بحث ثان
الإعجاز فى الواقع القرآنى
يستهل القرآن تحدّيه للمشركين "بمثل" القرآن، بالتحدى فى هداه: "قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتّبعْه إن كنتم صادقين" (القصص 49).
فالتحدى موجه للمشركين وحدهم؛ وهو يتحداهم بالقرآن والكتاب معاً " ، " اهدى منهما" ؛ فلا يطال التحدى القرآنى الكتاب المقدس اى التوراة والانجيل؛ لأنه يعتبر الكتاب " إمامه" فى الهدى (هود 17 ؛ الاحقاف 12)؛ ويعتبر ان عند أولى العلم من أهل الكتاب "مثل" القرآن:" وشهد شاهد من بنى اسرائيل على مثله، فآمن واستكبرتم" (الاحقاف 10).
وهذا التحدى بهدى القرآن ، هو عنوان التحدى بإعجاز القرآن كله. فما اشتبه علينا بالتحدى "بمثله" يُردّ الى هذا الأصل المحكم، والعنوان الواضح الصريح.
1 - فآية القصص (49)، التحدى بالهدى هى أول آية تحدٍ صريح بالقرآن. وليس كما يراوغون آية الاسراء (59). فهى تحمل معنى التحدى بالقرآن كله.
2 - ففى سورة (الاسراء)، وهى الخمسون فى تاريخ النزول، وتلى سورة القصص، يقول: قلْ: لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرأ" (88).
وهذا التحدى للانس والجن، لا يشمل أهل الكتاب (الاسراء 107). وليس له معنى المعجزة كما تدل آيات الاسراء نفسها. فهو يقول من قبل: "وما منعنا أن نرسل بالآيات، إلا أن كذّب بها الأولون" (59) : فالمعجزات مُنعت عن محمد منعاً مبدَئياً مطلقاً، لذلك لا يصح على الاطلاق اعتبار التحدى بالاعجاز معجزة للقرآن. وإن كذّب الأولون بمعجزات الأنبياء، فإن الله تعالى قد جعلها على الدوام شهادته الكبرى التى يشهد بها لهم. والعرب لم تقبل هذا التحدى بالقرآن نفسه، فأجابوه للحال " وقالوا: لن نؤمن لك حتى
تفجر لنا من الأرض ينبوعاً - أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيراً - أو تسقط السماء، كما زعمتَ ، علينا كسفاً - أو تأتى بالله والملائكة قبيلاً - أو يكون لك بيت من زخرف - أو ترقى فى السماء، ولن نؤمن لرقيّك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه! - قلْ: سبحان ربى، هل كنتُ إلا بشراً رسولاً! (90 – 93). إقرار بسيط صادق رائع بالعجز عن معجزة! فقبل آية التحدى بإعجاز القرآن (الاسراء 88) يصرح بأن المعجزة منعت عنه مبدئياً (59)؛ وبعد آية التحدى يعلن عجزه الواقعى عن كل معجزة، لأنه ليس " إلا بشراً رسولاً". فكيف، بعد هذه القرائن الحاسمة يجوز أن نعتبر اعجاز القرآن معجزة له؟ فالقرآن نفسه، بموجب هذه القرائن السابقة واللاحقة، لا يرى فى اعجازه معجزة. لذلك فهو لا يتمسك بتحديه بالاعجاز، ويفضل عليه شهادة أهل الكتاب له: " قلْ: آمنوا به او لا تؤمنوا! إن الذين أوتوا العلم من قبله، إذا يُتلى عليهم، يخرّون للأذقان سجداً! ويقولون: سبحان ربنا، إنْ كان وعد ربّنا لمفعولاً! ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً" (107 – 109).
نلاحظ " ان الذين أوتوا العلم من قبله" ، وبشهادتهم يعتز القرآن، هم النصارى من بنى اسرائيل. فهم منذ مطلع الدعوة " أمة واحدة مع النبى، والدعوة دعوتهم، لذلك فهم يخشعون عند تلاوة القرآن عليهم.
