بحث ثان
المسيح فى القرآن
ذلك الاعجازالمطلق، الشامل الكامل، للمسيح فى الانجيل، نراه أيضاً فى القرآن. إنه أيضاً اعجاز فى الشخصية، واعجاز فى السيرة، واعجاز فى الرسالة.
أوّلاً - إعجاز المسيح فى الشخصية، بحسب القرآن
فى عرْف القرآن، إن المسيح وحده بين الرسل، معجزة فى ذاته: " ولنجعله آية للناس، ورحمة منا، وكان أمَرا مقضياً" (مريم 21). وزيادة فى الاعجاز قد أشرك الله مريم العذراء فى معجزة ابنها: " وجعلناها وابنها آية للعالمين" (الأنبياء 91 كذلك المؤمنون 50).
1 - والمسيح معجزة فى شخصيته، لأنه وحده، من دون العالمين والمرسلين أجمعين: مسيح الله، وكلمة الله، وروح الله، كما فى هذا التعريف القرآنى الجامع المانع:
" انما المسيح عيسى، ابن مريم، رسول الله وكلمته القاها الى مريم وروح منه" (النساء 170).
لا يقول القرآن ذلك فى حق أحد من المخلوقين. واللقبان فيه، " كلمته وروح منه" يفسّر بعضهما بعضاً. إنه " كلمة الله " أى نطقه الذاتى فى ذاته - لا كلام الله الصادر منه، مجرّد أمر خلاّق، كما فسره بعضهم بمقارنته بخلق آدم: " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم: خلقه من تراب ثم قال له: كن فيكون" (آل عمران 59)؛ فهذه المطابقة تنطبق على المسيح من حيث هو " عيسى ابن مريم" ، لا من حيث هو "كلمته وروح منه" . لا حظ الترادف المقصود: المسيح هو كلمة الله من حيث هو " روح منه" تعالى، و" روح منه" تعالى لا يكون مجرد أمر خلاّق. لاحظ أيضاً الفرق فى التعبير: " روح منه" اى صادر منه (البيضاوى)، بخلاف قوله فى أرواح الملائكة: " فأرسلنا اليها روحنا ، فتمثل لها بشراً سوياً" (مريم 17)، هنا إضافة إليه تعالى، كما فى قوله: " وكذلك أوحينا اليك روحاً من أمرنا"
(الشورى 52)، فإضافة الروح الى الله تشريف يبقيه فى عالم الأمر. وشتان ما بين النسبة المصدرية فى "روح منه" والنسبة الاضافية فى " روحنا، روح من أمرنا". و" كلمته القاها الى مريم" كونه " روحا منه" تعالى، ليست أيضاً مثل كلماته تعالى فى الخلق أوفى الوحى والتنزيل، لأن " كلمته" هو أيضاً " روح منه". " كلمته وروح منه" شخص قائم بذاته هو مسيح الله، وليس كلمة خلق أو وحى.
2 - هذان اللقبان المترادفان يجعلان المسيح، قبل القائه الى مريم وبعد تكوينه فيها كعيسى ابن مريم، فى صلة شخصية ذاتية مع الله لا ينسبها القرآن الى أحد المخلوقين. أجل ان " عيسى، ابن مريم" بشر؛ لكن المسيح فى " عيسى ابن مريم" هو أيضاً " كلمته وروح منه" تعالى فهو فوق البشر ومن غير البشر. فسر شخصية المسيح يرشح من هذا التعريف القرآنى. فالمسيح شخصية ثنائية ، بنص القرآن القاطع: " إنما المسيح 1) عيسى ابن مريم رسول الله 2) وكلمته القاها الى مريم وروح منه". فهو كائن، قائم فى الله قبل إلقائه الى مريم " والقاؤه ال مريم أكسبه بشريتها، لكنه لم يغيّر من شخصيته السامية. وبإلقاء "كلمته وروح منه" فى عيسى ابن مريم، صار مسيح الله ورسول الله الأعظم، فى شخصيته الثنائية التى لا مثيل لها فى العالمين ولا فى المخلوقين. هذا هو نص القرآن القاطع.
والقرآن على حق عظيم عندما يؤكد بشرية " عيسى ابن مريم" ومقارنته بآدم الذى خلقه من تراب ثم قال له: كن فيكون". ولكنه على حق عظيم أيضاً عندما يصف شخصية عيسى ابن مريم بأنه أيضاً " كلمته ألقاها الى مريم وروح منه" ، فالمسيح قبل إلقائه الى مريم كان شخصاً قائماً، هو " كلمته وروح منه" تعالى.
وهذا الاسم الكريم ليس تعبيراً عابراً فى القرآن، انما هو محور تعليمه فى سر شخصية السيد المسيح. فإن يحيى لم يوجد إلاّ ليصدق كلمة الله: " فنادته (اى زكريا) الملائكة، وهو قائم يصلى فى المحراب: ان الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله " (آل عمران 39). ان رسالة يحيى هى الشهادة لشخص آتٍ اسمه " كلمة الله"، فهو شخص لا لفظ فى ألفاظ الخلق أو الوحى. والملائكة أيضاً تبشر مريم، " إذ قالت الملائكة: يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه ، اسمه المسيح، عيسى، ابن مريم - وجيهاً فى الدنيا والآخرة، ومن المقربين - ويكلّم الناس فى المهد وكهلاً، ومن الصالحين" (آل عمران: 45- 46) . ان " كلمة الله"
اسم علم به تعلم شخصيته: فالمسيح، عيسى، ابن مرين هو أيضاً " كلمة من الله" - لاحظ تواتر "مِن" المصدرية. والمسيح بصفته "عيسى ابن مريم" فهو "من الصالحين" ؛ لكن كونه "كلمة من الله" فهو "من المقربين"، وهو اصطلاح قرآنى متواتر فى الملائكة المقربين منه تعالى. رسالته معجزة: "يكلم الناس فى المهد وكهلاً". وشخصيته معجزة: فهو وجه الدنيا ووجه الآخرة.
