التالي

فصل الخطاب

الإعجاز بالحرف أم الإعجاز بالهدى؟

الاعجاز القرآنى، فى عرفهم، "معجزة لغوية" : فالله يتحدى العالمين بالحرف، وعلى التخصيص بالحرف العربى. وفى هذا عينه بطلان معجزة الاعجاز:

1 - لا يليق بالله ان يتحدى بالحرف، بل بالهدى. إن التحدى، فى الله والحقيقة والدين، باللغة والبيان والنظم، أبعد وجه من وجوه المعجزة يمكن ذكره فى كتاب الله.

2 - والتحدى بالحرف باطل مبدئياً، لأن " المعجزة اللغوية" لا يفقهها إلا أرباب البيان العربى، كما قال الباقلانى، شيخ المتكلمين فى (اعجاز القرآن – ص 171 و 396): " معرفة اعجاز القرآن لا تتهيأ إلاّ للعربى المتناهى الفصاحة" . فتحدى الله أهل العربية أجمعين بالاعجاز البيانى هو تكليفهم بما لا يطاق، " ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها" . وكيف القول أيضاً بأنه تعالى يتحدى العالمين بالحرف العربى؟

3 - ان دين الله لعامة الناس، لا لخاصتهم فقط. ومعجزة دين الله يجب ان يفهمها عامة الناس. وعامة الناس من أهل العربية - فكم بالحرى من الاعاجم عنها - لا يفقهون شيئأ من " معجزة لغوية"، فالقول بها ينافى الله، وعدل الله، ورحمة الله.

4 - التحدى بحرف القرآن، لا بهدى القرآن، يجعل كتاب الله الحرف لا الهدى؛ ودين الله الحرف، لا الهدى؛ ويتحول التنزيل من الهدى الى الحرف. ويصير الاسلام والقرآن دين الحرف، لا دين الهدى. ويظهر القائلين بالاعجاز عُباد الحرف، لا عباد الله.

5 - والتحدى بحرف القرآن باطل أيضاً فى الحقيقة والواقع. فقد رأينا السيد فريد وجدى ينفى ان يكون القرآن تحدى الناس بإعجاز حرفه؛ إنما كان التحدى بروحانيته وهداه. والبرهان القاطع على ذلك أن وجه الاعجاز مجهول ، ولم يُتفق حتى اليوم على تحديده، بل كان على الدوام " اللغز الذى حير الناس" . فهذا المجهول كالمعدوم فى التحدى به.

6 - والواقع القرآنى يشهد بأن التحدّى بالقرآن كان للمشركين، لا لأهل الكتاب؛ فهو اذن التحدى بهداه. يشهد بذلك واقع المتشابه فى أوصافه واخباره: " منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات" (آل عمران). ونعرف ان المحكمات هى أحكام القرآن، فيكون أكثر القرآن من المتشابه: والمتشابه ليس من الاعجاز! ويشهد أيضاً واقع النسخ فى أحكامه؛ فبعد التصفية النبوية كل سنة للمنسوخ وغيره، والتصفية العثمانية، ظل فى أحكام (القرآن ناسخ ومنسوخ، وواقع النسخ لا يدل على الاعجاز. ويشهد أيضاً واقع التبديل فى التنزيل (النحل 101) وهذا الواقع ينسف الاعجاز من أساسه. يشهد بذلك أيضاً واقع الاختلاف فى المواقف: كانت الدعوة بمكة " بالحكمة والموعظة الحسنة" ، فصارت فى المدينة بالجهاد؛ كانت الدعوة بمكة الى دين الاسلام، فصارت بالمدينة الى دولة الاسلام؛ كانت الدعوة بمكة الى " أمة واحدة" ، فصارت فى المدينة الى " أمة وسط" ؛ فهذا الاختلاف لا يحمل معنى الاعجاز. فهذا الواقع الجامع لا يدل على أن القرآن اعتبر اعجازه معجزة له.