3 - ويعود الى التحدى بالاعجاز فى السورة التالية، يونس، وهى الحادية والخمسون نزولاً: ليس القرآن بمفترى وأنى يكون ذلك وهو تصديق الكتاب وتفصيله وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله، ولكن تصديق الذى بين يديه (قبله) وتفصيل الكتاب، لا ريب فيه، من رب العالمين" (يونس 37). ثم يتحداهم بسورة مثله: " أم يقولون: افتراه! - قلْ فأتوا بسورة مثله، وادعوا مَن استطعتم من دون الله، إن كنتم صادقين" (38). بعد التحدى بالقرآن كله، يتحداهم بسورة مثله. لكن هذا التحدى مقرون بمهمة القرآن الأولى وهى تصديق الكتاب وتفصيله للعرب اى ترجمته. فالتحدى يرجع الى الأصل قبل التفصيل ، كما قال سابقاً: " أهدى منهما" (القصص 49). والتحدى بالأصل قبل التفصيل يوجّه للنبى نفسه فى قوله: " فإن كنت فى شك ممّا أنزلنا اليك، فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك: لقد جائَك الحق من ربك، فلا تكوننّ من الممترين! ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين" (يونس 94 - 95). هذه الآية تكشف عن أمور كثيرة.
إن القرآن يُحيل نبيّه، حين الشك من نفسه ومن أمره، الى اساتذته " الذين يقرأون الكتاب من قبله" ، وهم النصارى من بنى اسرائيل. فتنزيل القرآن هو قراءَة عربية للكتاب على مثال قراءَة أولى العلم المقسطين. على هذا التنزيل يشهدون، ولا يمكنهم ان يشهدوا على تنزيل من السماء لا يستطيعون الوقوف عليه.
وهذا الانتساب الى الكتاب وأهله أولى العلم المقسطين، والاستشهاد بهم فى حالة الشك، وشهادتهم له، دليل قاطع على ان التحدى انما هو للمشركين وحدهم، لا يقصد الكتاب وأهله.
والشك عند محمد من تنزيل القرآن له برهان قاطع على أنه لا يعتبر تحدى المشركين بإعجازه معجزة له. فمن البديهة ان يكون النبى أول المؤمنين بنبوته ودعوته، وأول المؤمنين بمعجزته، اذا وقعت: ومحمد تنتابه أزمات ايمانية، نقلنا بعض صورها، وهنا نشاهد اعظمها، وهى الشك من التنزيل نفسه؛ فلو كان اعجاز القرآن معجزة، لما صح الشك بعدها.
والقرائن اللفظية والمعنوية فى آية الشك، مثل قوله "جاءَك الحق" ؛ وبيان طبيعة القرآن من أنه "تفصيل الكتاب" ، كلها تدل على ان التحدى للمشركين انما هو بالهدى، لا بالنظم والبيان. وفى الهدى، فالقرآن " تفصيل الكتاب" وتصديقه.
فالقرائن كلها تدل، وقرينة الشك حاسمة، على ان محمداً لم يعتبر اعجاز القرآن معجزة له، لأن الشك والايمان لا يجتمعان.
4- وفى السورة التالية، هود، الثانية والخمسين نزولاً، تتضح معالم التنزيل والتحدى. فهم يتهمونه بالافتراء، فيرد عليهم بإعجاز القرآن: "أم نقولون: افتراه! – قل: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، او ادعوا من استطعتم من دون الله، إن كنتم صادقين. فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله، وأن لا إله إلا هو، فهل أنتم مسلمون" (هود 13 – 14).
فالتحدى للمشركين، لا لأهل الكتاب. والتحدى هو بالاعجاز فى الهدى، لا بالنظم والبيان. فالكتاب "إمامه"، وأهل الكتاب الذين على بيّنة من ربهم يشهدون على صحة
النقل عن الكتاب الإمام: " أفمن كان على بيّنةٍ من ربه – ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة - اولئك يؤمنون به! ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده" (17). فأهل الكتاب المقسطين الذين عندهم بيّنة من ربهم يؤمنون بالقرآن لسببين: الأول ان شاهداً منهم " يتلوه" على محمد باسم الله، وهو مثل قوله: " أو لم تكن لهم آية ان يعلمه علماءُ بنى اسرائيل" من النصارى (الشعراء 197)؛ ومثل قوله: " أولم تأتهم بيّنة ما فى الصحف الأولى" (طه 133): فالبيّنة التى عند الشاهد الكتابى، انتقلت الى القرآن (هود 17)؛ ومثل قوله: "بل هو آيات بينات فى صدور الذين أوتوا العلم" (العنكبوت 49). والسبب الثانى ان الكتاب هو " إمام القرآن" . وهذا دليل على ان الاعجاز المقصود هو بالهدى لا بالنظم والبيان. فإذا كان الكتاب " إمام" القرآن فهو أهدى وأعجز ؛ وحسب النسخة المفصّلة ان تكون مثل إمامها.
