بحث ثان
الإعجاز فى أسماء القرآن
يسمى القرآن العربى نفسه: القرآن والفرقان والكتاب والذكر والحكمة.
فهل هى اسماء عربية، أم دخيلة؟
نرجع فى ذلك الى فصل قيم عند السيوطى فى (الاتقان 1 : 51 – 53).
أولاً: اسم " القرآن" وفيه خمسة أقوال
1) " هو اسم علم، غير مشتق، خاص بكلام الله؛ وغير مهموز. به قرأ ابن كثير. وهو مروى عن الشافعى. أخرج البيهقى والخطيب وغيرهما عن أنه يهمز (قراءة) ولا يهمز(قرآن). ويقول: القرآن اسم، وليس بمهموز، ولم يؤخذ من (قراءة). ولكنه اسم لكتاب الله مثل التوراة والانجيل".
ويرد عليه، بشأن العلمية ان القرآن يسمى الكتاب والزبور أيضاً قرآناً.
2) " وقال قوم - منهم الأشعرى - هو مشتق من (قرنت الشىء بالشىء) اذا ضممت أحدهما الى الآخر، وسًُمى به لقران السور والآيات والحروف فيه".
ويرد عليه بقوله: " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا" (الاعراف 204)؛ " واذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً" (الاسراء 45)! " فاقرأوا ما تيسر من القرآن" (المزمل 20).
3) " وقال الفراء: هو مشتق من القرائن، لأن الآيات منه يصدق بعضها بعضاً ويشابه بعضها بعضاً، وهى قرائن". يضيف السيوطى: وعلى القولين (قول الأشعرى، وقول الفراء) هو بلا همز أيضاً، ونونه أصلية".
يرد عليه بأنه اشتقاق بعيد؛ وينفيه جمع القرآن إلى الفعل (قرأ) فى آياته.
4) " وقال الزجاج: هذا القول (بلا همز) سهو؛ والصحيح أن ترك الهمزة فيه من باب التخفيف، ونقل حركة الهمز إلى الساكن قبلها . . . وهو وصف على فعلان مشتق من (القرء) بمعنى الجمع، ومنه (قرأت الماء فى الحوض) اى جمعته. قال أبو عبيدة: " وسمى بذلك لأنه جمع السور بعضها إلى بعض".
يرد عليه بأن إثبات الهمز فيه هو الصحيح؛ لكن اشتقاقه من (القرء) بمعنى الجمع بعيد، ينفيه نص القرآن على جمع الفعل والوصف معاً: " قرأت القرآن".
5) واختلف القائلون بأنه مهموز (هل هو مصدر أم وصف). فقال قوم منهم اللحيانى: " هو مصدر (قرأت) كالرجحان والغفران؛ سمى به الكتاب المقروء من باب تسمية المفعول بالمصدر".
يُرد عليه: بأن الاشتقاق من (قرأ) صحيح لغة ً، ومنسجم مع قوله المتواتر: قرأت القرآن". ويضيف السيوطى: " والمختار عندى فى هذه المسألة ما نص عليه الشافعى ".
ونقول: إن هم المفسرين هو تفسير القرآن لغة ً لا اصطلاحاً حيث الاصطلاح ظاهر. ويظهر لنا أن اسم القرآن علمُ اقتبسه القرآن العربى.
إن (دائرة المعارف الاسلامية) تميل إلى رأى المستشرقين شفالى ( Schwally) وولهاوزن (Wellhausen) بأن اسم (القرآن) كلمة عبرية أو سريانية، لأن (قرأ) بمعنى (تلا) ليست
كلمة عربية النسب، ولكنها دخيلة على اللغة. " والواقع ان العرب قد عرفوا لفظ (قرأ) بمعنى غير معنى التلاوة. فهم يقولون: هذه الناقة لم تقرأ سلى قط ، يقصدون انها لم تضم، بمعنى لم تلد ولداً. أمّا قرأ بمعنى (تلا) فقد أخذها العرب من أصل آرامى وتداولوها. فمن المعروف كما يقول (برجشتراسر) ان اللغات الآرامية والحبشية والفارسية تركت فى العربية آثاراً لا تُنكر لأنها كانت لغات الأقوام المتمدنة المجاورة للعرب فى القرون السابقة للهجرة" .
