بحث ثالث
الإعجاز ما بين واقع القرآن والتاريخ
يقوم الاعجاز فى لغة القرآن على فصاحة مفرداتها، وعلى بلاغة تراكيبها، وعلى براعة نظمها فى اسلوبها. وهذا قائم لا مراء فيه، ولا جدال. وهذا هو واقع الاعجاز فى نظم القرآن.
لكن تحول دون اعتبار هذا الاعجاز القائم معجزة اعتبارات أخرى فى واقعه.
أولاً: المشكل القرآنى
الواقع الأول فى تنزيل القرآن وفى جمعه وتدوينه. يصرح القرآن أولاً: " أنزلناه قرآناً عربياً" (12 : 2 ؛ 20 : 113)؛ " أنزلناه حكماً (حكمة) عربياً" (13 : 37)؛ " قرآناً عربياً غير ذى عوج" (39 : 28)؛ " قرآناً عربياً لقوم يعلمون" (41 : 3)؛ فقد " أوحينا اليك قرآناً عربياً " (42 : 7). تلك تصاريح خمسة فى عروبة القرآن.
ويصرح ثانياً أنه نزل " بلسان عربى مبين" (الشعراء 195)؛ " وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً" (الاحقاف 12)؛ فلا مجال لتهمة اعانة الآخرين: " لسان الذى يلحدون اليه أعجمى، وهذا لسان عربى مبين " (النحل 103). وهذا الواقع يقوم على هذا المبدأ العام: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم" (ابراهيم 4). تلك تصاريح أربعة ان القرآن بلسان عربى مبين، وهى تشهد بإعجاز بيانه فى لسانه.
الواقع الثانى أن القرآن نزل على سبعة أحرف " باختلاف الألفاظ واتفاق المعانى" كما يقول الطبرى وأكثر العلماء معه - والعدد ليس للإحصاء بل للرمز - وقُرئ بحضرة النبى، وعلى أيام الخلفاء الراشدين، أئمة الصحابة، بتلك الأحرف السبعة. وفسروها بأنها سبع لغات مختلفة : " لغة قريش، ولغة اليمن، ولغة جرهم، ولغة هوازن، ولغة قضاعة، ولغة تميم، ولغة طى" ( الاتقان 1 : 50 قابل دروزة : القرآن المجيد، ص 269 ! ومحمد صبيح: عن القرآن، ص 109 ) كما ذهب اليه كثير من العلماء مثل ابى عبيد وتعلب والزهرى. ومن اعترض عليهم بان لغات العرب أكثر من سبع، أجابوا بان المراد هو أفصحها.
فكيف ينسجم هذا الواقع القرآنى الثانى مع الواقع القرآنى الأول؟
الواقع الثالث أن القرآن نزل بلغة قريش؛ وأنه جُمع ودون بلغة قريش، بأمر عثمان: " وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت (الانصارى) فى شىء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم. ففعلوا" ( الاتقان 1 : 61 ) .
" قال بن التين وغيره: وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف فى وجوه القراءة، حتى قرأوه بلغاتهم، على اتساع اللغات ... واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محتجاً بأنه نزل بلغتهم ، وان كان قد وُسع فى قراءَته بلغة غيرهم، رفعاً للحرج والمشقة فى ابتداء الأمر. فرأى أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت فاقتصر على لغة واحدة ( الاتقان 1 : 61 ) .
فكيف ينسجم هذا الواقع الثالث " فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم" - مع الواقع الثانى أنه نزل وقُرئ على سبعة أحرف، اى سبع لغات، " باختلاف الألفاظ واتفاق المعانى" ؟
ثانياً: المشكل التاريخى
وهذا الواقع القرآنى الثلاثى المتعارض يقوم على المشكل التاريخى فى وحدة اللغة العربية أو اختلافها الى لغات، فى زمن النبى العربى.
يقول البعض، مثل العقاد، بوحدة اللغة العربية فى الحجاز، واليمن، والشمال، كما يظهر من الشعر الجاهلى: " وليس أكثر من العسف الذى يلجأ اليه منكروا الوحدة فى لغة الجزيرة قبل البعثة المحمدية بجيلين أو ثلاثة أجيال. وان اعتساف التاريخ هنا لأهون فى رأينا من اعتساف الفروض الأدبية التى لا تقبل التصديق. فما من قارئ للأدب يسيغ القول بوجود طائفة من الرواه يلفقون أشعار الجاهلية كما وصلت الينا، ويفلحون فى هذا التلفيق ... فهذه النقائض التى تحاول أن تشككنا فى وحدة اللغة العربية قبل الاسلام يرفضها العقل لأن قبولها يكلفه شططاً ولا يوجبه بحث جدير بالاقناع. فمما يتكلفه العقل،
اذا تقبلها، ان يجزم - كما تقدم - بانقطاع عرب اليمن عن داخل الجزيرة كل الانقطاع، وأن يجزم ببقاء لغة قحطانية تناظر اللغة القرشية فى الجيلين السابقين للبعثة المحمدية، غير معتمد على أثر فى ذاكرة لأحياء، ولا فى ورق محفوظ . وأن يلغى كل ما توارثه العرب عن أنسابهم وأسلافهم، وهم أمه تقوم مفاخرها على الانساب وبقايا الاسلاف. وان يفترض وجود الرواة المتآمرين على الانتحال بتلك الملكة التى تنظم أبلغ الشعر وتنوعه على حسب الأمزجة والدواعى النفسية والأعمار. وأن يفهم أن القول المنتحل مقصور على الأسانيد العربية مبطل لمراجعها، دون غيرها من مراجع الأمم التى صح عندها الكثير مما يخالطه الانتحال والكذب الصريح ... أما المستحيل، أوشبه المستحيل، فهو تزوير أدب كامل يُنسب الى الجاهلية" (العقاد: مطلع النور، ص 39 – 44 - فى مجموعة: العبقريات الاسلامية) .