3 - والدعوة القرآنية هى الشهادة للتوحيد أى الايمان بالله واليوم الآخر؛ لكنها أيضاً الشهادة لعيسى ابن مريم أنه المسيح كلمة الله: " قلْ: يا أيها الناس، انى رسول الله اليكم جميعاً، الذى له ملك السماوات والأرض، لا إله إلاّ هو، يحيى ويميت؛ فآمنوا بالله ورسوله، النبى الأمىّ الذى يؤمن بالله وكلمته" الاعراف 157). هناك قراءَة اخرى: "وكلماته" لكن قراءَة " كلمته" أصح لان إيمان النبى "بكلمات الله" من نافله القول، ولا تميّز رسالته عن غيرها؛ وهنا يدعو الى الايمان به لأن رسالته شهادة "لله وكلمته"، وهذه هى ميزتها على غيرها.
فالقرآن تصديق الانجيل فى شخصية السيد المسيح المعجزة فى ذاتها.
ثانياً: إعجاز المسيح فى سيرته، بحسب القرآن
فى عرْف القرآن، لا يوجد مخلوق، ولا رسول، ولا " خاتم النبيين" جمع الله فى سيرته من المعجزات، كما جمعها فى سيرة المسيح، الخارجة فى وجودها كله على سنن الكون كله. يفصّل القرآن قصص المسيح فى (مريم 15 – 34) وفى (آل عمران 33 – 64). والقرآن يستجمع فى سيرة المسيح من الآيات الخارقة ما لا يحلم به نبى ولا رسول .
الآية الأولى: المسيح وأمه خاتمة الذرية المصطفاة على العالم
يبدأ القرآن قصص المسيح بقوله: " إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيم، وآل عمران على العالمين، ذرية بعضها من بعض، والله سميع عليم" (آل عمران 33 – 34). فآل عمران هم ختام الذرية المصطفاة على العالمين، والمسيح وأمه قمة هذه الذرية المصطفاة
على العالمين. فلا نسب ولا حسب عند الله أفضل من نسب وحسب المسيح وأمه، وذلك بنص القرآن القاطع. فالمسيح هو " المصطفى" الاعظم على العالمين.
_______________________
(1) نأخذ كلمة "آية" بمعنى كرامة أو بمعنى معجزة، والفارق عنصر التحدّى بالخارقة فى المعجزة. ونلاحظ ان القرآن يجعل مولد المسيح " آية للناس"، فالكرامة فى نظره أخت المعجزة.
___________________________
الآية الثانية: المسيح هو ابن المصطفاة على العالمين
" واذ قالت الملائكة: يا مريم ان الله اصطفاك، وطهرك، واصطفاك على نساء العالمين" (آل عمران 42)
لهم تفسيرات فى تكرار "اصطفاك"، أقله التركيز والتأكيد: إن الله اصطفى مريم أم المسيح على العالمين، وليس على عالم زمانها، أو عالم ملتها، بل "على العالمين" فالتعبير مطلق يشمل كل زمان ومكان. والمسيح هو " المصطفى"، ابن المصطفاة على العالمين.
الآية الثالثة: عصمة المسيح وأمه عند ولادتهما من مسّ الشيطان
" وانى اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم" (آل عمران 36)؛ " قال: إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلاماً زكيا" (مريم 19). والحديث يضيف الى العصمة فى التكوين العصمة مدى الحياة. نقل الطبرى عن كثيرين، وعن قتادة: " كل بنى آدم طعن الشيطان فى جنبه عند ولادته، إلاّ عيسى ابن مريم وامه، جُعل بينهما وبينه حجاب، فأصابت الطعنة الحجاب، ولم ينفذ إليها شىء! وذكر لنا أنهما كانا لا يصيبان من الذنوب كما يصيب سائر بنى آدم". إنها العصمة فى التكوّن، والعصمة مدى الحياة. فالمسيح هو " الزكى" منذ مولده اى " الطاهر من الذنوب"، والمعصوم مدى الحياة. وأم المسيح هى الأنثى الوحيدة، فى القرآن، التى ذكرها باسمها، والتى كلمها الملائكة واستنبأها الله تعالى.
الآية الرابعة: تكوين عيسى من أمٍّ لم يمسسها بشر
" قالت: انى يكون لى غلام، ولم يمسسنى بشر ولم أك بغياً؟ قال: (هو) كذلك! قال ربك: هو علىّ هين، ولنجعله آية للناس ورحمة منا، وكان أمراً مقضياً" (مريم 29 – 21). "قالت: ربّ، أنّى يكون لى ولد ولم يمسسنى بشر؟ قال: (هو) كذلك! الله يخلق ما يشاء، اذا قضى أمراً، فإنما يقول له: كن! فيكون" (آل عمران 47).
ولادة المسيح من أمّ بتول، تحبل وتلد وهى بتول، ولم يمسسها بشر، معجزة لا يذكر الكتاب ولا الانجيل ولا القرآن، لأحد من العالمين مثلها. بها انفرد المسيح على البشر وعلى المرسلين أجمعين. فهو يدخل العالم بمعجزة لا مثيل لها فى تاريخ البشرية، ولا القداسة، ولا النبوة. بهذه المعجزة جعله الله " آية للناس" فى وجوده (مريم 21).
______________________________
(1) هناك قراءة أخرى متواترة دلأهب" -
____________________________
الآية الخامسة: الحمل المعجز فى مدته
" فحملته. فانتبذت به مكاناً قصياً. فأجاءَها المخاض الى جذع النخلة" (مريم 22 – 23) لا تذكر الآية مدة الحمل. وظاهر السياق أنه كان لمدة قصيرة. واختلف الحديث والتفسير فى طولها. لكن الاجماع على أنها كانت خارقة للعادة، سالمة عن المعارضة: " والحمل والتصوير والولادة فى ساعة" (الجلالان).
الآية السادسة: المولد المعجز
" فحملته. فأجاءَها المخاض الى جذع النخلة" (مريم 23).
