بحث ثالث وجه الإعجاز في القرآن (الأساس الثالث في الإعجاز) أولا : الإعجاز لغز وسرإن الأساس الثالث في اعجاز القرآن هو معرفة وجه الاعجاز فيه . وهذا هو "اللغز الذي حيّر الناس" ، كما يقول محمد زغلول سلام(1) . لقد عرف الناس بالفطرة ثم بالمنطق أن المعجزة دليل النبوة الأوحد . وبما أن علماء الكلام المقسطين لم يجدوا في القرآن معجزة حسيّة ، "سُنّة الأنبياء الأولين" ، وقد لحظوا فيه تحديًا "بمثله" للمشركين ، فسمّوه اعجازًا ، واتخذوا هذا الاعجاز معجزة لغوية على صحة النبوة والقرآن . ــــــــــــــــــــــــ (1) أثر القرآن في تطور النقد العربي ، ص 357 وصارت معجزة القرآن اللغوية شبه عقيدة عندهم ، لو لم يقم المعتزلة قديما ، وبعض أهل المدرسة العصرية في أيامنا ، يقولون : لم يجعل الله القرآن دليلا على النبوة ! وبرهانهم القاطع في ذلك أن الناس لا يعرفون وجه الإعجاز فيه . يقول عبد الكريم الخطيب(1) : "إن اعجاز القرآن – في نظرنا – سرّ محجوب عن الأنظار " ؛ "غير أن هناك دراسات اتجهت اتجاهًا مباشرًا للبحث عن وجوه الاعجاز ودلائله في القرآن ، فلم يكن من همّها شئ إلاّ أن تكشف النقاب عن هذا السر المحجب " . إن "سرًا محجوبًا" عن الناس ، وإن "لغزًا حيّر الناس" لا يكون معجزةً لهم . فهو مثل متشابه القرآن "لا يعلم تأويله إلاّ الله ! والراسخون في العلم يقولون : آمنا" ! (آل عمران 7) . ثانيا : اختلاف دائم على وجه الإعجاز وقد عقد السيوطي في (الاتفاق 118:2) فصلاً قيّمًا يعدّد فيه المحاولات المتعدّدة المتعارضة لمعرفة وجه الاعجاز في القرآن . قال : "لمّا ثبت كون القرآن معجزة نبيّنا ص ، وجب الاهتمام بمعرفة وجه الاعجاز . وقد خاض الناس في ذلك كثيرا ، فبين محسن ومسئ . 1 – "فزعم قوم أن التحدّي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات . 2 – "ثم زعم النظام أنه بالصرفة – أي أن الله صرف الناس عن معارضته ، وكان ذلك مقدورا لهم 3 – "وقال قوم : وجه إعجازه ما فيه من الإخبار عن الغيوب المستقبلة . 4 – "وقال آخرون : ما تضمّنه من الأخبار عن قصص الأولين وسائر المتقدمين حكاية من شاهدها وحضرها . 5 – "وقال آخرون : ما تضمنه من الإخبار عن الضمائر ، من غير أن يظهر ذلك منهم بقول أو فعل ـــــــــــــــــــــــ (1) اعجاز القرآن 36:1 و125 6 – "وقال القاضي أبو بكر (الباقلاني) : وجه اعجازه ما فيه من النظم والتأليف والترصيف ؛ وأنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتادة في كلام العرب ، ومباين لأساليب خطاباتهم . 7 – "وقال الإمام فخر الدين (الرازي) : وجه الاعجاز الفصاحة ، وغرابة الاسلوب ، والسلامة من جميع العيوب . 8 – "وقال الزملكاني : وجه الاعجاز راجع الى التأليف الخاص به ، لا مطلق التأليف ، كل فنّ في مرتبته العليا في اللفظ والمعنى . 9 – "وقال ابن عطية : والذي عليه الجمهور والحذّاق في وجه اعجازه أنه بنظمه وصحة معانيه ، وتوالي فصاحة الفاظه ... فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة . 10– "وقال حازم : وجه الاعجاز في القرآن من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها ، في جميعه ، استمرارًا لا يوجد له فترة . 11– "وقال المراكشي : الجهة المعجزة في القرآن تُعرف بالتفكير في علم البيان ... لأن جهة اعجازه ليست مفردات الفاظه ، والاّ كانت قبل نزوله معجزة ؛ ولا مجرّد تأليفها ، وإلاّ كان كل تأليف معجزا ؛ ولا بالصرف عن معارضتهم . إنه في أحوال تركيبه . فعلى اعجازه دليل إجمالي وهو أن العرب عجزت عنه وهو بلسانها . 