خاتمة النبوّة والكتاب، فى نظر القرآن

    لذلك كله فلا عجب ولا مرية ان يجعل القرآن السيد المسيح خاتمة النبوة والكتاب.

     أوّلاً: محمّد خاتم النبييّن؟

    أجل يصف القرآن محمداً بأنه "خاتم النبيين" (الاحزاب 40)، وهو تعبير مفرد فى القرآن، ليس له قرائن توضحه، فهو تعبير متشابه لا يتضح معناه من حرفه. وسواء كانت القراءَة "خاتم" (بالفتح) أو "خاتِم" (بالكسر)، فلغة القرآن لا تسمح ان نرى فى التعبير معنى" خاتمة النبيين". فإننا لا نجد فى القرآن سوى هذه الآيات السبع لحرف "ختم": "ختم الله على قلوبهم" (البقرة 7)، "وختم على قلوبكم" (الانعام 46)، "وختم على سمعه وقلبه" (الجاثية 23)، "فإن يشاء الله يختم على قلبك" (الشورى 24) " اليوم نختم على أفواههم" (يس 65)، "ختامه مسك" (المطففين 26) "يُسقون من رحيق مختوم" (المطففين 25). فهل فى لغة هذه الآيات السبع الوحيدة فى القرآن معنى الخاتمة؟ ان حرف "ختم" يعنى طبع على، منع من، ربط على؛ فهو "خاتم" و"مختوم" لا يفكّ ختمه. فالمعنى المقصود التصديق.

    وهذا هو المعنى المتواتر فى أوصاف القرآن.

    فالقرآن هو " تصديق الذى بين يديه" أى قبله (يونس 37؛ يوسف 111)؛ "مصدّق لما معهم" (البقرة 89 و 101)؛ "مصدق لما معكم" (آل عمران 81)؛ "مصدق الذى بين يديه" (الانعام 92)؛ والقول الفصل فى قوله: "ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً" (الاحقاف 12). فإن محمداً هو "خاتم النبيين" كونه مصدّقا لهم.

والقرآن هو أيضاً "تفصيل الكتاب" (يونس 37) أى تعريبه بلسان عربى مبين (حم السجدة 44). والقول الفصل فى كيفية تبليغ التنزيل: "حم. تنزيل من الرحمن الرحيم: كتاب، فُصّلت آياته قرآنا عربياً" (حم السجدة أو فصلت 1 – 3): بالقرآن العربى تم تفصيل التنزيل فى الكتاب؛ وهو مثل قوله أيضاً: "آلرزكتاب أُحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير" (هود 1)، فالتنزيل المحكم فى الكتاب، والتفصيل فى القرآن. وليس فى هذا معنى ختام النبوة، ولا خاتمة النبيين.

    والقرآن هو أيضاً "بيان" الكتاب للعرب بلسان عربى مبين: "وأنزلنا اليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل اليهم، ولعلهم يتفكرون" (النحل 44). فرسالة محمد تقتصر على بيان الكتاب اى "تفصيل الكتاب" وتصديقه.

    والقرآن هو أيضاً "تيسير" الكتاب بلسان محمد. فهو يردّد: "ولقد يسّرنا القرآن للذكر" (القمر 17 و22 و32و40)؛ ويؤكد: "فإنما يسّرناه بلسانك" (مريم 97 ؛ الدخان 58) وهو مثل قوله "تفصيل الكتاب" اى "تنزيل من الرحمن الرحيم: كتاب فصّلت آياته قرآنا عربياً. فرسالة محمد هى تيسير قرآن الكتاب بلسان عربى مبين.

    فتلك الأوصاف الأربعة للقرآن العربى تحدّد معنى النبوة والرسالة عند محمد. وليس فيها معنى خاتمة النبيين على الاطلاق. لذلك قوله المتشابه "خاتم النبيين" يعنى فقط مصدّقهم، كما يعنى حرف الكلمة، والمعانى المتواترة فى أوصاف القرآن.

    يؤيد ذلك تصريح القرآن بأن الله جعل فى بنى اسرائيل النبوة والكتاب : "ووهبنا له (اى لابراهيم) اسحاق ويعقوب، وجعلنا فى ذريته النبوة والكتاب" (العنكبوت 27) فالنبوة والكتاب هما فى ذرية ابراهيم من اسحاق ويعقوب، لا فى ذريته من اسماعيل؛ وهذا بنص القرآن القاطع. لذلك يصف القرآن محمداً بأنه "النبى الأمى" اى العربى الذى ليس من أهل النبوة والكتاب (الأعراف 157 – 158). لكنه بوحى من الله فى غار حراء اهتدى الى الايمان بالكتاب (الشورى 52 و15)، وأمر ان يهدى اليهما: "وأمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن" (النمل 91 – 92). وتلاوة "القرآن" على العرب تقوم "بتفصيل الكتاب" لهم. هذه هى نبوته ورسالته، بأمر الله فى رؤيا غار حراء.