وعندنا ان القرآن العربى أخذها عن السريانية، كما كان يسمعها النبى من استاذه ورقة بن نوفل، قس مكة النصرانى، الذى كان يصلى بالسريانية والعربية. والى اليوم تستفتح الكنيسة الشرقية تلاوة الكتاب أو الانجيل بقولها: " قريانا من الإنجيل بحسب متى" ، وباليونانية " ?? ????????? ". فالقرآن هو قرآن من الإنجيل، أو قرآن من الكتاب. وعلى هذا الاستعمال جاء فى مطلع القرآن العربى - بعد الأمر: " اقرأ باسم ربك الذى خلق" - " ورتل القرآن ترتيلا" (المزمل 4). لم ينزل من القرآن العربى شىء بعد سوى خمس آيات (العلق): فما هو " القرآن" الذى يدعى محمد فى قيام الليل لترتيله؟ ولاحظ التعريف والاطلاق فى قوله: " القرآن". فهو كتاب معروف مشهور، قبل نزول سمية العربى. وفى السورة عينها يأتى هذا التخفيف: " فاقرأوا ما تيسر من القرآن" (المزمل 20).
والقرآن اسم يطلقه القرآن العربى على الزبور: " خفف على داود القرآن " ! وعلى الكتاب كله: " ولقد أتيناك سبعاً من المثانى، و القرآن العظيم ... كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين " (الحجر 87 و 90 – 91) اى " اليهود والنصارى الذين جعلوا كتبهم المنزله عليهم (عضين) أجزاء، حيث آمنوا ببعض وكفروا ببعض" (الجلالان). فالكتاب هو " القرآن العظيم" الذى نزل أيضاً على محمد. ولقد أوتى أيضاًَ " سبعاً من المثانى " اى من " المشنة" ، السنة التى تفصل الكتاب، ولذلك تسمى أيضاً الفرقان.
لذلك يستفتح كثيراً من السور بالقسم: " ق. والقرآن المجيد" ؛ والقرآن ذى الذكر" ؛ " يسن. والقرآن الحكيم". إنه يقسم بالكتاب المقدس، ويسميه القرآن، على أن ما يقوله القرآن العربى فى السورة التالية حق. ولا يصح أن يكون المقسم به، والمقسم عليه، واحداً.
ونرى أنه يعنى الكتاب المقدس بقوله: " وإذا قرئ القرآن" (7 : 204)، " فإذا قرأت القرآن" (16 : 98)، " و إذا قرأت القرآن" (17 :45)، " واذا قرئ عليهم القرآن" (84 :21). كما يظهر من مطالع بعض السور، بحرف الإشارة الى البعيد الماضى، لا إلى ما يأتى فى السورة: " تلك آيات القرآن" (27 : 1)، " تلك آيات الكتاب وقرآن مبين" (15 : 1).
