التالي

القسم الثاني

إعجاز القرآن

هل يعتبر القرآن إعجازه معجزة له ؟

تمهيد

1 – الإعجاز بديل المعجزة ، أي المعجزة اللغوية

في القسم الأول ثبت لنا ، بعد الاستقراء والتحليل ، فراغ القرآن من كل أنواع المعجزة . وهذا ما اضطر أهل القرآن للتكلّم عن معجزة أخرى ، أسموها " اعجاز القرآن " ؛ واعتبار هذا الاعجاز " معجزة القرآن " ؛ لأن المعجزة دليل النبوة الأوحد ، في اعتقاد أهل التوراة وأهل الانجيل وأهل القرآن . وهكذا قام الاعجاز بديل المعجزة .

فنادى القوم قديما وحديثا بأن القرآن وحده معجزة محمد . وقد نقلنا حكم شيخ أهل الاعجاز قديما ، الباقلاني : "ان نبوة النبي صلعم معجزتها القرآن" وأضاف : "وذلك أنه احتجّ عليهم بنفس هذا التنزيل ، ولم يذكر حجة غيره" (ص 16) . فتنافسوا في بيان اعجاز القرآن ، حتى ختم ابن خلدون مقالتهم جميعا بقوله : "إن أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها القرآن ، لاجتماع الدليل المدلول عليه" (المقدمة السادسة) . وهذا حكم شيخ أهل السيرة حديثا ، حسين هيكل : " لم يرد في كتاب الله ذكر لمعجزة أراد الله بها أن يؤمن الناس كافة على اختلاف عصورهم برسالة محمد إلاّ القرآن" (حياة محمد) . فالاجماع قائم في الأمة أنه "لم يرد في كتاب الله ذكر لمعجزة" ، وأن القرآن وحده معجزة محمد ، باعجاز لفظه ونظمه ، أي أنه "المعجزة اللغوية" التي تشهد بصحة النبوة وصحة التنزيل .

ونحن نعلن : لا جدال في اعجاز القرآن . إنما الجدل ، كل الجدل ، في اعتبار اعجاز القرآن معجزة له . والسؤال الواجب أولا ، هل يعتبر القرآن نفسه اعجازه معجزة له ؟ ثم هل اتفق القوم على " وجه الاعجاز " لاعتباره معجزة ؟ يقول عبد الكريم الخطيب(1) :

ــــــــــــــــــــــــ

(1) عبد الكريم الخطيب : اعجاز القرآن 555:2 – 556

"وانما الأمر الذي يحتاج الى بحث ونظر ، بل الى كثير من البحث والنظر ، هو دلائل الاعجاز ووجوهه ؛ حيث أن الأمر لا يقع موقع المشاهدة والحس ؛ وانما هو حقيقة مضمرة في كلمات القرآن وآياته . والكشف عنها ليس ممّا يتيسّر لكل طالب ... من أجل هذا ذهب الناس مذاهب شتى في وجوه الاعجاز" . فليس الاعجاز معجزة ظاهرة لكل ذي بصيرة وبصر . وهذا الاختلاف القائم الدائم في "دلائل الاعجاز ووجوهه "هو البرهان القاطع على أن اعجاز القرآن ليس بمعجزة له . جاء في (الاتقان 117:2) للسيوطي : "ما لا يمكن الوقوف عليه ، لا يُتصوّر التحدي له" فلا يقوم الاعجاز مقام المعجزة دليلا على النبوة والتنزيل .

2 – "القرآن المصفىّ"

  ولصحة الحكم في اعجاز القرآن ، في النظم والبيان ، كان لا بدَّ من وجود القرآن كما نزل على النبي . لكن القرآن مرّ بتصفيتين ، قبل أن يصلنا بحرفه العثماني والحجّاجي .

1) التصفية الأولى على يد محمد نفسه ، في عرْضات القرآن السنوية . جاءَ في (الاتقان 51:1) : "أخرج ابن اشته ، عن ابن سيرين ، قال : كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم كل سنة في شهر رمضان مرة . فلما كان العام الذي قُبض فيه عارضه مرتين . فيرون أن تكون قراءَتنا على العرضة الأخيرة . وقال البغوي في (شرح السُنّة) : يقال أن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بيّن فيها ما نُسخ وما بقي ... ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه ، وولاّه عثمان كتابة المصاحف ... ذكر ابن جرير (الطبري) : لا شك أن القرآن نُسخ منه في العرضة الأخيرة – بالفعل المبني للمجهول – فاتفق رأي الصحابة على أن كتبوا ما تحققوا أنه قرآن مستقر في العرضة الأخيرة ، وتركوا ما سوى ذلك " . وفي موضع آخر : "والمعتمد أن جبريل كان يعارضه في رمضان بما ينزل به طول السنة" (الاتقان 41:1) .

