التالي

بحث رابع

هل عرف " النبى الأمى" وأهل مكة لغات أجنبية؟

قضية ثانية فى لغة القرآن: لغة مكة ومعرفة محمد اللغات الأجنبية.

أولاً: شهادة القرآن

إن القرآن يشهد مباشرة بقيام لغات أعجمية فى مكة، ومداورة بأن النبى كان يعرف تلك اللغات الأعجمية.

الشهادة الأولى: " ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشر! - لسان الذى يلحدون اليه أعجمى، وهذا لسان عربى مبين" (النحل 103).

الشهادة الثانية: " ولو جعلناه قرآناً أعجمياً، لقالوا: لولا فُصلت آياته! أأعجمى وعربى" ؟ (فصلت 44).

نلاحظ عابرأ أن التفصيل، فى لغة القرآن، يعنى التعريب. فقوله: ان القرآن " تفصيل الكتاب" (يونس 37) يعنى تعريب الكتاب، بحسب اصطلاح القرآن.

يقول محمد صبيح : " ومن هنا (الرحلات من وإلى مكة والاستيطان فيها) يمكن أن نقرر : ان أهل مكة عرفوا لغات أجنبية الى جانب لغتهم الأصلية. وان اللغة الأصلية نفسها تأثرت بهذه اللغات التى تنتقل الى مكة من الأجانب المقيمين بها أو تنتقل اليها مكة فى متاجرها. وقد كونت هذه الرحلات وهذه الاتصالات، الى جانب التأثير اللغوى، ثقافة غير هينة ؛ كما وُجدت حركة تدوين وقراءة. هذا هو شأن مكة، ولغة أهلها".

ثانياً: شهادة الحديث

ويأتى الحديث فيثبت لنا معرفة محمد باللغات الأجنبية الموجودة بمكة ، والتى كان يتصل بها فى الجنوب والشمال، بحكم رحلاته التجارية، على رأس أضخم تجارة مكية.

يقول محمد صبيح : " ولم يقل أحد إن رسول الله لم يكن يعلم شيئاً من أمر هذه اللغات التى تأثرت بها مكة، وأمر هذه الثقافات التى ذابت فيها. بل أكثر من هذا، فإن لدينا من الحوادث ما يؤكد اتصال رسول الله ، وهو فى مكة ، بهؤلاء الأجانب، الذين كانوا يقيمون فيها، وكان يزورهم ويطيل صحبتهم . فقد روى عن عبيد الله بن مسلم قال : كان لنا غلامان روميان يقرأان كتاباً لهما بلسانهما ، فكان النبى صلى الله عليه وسلم يمر بهما فيقوم فيسمع منهما- ( اذن كان محمد يعرف اليونانية) - ورُوى عن ابن اسحاق أن رسول الله كثيراً ما كان يجلس عند المروة الى سبيعة، غلام نصرانى يقال له جبرْ، غلام لبعض بنى الحضرمى، وعن ابن عباس ان النبى كان يزور، وهو فى مكة، أعجمياً اسمه بلعام ، وكان المشركون يرونه يدخل عليه ويخرج من عنده - (وقد يكون حديثهما بالعربية، وقد يكون

بالفارسية) - وفى رواية اخرى ان غلاماً كان لحويطب بن عبد العزى، قد أسلم وحسن اسلامه، اسمه عائش أو يعيش، وكان صاحب كتيب ؛ وقيل هما اثنان جبر ويسار، كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرأان التوراة والإنجيل (بالعبرية واليونانية، أو بالسريانية) ؛ فكان رسول الله اذا مر عليهما وقف يسمع ما يقرأان. واذن فقد كان رسول الله يسمع ما يُقرأ فى الكتب، بلغة غير لغة مكة، وكان يفهم ما يتلى عليه" .

________________________

(1) عن القرآن، ص 116

(2) عن القرآن، ص 116 – 117

(3) عن القرآن، ص 117

هذه الروايات المتواترة تشهد بأن محمداً، بسبب اتصالاته فى مكة مع الاعاجم والسماع الى كتبهم ولغاتهم، وبسبب رحلاته التجارية مدة خمس عشرة سنة الى الجنوب حيث لغات اليمن، والى الشمال حيث الفارسية والسريانية واليونانية، كان يعرف عدة لغات أجنبية.

وهناك سبب أكبر يدل على معرفة محمد لغات أجنبية، وهو صحبته مدة خمس عشرة سنة لورقة بن نوفل، قس مكة، الذى بزواج محمد من ابنة عمه، كان يعده لدينه ولخلافته على جماعته. وكل المصادر تشهد بأن ورقة كان علامة مكة، يترجم التوراة والإنجيل الى العربية، من العبرية والسريانية واليونانية. وكان محمد يتتلمذ له، بدليل قصة فتور الوحى ومحاولة محمد للإنتحار، لدى وفاة ورقة. ألا تكفى محمداً نابغة العرب مدة خمس عشرة سنة، بجوار علامة كبير، ليأخذ عنه العبرية والسريانية واليونانية، لغات الكتاب الذى يترجمون؟

فالتاريخ والحديث يؤيدان ما جاء فى القرآن من اتصال محمد بأهل الكتاب وسماع كتبهم فى لغاتهم، زيادة على اتصالاته التجارية ومخاطبة الناس فى اوطانهم بلغاتهم.

لكن هذه الثقافة الواسعة شبهة قائمة على إعجاز القرآن كمعجزة منزلة.

ثالثاً: اللغات المختلفة فى المصحف العثمانى نفسه

ان الواقع القرآنى يشهد بوجود كثرة الألفاظ الأعجمية فى القرآن، وكثرة الألفاظ العربية المستعارة من قبائل غير قبيلة قريش، وذلك بعد التصفية العثمانية. وهذا ما يسمونه " غريب القرآن" . وقد كتب فيه الأقدمون الكتب. ونسبوا الى النبى هذا الحديث مرفوعاً أو موقوفاً: " أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه" . ونقدر أن نقسم غريب القرآن وغرائبه إلى خمسة أقسام .

التالي