القرآني بتواتر . فحتى أواخر العهد المكي يُقال له : " فإن كنت في شك ممّا أنزلنا اليك ، فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك : لقد جاءَك الحق من ربك ، فلا تكوننًّ من الممترين ! ولا تكونَن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين" ! (يونس 94 – 95) . والواقع القرآني يشهد أيضا بأن اعجاز القرآن في قصصه لم يكن معجزة لهم ، فقد ظلوا طول العهد بمكة ، قبل إحكام آية السيف فيهم بالمدينة ، "اذا قيل لهم : ماذا أنزل ربكم ؟ – قالوا : أساطير الأولين" ! (النحل 24) . ويتهمونه في مصدر تنزيله وقصصه : "قال الذين كفروا : انْ هذا إلاّ إفك افتراه ، وأعانه عليه قوم آخرون ! – فقد جاؤوا ظلما وزورا ! وقالوا : أساطير الأولين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلا ! – قل : أنزله الذي يعلم السرّ في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما" (الفرقان 4 – 6) . وكانت هذه مقالتهم طول العهد بمكة جملة (25:6 ؛ 83:23 ؛ 68:27) وأفرادا (5:25 ؛ 24:16) ، حتى بعد نصر بدر بآية السيف (الأنفال 31) . فكان هذا موقفهم من اعجاز القصص القرآني : "واذا تُتلى عليهم آياتنا قالوا : قد سمعنا ! لو نشاء لقلنا مثل هذا ! إنْ هذا إلاّ أساطير الأولين" (الأنفال 31) . فلم يرَ المخاطَبون بإعجاز القصص القرآني معجزة له ، موضوعا : "إنْ هذا إلاّ أساطير الأولين ؛ واسلوبا : "لو نشاء لقلنا مثل هذا" ! ونلاحظ أن القرآن لا يردّ تحدّيهم الأخير هذا .

ثانيا : موضوع القصص القرآني محدود ومكرّر

والظاهرة الكبرى في القصص القرآني هي التكرار . قال سيد قطب (1) : "نشأ عن خضوع القصة في القرآن لأغراضه أن يعرض شريط الأنبياء والرسل الداعين الى الايمان الواحد ، والانسانية المكذّبة بهذا الدين الواحد ، مرّات متعدّدة بتعدّد هذه الأغراض ؛

ــــــــــــــــــــــــ

(1) التصوير الفني في القرآن ص 141 – 156

وأن يُنشئ هذا ظاهرة التكرار في بعض المواضع ، ولكنّ هذا أنشأ جمالا فنّيّا من ناحية أخرى . فهذه قصة ابراهيم ترد في حوالي عشرين موضعا . وقصة موسى ترد أكثر من ذلك ؛ وهذه قصة عيسى ، ابن مريم ، ترد ورودا أساسيا في ثمانية مواضع ؛ وقصة سليمان في ثلاثة مواضع . ويأتي هذا التكرار بخصائص فنّية ، منها تنوّع طريقة العرض ، وتنوّع طريقة المفاجأة ، وتنوّع التصوير في التعبير" .

ولكن هذا التنوّع في التعبير ، لا يمنع التكرار في التفكير ، وهو موضوع الوحي والتنزيل ، كما لاحظوا ذلك قديما وحديثا .

في البيان والبديع يسمّى التفنّن أو التنوّع في التعبير عن المعنى الواحد والموضوع الواحد بالاقتدار : "الاقتدار هو أن يُبرز المتكلم المعنى الواحد في عدّة صور اقتدارا منه على نظم الكلام ، وتركيبه على صياغة قوالب المعاني والأغراض . فتارة يأتي في لفظ الاستعارة ، وتارة في صور الأرداف ، وحينًا في مخرج الايجاز ، ومرة في قالب الحقيقة . قال ابن أبي الاصبع : وعلى هذا أتت جميع قصص القرآن ؛ فإنك ترى القصة التي لا تختلف معانيها تأتي في صور مختلفة ، وقوالب من ألفاظ متعدّدة حتى لا تكاد تشتبه في موضعين منه ، ولا بدَّ أن تجد الفرق ظاهرا"(1) . فموضوع القصة الواحدة في القرآن " لا تختلف معانيها " . والذي يهمنا في كلام الله ما يريده منه أي موضوع كلامه ، والموضوع واحد يتكرّر ، مع تنوّع في التعبير بعض الشئ ، مثل قصة آدم وابليس : "وقد أورد القرآن قصة آدم وابليس سبع مرات ، ستًا منها في سور مكية ، وهي الاعراف (19 – 27) والحجر (28 – 40) والاسراء (61 – 65) والكهف (50) وطه (116 – 123) وصاد (71 – 85) ؛ وواحدة في البقرة (34 – 38) . والقصة كما يُفهم من سياقها في كل مرة قد استهدفت العظة والتمثيل والتنبيه ، كما أنها تنوّعت في أسلوبها ومحتوياتها بعض الشئ ، وهو شأن القصص القرآنية المتكررة بصورة عامة كما لا يخفى " (2)

ــــــــــــــــــــــــ

(1) السيوطي : الاتقان 88:2

(2) دروزة : عصر النبي وبيئته ص 290

ثالثا : القرآن بين الدين والفنّ

قيل : إن معجزة القرآن أن يجمع الدين والفن في حرفه ، بلفظه ونظمه . وهل يهمّنا الاعجاز بالفن في أمور الدين ؟ ننسى أن القرآن هو كتاب دين ، قبل أن يكون كتاب فن ؛ وأن ما يهم البشرية في كلام الله هو الدين لا الفن . قيل : ان القرآن "يجعل الجمال الفني أداة مقصودة للتأثير الوجداني فيخاطب حاسة الوجدان الدينية بلغة الجمال الفنّية" . (1) – فهل الله في كلامه مع البشر خطيب مثلهم يجعل الجمال الفني أداة مقصودة للتأثير الوجداني فيهم ؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . إنما يتنازل الله ويكلّم الناس ليعلّمهم حقيقة سره وغاية أمره ؛ ويهمه كما يهمنا أولا حقيقة الدين ، لا اعجاز الفنّ . وجعل الاعجاز البياني والفني من مقاصد الله في كلامه هو قلب للمفاهيم وهو جعل العَرَض مكان الجوهر . وهب أن ميزة القرآن على كل تنزيل هو في إعجاز الحرف مع اعجاز المعنى ، ومعجزة العرض مع معجزة الجوهر ، لتكون معجزته منه وفيه ؛ فإن معجزة لغوية بيانية فنيّة ، هي للخاصة من العرب ، لا للعامة منهم ، فكيف بعامة البشر ! فيفوت على الله الغاية الأولى من تنزيله وكلامه ، لو كان الاعجاز في نظم القرآن مقصده ومعجزته . وحاشا لله أن يخاطب عامة العرب والبشر بمعجزة لا يفقهونها ! "ما لا يمكن الوقوف عليه لا يُتصوَّرالتحدي به" (2)

إن التحدي بحرف التنزيل هو معجزة عند البعض ، لا عند سائر الناس . وما نراه في القرآن وقصصه اعجازا واقتدارا ، يراه سائر الناس في كل آدابهم عجزا وافتقارا ، كلّما زاد تكرارا .

فالقصص القرآني ، وهو أكثر القرآن ، مع ما فيه من اعجاز بياني ، هل هو معجزة في هدفه وموضوعه ؟

ــــــــــــــــــــــــ

•  سيد قطب : التصوير الفني في القرآن ص 141

•  (2) الاتقان 117:2

التالي