التالي

بحث أوّل

ظواهر التحدّى القرآنى بالإعجاز

الظاهرة الأولى: مدّة التحدى بإعجاز القرآن

  جاءَ التحدى بإعجازالقرآن عابراً، فى السنة الأخيرة بمكة والسنة الأولى فى المدينة، على قول عبد المتعال الصعيدى : إن أول " تحد صريح بالقرآن فى الآية 88 من سورة (الاسراء): " قلْ لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله

ولو كان بعضهم لبعض ظهيرأ" . وسورة (الاسراء) هى الخمسون من السور التى نزلت بمكة! وكان نزولها فى حادثة الاسراء، وكانت هذه الحادثة قبل الهجرة بسنة أى فى السنة الثانية عشرة من البعثة. فتكون هى السنة التى اتّخذ فيها التحدى شكله الصريح. وكان هذا بعد أن نزل منه خمسون سورة، وهو قدر صالح للتحدى فى أول الأمر".

ثم تحداهم بسورة مثله (يونس 38) ثم بعشر سور مثله (هود 13) ثم بحديث مثله (الطور 34). وفى المدينة " بسورة من مثله" (البقرة 23). ثم يقول الأستاذ عبد المتعال: "وسورة (البقرة) هى أوّل سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة من مكة. وكان هذا آخر تحدّ ورد فى القرآن. ولكنهم لم يكفّوا بعد هذا التحدى عن الطعن فى القرآن".

  الظاهرة الثانية: التحدى بالاعجاز جواب على التحدى بالمعجزة

  كان تحدّى القرآن بإعجازه جواباً على تحدى المشركين المتواصل ، مدة العهد كله بمكة، بعد أن أزعجوه وأعجزوه بمعجزة كالأنبياء الأولين. " ولقد تكرّر طلب الآيات من جانب الجاحدين، أو بالأحرى زعمائهم كثيراً حتى حكى القرآن المكّى ذلك عنهم نحو خمس وعشرين مرة صريحة عدا ما حكى عنهم من التحدى الضمنى، ومن التحدّى بالاتيان بالعذاب واستعجاله والسؤال عن موعده. ولا نعدو الحق اذا قلنا أن المستفاد من الآيات القرآنية المكية أن الموقف تجاه هذا التحدى المتكرّر كان سلبياً .

  الظاهرة الثالثة: ميزات التحدى بالاعجاز تحصر معناه ومداه

تحدّى المشركون محمداً بمعجزة مدة اثنتى عشرة سنة فعجز عن المعجزة واعلن القرآن ان المعجزة مُنعت عن محمد منعاً مبدئياً مطلقاً (الاسراء 59)، فى السورة عينها التى بدأ بها فى التحدّى باعجازه (الاسراء 88). فجاءَ هذا الاعجاز ستراً لعجزه عن معجزة.

والواقع القرآنى يشهد أولاً أن التحدى بالاعجاز كان عابراً، مدة سنتين. ومن هذه الجهة لا يمكن ان يسمى معجزة القرآن، لأنه لو كان كذلك لردّ به عليهم مدة العهد كله

بمكة كلما تحدوه بمعجزة! ولردّ به بعد سورة البقرة مدة العهد كله بالمدينة. وتحدّى المشركين لمحمد بمعجزة، وتحدّى الكتابيين كذلك، داما مدة البعثة المحمدية كلها، فى مكة والمدينة، حتى وفاة النبى، بالرغم من معجزة "الحديد" التى أرغمتهم على الدخول فى دين الله أفواجاً. فتلك الظاهرة تدل على أن الاعجاز لم يكن فى نظره معجزة النبى والقرآن.

والواقع القرآنى يشهد ثانياً أن محمداً عجز عن ردّ تحديهم بمعجزة كالأنبياء الأولين، وأن العرب لم تقبل تحدى القرآن بالاعجاز معجزة له، كما سنرى.