المخاض، فى أصل اللغة، كما فى الصحاح " تحرّك الولد فى بطن الحامل". قال البيضاوى: " هو مصدر: مخضت المرأة، اذا تحرك الولد فى بطنها للخروج" . وليس للمخاض معنى " وجع الولادة" كما وهم الجلالان. قال الزمخشرى: " كما حملته نبذته " أى كما حملته بمعجزة، ولدته بمعجزة. اى ولدته وهى بتول، بدون وجع الولادة. إنها تتوارى تحت النخلة للولادة. إنها تتوارى تحت النخلة للولادة، ولا تستند الى جذع النخلة من ألم المخاض. يؤيد ذلك قول الحديث ان عيسى وُلد "ولم يستهل" اى لم يبك فى ولادته: "وما من مولود إلاّ يستهلّ، غيره".
الآية السابعة: نطق المسيح منذ مولده
" فناداها من تحتها: ألاّ تحزنى ... فأشارت إليه. قالوا: كيف نكلّم مَن كان فى المهد صبياً؟ قال: إنى عبد الله" (مريم 24 و29 – 30).
قال الزمخشرى والبيضاوى: "فناداها اى عيسى - وقيل جبريل كان يقبل الولد". فالمسيح يتكلّم ساعة مولده. يؤيد ذلك نطقه لبنى قومها: "قال: انى عبد الله ...".
والتأكيد الجازم: " يكلّم الناس فى المهد وكهلاً" (آل عمران 46، المائدة 110). والذين يرون فى "ناداها من تحتها": "جبريل كان يقبل الولد" يجعلون للمسيح وأمه كرامة لم ينلهما سواهما فى العالمين؛ ان جبريل نفسه يقوم مقام القابلة.
الآية الثامنة: الطعام المعجز عند ولادة المسيح
" فناداها من تحتها: ألاّ تحزنى، قد جعل ربك تحتك سرياً (24)
" وهزى اليك بجذع النخلة تساقط عليك رُطباً جنيّا" (25)
قال الجلالان: " قد جعل ربك تحتك سرياً اى نهر ماء كان قد انقطع". كذلك كانت النخلة يابسة فأثمرت للحال وأينعت جنى رطبا (البيضاوى). قال الزمخشرى: " لم تكن التسلية لهما من حيث انهما طعام وشراب، ولكن من حيث انهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة ، والبعد عن الريبة".
الآية التاسعة: النبوة المعجزة منذ مولده
"قال: انى عبد الله آتانى الكتاب وجعلنى نبياً" (مريم 30)؛ " ويكلم الناس فى المهد وكهلاً" (آل عمران 46)؛ " اذ أيدتك بروح القدس، تكلم الناس فى المهد وكهلاً" (المائدة 110).
صفة المسيح منذ مولده ينطق بها فى مهده: " إنى عبد الله". فى لغة الكتاب كله، كلمة " عبد الله" كناية عن النبوة، كما يظهر من الآية نفسها: قال: "انى عبد الله، آتانى الكتاب، وجعلنى نبياً"، فقد وُلد المسيح، ولم يصر نبياً فى كهولته كسائر الأنبياء. وقد وُلد على الهدى، ولم يهتد بالدعوة للنبوة.
قال الزمخشرى والبيضاوى: "أكمل الله عقله واستنبأه طفلاً". فالمعجزة مزدوجة: اكمال العقل، وهو طفل، والاستنباء وهو طفل. وقوله: " تكلم الناس فى المهد وكهلاً" يدل على أن نبوته لا تفاوت فيها بين الحداثة والكهولة. والمعجزة الخارقة بين الرسل أجمعين. ان المسيح وحده ولد نبياً، بينما يحيى " آتاه الحكم (الحكمة) صبياً"، وموسى فى
سن الشيخوخة، ومحمد فى سن الأربعين، وقد قضى من قبل عمره فى ضلال: " ووجدك ضالاً فهدى" (الضحى 7).
الآية العاشرة: النبوة والمعجزة فى شمولها وكمالها، وفى طريقة تلقّيها وتبليغها
" ويعلمه الكتاب والحكمة، والتوراة والانجيل" (آل عمران 48)؛ " اذ ايدتك بروح القدس، تكلم الناس فى المهد وكهلاً؛ واذ علمتك الكتاب والحكمة، والتوراة والانجيل" (المائدة 110).
إن "الحكمة" هنا اصطلاح قرآنى كناية عن الانجيل، كما يظهر من عطف البيان بين الكتاب والحكمة، ثم التوراة والانجيل، وكما يدل عليه قوله: "ولما جاءَ عيسى بالبينات قال: قد جئتكم بالحكمة" اى بالانجيل (الزخرف 63).
فالسيد المسيح قد أوتى الوحى والتنزيل كله: "الكتاب والحكمة، والتوراة والانجيل". وهذا الشمول فى النبوة لم ينله أحد من الرسل أجمعين. وتلقى المسيح الوحى كله من الله مباشرة، بلا وسيط ولا وسط: " يعلمه" "علمتُك". فلا هو "تكليم" من وراء حجاب مثل موسى الكليم؛ ولا هو وحى بواسطة جبريل مثل محمد.
وامتاز أيضاً على جميع الأنبياء والمرسلين بتأييد روح القدس له: " واذ ايدتك بروح القدس، تكلّم الناس فى المهد وكهلاً". كان تأييد روح القدس للأنبياء فى ساعة التبليغ عن ربهم لا غير. فهم خارج حالة الوحى غير معصومين. أما السيد المسيح فكانت العصمة ميزته طول حياته، " فى المهد وكهلاً". قال الرازى: " وذلك من غير ان يتفاوت كلامه فى هذين الوقتين. وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له، وما حصلت لأحد من الأنبياء، قبله ولا بعده".
وامتاز أيضاً بالعصمة قولاً وعملاً. كان روح القدس "لا يفارقه ساعة" : "وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس" (البقرة 87 و253)، " يسير معه حيث سار" (الجلالان) - اعجاز فى الأقوال واعجاز فى الاعمال، اعجاز فى السيرة وإعجاز فى الدعوة. بهذا انفرد المسيح على العالمين وعلى المرسلين أجمعين.
