بحث ثان القرآن كلام اللّه . فهو معجز في ذاته(الأساس الثاني للإعجاز) ان الأساس الثاني لاعجاز القرآن هو أنه كلام الله ، وكلام الله معجز في ذاته للمخلوقين أجمعين . أولا : كلام الله في القرآن وهذا الأساس تفرّع الى ثلاث مقالات : المقالة الأولى : أن التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات الإلهية . قال السيوطي في (الاتقان 118:2) ينقل المقالة ويرد عليها : "فزعم قوم أنّ التحدّي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات ؛ وأن العرب كُلّفت في ذلك ما لا يُطاق ، به وقع عجزها . وهو مردود لأن ما لا يمكن الوقوف عليه لا يُتصوَّر التحدي به ! والصواب ما قاله الجمهور أنه وقع بالدالّ على القديم ، وهو الألفاظ" . المقالة الثانية : إنه حكاية عن كلام الله القديم . هذه مقالة الجمهور ، بحسب السيوطي ، في إعجاز القرآن . قال أحمد أحمد بدوي (1) : "كما لا نقبل قول مَن قال : ان وجه الاعجاز في نظم القرآن أنه حكاية عن كلام الله القديم . لأنه لو كان كذلك ، لكانت التوراة والانجيل وغيرهما من كتب الله معجزات في النظم والتأليف ، وما قال بذلك أحد ، ولا ذكرته تلك الكتب نفسها (2) . وكذلك كان من الواجب أن تكون كل كلمة مفردة معجزة بنفسها منفردة – وذلك ما لم يقل به أحد" . ــــــــــــــــــــــــ (1) من بلاغة القرآن ص 49 (2) ان الكاتب واهم في الأمرين معا . قابل كتاب الاستاذ يوسف درة الحداد : مصادر الوحي الانجيلي : الدفاع عن المسيحية المقالة الثالثة : كلام الله المنزل معجز في ذاته . هذا قول ابن حزم في كتابه (الفِصَل) . وعنه تناقلوه الى اليوم . قال : "لم يقل أحد إن كلام غير الله تعالى معجز . لكن لمّا قاله الله تعالى وجعله كلامًا له ، أصاره معجزا ومنع من مماثلته ... وهذا برهان كافٍ لا يحتاج الى غيره" . وفي أيامنا يقول عبد الكريم الخطيب(1) : "إن القرآن ، وهو كلام الله ، لا يمكن أن يوازن به كلام ، فهو لهذا معجز في ذاته" . وقد ردّ هذه المقالة مصطفى صادق الرافعي (2) : "قال (ابن حزم) : "وهذا برهان كاف لا يحتاج الى غيره" – نقول : بل هو فوق الكفاية ، وأكثر من أن يكون كافيًا أيضا ، لأنه لمّا قاله ابن حزم وجعله رأيا له ، أصاره كافيًا لا يحتاج الى غيره ... وهل يُراد من اثبات الاعجاز للقرآن ، إلاّ إثبات أنه كلام الله تعالى "؟ يعني أنه منطق معكوس . إنه يثبت ما يُراد إثباته بدون برهان . ثانيا : البيّنة على كلام الله بالمعجزة لا بالاعجاز أجل إن كلام الله معجز في ذاته للمخلوقين أجمعين . ولكن ما البرهان على أنه كلام الله ؟ وما البيّنة على صدق النبي أنه ينقل كلام الله ذاته ؟ فالسر ، كل السر ، في الجزم أنه كلام الله ، للاقرار بإعجازه . وبما أن كلام الله لا يصلنا إلاّ بواسطة بشر ، وبكلام بشر ، فالبيّنة على أنه كلام الله لا تكون في ذاته . ولا تكون أيضا في واسطته ، لئلا يشتبه الأمر علينا بين كلام الخالق وكلام المخلوق ؛ فالحقيقة في ذاتها واحدة ، سواء كانت كلام الخالق أم كلام المخلوق ، وخصوصا أنها في الحالين تأتينا بواسطة المخلوق . إن كلام الله يأتينا على لسان بشر ، وبلغة البشر ؛ فلم يعد معجزا في ذاته . والقول بأن اعجاز القرآن معجزة له ، لأنه كلام الله ، منطق معكوس ، فهو يثبت بدون برهان ما يُراد ــــــــــــــــــــــــ (1) اعجاز القرآن 340:1 (2) الرافعي : اعجاز القرآن ص 164 اثباته . فما البرهان أنه كلام الله ؟ وما الدليل على صدق النبي في زعمه أنه كلام الله ؟ "قل : هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" ! والبرهان خارج بطبيعته عن الكلام المزعوم لله ، وعن النبي الذي يدّعيه . قال الجويني في (الارشاد ص 331) : "لا دليل على صدق النبي غير المعجزة . فإن قيل : هل في المقدور نصب دليل على صدق النبي غير المعجزة ؟ – قلنا : ذلك غير ممكن " . لذلك كان قول ابن خلدون : "إن أعظم المعجزات دلالة القرآن ... لاجتماع الدليل والمدلول عليه "، فيه مغالطتان بل تناقضان : المدلول عليه هو كلام الله وهذا ما يُراد إثباته ! والدليل عليه هو اعجاز هذا الكلام اعجازا إلهيا ، فما هو برهان اعجازه ؟ وهكذا فالمدلول بحاجة الى برهان ؛ والدليل بحاجة أيضا الى برهان . والبيّنة التي تحتاج الى بيّنة ، لا تكون بيّنة كافية من ذاتها . إنها بحاجة إلى بيّنة أخرى لا تتصل بها في الذات . ولإثبات قول نبي أنه كلام الله فهو بحاجة الى "معجزات خارقة لا تتصل به في الذات" (1) . ثالثا : كلام الله والإعجاز والقول بأن القرآن معجزة لأنه كلام الله ، ليس ميزة له وحده ، لأنه في هذا هو التوراة والإنجيل سواء ؛ كلها في نظر القرآن كلام الله المنزَّل تنزيلا : "آلم . الله لا إله إلاّ هو ، الحيّ القيوم نزّل عليك الكتاب بالحق ، مصدقًا لما بين يديه ، وأنزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس ، وأنزل الفرقان" (آل عمران 1 – 4) . فبحسب منطق القرآن ، إن كل كتب الله معجزة لأنها كلام الله . فليس للقرآن ميزة عليها، من حيث هو كلام الله ، في الاعجاز والمعجزة . بل الميزة للكتاب على القرآن لأن القرآن جاء "مصدقا لما بين يديه" ، بل هو "تفصيل الكتاب" (يونس 37) ؛ والكتاب إمامه في الهدى والبيان : "ومن قبله كتاب موسى (وعيسى) إمامًا ورحمة ؛ وهذا كتاب مصدّق لسانا عربيًّا"(الاحقاف 12) ، فالإمام هو الكتاب ؛ وما القرآن سوى نسخة عربية عنه ليس فيها من مزيد سوى اللسان العربي المبين : وحسب النسخة في الاعجاز والمعجزة أن تكون مثل إمامها . ــــــــــــــــــــــــ (1) دروزة : سيرة الرسول 279:1 يردّ الباقلاني على هذا بقوله : "فإن قيل : فهل تقولون بأن غير القرآن من كلام الله عزّ وجلّ معجز كالتوراة والانجيل والصحف ؟ قيل : ليس شئ من ذلك بمعجز في النظم والتأليف – وإن كان معجزا كالقرآن في ما يتضمن من الإخبار بالغيوب – وإنما لم يكن معجزًا لأن الله تعالى لم يصفه بما وصف به القرآن (من الاعجاز) ؛ ولأنا قد علمنا أنه لم يقع التحدّي اليه كما وقع التحدي الى القرآن . وبمعنى آخر وهو أن ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي الى حدّ الإعجاز .. ومعنى آخر ، وهو أنّا لم نجد أهل التوراة والانجيل ادعوا الاعجاز لكتابهم ، ولا ادّعى لهم المسلمون . فعُلم أن الاعجاز ممّا يختص به القرآن " . هذا الذي جاء به الباقلاني ما زال يتردّد الى اليوم . وهو متناقض في ذاته : كيف يكون كلام الله معجزًا في كتاب وغير معجز في كتاب آخر ؟ وهل ينزل كلام الله بدون نظم ولا تأليف ؟ وهل يمكن أن نفصل كلام الله ، وهو بمثابة الروح ، من الألفاظ والنظم والتأليف ، التي هي جسده ؟ ووصف الكتاب أي الانجيل والتوراة أنه "إمام" القرآن ، أبلغ من التحدّي . ومن علّم الباقلاني أن العبرية التي نزلت بها التوراة , وأن اليونانية التي نزل بها الانجيل ، "لا يتأتى فيهما من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي الى حدّ الاعجاز" ؟ ومَن قال للباقلاني أن أهل التوراة والانجيل لم يدّعوا الاعجاز في الهدى والبيان لكتابهم ؟ وقد تحدّى أهل الكتاب محمدا على حياته بإعجاز الكتاب في التأليف ، وبتفضيله في التأليف على القرآن : "إنّا لا نراه يتناسق ، كما تناسق الكتاب" (1) ! واستشهاد القرآن المتواتر على صحته بأهل الكتاب ، وإحالة النبي حين الشك من نفسه ومن قرآنه (يونس 94 – 95) على أساتذته من "اللراسخين في العلم" ، دلائل على اعجاز الكتاب قبل القرآن . والقرآن نفسه يتحدّى بالكتاب والقرآن معًا : "قل : فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتّبعْه ، إن كنتم صادقين ! فإن لم يستجيبوا لك ، فاعلم أنما يتبعون أهواءَهم ! ومَن أضلّ ممّن اتبع هواه بغير هدى من الله ؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين" (القصص 49 – 50) . ــــــــــــــــــــــــ (1) قابل (أسباب النزول) للسيوطي ، على سورة البقرة والقول الفصل أن القرآن يتحدّى " بمثله " . وها إن "مثله" عند أولي العلم من أهل الكتاب : "وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله" (الاحقاف 10) . فليس "الاعجاز ممّا يختص به القرآن" ، كما يدّعي الباقلاني . إن الاعجاز في "المثل" وفي "الإمام" قبل النسخة التي هي "تفصيل الكتاب" . والمحكّ الأكبر هو الترجمة الى لغات العالم . فهل يبقى من اعجاز القرآن في الترجمة كما يبقى من اعجاز الانجيل ؟ رابعا : الجدل في أزليّة القرآن ويتعلّق بالقول باعجاز القرآن معجزة إلهية ، الجدل الشهير : هل القرآن ، بصفته كلام الله ، مخلوق أم غير مخلوق ، محدث أم قديم في ذات الله ؟ يقولون : كلام الله صفة ذاتية في الله ؛ والقرآن هو كلام الله ؛ فالقرآن إذن صفة ذاتية في الله ، فهو قديم غير مخلوق . وهذا القياس يشتمل على مغالطة أساسية : بين عمل الله في ذاته ، وعم الله خارجا عن ذاته . فالقدرة على الخلق صفة ذاتية في الله ؛ أمّا الخلق فهو عمل في خارج الله . وكذلك كلام الله ؛ فهو بكونه صفة ذاتية فهو في ذات الله ؛ أمّا التنزيل فهو عمل في خارج الله ، وكما أن الخلق بكلام الله وأمره محدث ، كذلك تنزيل كلام الله ، أو كلام الله المنزل خارج الله ، محدث . فالخلق والتنزيل من صفات الله وأعماله : فمن حيث القدرة الذاتية والصفة الذاتية هما من ذات الله ؛ أما من حيث العمل خارج الذات