ما هذه القصة في عرْضات القرآن السنوية ؟ والقرآن تنزيل في روع النبي ، فكيف "شهد زيد بن ثابت العرضة الأخيرة" ؟ حديث وضعوه يصف تنقيح النبي للقرآن كل سنة . ويدور هذا التنقيح النبوي على تصفية المنسوخ منه في بحر السنة . و "القرآن المصفّى" نفسه يشهد "بالمحو" و "التبديل" واقعين فيه (النحل 101) .

مع هذه التصفيات النبوية السنوية ، كان القرآن يُقرأ على عهد النبي نفسه "على سبعة أحرف" – والعدد للرمز لا للحصر – " باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني " ، كما نقل الطبري . لذلك ما كان التنقيح النبوي السنوي ليأتي على "اختلاف الألفاظ" في "الأحرف السبعة" . وبعد وفاة محمد ، ظل هذا الاختلاف في أحرف القرآن قائما .

) التصفية الثانية على يد عثمان به عفان والصحابة

في صدر الاسلام انشغل القوم بحروب الردة في الداخل ، ثم بالفتوحات في الخارج . فتحولت الرخصة النبوية بقراءَة القرآن على سبعة أحرف ، والرخصة بقراءته بلغات العرب كلها ، والرخصة بقراءَته أحيانا بالمعنى من دون الحرف ، الى فوضى أفزعت القوم من ضياع القرآن ، فلجأوا الى وضع "إمام مبين" . فكانت التصفية الثانية ، بأمر عثمان والصحابة ، على يد اللجان المتعدّدة . فأتلف الأحرف الستة ، ليسلم الحرف العثماني الموحد .

جاء في (الاتقان 186:1) : عن ابن اشته : "فهذا الخبر يدل على أن القوم كانوا يتخيّرون أجمع الحروف للمعاني ، وأسلسها على الألسنة ، وأقرنها في المأخذ ، وأشهرها عند العرب ، للكتاب في المصاحف" .

وقد شملت التصفية العثمانية أمورا كثيرة .

لقد اسقط عثمان ستة أحرف ، كما ينقل الطبري ، ليسلم الحرف "العثماني" وحده . فهل كان عثمان والصحابة ولجانهم معصومين ليختاروا النص الصحيح ؟ وقد مرت بنا الشهادة في حقيقة تصفيتهم لنص القرآن : " إن القوم كانوا يتخيرون " !

وفي الحرف المختار المصفّى أسقطوا كثيرا من المنسوخ ، الذي كان يحتفظ به علي بن أبي طالب في مصحفه ، كما يقولون .

وأسقطوا كذلك بعض القرآن من التلاوة ، حتى " ذهب منه قرآن كثير " كما نُقل . وقد قيل أيضا : " غيّر عثمان المصاحف " !

ومن التصفية العثمانية ، ما ورد على لسان الامام علي : "ما في قريش أحد إلاّ وقد نزلت فيه آية" (الاتقان 151:2) : فأين هذا كله ؟

وجعل عثمان ترتيب التلاوة على غير ترتيب النزول ، واعتمد مبدأ الطول في الترتيب ، فتداخلت السور المكية بالمدنية ، والآيات المدنية بالمكية ، وضاع الترتيب التاريخي في الآيات وفي السور ، وهو أساس لصحة الحكم بالاعجاز في القرآن وتطور البيان .

مع ذلك بقي في الحرف العثماني ما بقي . نقل الرازي : "روي عن عثمان وعائشة أنهما قالا : ان في المصحف لَحَنا ، وستقيمه العرب بألسنتها " !

وهكذا ، بعد التصفية النبوية ، وبعد التصفية العثمانية ، لم يبق للحكم في اعجاز القرآن إلاّ " القرآن المصفّى " الذي أقامته العرب بألسنتها ، قبل جمعه وتدوينه ، على نص واحد ، ولغة واحدة . مع ذلك لم يسلم من " اختلاف القراءات " حتى اليوم .

فهذا "القرآن المصفّى" هو " القرآن المصطفى " بواسطة اللجان العثمانية : فهل يصح منه حكم شامل كامل في اعجاز القرآن ؟ وهل الاعجاز الباقي هو للحرف المنزل ، ام للحرف المصفى ؟

مع كل تلك الشبهات القائمة على صحة حرف القرآن ، ما زلنا نقول بصحته الجوهرية ، التي نحتكم اليها في قيام الاعجاز بديل المعجزة ، وفي صحة اعتبار اعجاز القرآن معجزة له .

التالي