7 - وأنّى له ان يعتبر اعجازة معجزة له وهو الذى يصرّح قبل تحدّى المشركين بإعجاز هداه ان المعجزات مُنعت عنه منعاً مبدئياً مطلقا: " وما منعنا ان نرسل بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون" (الاسراء 59). وهذا المنع المبدئى يلازمه منع واقعى فى السورة عينها: يقترحون عليه أنواع المعجزات فيرد " قلْ: سبحان ربى هل كنت إلا بشراً رسولاً" (الاسراء 90 – 93). ويتكرر الموقف السلبى من كل معجزة نحو خمس وعشرين مرة صريحاً، غير الضمنى المتواتر. فالمعجزة ممنوعة على النبى والقرآن من حيث المبدأ، ومن حيث الواقع: فكيف يمكن ان يكون اعجاز القرآن معجزة له؟

فلا يشهد القرآن باعجاز حرفه، اى لفظه ونظمه، على الاطلاق. والمرة الاولى، فى تاريخ النزول، التى يقول بها القرآن بإعجاز فيه هى (الاسراء 88) التى تقع ما بين المنع

المبدئى (الاسراء 59) والمنع الواقعى لكل معجزة فيه أو له. وهذا الواقع القرآنى المشهود خير شاهد على أن القرآن لا يعتبر اعجازه معجزة له ؛ وعلى ان التحدى فيه بإعجازه، هو بهداه، لا بحرفه، كما يظهر من ختام الجدل فى سورة (الاسراء 94) عينها: " وما منع الناس أن يؤمنوا، إذ جاءهم الهدى ... " .

والواقع الشاهد الذى سها عنه أهل الاعجاز ان القرآن ينسب لنفسه البيّنات: " أنزلنا اليك آيات بينات" (2: 99)، " من بعد ما جاءَتكم البينات" (2 : 209)؛ من بعد ما جاءَتهم البينات" (2: 213 و 253 ؛ 4 : 153): " فيه آيات بينات" (3 : 97)؛ " بل هو آيات بينات" (29 : 49)؛ " واذا تُتلى عليهم آياتنا بينات" (10 : 15 ؛ 19 : 73 ؛ 22 : 72 ؛ 34 :43؛ 45 : 25 ؛ 46 : 7)؛ " " انزلناه آيات بينات" (22 : 16) " على عبده آيات بينات" (57 : 9). لكن " البينات" صفة كل تنزيل من الله قبل القرآن: " جاءَتهم رسلهم بالبينات" (5 : 32 ؛ 7 : 101)؛ " وجاءَتهم رسلهم بالبينات" (10 : 13 ؛ 14 : 9 ؛ 30 : 9 ؛ 35 : 25 ؛ 40 : 83)؛ " تأتيهم رسلهم بالبينات" (40 : 22 ؛ 64 : 6)؛ " تأتيكم رسلكم بالبينات" (40 : 50)؛ " أرسلنا رسلنا بالبينات" (57 : 25). و " البينات" على التخصيص صفة التنزيل فى التوراة: " جاءكم موسى بالبينات" (2 : 92)، " جاءهم موسى بالبينات" (29 : 39)؛ وتلك البينات كانت آيات ومعجزات، " موسى بآيتنا البينات" (28 : 36)، " ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات" (17 : 101 ؛ 40 : 28). وهى بالحرى صفة الانجيل ؛ " جاء عيسى بالبينات" (43 : 63)، " فلما جاءَهم بالبينات قالوا: هذا سحر مبين" (61 : 6)؛ " إذ جئتهم بالبينات" (5 : 110). والقرآن يفصل السيد المسيح ببيناته على سائر الرسل، وعلى محمد نفسه، إذ يقرنها بتأييد الروح القدس الدائم للمسيح فى دعوته وسيرته: " وآتينا عيسى، ابن مريم، البينات، وايدناه بروح القدس" (البقرة 87 : 253). فليس فى اعجاز القرآن من فضل على غيره، وليس اعجازه معجزة له. فقد نسخ اعجاز " بيناته" بالتمييز فيها بين المحكمات والمتشابهات: " منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات" (آل عمران 7)، ومن المعروف أن أكثر القرآن - ما عدا احكامه - آيات متشابهات، لا " بينات".

والنتيجة الخامسة المطلقة ان تحدى القرآن بإعجازه، كان التحدى بهداه ، لا بحرفه، لفظه ونظمه؛ وكان للمشركين لا لأهل الكتاب، لان مطلع كل تحدٍ فيه كان فى سورة

(القصص 49)، التاسعة والأربعين من تاريخ النزول: " قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما ، أتّبعه إن كنتم صادقين" . ففى الاعجاز بالهدى، الكتاب والقرآن سواء. وبما أن القرآن جاء لتصديق وتفصيل الكتاب فهو فى الهدى تابع، لا متبوع.

فالقول باعجاز القرآن، معجزة له، بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، وذلك بنص القرآن القاطع. فلا يشهد القرآن بمعجزة له فى اعجازه، سواءُ فى حرفه أو فى هداه.

التالي