والواقع القرآنى يشهد ثالثاً ان التحدى القرآنى للمشركين كان بالاعجاز فى الهدى ، لا بالاعجاز فى النظم والبيان. ان القرآن يتحدى المشركين " بمثله " ، وليس فى نصوص التحدى من قرينة تدل على أنه بالنظم والتأليف والبيان. لكن القرائن التى سبقت التحدى بالاعجاز تدل على أنه تحدّ بالهدى. ففى السورة 45 نزولاً: "وقالوا: لولا يأتينا بآية من ربه! - أولم تأتهم بيّنة ما فى الصحف الأولى" (طه 133). فهو يتحداهم بالتوحيد الكتابى. وفى السورة 47 نزولاً: " أولم يكن لهم آية ان يعلمه علماء بنى اسرائيل" من النصارى؟ (الشعراء 197). فآيته ان "تنزيل رب العالمين" هو " فى زبر الأولين" (الشعراء 192 و 196) بشهادة أولى العلم المقسطين. وفى السورة 49 نزولاً، التى هى مطلع التحدى بالاعجاز فى السورة الخمسين نزولاً يأتى التصريح الحاسم أن التحدّى بالاعجاز هو بالهدى: " فلما جاءَهم الحق من عندنا قالوا: لولا أُوتى مثل ما أوتى موسى؟ - أو لم يكفروا بما أوتى موسى من قبل؟ قالوا: سحران تظاهرا! وقالوا: إنا بكل كافرون! - قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتّبعه إن كنتم صادقين" (القصص 48 – 49). فهذا التصريح الصريح القاطع يجزم بأن التحدى بإعجاز القرآن هو بهداه، لا بنظمه والبيان.

والحال أن التحدى بالهدى كان بهدى الكتاب والقرآن معاً: "أهدى منهما" (القصص 49). لا، بل كان الكتاب " إمام" القرآن فى الهدى: " ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق، لساناً عربياً" (الأحقاف 12 ؛ هود 17)، فلا يزيد القرآن على الكتاب سوى اللسان العربى؛ وحسبه أنه فى هداه تصديق الكتاب إمامه.

لذلك نرى ان القول بالتحدى فى الاعجاز بالنظم والبيان بدعة ، آن للقوم أن يتخلوا عنها، ويستجيبوا للواقع القرآنى.

وهذا الواقع القرآنى يشهد أخيراً أنّ التحدّى "بمثل" القرآن ، كان للمشركين، لا لأهل الكتاب، بدليل قوله الصريح: "وشهد شاهد من بنى اسرائيل على مثله " (الاحقاف 10). والبرهان القاطع ان القرآن، لمّا اصطدم بالمدينة مع أهل الكتاب اليهود انقطع عن التحدى بالاعجاز، بعد الآية (23) من سورة البقرة. وهذه الظاهرة تمنع ان يكون التحدى بإعجاز القرآن مطلقاً. لذلك ليس الاعجاز بمعجزة القرآن.

الظاهرة الرابعة: التشخيص للتحدى بالقرآن مغاير للواقع القرآنى

وما صوّروه قديماً وحديثاً فى معجزة الاعجاز لا ينطبق على الواقع القرآنى.

نقل السيوطى ، آخر من تكلم فى الاعجاز قديماً، عن كتاب (فتح البارى): " ولا خلاف بين العقلاء ان كتاب الله تعالى معجز لم يقدر أحد على معارضته، بعد تحديهم بذلك. قال تعالى (وإن أحد من المشركين استجارك فاجره، حتى يسمع كلام الله): فلو أن سماعه حجة لم يقف أمره على سماعه؛ ولا يكون حجة إلاّ وهو معجزة . وقال تعالى (وقالوا: لولا أُنزل عليه آيات من ربه! - قلْ: إنما الآيات عند الله؛ وانما أنا نذير مبين! أولم يكفهم انّا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم)؟ فأخبر ان الكتاب آيات من آياته كان فى الدلالة، قائم مقام معجزات غيره وآيات من سواه من الأنبياء . ولمّا جاءَ به النبى صلى عليه وسلم اليهم - وكانوا أفصح الفصحاء، ومصاقع الخطباء وتحداهم على أن يأتوا بمثله، وأمهلهم طول السنين فلم يقدروا كما قال تعالى (فليأتوا بحديث مثله، إن كانوا صادقين). ثم تحداهم بعشر سور منه فى قوله تعالى (أم يقولون: افتراه – قلْ: فأتوا بعشر

سور مثله مفتريات، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين؛ فإن لم يستجيبوا لكم، فاعلموا أنما أُنزل بعلم الله). ثم تحداهم بسورة فى قوله (أم يقولون: افتراه! - قل: فأتوا بسورة مثله). ثم كرر فى قوله (وان كنتم فى ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله). فلمّا عجزوا عن معارضته والاتيان بسورة تشبهه، على كثرة الخطباء والبلغاء فيهم، نادى عليهم بإظهار العجز واعجاز القرآن ، فقال (قل: لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) ... " .

