التالي

بحث أول

التحدى بالإعجاز فى اللغة والبيان لا أصل له فى القرآن

" إن أكثر الذين أقاموا الحجة على اعجاز القرآن، إنما نظروا إلى رأى الجاحظ واعتمدوا عليه وداروا حوله". قال: " وفى كتابنا المنزل الذى يدلنا على أنه صدق: نظمه البديع الذى لا يقدر على مثله العباد" .

وقد أجمعوا، فى خلاف طويل على وجه الاعجاز، ان اعجاز القرآن فى النظم والبيان.

وطلع بهذه المقالة أهل الاعجاز من غير العرب، وقد بهرهم بيان القرآن، لأن العربية عندهم اكتساب لا سليقة وفطرة. أما العرب الذين سمعوه حين تنزيله فقالوا فيه: " إن هذا إلا سحر يؤثر " (المدثر 24)، " ويقولوا: سحر مستمر" (القمر 2). ولما تحداهم: " قل: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما (الكتاب والقرآن) أتّبعه، إن كنتم صادقين" ؟ -

" قالوا: سحران تظاهرا، وقالوا: إنا بكل كافرون" (القصص 49 و 48). فهم يرون فى بيان القرآن كما فى بيان الكتاب، سحراً، لا اعجازاً.

وتلقف أهل الكلام مقالة الاعجاز البيانى فى القرآن – وقد أعجزتهم معجزة حسية، فى السيرة والدعوة، كلأنبياء الأولين – فنادوا بالإعجاز معجزة يردون بها على أهل الأديان الأخرى التى تجعل المعجزة دليل النبوة. لكن التحدى بالنظم والبيان لا أصل له فى القرآن.

____________________________

(1) كتاب الحيوان 4: 90

أولاً: آيات التحدى بحسب تاريخ النزول

السورة الخمسون: " قل: لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً" (الاسراء 88).

السورة الحادية والخمسون: " أم يقولون: افتراه! – قل: فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين! بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ، ولما يأتهم تأويله" (يونس 38 -39).

السورة الثانية والخمسون: " أم يقولون: افتراه! 0 قل: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين" (هود 13).

السادسة والسبعون: " أم يقولون: تقوّله!- بل لا يؤمنون، فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين" (الطور 33 – 34).

الأولى فى المدينة: " وإن كنتم فى ريب، مما نزلنا على عبدنا، فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين" (البقرة 23).

فهل يرشح من تلك التحديات تحدٍ بحرف القرآن ونظمه وبيانه؟

ألا تدل القرائن اللفظية والمعنوية، بالأولى على تحدٍ بتعليمه وهداه؟ فهو يرد على المشركين تهمة " الإفتراء" ؛ ويجيب على " ريبهم" ؛ ويصرح بأنه " لما يأتهم تأويله " – وهذا يعنى معناه الحق. إنه يتحدى بمعنى القرآن وتعليمه. لا بل يستهل تلك التحديات بالتحدى الصريح بالهدى، فى سورة (القصص)، وهى التاسعة والأربعون نزولاً: فتكون كفاتحة

التحدى بالقرآن، وتكشف معناه: " قل: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين" (49). هذه الفاتحة المباشرة للتحدى بالقرآن تقطع بأنه قائم على هداه، لا على حرفه ونظمه. فالتحدى بمثل القرآن كان دائماً التحدى بمثل هداه. والقرآن والكتاب هما فى الهدى سواء: "أهدى منهما".

ثانياً: استفتاح التحدى بالقرآن كان بهداه

يدل على ذلك أيضاً جوابهم له، فى السورة عينها التى تستفتح التحدى بالقرآن، سورة (القصص) " وقالوا: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا" (57). فالتحدى قائم، فى حوارهم، على هدى القرآن.

