بحث تاسع "في مقدمه ومؤخره" (الإتقان2 : 13)اولاً : التقديم والتأخير باب جميل في البيان وهو وافر في القرآن وقد وجد السيوطي لذلك عشر ة أنواع من الاسباب للتقديم : الأول التبرك، والثاني التعظيم، الثالث التشريف، كتقديم الذكر على الانثى... وتقديم موسى على هارون لاصطفائه بالكلام- وقدم هارون عليه في سورة (طه) رعاية للفاصلة- والشمس على القمر حيث وقع إلا في قوله (وجعل القمر فيهن نوراً، وجعل الشمس سراجاً)، فقيل لمراعاة الفاصلة ... ومنه تقد ي م الغيب على الشهادة في قوله (عالم الغيب والشهاد ة ) لأن علمه أشرف؛ وأما قوله (يعلم السر وأخفى) فأخر فيه رعايه للفاصلة. الرابع المناسبه وهي إما مناسبة المتقدم لسياق الكلام... واما مناسبة لفظ هو من التقدم والتأخر كقوله : " وله الأولى والآخرة"؛ وأما قوله : " فلله الآخرة والأولى" فلمراعاة الفاصلة ... الخامس الحث عليه والحض على القيام به حذراً من التهاون به، كتقديم الوصية على الدين في قوله : " من بعد وصية يوحى بها أو دين "- مع ان الدين مقدم عليها شرعاً. السادس السبق في الزمان أو باعتبار الانزال. السابع السببية. الثامن الكثرة. التاسع الترقي من الأدنى الى الأعلى." ومن هذا النوع ت أخير الأبلغ – وقد خرج عليه : الرحمن الرحيم، والرؤوف على الرحيم، والرسول على النبي وقوله : (وكان رسولاً نبياً). وذكر لذلك نكت أشهرها مراعاة الفاصلة . العاشر التدلي من الأعلى الى الأدنى؛" وخرج عليه ق و له (لا تأخذه سنة ولا نوم)، (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة)، (لن يستنكف المسيح ان يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون). فترى ان رعاية الفو ا صل قد تحمله على الشذوذ عن قواعد البيان في التقديم والتأخير. ثانياً : وهناك قسم أشكل معناه بحسب ظاهره فسروه بالتقديم والتأخير : كقوله : " فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم : انما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا" (التوبه55) وكررها بحذف (لا) (85). وأصله : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا؛ انما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة – فما النكتة البيانية في التأخير؟ وقوله : " ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً، وأجل مسمى" (طه129). وأصله : "ولولا كلمة سبقت من ربك، وأجل مسمى، لكان لزاماً – فما السر في التأخير ؟ وقوله : " أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، قي ّ ماً " (الكهف1). وأصله : أنزل على عبده الكتاب قي ّ ماً، ولم يجعل له عوجاً - فما نكتة التأخير في النظم والبيان؟ وقوله : " لهم عذاب شديد، بما نسوا، يوم الحساب" (ص26). فقوله (يوم الحساب) قد يتعلق (بما نسوا)، وقد يتعلق " بعذاب شديد" : فاشتبه الأمر بسبب النظم ، وقالوا اصله : لهم عذاب شديد يوم الحساب، بما نسبوا – فهل التأخير من محكم البيان؟ وقوله : " ولولا فضل الله عليكم ورحمته لا ت ّ بعتم الشيطان، إلا قليلاً" (النساء 83) فظاهر القول ان الله لم يعصم منهم الا القليل، واتبع الشيطان الأكثرون. أخرج ابن جرير الطبري قال : هذه الآية مقدمة ومؤخرة، انما هي (اذاعوا به إلا قليلاً ) منهم ولولا فضل الله ورحمته لم ينج قليل ولا كثير. لكن فاتهم ان بين التقديم والتأخير في هذه الآية بوناً شاسعاً لا يصح معه. فجاءت متشابهة، ليست من محكم البيان و التبيين. وقوله : " فقالوا أرنا الله جه رة " (النساء 153) – ظاهر السياق ان كلمة (جهرة) ترجع الى " أرنا الله"؛ ولكن يمنع من ذلك أنهم رأوا الله يتجلى على سيناء. فكان لا بد من ارجاع (جهرة) الى (فقالوا جهرة)- لكن ما الذي يلجئنا الى هذا التقديم والتأخير؟ وقوله : " واذ قتلتم ن فساً فاد ّ اراتم فيها " (البقرة72) – " قال البغوي : هذه اول القصة، وان كان مؤخراً في التلاوة ". فسؤالهم موسى كان بعد تخاصمهم، كما نظمه الواحدي : " واذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها فسألتم موسى فقال : ان الله يأمركم ان تذبحوا بقرة (67) – فهل من الاعجاز في البيان تقديم الجواب على السؤال؟ وهل في هذا التقديم والتأخير اعجاز في ترتيب القصة؟ وقوله : " أرأيت من اتخذ الهه هواه، أفأنت تكون عليه وكيلاً" (الفرقان43)؛ "أفرأيت من اتخذ الهه هواه، وأضله الله على علم... فمن يهديه من بعد الله؟" (الجاثية22)- فهل من يتخذ الهه هواه يضله الله على علم؟ وتكرار التعبير ليس هفوة بيانية؛ إنما هو مقصود متواتر. وظاهره غير باطنه. فقالوا : " والاصل (هواه الهه) لأن من اتخذ الهه هواه غير مذموم. فقدم المفعول الثاني للعناية به ". لكنه أخل بالمعنى في بيانه. وقوله : " أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى" – على تفسير أحوى بالأخضر وجعله نعتاً للمرعى اي (أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء) وأخر رعاية للفاصلة ، فأشكل المعنى . وقوله : " غرابيب سود" – " والأصل : (سود غرابيب) لأن الغربيب الشديد السواد" – فهل التقديم من الاعجاز في البيان ؟ وقوله : " فضحكت، فبشرناها " – والأصل : (فبشرناها فضحكت). فما النكتة البيانية في هذا التقديم والتأخير؟ وقوله : " ولقد همت به، وهم (يوسف) بها؛ لولا أن رأى برهان ربه " – والأصل لتنزيه يوسف عن الهوى والهم بها : (وهمت به، ولولا ان رأى برهان ربه ، لهم ّ بها). فالتقديم والتأخير هنا يوجب الاثم على النبي. نختم بقوله : " إني متوفيك ورافعك الي" (آل عمران55). وهذا يتعارض مع قوله : " وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله اليه" (النساء 157-158). لذلك أخرجوا عن ق ت ادة قال : هذا من المقدم والمؤخر، اي رافعك الي ومتوفيك. وفاتهم ما جاء قبلهما في سورة مريم : " والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا" (33)؛ وبعدهما في سورة المائدة : " وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت انت الرقيب عليهم (117). فليس في (آل عمران 55) تقديم وتأخير، بل تحقيق وتوكيد يترك آية (النساء157-158) متعارضة في ظاهرها مع ما قبلها ومع ما بعدها. ولا يرفع التعارض الا اسلوبها البياني، فهي اثبات في معرض النفي، رداً على كفرهم. |