فنبوءة المسيح معجزة كيفما واجهتها: معجزة فى كيفية تلقيها مباشرة من الله؛ معجزة فى كيفية ممارستها، بتأييد الروح القدس، "لا يفارقه ساعة"، "يسير معه حيث سار"؛ معجزة فى شمولها على الوحى كله؛ معجزة فى كمالها بالدعوة والسيرة معاً؛ معجزة بالأقوال والاعمال. هذا هو الاعجاز المطلق فى النبوة، الذى لا يذكر القرآن له مثيلاً عند ابراهيم وموسى ومحمد.
________________________________________
(1) الرازى على آية البقرة 253
__________________________
الآية الحادية عشرة: التكليف طفلاً
" وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حياً" (مريم 31) يعلن المسيح ذلك منذ مولده. قال الزمخشرى: "أوصانى بالصلاة وكلّفنيها واحد". فالله قد استنبأ المسيح طفلاً، وكلّفه طفلاً. وهذا لم ينله أحد من العالمين والمرسلين.
الآية الثانية عشرة: العصمة فى السيرة مدى الحياة
"وجعلنى مباركاً أينما كنت" (مريم 31)، "ومن الصالحين" (آل عمران 46).
إن البركة فى لغة الكتاب والقرآن تعنى تخصيص الله للمبارك بالعناية والتقديس والتفضيل. فالمسيح هو "المبارك" فى كل الأحوال، ومدى الحياة. وهذه البركة التى اختصه الله بها من دون العالمين والمرسلين جعلته، فى حياته، "من الصالحين". بالمعنى اللغوى، المسيح هو رجل الصلاح أينما كان: فلا عتاب له على عمل، ولا تحذير له من موقف يقفه، ولا دعوة للاستغفار من ذنب، مثل غيره. وبالمعنى الاصطلاحى الذى يتضح من الآية "ويكلم الناس فى المهد وكهلاً، ومن الصالحين" (آل عمران 46)، فالمسيح قدوة فى النبوة، لا شائبة على نبوته ورسالته، فليس بحاجة الى الاستغفار من فرطاته فيها "اذا جاء نصر الله والفتح". إنها العصمة فى السيرة مدى الحياة، دليلاً على صحة الرسالة والعصمة فيها.
الآية الثالثة عشرة: العصمة فى الرسالة بتأييد روح القدس له
"وأيدناه بروح القدس" (البقرة 87 و 253)، "اذ ايدتك بروح القدس" (المائدة 110). وهذا التأييد لا يقتصر على حال الوحى والتنزيل، بل يشمل السيرة والرسالة جميعاً، "يسير معه حيث سار"، "لا يفارقه ساعة".
الآية الرابعة عشرة: الوجاهة فى الدنيا والآخرة
"وجيها فى الدنيا والآخرة، ومن المقربين" (آل عمران 45)
قال الطبرى: "وجيها: ذو وجه ومنزلة عالية عند الله وشرف وكرامة". أجمع المفسرون على ان الوجاهة فى الدنيا هى النبوة، وفى الآخرة الشفاعة فى يوم الدين. والتعبير أشمل: انه وجه الدنيا، عند الله، ووجه الآخرة؛ انه وجه النبوة فى الدنيا هى النبوة، وفى الآخرة الشفاعة فى يوم الدين. إنه وجه الخلق والكون فى القربى من الله فى الجنة والخلود، قال أيضاً الطبرى: "وجيهاً يعنى انه ممن يقرّبه الله يوم القيامة، فيسكنه فى جوراه ويدنيه منه". إنه " من المقربين" فى الجنه لكنه وجيه المقربين ووجههم عند الله. هذا بحسب التعبير اللغوى. لكن كلمة " المقربين" اصطلاح قرآنى يعنى المقربين من الملائكة: "لن يستنكف المسيح ان يكون عبداً لله، ولا الملائكة المقربون" (النساء 172). فقول القرآن فى شأن المسيح أنه " من المقربين" يعنى انه من "الملائكة المقربين" والوجيه فيهم. وهذا يرفع المسيح من صف البشر الى صف الملائكة المقربين. يقول بحق محمد: "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً" (الاسراء 79). أما المسيح فهو وجه البشر، ووجه الرسل، ووجه الملائكة، عند الله فى الدنيا والآخرة، إنه سيد الخلق والكون. هذا هو الاعجاز الشخصى الذى لا يرقى اليه مخلوق. وذلك بنص القرآن القاطع ومعناه الساطع.
الآية الخامسة عشرة : الرسالة المعجزة
"ورسولاً الى بنى اسرائيل: أنى قد جئتكم بآية من ربكم ..." (آل عمران 49). قال الشبرى: "ىية: التنوين للتفخيم، والتنكير دليل العدد"، فالمراد "بآية" الجنس، لا الفردية. والمسيح يستهل دعوته بالمعجزة. والآية تفصّل منها أربعة انواع، كما سنرى. فالقرآن يجعل المعجزة برهان النبوة والرسالة فى دعوة المسيح. وقد استجمع القرآن للمسيح ما لم يستجمعه أحدُ من المرسلين. فهو ليس كمحمد قد منعت عنه المعجزات مبدئياً (الاسراء 59) وفعلاً (الانعام 37). فالمسيح سيد الرسل فى رسالته المعجزة.