هذا التشخيص المتواتر للتحدى مخالف للواقع القرآنى. فقد ختم قصة التحدى بآية (الاسراء)، وهى التى بها افتتحه. ثم تراخى القرآن بالتحدى بالاعجاز الى أن أهمله نهائياً بعد الآية (23) من البقرة. ولم " يمهلهم طول السنين" ، بل دام التحدى بالاعجاز فترة وجيزة. ثم نسخه بآية النسخ فى أحكامه (البقرة 106) وآية المتشابه فى أوصافه وأخباره (آل عمران 7): والنسخ فى الأحكام والمتشابه فى الأوصاف والاخبار، ليسا من الاعجاز مهما كابر المكابرون.

الظاهرة الخامسة: دلالة الإعجاز لدى العرب

كان الجاحظ، بعد معلمه النظّام، أول مَن أفرد لاعجاز القرآن فصولاً، خاصة فى رسالته "حجج النبوة". وما نقله السيوطى عنه ما زالوا يتقولونه الى اليوم، كما يفعل عبد الكريم الخطيب:

" بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعراً وخطيباً، وأحكم ما كانت لغة، وأشد ما كانت عُدَةً. فدعا أقصاها وأدناها الى توحيد الله، وتصديق رسالته. فدعاهم بالحجة. فلما قطع العذر، وأزال الشبهة، وصار الذى يمنعهم من الاقرار الهوى والحمية، دون الجهل والحيرة، حملهم على حظهم بالسيف ، فنصب لهم الحرب ونصبوا له. وقتل من عليتهم وأعمامهم وبنى اعمامهم، وهو فى ذلك يحتج عليهم بالقرآن، ويدعوهم صباح مساء الى أن يعارضوه إن كان كاذباً، بسورة واحدة، أو بآيات يسيرة. فكلما ازداد تحديا لهم وتقريعاً لعجزهم عنها، تكشّف عن نقصهم ما كان مستوراً، وظهر منه ما كان خفيّاً.

فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف فلذلك يمكنك ما لا يمكننا. فهاتوها مفتريات" !

ما يردّدونه عن الجاحظ هو ما يجعل معجزة الاعجاز مشبوهة.

فمن المتواتر ان محمداً كان على ثقافة عالية "يعرف من أخبار الأمم" ما لا يعرفون.

الظاهرة السادسة: السيف أصدق إنباءً من الكتب

ومن المشهود فى القرآن والسيرة والحديث ان التحدى بالاعجاز القرآنى لم يحملهم على الايمان بدعوته ورسالته، وانما " حملهم على حظهم بالسيف" ، حينئذٍ فقط دخلوا فى دين الله أفواجاً. فالفضل اذن فى اسلام العرب للسيف، ليس للاعجاز؛ هذا ما تشهد به آخر سورة نزلت، "النصر" .

وليس من المشهود فى القرآن أنه كان " يدعوهم صباح مساء الى أن يعارضوه" . إنما كان التحدى بمثل القرآن عابراً، فى فترة وجيزة من الدعوة، وفى آيات معدودات ، كما سنرى.

تلك هى ظواهر التحدّى للعرب بإعجاز القرآن. فليس فيها ما يجعل الاعجاز القرآنى معجزة. بل تدل تلك الظواهر القرآنية، عند مَن يعتبر الاعجاز معجزة، أنها معجزة مشبوهة، من متشابهات القرآن.

لذلك أخذ بعض القوم يرجعون الى مقالة المعتزلة، وكانوا هم أول من قال بالاعجاز، وأول من قال: "لم يجعل الله القرآن دليل النبوة" .

وكان موقف المعتزلة، وعلى رأسهم النظام والجاحظ، من اعجاز القرآن، مشبوهاً: فهم اول من نادى بالاعجاز، لكنهم جعلوا وجه الاعجاز فى "الصرفة" بقدرة الله عن معارضته، اى بشىء خارج عنه.

والواقع القرآنى هو الذى منعهم من أن يروا فى الاعجاز معجزة.

(1) دراسات اسلامية، ص 97

(1) دروزة: سيرة الرسول 1 : 217

(1) الاتقان 2 : 117

(2) هذا جور فى الاستنتاج، فسماع كلام الله لا يدل على أنه معجزة فى النظم والبيان، بل فى الارشاد والهدى.

(3) فاته ان الكتاب المنزل على محمد، وبه يتحداهم، هو الكتاب الذى من قبله: " ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً" ؛ وهو مثل قوله: " أولم تأتهم بيّنة ما فى الصحف الأولى".

(4) هذه مبالغة ينقضها تاريخ الآداب العالمية.

(5) كان التحدى بالاعجاز فى فترة وجيزة من آخر العهد بمكة ومن أول العهد بالمدينة؛ فهناك عشر سنين بمكة، وسائر العهد كله بالمدينة، بعد الآية (23) من البقرة، لا تحدى فيها بالاعجاز.

(1) اعجاز القرآن 1 : 138

التالي