   ثانياً: ختام النبوّة والكتاب

     أمّا ختام النبوة والكتاب فهو، بحسب القرآن، عند المسيح فى الانجيل. هذا هو تاريخ النبوة بحسب القرآن: 1) "إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين: ذريةّ بعضها من بعض، والله سميع عليم" (آل عمران 33 – 34)، "اصطفى بجعل الأنبياء من نسلهم" (الجلالان)، فالصطفاء والتفضيل هما بالنبوة. وقد انحصرت النبوة فى ذروتها ببنى اسرائيل، فى آل عمران، فكان السيد المسيح ختام الذرية المصطفاة على العالمين. 2) "شرع لكم من الذين ما وصى به نوحاً - والذى أوحينا اليك - وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه" (الشورى 13). إن دين الله هو ما وصى به نوحا وابراهيم وموسى وعيسى. واقحام "والذى اوحينا اليك" بين نوح وابراهيم، هو اقحام ظاهر، لكن يفسر معناه فى السورة عينها أن "الذى أوحينا اليك" هو الايمان بالكتاب (الشورى 52). فيظل عيسى خاتمة النبوة فى دين الله. 3) فى سورة ا(الأنبياء) يذكر أنبياء بنى اسرائيل من ابراهيم الى المسيح ويختم بقوله: "والتى أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا، وجعلناها وابنها آية للعالمين: إن هذه امتكم امة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون" (91 – 92). فأهل النبوة أمة واحدة ختامها السيد المسيح. 4) كذلك فى سورة (المؤمنون) يختم ذكر الأنبياء بقوله: "ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون. وجعلنا ابن مريم وأمة آية ... وإن هذه امتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاتقون" (49 – 52). فهو يحصر النبوة المكتوبة ما بين موسى وعيسى، ويجعل أهلها أمة واحدة، فيكون السيد المسيح بحسب السياق ختام النبوة والكتاب. 5) "قولوا: آمنا بالله - وما أُنزل الينا - وما أُنزل الى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط؛ وما أوتى موسى وعيسى، وما أوتى النبيّون من ربهم، لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" (البقرة 136)؛ هنا أيضاً "وما أُنزل الينا" يفسره قوله فى السورة عينها: "ويعلمهم الكتاب والحكمة" (129)، "ويعلمكم الكتاب والحكمة" (151) اى التواراة والانجيل. كذلك فى (آل عمران 84) مع قوله "يعلمهم الكتاب والحكمة" (164). فالايمان بالتنزيل ينتهى بالمسيح، فالمسيح هو ختام التنزيل الذى فيه "دين الله" (83). 6) يذكر أنبياء الله ثم يقول: "أولئك الذين آتيناهم الكتاب، والحكم (الحكمة) والنبوة ... اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" (الانعام 89 – 90). فعلى محمد ان يقتدى بهدى الكتاب والحكمة والنبوة عند بنى اسرائيل، وختام الهدى هو فى

الانجيل، وخاتمة الأنبياء هو المسيح. كذلك (الجاثية 16). 7) يحصر نبوة محمد فى تعليم "الكتاب والحكمة" اى التوراة والانجيل، للعرب: " ويعلّمهم الكتاب والحكمة" (البقرة 129؛ آل عمران 164؛ الجمعة 2)، "ويعلمكم الكتاب والحكمة" (البقرة 151). و"الحكمة" اصطلاح قرآنى كناية عن الانجيل. فختام النبوة الانجيل، وخاتمة الأنبياء المسيح. وما القرآن سوى تفصيل الكتاب" كله.

    أخيراً هذا ما يظهر بصريح التعبير فى قوله: "ولقد آتينا موسى الكتاب، وقفّينا من بعده بالرسل، وآتينا عيسى ابن مريم البينات، وأيدناه بروح القدس" (البقرة 87). فتعبير "قفينا" يجعل خاتمة الرسل عيسى ابن مريم، وميزة الخاتمة تأييده بروح القدس الذى رفعه على الرسل أجمعين. كذلك فى قوله: "ولقد أرسلنا نوحاً وابراهيم ... ثم قفينا على آثارهم برسلنا، وقفّينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الانجيل" (الحديد 26 – 27). قفّى على الرسل كلّهم بعيسى، وما قفى على عيسى بأحد. فعيسى، بنص القرآن القاطع، هو خاتمة الأنبياء. وما "النبى الأمى" اى العربى من غير أهل الكتاب، إلاّ "خاتم النبييّن" اى مصدقهم، "بتفصيل الكتاب" كله للعرب.