12– "وقال الأصفهاني : إن اعجاز القرآن ذكر من وجهين : احدهما اعجاز متعلق بنفسه ، والثاني بصرف الناس عن معارضته . فالأول يتعلق بالنظم المخصوص ، وهذا النظم مخالف لنظم ما عداه ؛ والقرآن جامع لمحاسن جميع أنواع الكلام ، على نظم غير نظم شئ منها : لا يصح أن يُقال له رسالة أو خطابة ، أو شعر أو سجع . والثاني عجزت كافة البلغاء عن معارضته ، مصروفة في الباطن عنها . 13– "وقال السكاكي : اعجاز القرآن يُدرك ولا يمكن وصفه ! 14– "وقال أبو حيّان التوحيدي : القرآن لا يُشار الى شئ منه إلاّ وكان ذلك المعنى آية ، لذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده . 15– "وقال الخطابي : إن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ ، في أحسن نظام وتأليف ، مضمّنا أصح المعاني ، جامعًا في ذلك الدليل والمدلول عليه . وقد قلت في اعجاز القرآن وجهًا ذهب عنه الناس ، وهو صنيعه في القلوب ، وتأثيره في النفوس . 16– "وقال ابن سراقة : ذكروا في اعجازه وجوهًا كثيرة كلها حكمة وصواب : الايجاز مع البلاغة ، البيان والفصاحة ، الوصف والنظم ، خروجه عن جنس كلام العرب من النظم والنثر والخطب والشعر ، قارئه لا يكل وسامعه لا يمل . 17– "وقال الزركشي : الاعجاز وقع بجميع ما سبق من الكلام ، لا يكل واحد على انفراد ، مع روعته وجمعه بين صفتي الجزالة العذوبة ، وكونه آخر الكتب غنيًّا عنها ، وهي ترجع اليه . 18– "وقال الرماني : وجوه اعجاز القرآن تظهر من جهات : ترك المعارضة ، والتحدّي للكافة ، والصرفة ، والبلاغة ، والإخبار عن الأمور المستقبلة ، ونقض العادة , وقياسه بكل معجزة . 19– "وقال القاضي عياض في (الشفاء) : إن القرآن منطو على وجوه من الاعجاز كثيرة . وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها أربعة : الأول حسن تأليفه والتئام كَلِمِه وفصاحته ووجوه ايجازه ، وبلاغته الخارقة عادة العرب . الثاني صورة نظمه العجيب ، والاسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ، ومنها نظمها ونثرها . الثالث ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيِّبات . الرابع ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة" . وكان السيوطي آخر مَن تكلّم في الإعجاز . وجاء أهل العصر يرون فيه وجوهًا جديدة من الاعجاز : 1– فكان مصطفى صادق الرافعي أول من تكلّم في (اعجاز القرآن) من أبناء العصر . "فالرافعي لم يخرج في اعجاز القرآن عن هذا الوجه الذي جرى عليه مَن سبقه من القائلين بأن النظم هو سر الاعجاز فيه "(1) – وهو من القائلين بالاعجاز المطلق في القرآن . "إن ــــــــــــــــــــــــ (1) عبد الكريم الخطيب : اعجاز القرآن 302:1 و304 و405 الناس كلهم يعجزون عن مثله . ومعجز في أثره الانساني ، ومعجز كذلك في حقائقه" (1) . والخطيب يرد هذه الوجوه الثلاثة من حيث هي وجوه الاعجاز(2) . 2 – فريد وجدي لا يرى أجمع عليه القوم أن اعجاز القرآن في نظمه البياني ؛ بل هو في " روحانية خاصة " هي عندنا جهة اعجازه والسبب الأكبر في انقطاع الإنس والجن عن محاكاة أقصر سورة من سوره . وناهيك بروحانية الكلام الإلهي . "نعم إن جهة اعجاز الكتاب الإلهي الأقدس هي تلك ( الروحانية العالية ) التي قلبت شكل العالم" . وهو يستند الى قوله : "وكذلك أوحينا اليك روحًا من أمرنا" (الشورى 52) . وفاته أن "الروح" هنا هو ملاك الوحي ، بحسب قوله : "يلقي الروح من أمره على مَن يشاء من عباده" (غافر 15) . 