وليس فى هذا التحدى بالقرآن معجزة له، لأن المعجزة ترفع كل شك من نفس النبى؛ والاعجاز الذى به يتحدى المشركين لم يرفع الشك من نفس محمد فى قرآنه وتنزيله: " فلا تك فى مرية منه، إنه الحق من ربك! ولكن أكثر الناس لا يؤمنون" (هود17). فإعجاز القرآن لا يحمل معه السكينة لنفس محمد، ولا الايمان للمشركين: فأين هى معجزة الاعجاز؟!
ان محمداً نفسه يشك فى معجزة الاعجاز، ويردعه وحيه عن المِراء فى صدق نبوته وصحة رسالته ومطابقة قرآنه للكتاب الإمام. فهو لا يطمئن بإعجاز القرآن، بل بشهادة أهل الكتاب المقسطين على مطابقة القرآن العربى للكتاب الإمام.
فإن كان ثمة اعجاز فهو فى الكتاب الإمام، قبل أن يكون فى القرآن الذى يفصله للعرب (قابل يونس 37).
5 - وفى سورة (الأنعام)، الخامسة والخمسين نزولاً، تحدٍ ضمنى يردون عليه: " وليقولوا: درست! - ولنبيّنه لقوم يعلمون" (105). فلا يردّ التهمة، بل يبيّن الغاية منها: لقد درس الكتاب ليبيّنه بالقرآن. وهذه الشهادة بالدرس والتدريس ترفع عن اعجاز القرآن صفة المعجزة الالهية. وهو قد درس الكتاب لهم لأنهم غفلوا عن دراسته: " وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه لعلكم ترحمون، أن تقولوا: إنما أُنزل الكتاب على
طائفتين من قبلنا ، وان كنّا عن دراستهم لغافلين" (الانعام 155 - 156). وفى هذه الصورة القرآنية من درس وتدريس سرّ الرسالة وسر الدعوة وسر الاعجاز. ففى الكتاب تفصيل كل شىء تماماً على الذى أحسن ، تلك صورة الاعجاز الصريحة موضوعاً ونظماً: " ثم آتينا موسى الكتاب، تماماً على الذى أحسن وتفصيلاً لكل شىء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون" (الأنعام 154). " وكتبنا له فى الألواح، من كل شىء موعظة، وتفصيلاً لكل شىء" (الأعراف 145) وبهذا التفصيل الكتابى يقتدى القرآن ويتحدّى: " لقد كان فى قصصهم عبرة لأولى الألباب. ما كان حديثاً يُفترى، ولكن تصديق الذى بين يديه، وتفصيل كل شىء ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون" (يوسف 111). فالتحدى القرآنى بالاعجاز يقوم على انه " تفصيل الكتاب" (يونس 37).
والقرآن فى تحدى المشركين بإعجازه، إنما يقتدى بالكتاب إمامه، وبأهله: " أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوة - فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين - أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" (الانعام 89 – 90). فالقرآن يقتدى بهدى الكتاب، ويتحدّى بالهدى مع الكتاب: " أهدى منهما" (القصص 49). فالقرائن كلها تدل على أن الاعجاز الذى به يتحدى هو الاعجاز بالهدى، لا الاعجاز بالنظم والبيان. وما التحدى بالنظم والبيان سوى بدعة بحق القرآن.
6 - ونفهم ان التحدى باعجاز القرآن انما هو بهداه ولأنه من هدى الكتاب الأقدس، من استعلائه على المشركين بالإمام الذى به يقتدى: "أم لكم سلطان مبين، فأتوا بكتابكم، إن كنتم صادقين" (الصافات 156 – 157). أمّا محمد فعنده سلطان مبين فى الكتاب الأقدس الذى به يجادل العرب بعلم وهدى: " ومن الناس مَن يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير" (لقمان 20). هذا التصريح المتواتر فى مكة والمدينة (الحج 8) يدل على أن التحدى كان بالهدى لا بالنظم والبيان. بذلك يشهد له أهل العلم من النصارى: " ويرى الذين أوتوا العلم الذى أُنزل اليك من ربك هو الحق ويهدى الى صراط العزيز الحميد" (سبأ 6). فيستعلى محمد على المشركين بالكتاب الأقدس الذى يدرسه؛ أما هم " ما آتيناهم من كتب يدرسونها! وما أرسلنا اليهم قبلك من نذير" (سبأ 44). فكأن القرآن نسخة ثانية بالعربية تشبه الكتاب الأول: "الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثانى" (الزمر 23). فبروح من أمر الله اهتدى الى الايمان بالكتاب الأقدس
(الشورى 52) وجعل يعدل به بين قومه: " وقلْ: آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأُمرتُ لأعدل بينكم" (الشورى 15)؛ ويستعلى عليهم به: " أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون" (الزخرف 21). فهو عنده علم من علم الكتاب وأهله المقسطين، أما هم فليس لهم أثارة من علم: " إئتونى بكتاب من قبل هذا ، أو آثارة من علم، إن كنتم صادقين" (الأحقاف 4).