الآية السادسة عشرة: الآخرة المعجزة
"اذ قال الله: يا عيسى انى متوفيك ورافعك الىّ" (آل عمران 55) "والسلام على يوم ولدت! ويوم أموت! ويوم أُبعث حياً" (مريم 33)
فالمسيح منذ ولادته يتنبأ عن آخرته: وهذه النبوءة فى المهد معجزة، وهى دليل صحة النبوءة عن آخرته: إنه سيموت وسيبعث حياً. وهذان الموت والبعث سيقعان فى آخرة المسيح على الأرض، وقد وقعا حين مؤامرة اليهود: "ومكروا ومكر الله بهم والله خير الماكرين، إذ قال الله، يا عيسى انى متوفيك ورافعك الىّ" (آل عمران 54 – 55). فالنص مترابط محكم، يجزم بأنّ الموت والبعث والرفع وقعت للمسيح رداً على مؤامرة اليهود لقتله. وعن ابن عباس "متوفيك" "مميتك". فالمسيح فى آخرته على الأرض مات ثم انبعث حياً وارتفع الى السماء. وهذه الصراحة فى (مريم 33) وفى (آل عمران 55) ترفع ما تشابه فى آية النساء: "وما قتلوه وما صلبوه، ولكن شُبّه لهم" (157) والبعث حياً لا يقوم إلاّ بعد موت، بقتل أو سواه. وهذه هى الآخرة المعجزة التى انفرد بها المسيح على العالمين والمرسلين: كلهم ينتظرون يوم يبعثون؛ والمسيح وحده بُعث حياً ورفع حياً إلى السماء، بعد موته. وهذه معجزة المعجزات فى كل السير والرسالات.
الآية السابعة عشرة: رفع المسيح حياً إلى السماء
"وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله اليه" (النساء 157 – 158). "اذ قال الله: يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إلىّ" (آل عمران 55)
قضية رفع المسيح حياً الى السماء، الى عند الله، حقيقة قرآنية صريحة قائمة لا ريب فيها. قال الرازى: "ورفع عيسى عليه السلام الى السماء ثابت بهذه الآية (النساء 158). ونظير هذه الآية قوله فى (آل عمران 55): إنى متوفيك ورافعك الىّ". وهذا التفسير المتواتر عند الأقدمين ينقض تفسير بعض المعاصرين بأنه رفع معنوى، قد يكون بالروح أو بالمعنى. ورفع المسيح حياً الى السماء، أمات وبُعث ورفع كما فى (سور مريم 33، آل عمران 55؛ المائدة 117)، أم رفع حياً بدون قتل ولا موت، كما فى ظاهر آية النساء: "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبه لهم" (157) ثابت قائم بنصوص القرآن الصريحة القاطعة.
والمشكل هو كيفية الرفع الذى تخلقه آية النساء (157)، مع تعارضها لما سبقها (مريم 33 آل عمران 55)، ولما لحقها: "فلمّا توفيتنى كنت انت الرقيب عليهم" (المائدة 117). آية متشابهة (النساء 157) لا تنقض ثلاث سور فى آيات محكمات. والسبيل الوحيد لرفع التعارض هو فى فهم آية النساء (157) على ضوء آية النساء (158): "وما قتلوه يقينا، بل رفعه الله اليه". فالبعث والرفع حياً انتصار على مكر اليهود بقتله، فكأنهم بهذه الطريقة الإلهية "ما قتلوه وما صلبوه، ولكن شبه لهم" اى ظنوا ذلك، وخُيّل اليهم. واسلوب القرآن فى آيتى النساء هو الإثبات فى معرض النفى، وهو أبلغ. يرد على "قولهم: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم"، لا ينفى الحقيقة التاريخيّة المتواترة التى تؤكدها اليهودية والمسيحية والآيات القرآنية كلها، بل بتوكيد وجوده حيا فى السماء، فكأنهم "ما قتلوه وما صلبوه". إنه الاسلوب البيانى للإثبات فى معرض النفى. وهذا الاسلوب القرآنى البيانى هو ما فات جميع الذين ينقضون قتل المسيح وصلبه، ويخلقون تناقضاً فى القرآن نفسه، وتناقضاً ما بين الانجيل والقرآن لا وجود له.
ورفع المسيح حياً الى السماء، بدون موت، هو أبلغ فى الاعجاز والمعجزة من رفعه بعد موت وبعث: لأن رفعه حيا بدون موت هو رفع المسيح فوق طبيعة المخلوقين ومصير البشر المحتوم؛ فيجعلون المسيح، من حيث لا يدرون، فوق جنس البشر.
لكن آخر آية نزلت فى آخرة المسيح تقضى على كل جدل ومراء: "وكنت عليهم رقيباً ما دمت فيهم، فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم" (المائدة 117). فهى تعلن موت المسيح فى آخر حياته على الأرض، كما اعلنتها أول آية نزلت فيها: "والسلام على يوم ولدت، ويوم أموت، ويوم أُبعث حياً" (مريم 33). ان القرآن صريح بأن المسيح مات وبعث حياً ورُفع حياً الى السماء. لكن هل مات بقتل وصلب؟ ظاهر آية النساء ينفيه، لكن باطنها واسلوب التعبير فيها يؤكده.
ورفْع المسيح حيا الى السماء معجزة انفرد بها المسيح على العالمين وعلى المرسلين أجمعين. لقد امتاز على البشر أجمعين بمعجزة دخوله الحياة الدنيا، وامتاز عليهم بمعجزة خروجه منها: فهو سيد البشر، وسيد الأنبياء والرسل.
الآية الثامنة عشرة: وعد الله بإعلاء المؤمنين بالمسيح على العالمين
"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا الى يوم القيامة" (آل عمران 55). قال الطبرى: "الذين اتبعوك: من هم؟ عن السدى: هم المؤمنون به. وعن الحسن هم المسلمون. وقيل: بل هم الروم. وقال آخرون: وجاعل الذين اتبعوك من النصارى فوق اليهود الى يوم القيامة. وقال ابن وهب: ليس بلد فيه من النصارى، إلاّ وهم فوق يهود، فى شرق ولا غرب".
إن قرائن الآية القريبة تجعل رفعة النصارى على اليهود الى الأبد. لكن نص الآية المطلق يعنى رفعة المؤمنين بعيسى على الكافرين به شاملاً العالمين. ووعد القرآن المسلمين باستخلافهم فى الأرض فقط: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض ...؛ وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم" (النور 55). أما قوله: "هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون" (الصف9، الفتح 28؛ التوبه 33)، فان قرينة "المشركين" تدل على ظهور الاسلام على الشرك فى جزيرة العرب.