ثالثاً: ختام التحدى بالقرآن كان بهداه

وبعد آخر تحدّ بالقرآن (البقرة 23)، يعطينا تعريفاً بالقرآن، فى خبر تنزيله: " شهر رمضان الذى أُنزل فيه القرآن هدى للناس ، وبينات من الهدى والفرقان" (البقرة 185). تصريح مزدوج: فالقرآن أُنزل هدى للناس، لا اعجاز بيانِ ٍ ؛ وهو أيضاً " بينات من الهدى والفرقان" ؛ اى، بحسب اصطلاحه، من الكتاب وفرقانه الذى يفصّله فى السنة. فالقرآن " بينات من الهدى" ، لا بينات من البيان – وهذا آخر ما يخطر له ببال.

رابعاً: صفة " الآيات البينات" يطلقها على التوراة والإنجيل والقرآن

وهذا التعبير، " البينات" ، يستخدمه القرآن لنفسه: " أنزلنا اليك آيات بينات" (2: 99)، "أنزلناه آيات بينات" (22 : 16)، " ينزل على عبده آيات بينات" (57 : 9)، وبحق عيسى: "وآتينا عيسى ابن مريم البينات" (2 : 87 و 253)، " ولما جاء عيسى بالبينات" (43 : 63)؛ وبحق موسى: " جاءكم موسى بالبينات" (2 : 92)، " جاءهم موسى بالبينات" (29 : 39)؛ وبحق الرسل أجمعين: " تأتيهم رسلهم بالبينات" (40 : 22 ، 64 : 6)، " تأتيكم رسلكم بالبينات" (40 : 50)، " أرسلنا رسلنا بالبينات" (57 : 25). فالإعجاز بالبيان والبينات، ميزة التنزيل كله على جميع الرسل! وليس ميزة القرآن وحده، ليصح أن يتخذه معجزة له.

خامساً: جوابهم على التحدى: إنه أساطير الأولين

وجوابهم المتواتر على تحدى القرآن لهم برهان آخر على أنه كان بالهدى، لا بالبيان. يردون عليه: " إن هذا إلا أساطير الأولين" (6: 25 ؛ 8 : 31 ؛ 23 : 83 ؛ 27 : 68)؛ " واذا قيل لهم: ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: أساطير الأولين" (النحل 24)؛ " وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها ، فهى تملى عليه بكرة وأصيلاً" (الفرقان 5). فليس، فى الحوار، شىء ينبئ أن التحدى كان بالإعجاز البيانى ؛ وكله يشير إلى أنه كان بالاعجاز الدينى: تعليمه فى القرآن" اساطير الأولين اكتتبها" ، أو نزلت عليه.

سادساً: صفة القرآن بين الحق والسحر

وصفتهم المتواترة للقرآن برهان آخر على أنه بالهدى، لا بالبيان، ولو أن من البيان لسحراً. يردون عليه: " ما هذا إلا سحر مفترى " (القصص 36)- وذلك فى السورة عينها الذى بدأ فيها يتحداهم بالهدى (القصص 49)- " قالوا: سحران تظاهرا ، وقالوا: إنا بكل كافرون! - قل: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين" (القصص 48 - 49). يردون على هدى القرآن بأنه سحر، كما أن هدى الكتاب سحر. فهما فى سحر الهدى سيان؛ " سحران تظاهرا". ويستمر الرد: " إن هذا إلا سحر يؤثر" (المدثر 24)، " ويقولوا: سحر مستمر" (القمر 2). يردون عليه كما رد قوم فرعون على موسى: " فلما جاءكم الحق من عندنا، قالوا: إن هذا لسحر مبين! قال موسى: أتقولون للحق لما جاءكم: أسحر هذا؟ ولا يفلح الساحرون" (يونس 76 – 77). فهم يصفون " الحق " المنزل بالسحر، لا سحر البيان.

سابعاً: الاستشهاد المتواصل بالكتاب

إن نسبتهم القرآن، " لما جاءهم الحق من عندنا" ، بالسحر كسحر الكتاب؛ وتسمية " ما أنزل ربكم" بأساطير الأولين؛ ورده عليهم " فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما" ؛ مع الاستشهاد المتواصل بالكتاب وأهله ، الذى يغمر التحدى بالاعجاز، ويسبقه ويخلفه، برهان آخر على ان التحدى كان بالاعجاز الدينى، لا بالاعجاز البيانى.