__________________________________
(1) صبحى الصالح: مباحث فى علوم القرآن ص 11
وتظهر صحة ذلك من ذكر القرآن العربى بقرينة تميزه وتدل عليه، كقوله: " وأوحى الى هذا القرآن" (6 : 19)، " اليك هذا القرآن" (12 : 3)، " وقالوا: لولا نُزّل هذا القرآن" (43 : 31) ، " وما كان هذا القرآن " (10 : 37)، " لا تسمعوا لهذا القرآن" (41 : 26)، " إن هذا القرآن يهدى" (17 : 9)، "ولقد صرفنا فى هذا القرآن" (17: 41)، "بمثل هذا القرآن" (17: 88)، " إن هذا القرآن يقص" (27 : 76)، " اتخذوا هذا القرآن" (25 : 30)، " لن نؤمن بهذا القرآن، ولا بالذى بين يديه" (34 : 31). فهو يطلق اسم القرآن على نفسه وعلى الكتاب. ولاحظ التعبير المعرف المطلق حين يقصد الكتاب المقدس، والاشارة، القرينة المميزة، حين يقصد القرآن العربى. إن اختلاف الاسلوب المطرد، دليل على اختلاف المدلول عليه. فمنذ غار حراء جاء الأمر بأن ينضم إلى المسلمين من قبله ويتلو معهم القرآن: " وأمرت بأن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن" (النمل 91 – 92). فالقرآن العظيم موجود قبل محمد، وهو يؤمر بأن يتلوه مع "المسلمين" من قبله. وبمقارنة قوله فى القرآن العربى انه " تفصيل الكتاب" (يونس 37)، مع قوله: " ولقد يسرنا القرآن للذكر" (54 : 17 و 22 و 32 و 40)، يظهر أنه يقصد الكتاب المقدس بتعبير "القرآن" على الاطلاق. والبرهان يقوم على الشواهد والقرائن مجتمعة.
فالقرآن اسم علم ، غير مشتق - وقد يصح اشتقاقه من (قرأ) السريانية لا العربية - يُطلق على الكتاب والإنجيل، أو على تلاوة كريمة منهما. وبهذا الاستعمال دخل فى القرآن العربى الذى هو " تفصيل الكتاب" (يونس 37).
فليس من اعجاز فى اسم القرآن ، كما يظن الجاحظ، ومن ينقلون عنه، كما نقل السيوطى: " قال الجاحظ: سمى الله كتابه اسماً مخالفاً لما سمى العرب كلامهم على الجملة والتفصيل؛ سمى جملته قرآناً كما سموا ديواناً؛ وبعضه سورة كقصيدة؛ وبعضها آيه كالبيت؛ وآخرها فاصلة كقافية".
نرد عليه بقول محمد صبيح : " وعبّر عن القرآن أيضاً بأنه: آيات الله. وكلمة ( آية) فى الرأى الراجح عبرية لأنها تشبه الكلمة العبرية (أوت) ot . ومن معانيها المعجزة. وكذلك كلمة ( سورة ) تشبه كلمة (سورا) sura ، وهى بنفس المعنى".
فسائر اسمائه معربة دخيلة. فليس فى استعمالها من اعجاز انفرد به.
ثانياً: اسم «الكتاب»
يطلق القرآن على نفسه اسم " الكتاب " أيضاً، لأنه " تفصيل الكتاب " (يونس 37)، " وهو الذى أنزل اليكم الكتاب مفصلاً ، والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق" (الأنعام 114). لاحظ ترادف الإسم الواحد بين القرآن والكتاب، مثل قوله أيضاً: " ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً" (الأحقاف 12)؛ وقوله: " فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه" (القصص 49). فكلمة " الكتاب " - " الكتاب، وألفاظ الكتابة من أصل آرامى" - هى علم مختص أولاً بكتاب الله الذى عند " أهل الكتاب" ، كما يسميهم بتواتر. فهم "أهل الكتاب" قبل العالمين.
ومما تجدر الإشارة إليه أنه لا يطلق اسم "كتاب الله" إلا على كتاب أهل الكتاب: " يدعون إلى كتاب الله " (3 : 23)، " بما استحفظوا من كتاب الله " (5 : 44)، " فى كتاب الله " (8 : 75 ؛ 9 : 36 ؛ 30 : 56 ؛ 33 : 6)، " نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم " (البقرة 101)، " إن الذين يتلون كتاب الله، وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرأ وعلانية يرجون تجارة لن تبور" (فاطر 29) - وهو إشارة إلى قوم من أهل الكتاب.