   ثالثاً: الاعجاز المطلق والمعجزة المطلقة عند المسيح فى الانجيل

    وهكذا، بحسب القرآن نفسه، فإن اعجاز المسيح المطلق فى شخصيته، وفى سيرته، وفى رسالته اى فى التنزيل، والبلاغ، والتبليغ، والبيان والتبيين، وذلك فى الرسول والرسالة معاً، جعل السيد المسيح سيد الأنبياءوالمرسلين، وخاتمة النبوة والكتاب، لأنه "كلمة (الله) ألقاها الى مريم وروح منه". هذا هو الاعجاز المطلق فى النبوة، والمعجزة المطلقة فى الرسالة لقد اجتمع الاعجاز والمعجزة معاً فى الرسول والرسالة كليهما، فى السيد المسيح. اعجاز بالكلمة، واعجاز بالسيرة، واعجاز بالرسالة، واعجاز بالشخصية.

    فالإعجاز البيانى سواء، فى التوراة والانجيل والقرآن لأنها جميعاً "الفرقان" (آل عمران 3 – 4). ولكن ما بين الاعجاز فى الانجيل والقرآن بون: فالاعجاز فى القرآن بالقول الجميل، والاعجاز فى الإنجيل بالقول والعمل معاً.

    قد أجمع القوم على أن اعجاز القرآن الأولى والجوهرى كان فى سحر بيانه أى فى القول الجميل فقط. لأن القرآن ذاتَه يشهد بأن تعليمه فى الكتاب قبله "وانه لفى زبر الأولين" اى

"كتب الأولين كالتوراة والانجيل" (الجلالان: شعراء 196) فالكتاب إمامه فى الهدى (احقاف 12) وبهدى الكتاب يجب ان يقتدى (انعام 90) وما القرآن سوى تصديق الكتاب، وتفصيله للعرب (يونس 37)

    وكان اعجاز الانجيل فى القول المعجز والعمل المعجز معاً. فالسلطة والشعب اليهودى أقروا "بأنه ما تكلّم انسان قط مثل هذا الانسان" (يوحنا 7 : 46). وكان المسيح يقدّم لهم اعماله المعجزة دلائل نبوته ورسالته أكثر من أقواله المعجزة ولو ادهشتهم هذه الأقوال واعجزتهم. شفى المسيح مخلعاً يوم السبت فاعترض عليه اليهود لصنعه المعجزة يوم السبت فأجابهم "ان ابى يعمل بلا انقطاع وأنا أيضاً أعمل يوم السبت ... فما يفعله الاب يفعله الابن كذلك لأن الآب يحب الابن ويريه جميع ما يفعل، وسيريه اعمالاً اعظم من هذه فتأخذكم الدهشة: فكما ان الآب ينهض الموتى ويحييهم كذلك الابن ايضاً يحيى مَن يشاء ... وإن الاعمال التى خوّلنى الآب ان اعملها - هذه الاعمال بعينها التى أنا اعملها - هى تشهد لى بأن الآب قد أرسلنى" (يوحنا 5 : 17 و 19 – 21 و 36). وقد شهد بإعجاز هذه الاعمال علماء اليهود بلسان احد اعضاء الساندرين، محفلهم الأكبر، وهو السلطة العليا عندهم. "جاءَ نيقودمس الى يسوع ليلاً وقال له: رابّى، نحن نعلم أنك جئتَ من قبل الله، معلّماً: اذ ما من أحد يقدر أن يصنع المعجزات التى انت تصنعها اذا لم يكن الله معه" (يوحنا 3: 2)

    وقبل ان يستشهد يحيى المعمدان بن زكريا النبى الكاهن، ارسل الى المسيح سفارة من أتباعه كى يدلّهم على المسيح ويجعلهم يتبعونه من بعده. فسألوا يسوع المسيح: "هل أنت النبى الأعظم المنتظر؟ أم ننتظر آخر غيرك؟". حينئذٍ صنع أمامهم شتّى انواع المعجزات بالجملة ممّا لا يدع مجالاً لريبة أو شك أو وهم (لوقا 7: 21) وقال لهم: "انطلقوا وأعلموا يوحنا بما تسمعون وترون: العمى يبصرون! والعرج يمشون! والبرص يطهرون! والصم يسمعون! والموتى يقومون! والمساكين يُبشرون! - وطوبى لمن لا يشكُّ فىّ" (متى 11 : 2 – 6 لوقا 7: 18 – 23)

    وفى جواب المسيح اشارة الى نبوءات الانبياء عن أعمال المسيح المصطفى: نفّذها أمام تلاميذ يحيى والشعب، واستشهد بالاعمال والنبوءات معاً. فبلغ الاعجاز الإلهى بالقول

والعمل وتتميم النبوءات المتواترة عنه منذ اجيال واجيال. وهذا هو الاعجاز المطلق الكامل الذى لا اعجاز بعده.