أجل لا تختص الأمة العربية بالانتحال والكذب فى أدبها وأسانيده، هذا واقع فى أدب جاهلية سائر الأمم. لكن الانتحال فى الشعر الجاهلى يُقارن بالانتحال فى الحديث الشريف؛ وانتحال الشعر أخف وطأة من انتحال الحديث الشريف.
وبناء وحدة اللغة القحطانية واللغة القرشية، على الرحلات والهجرات بين بنى قحطان وبنى عدنان، بين العرب العاربة والعرب المستعربة، ينقضه تاريخ العرب قبل الاسلام، وواقع الحياة والمواصلات بين الأمم فى أيامنا. ينزح قوم بلغتهم الى أرض غيرهم فيحافظون على لغتهم ويتعلمون لغة الوطن الجديد. والتجار الدوليون، قديماً وحديثاً يتعلمون لغات القوم الذين معهم يتاجرون؛ فلا غرو اذا عرف عرب الجنوب وعرب الحجاز وعرب نجد والشمال بعضهم لغات بعض، مع تمايزها واختلافها بالالفاظ والأعراب، للقيام خير قيام برحلات الشتاء والصيف ما بين الجنوب والشمال؛ وكانت قريش سادة القوم فى ذلك، وكان محمد فى تجارة خديجة سيد الاسياد فى معرفة اللغات غير لغته القومية، كما سنرى عن قريب.
فإن القائلين بتعدد اللغات فى الجزيرة العربية، حتى قبل البعثة المحمدية بجيلين أو ثلاثة أجيال، إنما يعتمدون على قيام دولة التبابعة فى اليمن يتصارع عليها وعلى أرضها الاستعمار الحبشى والفارسى؛ وعلى النصوص الحميرية التى اكتشفها الاستاذ جويدى ، والتى نرى فيها أنها تختلف اختلافات كثيرة جداً عن اللغة الحجازية القرشية التى نعرفها من القرآن.
ونحن نؤيد ما نقله الاستاذ محمد صبيح، " عن القرآن" من الدكتور طه حسين، والطبرى، والسيوطى، فى تعدد اللغات العربية فى الجزيرة، وتعدد النص القرآنى إلى سبعة أحرف أو لغات. يقول ( عن القرآن، ص 101 الخ) : " وأحدث هذه الدراسات وأقومها إلى الآن ما ذكره الدكتور طه حسين فى كتابه (الأدب الجاهلى). فقد أحاط فى موضوعه بآراء المحدثين والقدماء من المسلمين، كما أحاط بآراء المستشرقين. " قال ( الأدب الجاهلى، ص 29 الخ) : أثبت البحث الحديث خلافاً جوهرياً بين اللغة التى كان يصطنعها الناس فى جنوب البلاد العربية، واللغة التى كانوا يصطنوعها فى شمال هذه البلاد. ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف فى اللفظ وفى قواعد النحو، والتصريف أيضاً" - ويعود ذلك إلى تسمية أقوام مختلفة باسم جامع: العرب؛ الجزيرة العربية، وكلاهما يقصر ويمتد كما يشاؤون؛ حتى جمعوا الأنباط ولغتهم وحضارتهم إلى العرب؛ والبابليين فى عصرهم الأول فكانت حضارة البابليين وتشريعهم من عهد حمورابى حضارة عربية وتشريعاً عربياً. وشتان ما بين الأصل الجامع والفرع الطالع، ما بين المطالع والمجامع.
