التالي

بحث ثالث عشر

" في مطلق ه ومقيده " (الإتقان 2: 31)

هذا بحث آخر يكشف كثيراً من أسرار البيان القرآني ومدى اعجازه في تعبيره.

أولاً: مذهب القرآن في البيان الإطلاق في التعبير والأحكام

يقول السيوطي : " المطلق هو الدل على الماهية بلا قيد. وهو مع القيد كالعام مع الخاص.

" قال العلماء : متى وجد دليل على تقييد ال م طلق صير اليه؛ وإلا فلا، بل يبقى المطلق على اطلاقه، والمقيد على تقييده. لأن الله خاطبنا بلغة العرب. والضابط أن الله اذا حكم

في شيء بصفة أو شرط، ثم ورد حكم آخر مطلقاً، تظر فإن لم يكن له أصل يرد إليه إلا ذلك الحكم المقيد وجب تقييده به؛ وان كان له أصل يرد اليه غيره لم يكن رده الى أحدهما بأولى من الآخر.

"فالأول مثل اشتراط العدالة في الشهود على الرجعة والفراق والوصية، في قوله (وأشهدوا ذوي عدل منكم ) وقوله (شهادة بينكم، اذا حضر أحدكم الموت، حين الوصية، اثنان ذوا عدل منكم ) وقد اطلق الشهادة في البيوع وغيرها في قوله (وأشهدوا اذا تبايعتم؛ فإذا دفعتم اليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ) . والعدالة شرط في الجميع. ومثل تقييد ميراث الزوجين بقوله (من بعد وصية يوصين بها أو دين) واطلاقه الميراث فيما أطلق فيه. وكذلك ما أطلق من المواريث كلها بعد الوصية والدين. وكذلك ما اشترط في كفارة القتل من " الرقبة المؤمنة" واطلاقها في كفارة الظهار واليمين. والمطلق كالمقيد في وصف الرقبة. وكذلك تقييد الأيدي بقوله (الى المرافق) في الوضوء، واطلاقه في التيمم. وتقييد احباط العمل بالردة، بالموت على الكفر، في قوله (ومن يرتدد منكم عن دينه، فيمت وهو كافر)؛ وأطلق في قوله (ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله). وتقييد تحريم الدم بالمسفوح (في الانعام) وأطلق فيما عداها .

ثانياً: اختلافهم في حمل المطلق على المقيد

" فمذهب الشافعي: حمل المطلق على المقيد في الجميع. ومن العلماء من لا يحمل ". ويختم بهذا السؤال : اذا قلنا يحمل المطلق على المقيد، هل هو من وضع اللغة أو بالقياس؟

- مذهبان. وجه الأول ( من وضع اللغة) إن العرب من مذهبها استحباب الاطلاق، اكتفاءً بالقيد، وطلباً للإيجاز والاختصار. ويقول آخرون بالقياس لتعارض الاطلاق مع القيد.

وفائدة هذا البحث جليلة في الشرع وفي البيان. ففي البيان بأتي تعابير أو احكام كثيرة على الاطلاق في ظاهرها، لكن لها قيد من ناحية أخرى؛ لذلك لا تؤخذ على اطلاقها. من ذلك تعابير القرآن في عمومية الدعوة وعالميتها كقوله (ذكر للعالمين ) فإنه يقيده بقوله: " فهو ذكر لك ولقومك"، " كتاب فيه ذكركم "؛ وقوله : " لتنذر أم القرى وما حولها ".
فالقرآن يقيد دعوته ببني قومه، وان استحب الاطلاق في تعبيره على مذهب العرب. فالاطلاق في التعبير القرآني يجعله أيضاًُ من المتشابه. وكتاب عقيدة وشريعة من مذهبه البياني اطلاق تعابيره واحكامه، هل يكون من المحكم ومن المعجز في البيان والتبيين؟

 

التالي