3 – محمد أبو زهرة يرى أن التشريع في القرآن أفضل وجوه الاعجاز فيه ، وأن العلماء لم يذكروه مع أنه أقواها ، وبه يكون معجزا لكل الناس ، لا للعرب وحدهم . 4 – عبد الرزاق نوفل يرى وجه الاعجاز في علم القرآن الذي سبق علوم المتقدمين والمتأخرين . فهو مثلا يرى علم الذرة العصري في كلمة "ذرة" اللغوية الواردة في القرآن . فخلط بين اللغة والعلم التقني 5 – عبد الكريم الخطيب يرى من (الاعجاز في مفهوم جديد) أنه أقام الحجة البالغة المعجزة على العرب المشركين ، وعلى أهل الكتاب من يهود ونصارى ؛ وأن شخصية محمد إحدى معجزات القرآن ؛ وأن وجوه الاعجاز الذاتية فيه هي : الصدق المطلق الذي نزل به ، وعلو الجهة المنزل منها ، وحسن الأداء في النظم والفاصلة ، وروحانية القرآن . 6 – الدكتور أحمد أحمد بدوي يرى أن "البرغة هي سر هذا الاعجاز" . 7 – وسيد قطب يرى أن وجه الاعجاز في "التصوير الغني في القرآن" . وهناك دراسات لا تأتي بجديد في الكشف عن "سر الاعجاز" . ثالثا : الإعجاز في نظم القرآن والجميع يرجعون الى مقالة الجاحظ أن سر الاعجاز في نظم القرآن مبنى ومعنى . ولذلك فهو معجز في ذاته ، لا بمعجزة حسية مضافة اليه . ولذلك يعتبرونه مع ابن خلدون أعظم المعجزات دلالة على صدق النبوة وصحة الدعوة لاجتماع الدليل والمدلول عليه فيه . ــــــــــــــــــــــــ (1) الرافعي : اعجاز القرآن ، ص 175 (2) عبد الكريم الخطيب : اعجاز القرآن 306:1 – 315 قال شيخ القائلين بإعجاز القرآن ذاته معجزة له ، الباقلاني : " إن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم معجزتها القرآن : والذي يوجب الاهتمام بمعرفة اعجاز القرآن أن نبوة نبينا عليه السلام بنيت على هذه المعجزة ... وذلك يكفي في الدلالة ، ويقوم مقام معجزات غيره وآيات سواه من الأنبياء ... فبان أن بناء نبوته صلى الله عليه وسلم على دلالة القرآن ومعجزاته ؛ وصار له من الحكم في دلالته على نفسه وصدقه أنه يمكن أن يُعلم أنه كلام الله تعالى . وفارق حكمه حكم غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء ، لأنها لا تدل على نفسها إلاّ بأمر زائد عليها ، ووصف مضاف اليها ، لأن نظمها ليس معجزًا وان كان ما يتضمنه من الإخبار عن الغيوب معجزًا . وليس كذلك القرآن لأنه يشاركها في هذه الدلالة ، ويزيد عليها أن نظمه معجز ، فيمكن أن يدل به عليه . وحلّ في هذا من وجه محل سماع الكلام من القديم" . لكن اختلاف القوم في وجه الاعجاز ، وحيرتهم التاريخية في معرفة سر اعجازه ، جعلهم يعتبرون اعجاز القرآن " سرًا محجوبًا " ، و :اللغز الذي حيّر الناس" . يقول عبد الكريم الخطيب (1) : "فلو أن سر الاعجاز قد انكشف – وهيهات – لعرفه الناس ! ومن ثَم لم يعد بعيدًا عن متناول أيديهم ... وكان في مستطاعهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن" . وهذا الخلاف المتواتر المتواصل على وجه الاعجاز دليل الحيرة في العقيدة ، والعقيدة لا تكون في حيرة ؛ والمعجزة لها وجه مشرق لا يختلف الناس فيه : فإن اختلفوا في وجه الدلالة ضاعت المعجزة – فإن " اللغز الذي حيّر الناس " لا يكون معجزة لهم . ولجوؤهم في ختام المطاف الى اعتباره " سرًا محجوبًا " و " اللغز الذي حيّر الناس " فيه القضاء المبرم على اعتبار الاعجاز في القرآن معجزة له : لأنه من البديهة أن " ما لا يمكن الوقوف عليه ، لا يتصور التحدّي به "(2) . وهكذا ينهار الأساس الثالث في اعتبار الاعجاز القرآني معجزة . ــــــــــــــــــــــــ (1) من بلاغة القرآن ، ص 53 (2) الخطيب : اعجاز القرآن 152:1 |