إن الوعد برفعة المؤمنين بالمسيح، والوعيد بذل وعذاب الكافرين به (56) ميزة لم يذكرها القرآن لغيرهم.
الآية التاسعة عشرة: الخلاص أو الهلاك يقومان على الايمان بالمسيح أو الكفر به
"فأما الذين كفروا (بالمسيح) فأعذبهم عذاباً شديداً فى الدنيا والآخرة، وما لهم من ناصرين. وأما الذين آمنوا (بالمسيح) وعملوا الصالحات فيوفيهم اجورهم، والله لا يحب الظالمين" (آل عمران 56 – 57).
هذا تفصيل الحكم على المؤمنين بالمسيح وعلى الكافرين به، كما يقول الزمخشرى والبيضاوى. فإن الخلاص فى الدنيا والآخرة يقوم على الايمان بالمسيح، والهلاك بالعذاب الشديد فى الدنيا والآخرة يعود الى الكفر بالمسيح. ولا يقول القرآن ذلك بحق نبى ولا رسول.
الآية العشرون: أوحى الله الى صحابته
"واذ أوحيت الى الحواريين: أن آمنوا بى وبرسولى" (المائدة 111)
لا يذكر القرآن ان الله أوحى لصحابة أحد من الرسل. وقد خص المسيح بهذه الميزة التى انفرد بها على المرسلين، فأوحى الى صحابة المسيح كما أوحى الى الأنبياء، فجعل تلاميذه الحواريين أنبياء له فى ايمانهم ودعوتهم.
الآية الحادية والعشرون: المسيح علامة وعلْم للساعة
"وإنه لعلم للساعة" (الزخرف 61).
فسرة الزمخشرى: "وان عيسى عليه السلام (لَعِلْم للساعة) أى شرط من أشراطها، تُعلم به، فسمى الشرط علْمًا لحصول العلم به. وقرأن ابن عباس (لَعَلَمُ) وهو العلامة". فرجوع المسيح على الأرض فى آخر العالم واضح بهذه الآية، ورجوعه شرط من أشراطها، وعلامة على وقوعها. فهو علامة عليها وعلْم بها. وهذه ميزة للمسيح انفرد بها على المرسلين أجمعين. جميعهم أدّوا رسالتهم وانقضى أمرهم؛ أما المسيح فدوره فوق الزمان، يدوم الى آخر الزمان. وظهوره لليوم الآخر يجعله خاتمة النبوة والرسالة.
الآية الثانية والعشرون: المسيح هو الشفيع وحده فى يوم الدين
"وجيها فى الدنيا والآخرة، ومن المقربين" (آل عمران 45)
لقد أجمع المفسرون ان الوجاهة فى الدنيا هى النبوة، والوجاهة فى الآخرة هى الشفاعة. ونرى فى سورة المائده (109) " يوم يجمع الله الرسل" للحساب على تبليغ رسالاتهم، صورة من شفاعة المسيح. ولا يذكر القرآن الشفاعة لنبى ولا لرسول ولا لمحمد نفسه. يقول لمحمد: "ومن الليل فتهجّد به نافله لك، عسى ان يبعثك ربك مقاماً محموداً: وقلْ: ربّ أدخلنى مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق واجعل لى من لدنك سلطاناً نصيراً" (الاسراء 79 -80). فالقرائن الواضحة تدل على ان المقام المحمود المأمول هو فى مصير محمد على الأرض، بمناسبة الهجرة الى المدينة. وليس من قرينة فى النص توحى
بالمقام المحمود فى الآخرة. وهب انه " المقام المحمود" فى الآخرة، فهذا المقام لا يعنى الشفاعة يوم الدين، حيث " الشفاعة لله جميعاً"، إلا للملائكة المقربين والمسيح.
تلك هى آيات سيرة المسيح التى تتخطى، فى عرْف القرآن، حدود الزمان والبشرية. وقد ميّز الله المسيح على الرسل بأن جعل سيرته معجزة رسالته، وبرهان شخصيته. وما آتى ذلك أحداً من العالمين والمرسلين. فالمسيح وحده هو فى سيرته "آية للناس".
تلك هى آيات اعجاز المسيح فى سيرته.
إن العبقرية والبطولة ليستا اعجازاً فى الشخصية، فليسا هما أمراً خارقاً للعادة فى البشرية، سالماً عن المعارضة، مقرونا بالتحدى، كما جعل القرآن اعجاز الشخصية فى السيد المسيح. فهى خارقة لعادة البشرية، وعادة الأولياء وعادة الأنبياء. وقد اقترنت شخصية المسيح بالتحدى فى أحوالها وأعمالها وأقوالها. وسلمت شخصية المسيح من المعارضة، بينما كل عبقرية، وكل بطولة، وكل نبوة، لها مثيل فى تاريخ البشرية والنبوة.
أما الاعجاز المطلق فهو فى شخصية السيد المسيح.
ثالثاً: إعجاز المسيح فى رسالته، بحسب القرآن
ان اعجاز شخصية المسيح، واعجاز سيرته، دعامتان لإعجاز رسالته. والإعجاز فى رسالة المسيح قائم فى التنزيل، وفى البلاغ، وفى التبليغ وفى البيان والتبيين؛ فهو اعجاز فى الرسول والرسالة معاً.
1 - الاعجاز فى التنزيل بالانجيل
بحسب نظرية القرآن فى التنزيل، طرقُ الوحى ثلاث: "وما كان لبشر أن يكلمه لله الاّ وحياً، أو من وراء حجاب، أو يُرسل رسولاً فيُوحى بإذنه ما يشاء، انه علىّ حكيم" (الشورى 51). فالتنزيل إما وحى مباشر من الله لعبده، وهذه طريقة عيسى؛ وإمّا وحى من وراء حجاب، وهى طريقة موسى بالتكليم (النساء 164)؛ وإمّا بواسطة ملاك رسول الى النبى، وهذه أدنى طرق الوحى، وهى طريقة محمد: " وكذلك أوحينا اليك روحاً من أمرنا" (الشورى 52) اى بواسطة ملاك من عالم الأمر: قلْ: من كان عدواً لجبريل فإنه نزّله على قلبك بإذن الله مصدّقاً لما بين يديه" (البقرة 97).