لا يرد تعبير " كتاب الله " إلا مرة واحدة بحق القرآن، باستعمال المصدر بدل الفعل: " ... والمحصنات من النساء، إلا ما ملكت إيمانكم - كتاب الله عليكم - وأُحل لكم ما وراء ذلكم" (النساء 24). فسره الجلالان: " نصب على المصدر اى كَتَبَ ذلك".
وعليه فتسمية القرآن: " الكتاب " اقتباس عن " أهل الكتاب" . والاعجاز فى الاسم يكون أولاً لما يسميه وحده بتعبير الاضافة: " كتاب الله ".
_________________________
(1) عن القرآن، ص 100
(2) صبحى الصالح: مباحث فى علوم القرآن، ص 13
ثالثاً: اسم "الذكر"
يسمى القرآن العربى نفسه أيضاً: الذكر، كما فى قوله: " الذى نزل عليه الذكر" (15 : 6)؛ " أَأُ نزل عليه الذكر من بيننا " (38 : 8)، " أَأُلقى الذكر عليه " (54 : 25)؛ " وأنزلنا اليك الذكر " (16 : 44)، " إنما تنذر من اتبع الذكر " (36 : 11)، " لما سمعوا الذكر" (68 : 51).
لكن " الذكر " على الاطلاق هو الكتاب المقدس الذى عند " أهل الذكر" (16 : 43 ؛ 21 : 7) اى " أهل الكتاب " . لذلك عندما يرد " الذكر" مطلقاً، غير مبَيّّن بقرينة، فهو يقصد الكتاب المقدس، كقوله: " فاسألوا أهل الذكر" (16 : 43 ؛ 21 : 7)؛ وكما فى هذا القسم الذى يستفتح السورة: " والقرآن ذى الذكر" ( 38 : 1)- ان ترادف الاسمين دليل على أنهما اسمان للكتاب المقدس، إذ لا يصح أن يكون المقسم به والمقسم عليه واحداً. لذلك أيضاً فإن قوله: " إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون" (الحجر 9) يقصد الكتاب المقدس قبل القرآن العربى، بسبب اطلاق التعبير وقرينة " أهل الذكر".
ومن الخطأ الشائع، كما يتردد فى الإذاعات، أن قوله: " ذلك نتلوه عليك من الآيات و الذكر الحكيم " (آل عمران 58) يقصد القرآن العربى، وهو إنما يعنى " بالذكر الحكيم" الإنجيل ، لأن الآية تأتى فى ختام ذكر آل عمران ومريم والمسيح (آل عمران 33 – 58).
فالقرآن العربى يستخدم اسم " الذكر" له، نقلاً عن " أهل الذكر" الذين يحيل سامعيه وسائليه إليهم: " وانه لذكر لك ولقومك" (43 : 44)؛ " لقد أنزلنا اليكم كتاباً فيه ذكركم، أفلا تعقلون" (الأنبياء 10)؛ " بل أتيناهم بذكرهم، فهم عن ذكرهم معرضون" (المؤمنون 71). فالذكر اسم مترادف بين الكتاب والقرآن : " هذا ذكر من معى وذكر من قبلى " (الأنبياء 24).
وعليه فتسمية القرآن العربى " بالذكر" اقتباس عن " أهل الذكر". والاعجاز فى الاسم يكون أولاً للكتاب الذى يصفه " بالذكر الحكيم".
رابعاً: "اسم الفرقان"
إن القرآن العربى يأخذ تعبير الفرقان على نوعين. أولاً بحسب اللغة ، كقوله: " يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان" (الأنفال 41)، لأن يوم بدر كان فارقاً بين الشرك والتوحيد. ولذلك يقول: " يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً" (الأنفال 29) اى " فرقاناً بينكم وبين ما تخافون، فتنجوا" (الجلالان).
