بحث ثان
البلاغ القرآني : " ان الدين عند اللّه الاسلام "
أولاً : مقالة العقاد في إعجاز البلاغ القرآني
الاعجاز في البلاغ نفسه أن يأتي أفضل من سواه، بذاته، أو زمانه، أو مكانه. يقول العقاد في كتاب المؤتمر الاسلامي : " جاء الاسلام من جوف الصحراء العربية، بأسمي عقيدة في الإله الواحد الأحد، صححت فكرة الفلسفة النظرية، كما صححت فكرة العقائد الدينيّة؛ فكان تصحيحه لكل من هاتين الفكرتين - في جانب النقص منها - أعظم المعجزات التي أثبتت له في حكم العقل المنصف والبديهة الصادقة أنه وحي من عند الله ………
" والديانة الاسلامية، كما هو معلوم، ثالثة الديانات المشهورة ب ا سم الديانات الكتابية، مكانها في علم المقارنة بين الأديان مرتبط بمكان الديانتين الأخريين، وهما الموسوية والمسيحيّة. وتجري المقارنة بين الاسلام وبينهما فعلاً في كتابات الغربيين، فلا يتورع أكثرهم من حسبان الاسلام نسخة مشوّهة أو محرفة من المسيحية أوالموسوية . والمسألة – بعد- مسألة نصوص محفوظة وشعائر ملحوظة لاتحتمل الجدل الطويل في ميزان النقد والمقارنة وان احتملته في مجال الدعوة والخصومة العصبية. ولا حاجة في المقارنة بين هذه الديانات الى أكثر من ذكر العقيدة الإلهية في كل منها للعلم الصحيح بمكانها في التنزيه في حكم الدين وحكم المعرفة النظرية …
" ومهما يكن من تطور العقائد المسيحية ف ى سائر البيئات ومختلف العصور، فالعقيدة المسيحية التي يجوز لصاحب المقارنة بين الاديان ان يجعلها قدوة ل لاسلام إنما هي عقيدة المسيحيّين في الجزيرة العربية وما حولها ……
" ومن الواضح البيّن ان موقف الاسلام كان موقف المصحح المتمّم ، ملم يكن موقف الن ا قل المستعير بغير فهم ولا دراية
____________________________________________________
حقائق الاسلام وأباطيل خصومه ، ص 32 و 44 و 49 و 51 و 55
___________________________________________
" ومن ثمَّ كانت هذه العقيدة الإلهية في الاسلام مصححة متمّمة لكل عقيدة سبقتها في مذاهب الديانات أو مذاهب الفلسفة ومباحث الربوبية … ودين يصحح العقائد الإلهية ويتمّمها فيما سبقه من ديانات الأمم وحضاراتها ومذاهب فلاسفتها – تراه من أين أتى، ومن أي رسول كان مبعثه ومدعاه؟ - من صحراء العرب! ومن الرسول الأمي بين الرسل المبعوثين بالكتب والعبادات. إن لم يكن هذا وحياً من اللّه، فكيف يكون الوحي من اللّه؟
" ليكن كيف كان في اخلاد المؤمنين بالوحي الإلهي حيث كان، فما يهتدي رجل " أمّي " في أكناف الصحراء الى إيمان اللّه أكمل من كل إيمان تقدَّم ، إلاّ أن يكون ذلك وحياً من اللّه. وإنه لحجر على البصائر ؤالعقول ان تنكر الوحي على هذه المعجزة العليا لأنه لا يصدق عليها ف ي صورة الحدس أو الخيال " .
ثانياً : البلاغ القرآني هو تبليغ العرب الإسلام " النصراني "
نحن عرب، ومالنا ولكتابات الغربيين؛ تكفينا شهادة القرآن والحديث والسيرة، وتكفينا النصوص المحفوظة والشعائر الملحوظة. والواقع القرآني نفسه يكذّب تلك المقدَّمات التي يبني عليها الاستاذ الإمام قياسه : 1) رجل أمي 2) في أكناف الصحراء 3) يأتي بإيمان أكمل من كل إيمان تقدم.
لقد رأينا أن أميّة " النبي الأمي " أي العربي يدحضها الواقع القرآني. وقد رأينا أن " أكناف الصحراء " لم تكن صحراء في الثقافة والتوحيد والدعوة الكتابية، والدعوة " النصرانية " في مكة نفسها.
والآن نرى أن البلاغ القرآني إيمان من إيمان أهل الكتاب بمكة ، بنص القرآن نفسه.
يصرح : " هذا ذكر من معي وذكر من قبلي " (الأنبياء 24)؛ فالذكران واحد : " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر " (النحل 43 – 44) ويصرّح : فأتوا بكتاب من عند اللّه هو أهدى منهما أتبعه، إن كنتم صادقين " (القصص 49) فالكتاب والقرآن واحد في الهدى، والتحدي بالهدى. ويصرّح : " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاَّ بالتي هي أحسن – إلاّ الذين ظلموا منهم – وقولوا : آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل اليكم والهنا والهكم واحد، ون حن له مسلمون. (العنكبوت 46). يقسم أهل الكتاب الى ظالمين وهم اليهود، والى مقسطين وهم النصارى. فالظالمون من أهل الكتاب يصح جدالهم بغير الحسنى أي بالسيف؛ أمّا المقسطون منهم فلا يصح جدالهم إلاّ بالحسنى، وهذه الحسنى أمر الى أمة محمد ان يقولوا بأن الإله واحد والتنزيل واحد والاسلام واحد.