فالوحى القرآنى كان بالواسطة؛ والوحى التوراتى كان بالتكليم؛ والوحى الإنجيلى كان بالحديث المباشر ، وذلك بنص القرآن القاطع: "واذ علمتك الكتاب والحكمة، والتوراة والانجيل" (المائدة 110)، "ويعلمه الكتاب والحكمة، والتوراة والانجيل" (آل عمران 48).
بالوحى والتنزيل أرسل الله الى البشر كلمات: "قلْ: لو كان البحر مداداً لكلمات ربى، لنَفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربى، وجئنا بمثله مدداً" (الكهف 109). لكنه فى المسيح نزلت كلمة الله الذاتية عينها "كلمته القاها الى مريم، وروح منه" (النساء 171)، أى " كأنه صار عين كلمة الله" (الرازى). كان كلام الله مع جميع الأنبياء والمرسلين، وحياً وكتاباً منزلاً؛ فصار كلام الله فى المسيح شخصاً منزلاً، هو "كلمته وروح منه". كان الوحى "كلمات" لفظية، فصار بالمسيح "كلمة الله" الذاتية. فعيسى ابن مريم يحمل الى الناس فى شخصه "كلمة الله" الذاتية عينها. وهذا هو الاعجاز المطلق فى التنزيل.
2 - الاعجاز فى البلاغ
الانجيل هو "الحكمة" المنزلة، و"العلم".
المنزل اعجاز الانجيل فى البلاغ يتضح فى وصفه بانه "الحكمة" و "العلم"، بتأييد روح القدس.
فى عرف القرآن، إن الانجيل هو "الحكمة" المنزلة، على الاطلاق.
يأخذ القرآن تعبير الحكمة حيناً بالمعنى اللغوى، وأحيانا بالمعنى الاصطلاحى. يرد المعنى اللغوى فى خمس آيات فهو يقول فى داود: "وآتاه الله الملك والحكمة" (البقرة 251)، "وشددنا ملكه، وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب" (ص 20)؛ وفى لقمان: "ولقد آتينا لقمان الحكمة" (لقمان 12)؛ وفى القصص القرآنى: "لقد جاءَهم من الأنباء ما فيه مزدَجَر، حكمة بالغة، فما تُغنى النذر" (القمر 4 – 5)؛ وفى كل حكمة يمنّ الله بها على بشر: "يُؤتى الحكمة من يشاء، ومَن يُؤتَ الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً" (البقرة 269).
لكن المعنى الاصطلاحى هو الغالب فى التعبير؛ وفى عرْف القرآن، إن "الحكمة" كناية عن الانجيل، كما فى تصريحه: "ولما جاءَ عيسى بالبينات قال: قد جئتكم بالحكمة"
(الزخرف 63)، وهو مثل قوله: "وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور" (المائدة 46). يطلق القرآن صفة النور والهدى على التنزيل كله فى الكتاب؛ لكنه يختص الانجيل "بالحكمة". وقد تعلّم المسيح الكتاب والحكمة، أى التوراة والانجيل، من الله مباشرة، فهو يرادف بينهما بعطف بيان: " واذ علمتك الكتاب والحكمة - والتوراة والانجيل" (المائدة 110)، "ويعلمه الكتاب والحكمة - والتوراة والانجيل" (آل عمران 48). ففى اصطلاح القرآن، إن الكتاب والحكمة هما كناية عن التوراة والانجيل. فالانجيل هو الحكمة المنزلة.
وهذا هو عهد الله مع النبيين: "واذ أخذ الله ميثاق النبيين: لَمَا آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءَكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنُنّ به ولتنصُرُنّه" (آل عمران 81). فهو يوجز التنزيل كله الى محمد فى الكتاب والحكمة، اى التوراة (ومن عليها من الأنبياء) والانجيل.
وما رسالة محمد إلاّ ليعلّم العرب الكتاب والحكمة اى التوراة والانجيل: "ما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة، يعظكم به" (البقرة 231)، "وأنزل عليك الكتاب والحكمة، وعلمك مالم تكن تعلم" (النساء 113). لذلك فالقرآن "يعلمهم الكتاب والحكمة" (البقرة 129؛ آل عمران 164؛ الجمعة 2)، ومحمد فى القرآن "يعلمكم الكتاب والحكمة" (البقرة 151). فالقرآن هو "من آيات الله (الكتاب) والحكمة" (الاحزاب 34)، لكنه بنوع خاص من حكم الانجيل: "أوحى اليك ربك من الحكمة" (الاسراء 39). لذلك كانت طريقة محمد الأولى، "ادعُ الى سبيل ربك بالحكمة، والموعظة الحسنة" (النحل 125).
وهكذا ففى اصطلاح القرآن العام، إن "الحكمة" كناية عن الانجيل. فالانجيل هو الحكمة الإلهية المنزلة، هذه ميزته على التنزيل كله. لاحظ أيضاً اطلاق التعبير وشموله، فهو يقول دائماً "الحكمة": فالإنجيل هو "الحكمة" الإلهية المنزلة على الاطلاق. والانجيل هو أيضاً فى عرف القرآن "العلم" الإلهى المنزل على الاطلاق؛ وأهل الانجيل هم "أولو العلم قائماً بالقسط".
يأتى تعبير "العلم" كثيراً بالمعنى اللغوى. لكنه يأتى أحياناً بالمعنى الاصطلاحى. فالقرآن يقسم العرب الى "أولى العلم" و "الذين لا يعلمون" أى إلى أهل الكتاب والمشركين: "قال
الذين لا يعلمون" (البقرة 113 و118)، "سبيل الذين لا يعلمون" (يونس 89)، "على قلوب الذين لا يعلمون" (الروم 59)، "أهواء الذين لا يعلمون" (الجاثية 18)؛ وأهل الكتاب هم "الذين أوتوا العلم" (16: 27 ؛ 28: 80؛ 30: 56؛ 17: 107؛ 22: 54؛ 29: 49؛ 34: 6؛ 47: 16). ويميّز ويفاضل بين الفريقين بقوله: "هل يستوى الذين يعلمون، والذين لا يعلمون"! (الزمر 9) - ومن الجهل حمل هذا التعبير على المعنى اللغوى.