وثانياً اصطلاحاً، كما فى قوله: " وإذ أتينا موسى الكتاب والفرقان " (البقرة 53)، " آتينا موسى وهارون الفرقان" (الأنبياء 48). فالفرقان أوتى موسى، وهو غير الكتاب. وكان يقصد به أهل الكتاب تفصيل الكتاب بالسنة المبينة له، ويسمونها " المشنة"، ونقلها الى العربية بتعبير " المثانى" كما فى قوله: " ولقد آتيناك سبعاً من المثانى والقرآن العظيم" (الحجر 87). فالقرآن والفرقان الذان أُوتيهما موسى، نزلا على محمد فى القرآن العربى. وهذا دليل على ان " لفظ القرآن فى الأصل آرامى" .
لذلك يصف القرآن العربى نفسه نصاً: " شهر رمضان الذى أُنزل فيه القرآن هدى للناس، وبيّنات من الهدى والفرقان" (البقرة 185). والهدى اصطلاحاً كتاب موسى: " ولقد آتينا موسى الهدى" (40 : 53)؛ والفرقان تفصيله. فالقرآن العربى هو بينات من الكتاب والفرقان.
فكما أنزل الله الكتاب على محمد، " نزّل الفرقان على عبده" (الفرقان 1). ويخطئ من يظن الفرقان مرادفاً للقرآن، لأن القرآن العربى " بينات من الهدى والفرقان" .
والحى القيوم الذى أنزل القرآن والتوراة والانجيل " هدى للناس؛ وأنزل الفرقان" (آل عمران 1 – 3) ، أنزل مع القرآن والتوراة والانجيل: الفرقان الذى يفصلها. وكما ان القرآن العربى " تفصيل الكتاب" ، فهو أيضاً تفصيل الفرقان. فقد " آتيناك سبعاً من المثانى" أى سبع قصص من الفرقان الذى فى " المشنة". وهذه قرينة حاسمة على ان قصص القرآن التوراتى يأتيه عن طريق التلمود، الذى منه " المشنة" أى المثانى التى تثنى الكتاب اى تفصله فهى فرقان له.
وعليه فاسم الفرقان مترادف بين تفصيل الكتاب وتفصيل القرآن.
والاعجاز فى الاسم يكون أولاً لما سُمى " الكتاب والفرقان" (البقرة 53).
____________________________
(1) صبحى الصالح: مباحث فى علوم القرآن، ص12
خامساً: اسم " الحكمة"
يأخذ القرآن كلمة " الحكمة" بمعنى لغوى، وبمعنى اصطلاحى فات الكثيرين.
بالمعنى اللغوى يقول: " وآتيناه (داود) الحكمة" (38 : 20)؛ كذلك " وآتاه الله الملك والحكمة" (2 : 251)؛ " ولقد آتينا لقمان الحكمة" (31 : 12)، " يُؤتى الحكمة من يشاء، ومن يُؤت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً" (2 : 269).
ومرة واحدة، بهذا المعنى اللغوى، يسمى القرآن نفسه " حكمة بالغة" فى قوله: " ولقد جاءَهم من الأنباء ما فيه مزدجر، حكمة بالغة فما تُغْن النذر، فتول عنهم" (القمر 4 – 6).
فتأتى الكلمة بالمعنى اللغوى خمس مرات؛ لكن بالمعنى الاصطلاحى سبع عشرة مرة.
يقول فى السيد المسيح: " وإذ علمتك الكتاب والحكمة - والتوراة والانجيل" (المائدة 110)؛ " ويعلمه الكتاب والحكمة - والتوراة والانجيل" (آل عمران 48). يظهر ان " التوراة والانجيل" عطف بيان على " الكتاب والحكمة" كما سيتضح مما يلى.