يقول محمد صبيح ( الاتقان 1 : 61 ) : " ومهما اختلف الباحثون، فقد أصبح واضحاً جلياً أن اللغة العربية فى الجاهلية لم تكن واحدة، يتفق نطقها وصرفها ونحوها، فبعد أن كشف الأستاذ جويدى عن نصوص الله الحميرية، وأثبت خلافها التام عن الله القرشية التى نعرفها اليوم، فى بنية ألفاظها وفى تركيب جملها، لم يعد هناك شك فى أن جزيرة العرب كانت مستقر شعوب لا شعب واحد. وكانت هذه الشعوب تنطق بلغات كثيرة قد تتفق بينها بعض الألفاظ ، كما تتفق اليوم بعض ألفاظ اللغة الفرنسية والانجليزية؛ ولكن كل لغة منها قائمة بذاتها مستقلة استقلالاً، لا شك فيه . . . وقد عبر أبو عمرو بن العلاء عن هذا المعنى فى وضوح تام". ثم يقول: " وكما كانت فى الجنوب - حيث وجدت دول ثابتة، وقامت حضارات بقيت آثارها إلى اليوم - لغات مختلفة منها الحميرية والسبئية والمعينية، فكم بالأحرى فى الحجاز والشمال بين فوضى القبائل. إن ما يصدق على اليمن، يصدق أيضاً على البحرين، وما يصدق على هذه يصدق على الحجاز ؛ وما يصدق عليها جميعاً يصدق على
شمال الجزيرة حيث كان يقيم المناذرة الغساسنة يتصلون بحضارة فارس ومجوسيتها، وبحضارة بيزنطية ومسيحيتها" .
والشاهد على اختلاف لغات قبائل الحجاز حديث الأحرف السبعة التى قرئ بها القرآن: " إن القرآن الذى تُلى بلغة واحدة، ولهجة واحدة، هى لغة قريش ولهجتها، لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته وتعدّدت اللهجات فيه، وتباينت تبايناً كثيراً ... وليست هذه القراءات بالأحرف السبعة التى أُنزل عليها القرآن. وإنما هى شىء وهذه الأحرف شىء آخر. فالأحرف جمع حرف. والحرف: اللغة . فمعنى " أنزل القرآن على سبعة أحرف" أنه أُنزل على سبع لغات مختلفة فى لفظها ومادتها ... وقد اتفق المسلمون على أن القرآن " أُنزل على سبعة أحرف" أى على سبع لغات مختلفة فى الفاظها ومادتها ... وقد اتفق المسلمون على أن القرآن " أُنزل على سبعة أحرف" اى على سبع لغات مختلفة فى ألفاظها ومادتها. واتفق المسلمون على أن أصحاب النبى تماروا فى هذه الأحرف والنبى بين أظهرهم. فنهاهم عن ذلك وألح فى النهى فلما توفى النبى استمر اصحابه يقرأون القرآن على هذه الأحرف السبعة" . يؤيد ذلك تفسير الطبرى.
ثالثاً: المشكل القائم المستعصى على الحل
نزل القرآن بلغة قريش ولهجتها - ولا يُعقل سوى ذلك. فكيف أصبح سبع لغات مختلفة فى الفاظها ومادتها؟ يقولون بأنه نزل على سبقه أحرف اى سبع لغات. وهذا خارق مخروق، لا يستسيغه عقل، ولا نقل. والحل السوى ان النص الواحد المنزل أصبح سبع نصوص، بسبب لغات القبائل المختلفة. وهذا رأى أبى شامة ينقله السيوطى: " إن القرآن نزل بلغة قريش ثم أُبيح للعرب أن يقرأوه بلغاتهم التى جرت عادتهم باستعمالها، على اختلافهم فى الألفاظ والاعراب. ولم يكلف احد منهم الانتقال عن لغة الى لغة اخرى للمشقة، ولما كان فيهم من الحمية، ولطلب تسهيل فهم المراد. وقيد البعض هذا النقل بما سمع عن النبى عليه الصلاة والسلام" (محمد صبيح: عن القرآن، ص 110 ) . أى أيد النبى هذا النقل من لغة قريش الى اللغات الاخرى.
ينتج من ذلك: أولاً وجود لغات مختلفة بين قبائل الحجاز، وثانياً تعدد نص القرآن الى سبعة نصوص مختلفة.
قد يقولون: إن عثمان أتلف كل النصوص إلا النص القرشى الذى نزل به وظل قائماً بين الصحابة من المهاجرين والانصار. والرد على ذلك أن عثمان أتلف مصاحف الصحابة أنفسهم، حتى الصحف التى جمعها زيد بن ثابت أول مرة على عهد ابى بكر، وثانى مرة على عهد عمر، وكانت أمانة عند السيدة حفصة زوج النبى وبنت عمر. فقد أتلفها عثمان بعد ان استأذن حفصة. فهل جمع وتدوين عثمان أصح وأقرب الى زمن النبى من جمع وتدوين عمر وأبى بكر؟ ولو أسندوا الجمع فى أطواره الى رئاسة زيد بن ثابت الانصارى.
وبسبب تعدد اللغات، هل يُبنى اعجاز منزل، على لغة المصحف العثمانى ؟
(1) فى كتابنا الأول (اعجاز القرآن) أفردنا فصلاً للشبهة القرآنية التاريخية القائمة على تنزيل القرآن و تدوينه بلغة قريش ، وعلى قراءته فى المصحف العثمانى بلغة نجد والشعر الجاهلى. فنقل حرف القرآن من لغة قريش الى لغة نجد والشعر الجاهلى شبهة ضخمة قائمة على صحة الحرف العثمانى وبالتالى على صحة اعجازه اللغوى (ف 4 : 16 - 21). |