7 - ويأتى التصريح الكاشف عن سرّ التحدى بإعجاز القرآن.
إنه معجز أولاً لأنه نسخة عربية لا غير عن الكتاب الأقدس الإمام، بحسب قراءَة أولى العلم المقسطين: "ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً" (الاحقاف 12) فليس فى القرآن من مزيد سوى اللسان العربى: فهل يتحدى المشركين بهذا اللسان العربى أم بهدى الكتاب الإمام وعلمه؟
وإنه معجز ثانياً لأنه نسخة طبق الأصل عن "مثله" الذى عند النصارى اولى العلم من بنى اسرائيل " وشهد شاهد من بنى اسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم (الأحقاف 10).
هذه الآية تكشف ان "مثل" القرآن العربى موجود عند " من عنده علم الكتاب" (الرعد 43)، من بنى اسرائيل النصارى. وبما ان التحدى بالقرآن ينصب على تعبير "مثله" ؛ وبما ان "مثله" موجود قبله، فقد زال التوهم الضخم فى التحدى القرآن "بمثله" .
لذلك أيضاً على محمد ألاّ يشك بلقاء الكتاب الإمام من خلال هذا "المثل" ، لأن أئمة أولى العلم المقسطين يهدون بأمر الله اليه: " ولقد آتينا موسى الكتاب: فلا تكن فى مرية من لقائه؛ وجعلناه هدى لبنى اسرائيل؛ وجعلنا منهم آئمة يهدون بأمرنا " (السجدة 23 – 24).
8 - مع ذلك فالعرب لا تقبل التحدى بالقرآن، وينسبونه الى تقوّله على الله: " أم يقولون: تقوّله! - بل لا يؤمنون! فليأتوا بحديث مثله ، إن كانوا صادقين" (الطور 33 - 34)لاحظ التراخى فى التحدى: كان بسورة مثله (يونس 38) فصار بعشر سور مثله (هود 13)، وأمسى "بحديث مثله" (الطور 34)؛ وهذا التطور فى التحدّى دليل التردّد.
وإن كان ثمّة من اعجاز ومعجزة، فهما فى الكتاب الامام قبل القرآن الذى به يقتدى فى الهدى والبيان، كما يستعلى عليهم: "أم عندهم الغيب فهم يكتبون" (الطور 41). مما يدل على أن محمداً عنده غيب الكتاب الإمام الذى به يتحداهم.
9 - حتى نهاية العهد بمكة، ظل روح التحدى بالقرآن للمشركين قائماً على دعامتين:
الأولى "تفصيل الكتاب" الأقدس للعرب فى القرآن؛ وهذا ما يسميه تنزيلاً: "أو لم يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم؟ قل: كفى بالله بينى وبينكم شهيداً" (العنكبوت 51 – 52). الله يشهد بذلك، وأولو العلم المقسطون يشهدون؛ فإن القرآن العربى " هو آيات بينات فى صدور الذين أوتوا العلم" ، النصارى من بنى اسرائيل (العنكبوت 49). لذلك ففضل الاعجاز يرجع الى الكتاب الأقدس، والى "من عنده علم الكتاب".
الثانية شهادة هؤلاء العلماء النصارى من أهل الكتاب للقرآن ونبيّه، تلك الشهادة التى هى من شهادة الله نفسه: " ويقول الذين كفروا: لست مرسلاً! - قلْ: كفى بالله شهيداً بينى وبينكم، ومَن عنده علم الكتاب" (الرعد 43).
وهكذا، فالبينّة الكافية على صحة النبوة والدعوة تنزيل الكتاب الأقدس اليه اى تيسيره بلسانه، وتفصيله؛ والبرهان الأخير على ذلك هو شهادة "مَن عنده عِلم الكتاب" ، حيث القرآن نفسه "آيات بينات فى صدور الذين أوتوا العلم". فلا معجزة ولا اعجاز كبيّنة وشهادة.