الإلهية فالتنزيل محدث كالخلق ؛ وكلام الله المنزل محدث كأمر الله في الخلق . فلا يكون القرآن – ولا غيره من الكتب المنزلة – بصفته كلام الله ، غير مخلوق ، ومعجزًا بذاته كصفات الله الذاتية . والاعتماد على اعجاز القرآن بصفته كلام الله منطق معكوس . فكلام الله على نوعين : كلام الله الذاتي ، وهو صفة القديم ؛ وكلام الله المنزل وهو محدث كالخلق . نشأت هذه المسألة من جدال المسيحيين للمسلمين في المسيح الذي يصفه الانجيل (يوحنا 1:1) والقرآن (النساء 171) انه "كلمة الله ألقاها الى مريم وروح منه" . يقولون : إن السيد المسيح ، لا بصفته عيسى ، ابن مريم ، بل بصفته "كلمة الله وروح منه" هو قديم قائم في ذات الله ، من ذات الله ، كنطقه الذاتي في ذاته . فردّ المسلمون أن القرآن هو أيضا كلام الله ، فهو قديم في القديم وغير مخلوق . وفاتهم أن المسيح ، بصفته "كلمة الله" ؛ ذات ؛ وأن كلام الله شئ . وفاتهم الفرق الجوهري بين كلام الله في ذاته ، وكلام الله في التنزيل : فكلام الله المنزل هو غير ذات الله ؛ وكلام الله الذاتي هو ذاته ، أو من ذاته في ذاته ، فلا هو عين الذات ولا هو غيرها . ولم يكن احتجاج المعتزلة على أهل السنة والجماعة كفرًا ، ولا سَخَفًا . نقل الجاحظ استجواب الإمام أحمد بن حنبل ، بحضرة المعتصم : "أن أحمد بن أبي داود قال له : أليس لا شئ إلاّ قديم أو حديث ؟ قال : نعم . قال : أو ليس لا قديم إلاّ الله ؟ قال : نعم . قال : فالقرآن اذن حديث ! قال : ليس أنا متكلّم" . وسُئل جعفر بن محمد عن القرآن : "أخالق أم مخلوق؟" فقال : "ليس خالقا ولا مخلوقا ؛ ولكنه كلام الله عز وجل" (1) . إن القديم وغير المخلوق هو من ذات الله ، في ذات الله ؛ فلا ينفصل عن ذات الله في التنزيل ، كما ينفصل كلام الله المنزل . وكلام الله المنزل ليس كلام الله القديم في ذاته تعالى ليكون غير مخلوق ومعجزا في ذاته . إن قضية قدم القرآن أم حدوثه مسألة طارئة على البحث في إعجاز القرآن بصفته كلام الله . واعتبار كلام الله المنزل صورة لكلام الله الذاتي النفسي لاثبات الاعجاز الذاتي لكلام الله المنزل ، هو ما أورد القوم ذلك المورد المشبوه . فليس كلام الله المنزل هو عين ــــــــــــــــــــــــ (1) عن (اعجاز القرآن) لعبد الكريم الخطيب 430:1 – 431 كلام الله في ذاته ، من ذاته ، لذاته . فكما أن الخلق هو عمل الخالق وليس الخالق ، فكذلك كلام الله المنزل هو عمل الله وليس الله . فلا مجال لإثبات الاعجاز الذاتي لكلام الله المنزل ، لأنه كلام الله ، فهو يأتينا بواسطة بشر ، وبلغة البشر ؛ وما هو بشري في جهة من جهاته لا يلزمه اعجاز الله في ذاته البشرية . فلا بدّ من برهان خارج عن ذاته يدل على أنه من الله . ومتى ثبت أنه من الله ثبتت قدسيته ، ودانت له النفوس والعقول والقلوب والأجسام . فقبل التقرير بأن القرآن كلام اله ، فهو معجز في ذاته ، يجب البرهان على أنه كلام الله ، بإثبات صدق النبي الذي ينقله عن الله . وهذا عمل المعجزة ، لا صفة الاعجاز في ذاته . فالأساس الثاني لاعجاز القرآن كمعجزة متهافت مشبوه . |