فالبلاغ القرآني ايمان من ايمان أهل الكتاب " النصارى " ، لا يصححه ولا يتممه ولا يكمله. فهو ذكر واحد في الهدى والايمان. يصرّح : " شرع اكم من الدين ما وصّى به نوحاً – والذي أوحينا اليك - وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه. كبر ع ل ى المشركين ما تدعوهم اليه … .. وقلْ آمنتُ بما أنزل اللّه من كتاب وأمرتُ لأعدل بينكم : الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم ، اللّه يجمع بيننا، واليه المصي ر" ( الشورى 13 – 15). الدين الذي يشرعه القرآن للعرب هو دين موسى وعيسى، بنص القرآن القاطع. لذلك فهو يؤمن بالكتاب من قبله، الذي فيه هذا الدين الذى يشرعه للعرب، وهذا بنص القرآن القاطع. ولذلك أيضاً " فاللّه ربنا وربكم " واحد، " لا حجة بيننا وبينكم " أي لا خصومة ولا جدال ولا فرق في الايمان الواحد باللّه الواحد، بنص القرآن القاطع.
فأين التصحيح والتتميم والتكميل في الايمان وفي ال ع قيدة الإلهية ؟
2 – وهذا الايمان، في العقيدة الإلهية، بالإله الواحد الأحد هو التوحيد التوراتي الإنجيلي القرآني بحرفه الواحد. فحرف التوحيد في القرآن هو : " قلْ هو اللّه أحد، اللّه الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوءً أحد " (سورة الاخلاص). والولادة المذكورة ينص عليها بقوله : " ما اتخذ صاحبةً ولا ولداً " (الجن 3)، "بديع السماوات والأرض، أنّى يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة"؟ (الانعام 101). فليس للّه ولد من صاحبة. وهل يقول أهل الكتاب، سواءٌ الظالمون أو المقسطون، بصاحبة وولد ؟ إن الاعلان والتحدي موجهان للمشركين لا لأهل الكتاب، و لا للنصارى المقسطين منهم. وقوله : " أأنت قلت للناس : اتخذوني وأمي الهين من دون اللّه " ؟ (المائدة 116)، لايمس العقيدة المسيحية ب شيء منذ المسيح الى اليوم، فهم لا يقولون بعيسى وامه الهين من دون اللّه، وإذا ما آمنوا بإلهية المسيح، فهم يؤمنون بذلك، ل ا من حيث المسيح هو عيسى ابن مريم، بل من حيث
هو " كلمة اللّه ألقاها الى مريم وروح منه " (النساء 171). فكلمة اللّه هو روح صادر من ذات اللّه ألقي الى مريم فكان " المسيح، عيسى ابن مريم ".
فيظل حرف التوحيد في الانجيل كما هو في التوراة والقرآن. ففى التوراة يصرح : " اسمع يا اسرائيل : إن الله الهنا هو اللّه أحد. فأحبب اللّه الهك بكل قلبك وكل نفسك وكل قدرتك " (التثنية 6: 4-5) – بحسب النص العبراني. فذهبت فاتحة صلاتهم، والشهادة عندهم. لذلك لما سأل المسيح أحدُ علماء اليهود : " أي وصية هي أولى الوصايا جميعاً " أجابه بهذا الشهادة وبهذه الفاتحة : " فأجاب يسوع : الأولى هي (أسمع يا اسرائيل : إن اللّه إلهنا هو اللّه أحد. فأحبب اللّه الهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك وكل قدرتك. والثانية هي هذه : أحبب قريبك كنفسك. وليس من وصية أخرى أعظم من هاتين " (الانجيل بحسب مرقس 12: 28-31). فحرف التوحيد واحد في التوراة والانجيل والقرآن : فأين التصحيح وأين التتميم وأين التكميل في البلاغ القرآني والايمان الاسلامي ؟
3- الاسلام نفسه، عقيدةً واسماً، يصرّح بأنه يبلغه للعرب عن أهله. في الاسم يصرّح : " هو سمّاكم المسلمين من قبلُ وفي هذا " القرآن (الحج 78) وفي العقيدة يصرح : " شهد اللّه أنه لا إله إلإ هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط – لا إله إلا هو العزيز الحكيم – أن الدين عند اللّه ا لإ سلام " (آل عمرآن 18-19). في لغة القرآن – كما أبنا ذلك في غير موضع – " اولو العلم " اصطلاح قرآني مرادف " لأهل الذكر " وأهل الكتاب. وصفة " قائماً بالقسط " كناية عن المقسطين منهم أي النصارى، لا " الظالمينَ منهم " أي اليهود. فالنصارى هم الذين يشهدون " أن الدين عند الله الاسلام " ، وشهادتهم من شهادة اللّه وملائكته. والقرآن يشهد بشهادة النصارى " أن الدين عند اللّه الاسلام " .
هذا هو البلاغ القرآني : انه تبليغ العرب الاسلام " النصراني " . فلا تصحيح، ولا تتميم، ولا تكميل. " ومن ثمَّ (ما) كانت هذه العقيدة الالهية في الاسلام مصححة متممة لكل عقيدة سبقتها في مذاهب الديانات أو مذاهب الفلسفة وباحث الربوبية " . لا تعنينا " مذاهب الفلسفة ومباحث الربوبية " . انما يعنينا الدين الذي يشرع القرآن للعرب، والاسلام الذي ينادي به. انه يشرع دين موسى وعيسى معاً (الشورى 13)، وينادي بالاسلام كما يشهد به أولو العلم المقسطين أي " النصارى " .
فهل من اعجاز في البلاغ القرآني – " هذا بلاغ للناس " سواءٌ في مكانه أو زمانه أو موضوعه واسمه ؟
تلك شبهة ثانية على البلاغة القرآنية. |