التالي

بحث ثان

التحدّى بالنظم والبيان بدعة على القرآن

لقد رأينا فى بحث سابق تفصيل ذلك. نعود هنا إلى الموضوع لنستخرج منه النتيجة الحاسمة.

ان جميع آيات التحدى بالقرآن لا تدل قرائنها اللفظية والمعنوية على تحدٍ بالنظم والبيان. فالقرآن عندما استفتح التحدى بذاته كان تحديه موجهاً للمشركين وحدَهم،

وتحداهم بالهدى لا بحرف القرآن: " قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله، هو أهدى منهما اتّبعه إن كنتم صادقين" (القصص 49). وفى صيغة هذا التحدى يصرّح بأنه لا ينفرد بالهدى، بل هو الكتاب واحد فى الهدى. وهذا التحدى بهدى الكتاب والقرآن يرفع صفة الانفراد بالاعجاز فى الهدى، فلا يصح القول بالاعجاز فى الهدى، لأنه هو الكتاب سواء. وبماأن القرآن لا يتحدى على الاطلاق بحرفه ونظمه، فدعوى الاعجاز فى حرف القرآن ونظمه انما هى بدعة ابتدعوها للقرآن، لم يقل بها، وما أنزل الله بها من سلطان.

فكل آيات التحدى بالقرآن لا تصرح بموضوع هذا التحدى، فهى من المتشابهات التى يجب ردها الى المحكمات، وهن " أم الكتاب". والآية المحكمة الصريحة التى تصرح بموضوع التحدى بالقرآن انما هى آية التحدى بهداه (القصص 49). وهذا الهدف صريح فى آيات عديدة، منها: " كتاب أنزلناه اليك لتخرج للناس من الظلمات الى النور، بإذن ربهم، الى صراط العزيز الحميد" (ابراهيم 1). فالمقصود باعجاز القرآن هو النور والهدى. ومنها: " وانه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه (امامه) ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد" (فصلت 41 – 42). فالمقصود باعجازه تنزيل الهدى لابطال الباطل.

أجل يصف القرآن نفسه بأنه " الكتاب المبين" (يوسف 2)، " بلسان عربى مبين" (الشعراء 195). لكنه لا يجعل من هذه الإبانة معجزة له ، لأن " منه آيات محكمات ... ، وأخر متشابهات" ، وما تشابه منه " ما يعلم تأويله الا الله" (آل عمران 7)، وهو أكثر القرآن، كما رأينا. وهذه الشهادة بالمتشابه فى بيانه برهان قاطع على ان القرآن لم يجعل بيانه برهان صحته؛ وانما كان تحديه للعرب المشركين بهداه. وفى الهدى، القرآن والكتاب سواء، على حد تصريحه (القصص 49).

وقد رأينا فى ختام بحث النسخ وبحث المتشابه ان القرآن ختم التحدى باعجازه فى آية البقرة (23) ؛ وأنه، من بعدها، فى آية النسخ (106) نسخ التحدى بالاعجاز فى أحكام القرآن، لأن النسخ والاعجاز ضدان لا يجتمعان؛ وأنه فى آية المتشابه (آل عمران 7) نسخ التحدى بالاعجاز فى أخباره وأوصافه، لأن "ما تشابه منه" ، " ما يعلم تأويله إلا الله" .

وهكذا فالقرآن نفسه نسخ التحدى بذاته منذ مطلع القرآن المدنى. فدعوى الاعجاز فى القرآن، سواءُ بحرفه أم بهداه، كمعجزة له، لا أساس لها فى القرآن نفسه. لذلك فإن اعجاز القرآن ليس بمعجزة للقرآن.

التالي