إن اصطلاح " الحكمة" كناية عن الانجيل يثبت من قوله: " ولما جاء عيسى بالبينات قال: قد جئتكم بالحكمة " (الزخرف 63). ويتضح ان الحكمة كناية عن الانجيل، بأخذها بحرفها العبرانى والآرامى: " الحُكْمَ" ، فى استعارة التعبير المتواتر عن النصارى من بنى اسرائيل فى قوله: " اولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ... اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدهْ" (الانعام 89 – 90)، يؤمر بأن يقتدى بهدى النصارى من بنى اسرائيل، لا بهدى اليهود. وقد آتاهم الله التوراة والحكمة والنبوة، تمييزاً لهم من الذين أوتوا فقط " النبوة والكتاب" (29 : 27 ؛ 57 : 26) اى اليهود. وتنجلى الكناية فى قوله: " ولقد آتينا بنى اسرائيل (اليهود والنصارى) الكتاب والحكم والنبوة، ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين، وآتيناهم بينات من الأمر: فما اختلفوا (يهود) إلا من بعد ما جاءَهم العلم، بغياً بينهم" (الجاثية 16 - 17) - والعلم أيضاً كناية عن العلم
الانجيلى الموجود مع " الراسخين فى العلم" ، " أولى العلم قائما بالقسط" (آل عمران 7 و 17) - فهذه القرينة اللفظية والمعنوية دليل على ان اهل " الكتاب والحكم والنبوة" هم النصارى من بنى اسرائيل، وان " الحكم" ، بحرفه الأرامى، كناية عن الانجيل. والقول الفصل فى الكناية بالحكمة او " الحكم" عن الانجيل فى قوله بحق المسيح: " ما كان بشر أن يُؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة، ثم يقول للناس: كونوا عبادًا لى من دون الله" (آل عمران 79). فيثبت من هذه المواطن الأربعة أن "الحكمة" كناية عن الانجيل؛ وحرفها الأرامى " الحكم" خير شاهد. ويثبت كذلك ان الترادف فى قوله بحق المسيح " الكتاب والحكمة - والتوراة والانجيل" (آل عمران 48 ؛ المائدة 110) هو عطف بيان.
يؤيد ذلك تاريخ النبوة والكتاب: " فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة" (النساء 54) الى التوراة والانجيل. كما أخذ الميثاق على الأنبياء وقومهم حتى محمد: " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين: لما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءَكم رسول مصدّق لما معكم، لتؤمنُنَّ به ولتنصرنه" (آل عمران 81). فما الذى نزل قبل محمد: أليس الكتاب والحكمة اى التوراة والانجيل؟ فالنبى الأمى " يجدونه مكتوباً عندهم فى التوراة والانجيل" اى الكتاب والحكمة (الاعراف 156). إن تواتر القرائن اللفظية والمعنوية شهادة جامعة مانعة.
لذلك كله، عندما يصرح: " وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة، وعلمك ما لم تكن تعلم" (النساء 113)، " واذكروا نعمة الله عليكم، وما أُنزل عليكم من الكتاب والحكمة" فى القرآن (البقرة 231)، فهو يعنى التوراة والانجيل. كذلك عندما يصرح فى دعاء ابراهيم واسماعيل: " ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم، يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، إنك انت العزيز الحكيم" (البقرة 129)، فهو يقصد التوراة والانجيل.
وتتضح مهمة النبى والقرآن قوله المتواتر ثلاث مرات:
" كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم، يتلو عليكم آياتنا، و يزكيكم ،ويُعلمكم الكتاب والحكمة ، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون" (البقرة 151)؛ " لقد مَنّ الله على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وان كانوا من قبل لفى ضلال مبين" (آل عمران 164)؛ " هو الذى بعث فى الأميين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبلُ لفى ضلال مبين" (الجمعة 2).
ونقارن أنه " يعلمهم الكتاب والحكمة" ، لأنهم غفلوا عن دراستهما: " أن تقولوا: إنما أُنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وإنْ كنا عن دراستهم لغافلين" (الأنعام 156). فالكتاب الذى أُنزل على طائفتين من قبلهم انما هو التوراة والانجيل اى الكتاب والحكمة.