10 - وكانت الهجرة الكبرى الى المدينة. ونزلت سورة البقرة فى مطالع العهد المدنى. وهى سورة مخضرمة بين عهدين. ومن رواسب العهد المكى فيها هذا التحدّى بالقرآن الذى كان الأخير فى المدينة: " وان كنتم فى ريب ممّا نزّلنا على عبدنا، فأتوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءَكم من دون الله إن كنتم صادقين" (البقرة 23).
لكن أهل المدينة، مثل أهل مكة، لم يقبلوا الاعجاز معجزة تشهد للقرآن والنبى: "وقال الذين لا يعلمون (المشركون)، لولا يكلمنا الله، أو تأتينا آية! - كذلك قال الذين من قبلهم (أهل مكة) مثل قولهم، تشابهت قلوبهم! قد بيّنا الآيات (الخطابية) لقوم
يوقنون؛ إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً" (البقرة 118 – 119). والبشير النذير بالحق عليه بيان الحق، وما عليه أن يأتى بمعجزة مُنعت عنه.
فالقرآن يتحدى المشركين " بالحق" أى بالإعجاز فى الهدى، لا بالاعجاز فى النظم والبيان، وذلك فى كل مظاهر التحدى حتى آخر مظهر منه.
وأنى للمشركين، سواء فى مكة أم فى المدينة، من رد التحدّى "بالحق" والهدى الكتابى القرآنى؟ فالباطل مهما كان معجزاً فى البيان والتبيين لا يصير حقاً؛ وهذا سر عجزهم عن ردّ تحدى القرآن لهم، لا عجزهم عن اسلوبه فى النظم والبيان، الذى لا يشهد القرآن أنه كان موضوع أخذ وردّ بينهم. يقول عبد المتعال الصعيدى : " واذا كانت الهداية لابدّ من دخولها فى التحدى بالقرآن، ما كان لها من التأثير فى اعجازه، مثل ما كان لاسلوبه؛ فإنها كانت تنقص أولئك المشركين لأنهم كانوا منغمسين فى الشرك والضلال، وهذا باطل لا يمكنهم أن ينصروه بقوة بيانهم ولو بلغت ما بلغت. ولكنهم كانوا من هذا أمام أمر مستحيل كل الاستحالة، ولا ينفعهم فيه ما امتازوا به من فصاحة وبلاغة، "لأن الباطل لا يمكن أن ينقلب حقاً، والضلال لا يمكن أن ينقلب هداية ورشداً. وهذه هى العقبة التى وقفت دونهم فى ذلك التحدّى، والصخرة التى عجزت أمامها محاولاتهم، فوقفوا حيارى لا يدرون ما يصنعون، ولا يجدون إلاّ أن يُداروا عجزهم بالطعن فى القرآن".
وقوله: إن هداية القرآن كانت "العقبة التى وقفت دونهم فى ذلك التحدّى" يتعارض مع قوله: "واذا كانت الهداية لابدّ من دخولها فى التحدّى بالقرآن، ما كان لها من التأثير فى اعجازه، مثل ما كان لأسلوبه". فلم يكن اسلوب القرآن موضوع تحدّ، بل دعوته وحقيقته، "والباطل لا يمكن ان ينقلب حقاً، والضلال لا يمكن ان ينقلب هداية ورشداً".
إن عجز المشركين عن رد تحدّى القرآن لهم بإعجازه فى "الحق" والهدى، كان مشهوداً. ولكنهم ما طعنوا فى القرآن لستر عجزهم عن اعجازه فى الهدى أم فى النظم والبيان بل لأنهم طالبوه " بالسلطان المبين" فى المعجزات التى يشهد بها الله لأنبيائه: " وما منع الناس أن يؤمنوا – إذ جاءَكم الهدى - ... إلاّ أن تأتيهم سُنة الأولين" (الكهف 55). فهو
يتحداهم بالهدى من الله، بدون سُنّة المعجزة؛ "وقالوا: لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله" (الانعام 124). وإذا عجز محمد عن معجزة طعنوا فى القرآن كل طعن، " بل قالوا: أضغات أحلام! بل افتراه! بل هو شاعر! فليأتنا بآية كما أُرسل الأولون" (الأنبياء 5).
(1) دراسات اسلامية، ص 99 |