بحث ثالث
الاعجاز البيانى للخاصّة، والدين للعامّة
بعد الواقع القرآنى المتشابه فى اعجازه كمعجزة له؛ وبعد الواقع الكلامى المشبوه فى معرفة وجه الاعجاز؛ ننظر الى دعوى الاعجاز البيانى فى نظمه كمعجزة له، من حيث المبدأ.
ومن البدهى ان الاعجاز اللغوى البيانى هو للخاصة من أرباب العربية، لا لعامة العرب، ولا لعموم غير العرب. بينما الدين لعامة العرب ولسائر البشرية. فلا يصح من الرحمن الرحيم أن يعطى الناس معجزة لا يفقهونها.
وهب أن القرآن كان موجها بالدرجة الأولى للعرب: " وانه لذكر لك ولقومك" (الزخرف 44)؛ فإن التحدى به لا يقتصر على أرباب الشعر الجاهلى؛ ولم يكن العرب جميعهم أرباب بيان وشعر. فلو كان ذلك لما كانت للشاعر فى القبيلة تلك المنزلة الفريدة، فقد كان الشعر ديوان العرب وميزان فخرهم. وقد نقل الباقلانى قول الاصمعى: " فرسان الشعر أقل من فرسان الحرب" ؛ وقول ابى عمرو بن العلاء: " العلماء بالشعر أعز من الكبريت الأحمر" . ولو كان عامة العرب أرباب شعر وبيان، لما قال القرآن فى محمد: " وما علمناه الشعر، وما ينبغى له" (يسن 69)؛ ولما قال فى محمد أيضاً: الرحمن علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان" (الرحمن 1 – 4). فقوله " الانسان" عام يراد به الخاص، بسبب الترادف بين قوله: " علم القرآن" و " علمه البيان". فمحمد تعلم البيان، وليس هو بفطرة عنده، ولا عند جميع العرب، حتى يصح التحدّى بالاعجاز البيانى لعامة العرب. واسلام القرآن دين شرعه لجميع العرب، " وانه لذكر لك ولقومك" . فلا يصح الاعجاز البيانى معجزة لعامة العرب. فكم بالحرى لجميع البشرية.
وقد تصدى لهذا المشكل الباقلانى، إمام القائلين بإعجاز القرآن. قال: " فإن قيل: لو كان معجزاً لم يختلف أهل المله فى وجه اعجازه . قيل: قد يثبت الشىء دليلاً، وان اختلفوا فى وجه دلالة البرهان، كما قد يختلفون فى الاستدلال على حدوث العالم من الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق".
وفات الباقلانى ان الاختلاف فى وجه دلالة البرهان على حدوث العالم قسم الفلاسفة الى قائلين بالحدوث او الى قائلين بالقدم. وهكذا فجهل وجه الاعجاز فى القرآن، قد لا ينكر اعجازه، وانما يسقط كون اعجازه معجزة له.
ويفصل الباقلانى موقف الناس من الاعجاز. يقول: الأعجمى لا يعرف بأن القرآن معجز إلاّ بأن يعلم عجز العرب عنه. والعرب لا تعرف اعجازه إلاّ بمعرفتها عجز بلغائهم عنه. والبلغاء يعرفون اعجازه من عجز أنفسهم عن مثله.
نقول: هذا ما يجعل الاعجاز معجزة لا تصلح للدلالة، لأن الدين والايمان مسألة شخصية تقوم على استبانة شخصية لمعجزة الاعجاز، وهذا ما تعجز عنه عامة العرب، بل عامة البشر. فلا يصح الاعجاز معجزةً من حيث المبدأ فى البرهنة. ان معجزة لا يدركها الانسان لا تكون معجزة له. وحاشا لله أن يأتى بالعبث!
لذلك يقول بعضهم : " والذى نراه هو أن الاعجاز القرآنى انما هو تحد للعرب وحدهم ... امّا غير العرب فالحجة عليهم حجة ضمنية ، إذ أن عجز أرباب البيان (العربى) عن لقاء هذا البيان السماوى يشهد للمعجزة شهادة قاطعة عند من لا يحسن العربية".
ان حجة لبعض العرب لا تصح حجة لجميع العرب، وبالحرى لا تصح حجة لجميع البشر. فالايمان لا يقوم على " حجة ضمنية" بل على حجة ساطعة لكل مؤمن يطلب البرهان على صحة الايمان. فالايمان مسألة شخصية، والبرهان عليه حجة لكل شخص يطلب البرهان على صحة الايمان. وبما ان الاعجاز البيانى هو لخاصة العرب، والدين لعامة العرب، ولجميع البشر؛ فالاعجاز البيانى لا يصح مبدئيّاً معجزة للايمان بالقرآن، لعجز عامة العرب وجميع البشر عن ادراكها بأنفسهم. لذلك فإن اعجاز القرآن ليس بمعجزة للقرآن.
_______________________________
(1) عبد الكريم الخطيب: اعجاز القرآن 1 : 325 |