إن مهمة النبى الأمى مزدوجة: يتلو عليهم آيات الله فى الكتاب بصيغتيه التوراة والانجيل؛ ثم " يعلمهم الكتاب والحكمة" اى التوراة والانجيل، فى القرآن العربى. ونلاحظ ان التزكية ، فى المواضع الثلاثة تأتى بعد تلاوة آيات الله فى الكتاب، وقبل ان " يعلمهم الكتاب والحكمة" بالقرآن. وهكذا فإن القرائن كلها مجتمعة تعطى شهادة جامعة مانعة بأن " الكتاب والحكمة" كناية عن التوراة والانجيل. " فالحكمة" فى اصطلاح القرآن الخاص هى كناية عن الانجيل .
والنتيجة الحاسمة أنه عندما يقول؛ " ذلك مما أوحى اليك ربك من الحكمة" (الاسراء 39) - فى تعليمه السابق (الاسراء 23 – 39) - انما يقصد الانجيل.
وعندما يقول: " ادعُ الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" (النحل 125)، فهو قد يقصد المعنى اللغوى، ولكن قد يعنى بالحرى المعنى الاصطلاحى: فدعوة القرآن وجداله بالتى هى أحسن، انما هما للانجيل. يؤيد ذلك قوله مرتين: " ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير" (لقمان 20 ؛ الحج 8). فقوله: " أنزلناه حكما (حكمة) عربياً" (13 : 37) يعنى أنزلناه انجيلاً عربياً: فدعوته " نصرانية".
وعندما يقول لنساء النبى: " واذكرن ما يُتلى فى بيوتكنَّ من آيات الله، والحكمة" (الاحزاب 34)، فان اقتران " الحكمة" بآيات الله يدل على المعنى الاصطلاحى. لذلك فقد يكون ما يقصد القرآن؛ ولكن بالحرى قد يعنى آيات التوراة والانجيل، لأن التلاوة للآيات متميزة عن تعليم " الكتاب والحكمة" كما مر بنا (البقرة 151 ؛ آل عمران 164 ؛ الجمعة 2). ففى بيوت نساء النبى كانت تُتلى آيات الله فى التوراة والانجيل ، ثم يتعلمن " الكتاب والحكمة" بالقرآن.
وهكذا فدعوة محمد كانت تعليم " الكتاب والحكمة" اى التوراة والانجيل معاً؛ كما يعلن: " قل: يا أهل الكتاب لستم على شىء حتى تقيموا التوراة والانجيل وما انزل اليكم من ربكم" (المائدة 68)؛ فإنه هكذا قد أُمر: " اولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم (الحكمة) والنبوة ... اولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتده" (الانعام 89 – 90).
_____________________________
(1) كلمة " مصحف" هى أيضاً دخيلة من المسيحية الحبشية: " أخرج ابن اشته . . . ثم ائتمروا ما يسمونه. فقال بعضهم: سموه السفر. قال: ذلك تسمية اليهود؛ فكرهوه. فقال: رأيت مثله بالحبشة يُسمى المصحف، فاجتمع رأيهم على أن يسموه المصحف" ( الاتقان 1 : 59). ففى اسماء القرآن يقتبس النبى وتقتبس صحابته عن النصارى.
فتعبير "الحكمة" اصطلاح ثابت، كناية عن الانجيل، لا كما يقولون: " ومعنى الحكمة فى القرآن، فى أكثر الاحيان، سنة النبى. ولا خلاف فى تقرير هذا المعنى" . فالقرائن القرآنية كلها تنقض هذا المعنى المتواتر عندهم.
وعليه فاسم " الحكمة" مترادف بين الانجيل والقرآن؛ دخيل على القرآن بحرفه الآرامى نفسه: " الحكم" . والاعجاز فى الاسم يكون للأسبق.
____________________________________________
(1) محمد صبيح: عن القرآن، ص 100 |