ثامناً: ماذا يهم الله وسوله؟

وهل يهم الله ورسوله الإعجاز الدينى، أم الإعجاز البيانى؟ اللباب، أم الثياب؟ الجوهر، أم المظهر؟ فقولهم أن الإعجاز البيانى هو معجزة القرآن، يدل على وثنية فى الدين، فالقرآن صريح بأنه يتحدى المشركين - لا الكتابيين - بإعجازه الدينى، لا بإعجازه البيانى؛ بهداه، لا ببيانه؛ بمعناه، لا بحرفه؛ بروحه، لا بجسمه؛ بحقه، لا بنظمه. فنقدر أن نقرر، بناءً على الواقع القرآنى المتواتر، وبناءً على تقدير العقل السليم، ان التحدى بالنظم والبيان، لا أصل له فى القرآن.

تاسعاً: الإعجاز اللغوى لم يقل به السلف الصالح

السلف الصالح، من الأمة والأئمة، لم يعرفوا قضية الاعجاز، ولم يقولوا بها. ولو كانت من صلب الاسلام، ومن صميم القرآن، لقال بها الصحابة والتابعون، والأئمة الأولون. إن قصة الإعجاز البيانى طلع بها المعتزلة. ولما قالوا: " بمجاز القرآن" - وهو أساس الإعجاز فى البيان - تحرج منه أهل السنة والحديث. " والرأى عندهم أنه لا يصح التجوز فى كلام الله؛ والمجاز من الضرورات التى لا يلجأ إليها القرآن - إذا صح وجودها - أو اضطر إليها البشر من الشعراء والبلغاء فى كلامهم. وما ذلك إلا لقصر باعهم، وضعف أداتهم، ولا يأتى به الله فى كلامه، وهو أعرف بموضع الكلم ومواقفه. وهؤلاء يرون فى المبالغة (بنت المجاز) كذباً؛ ولا يصح أن تقع فى كلام الله؛ وخير الكلام، وخير الشعر عندهم، المذهب الوسط الذى يأتى لفظه على قياس معناه. ومن آرائهم أيضاًَ عدم وجود الزيادة أو النقصان فى القرآن" . فالاعجاز المبنى على المجاز، يقود فى عرفهم إلى المبالغة الكاذبة، وإلى الزيادة والنقصان، فى بيان القرآن. وهذا كله وارد فى المجاز، الذى هو أساس الإعجاز. لذلك استنكر أهل السنة والحديث، فى البدء ، القول " بمجاز القرآن" ، واعتبروا مقالة الاعجاز فى البيان، بدعة لا تقوم فى الدعوة.

___________________________________

(1) محمد زغلول سلام: أثر القرآن فى تطور النقد، ص 103

 

عاشراً: قول التاريخ

 

وجاء تاريخ الاعجاز يؤيد مقالتهم، بإفلاس أهل الاعجاز، فى بيان وجه الاعجاز. وفى خاتمة المطاف، بعد ألف سنة، يعتبرون اعجاز القرآن " سراً محجوباً عن الأنظار" . " فقامت جهود العلماء، فى دراسات القرآن، على جلاء تلك المسائل، لحل اللغز الذى حير الناس - وهو الاعجاز. وكانت محاولات شتى للوصول إلى حل له، والاهتداء إلى تعليل. عللوه أولاً بمسائل فلسفية كلامية ؛ لكنه لم يستقم، وقامت حوله اعتراضات ومطاعن. واجتنبوا به ناحية بيانية، فتوصلوا إلى نتائج خدمت الأدب والنقد جميعاً" . لكنها لم تحل اللغز، ولا كشفت عن سر الاعجاز. وما هو سر محجوب عن البشر، لا يكون معجزاً لهم. " وما لا يمكن الوقوف عليه، لا يتصور التحدى به" . فالقول بالاعجاز فى البيان معجزة القرآن، لا أصل له فى القرآن.

(1) عبد الكريم الخطيب: اعجاز القرآن 1 : 36 و 125

(2) محمد زغلول سلام: أثر القرآن، ص 357

(3) السيوطى: الاتقان 2 : 117

التالي