لكن القرآن يميّز بين "أولى العلم" المقسطين، المحسنين اى النصارى، وبين "أولى العلم" الظالمين اى اليهود: "ولا تجادلوا أهل الكتاب، إلاّ بالتى هى أحسن، إلاّ الذين ظلموا منهم" (العنكبوت 46). والنصارى، أولو العلم المقسطون هم "الراسخون فى العلم" الذين يؤمنون بمتشابه القرآن مثل المحكم فيه (آل عمران 7). فهم "أولو العلم قائماً بالقسط" الذين يشهدون مع الله وملائكته "أن الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 18 – 19). لذلك فالقرآن يجعل فى منزلة واحدة أهل القرآن وأولى العلم من دون الناس أجمعين: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" (المجادلة 11).
وما تفرّق اليهود "إلاّ من بعد ما جاءَهم العلم بغياً بينهم" (آل عمران 19؛ الشورى 14؛ الجاثية 17). فالقرآن يحصر "العلم" بالانجيل. ويجادل المشركين بهدى الكتاب وعلم الانجيل، فى الكتاب المنير كله: "ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير" (لقمان 20؛ الحج 8)؛ ويتحداهم بقوله: "ائتونى بكتاب من قبل هذا، أو أثارة من علم، إن كنتم صادقين" (الاحقاف 4).
ويستشهد على الدوام "بمن عنده علم الكتاب" (الرعد 43) أى النصارى من دون اليهود. فما عليه ان يجاريهم فى أهوائهم "بعد الذى جاءَك من العلم" (البقرة 120)، "من بعد ما جاءَك من العلم" (البقرة 145؛ آل عمران 61). ففى اصطلاح القرآن المتواتر، ان "العلم" كناية عن الانجيل؛ و"أولو العلم قائماً بالقسط" "الراسخون فى العلم"، "من عنده علم الكتاب" هم النصارى. فالانجيل هو "العلم" الإلهى المنزل على الاطلاق. وهذه ميزة ثانية للبلاغ الانجيلى، فى اصطلاح القرآن.
ويمتاز البلاغ الانجيلى أيضاً عن التنزيل كله أنه "الحكمة" ، وأنه "العلم" على الاطلاق، بسبب امتياز التنزيل الانجيلى بتأييد روح القدس: "واذ ايدتك بروح القدس تكلم الناس
فى المهد وكهلاً" (المائدة 110). فالاعجاز الإلهى يرافق البلاغ الانجيلى منذ المهد الى الكهولة. قال الرازى: " وذلك من غير ان يتفاوت كلامه فى هذين الوقتين؛ وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له، وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده".
هذا هو اعجاز المسيح المطلق فى البلاغ الانجيلى: إنه "الحكمة" الالهية المنزلة على الاطلاق، بنص القرآن القاطع. إنه "العلم" الالهى المنزل على الاطلاق، بنص القرآن القاطع. وهو البلاغ الإلهى الوحيد الذى امتاز بتأييد روح القدس، بنص القرآن القاطع.
والى جانب هذه الميزات الايجابية التى انفرد بها البلاغ الانجيلى، هناك أيضاً ميزات سالبة مانعة. فلا يذكر القرآن أن فى البلاغ الانجيلى "آيات محكمات وأخر متشابهات" (آل عمران 7) أو تبديل آية مكان آية (النحل 101) أو نسخ حكم بحكم (البقرة 106) أو ينسخ الله ما يلقى الشيطان فى قراءَته (الحج 52) فالبلاغ الانجيلى كامل لأنه "الحكمة" ولأنه "العلم" على الاطلاق.
وهذه "الحكمة" المعجزة، وهذا "العلم" المعجز، فى البلاغ، قد اقترنا بالمعجزة المطلقة فى التبليغ.
3 - الاعجاز فى التبليغ
لقد أجمع علماء الكلام، من كل ملة، ان المعجزة دليل النبوة الأوحد. والقرآن يجعل المعجزة ميزة التبليغ الالهى فى الوحى والتنزيل: فهى، كما رأينا، "السلطان المبين" الذى به يؤيد الله أنبياءَه فى تبليغ رسالات ربهم. لذلك كانت المعجزة، فى نظر القرآن، "سنّة" الله فى أنبيائه. فلا رسالة من الله بدون معجزة تؤيدها.
ويشهد القرآن ان رسالة المسيح قد امتازت على سائر الرسالات بالمعجزات البينات، التى لم تبلغ عند أحد من المرسلين ما بلغته عند السيد المسيح فى سموّها، وفى تنوّعها، وفى كثرتها. أجل إن "البيّنات" سُنّة الله فى بعثة رسله: "وجاءَتهم رسلهم بالبينات" (10: 13؛ 14: 9؛ 30: 9؛ 35: 25؛ 40: 83). لكن المعجزات كانت ميزة عيسى الكبرى فى رسالته: "وآتينا عيسى ابن مريم البينات، وأيدناه بروح القدس" (البقرة 87 و 253 قابل الزخرف 63). ولقد امتاز السيد المسيح على الرسل أجمعين بالمعجزات العظام، بسبب تأييد روح القدس الدائم له. ولا يذكر القرآن ذلك لنبى ولا رسول.
يقتصر دور الروح القدس عند الرسل على التنزيل وحده؛ وخارج حالة الوحى فهم لا يتمتعون بتأييد روح القدس لهم؛ أما السيد المسيح فهو يتمتع على الدوام فى كل الأحوال والأقوال والاعمال بعصمة الروح القدس وتأييده. فقد أجمع المفسرون الطبرى والزمخشرى والبيضاوى والجلالان وعلى نقل قول ابن عباس: "ان روح القدس هو الاسم الاعظم الذى كان يُحيى به عيسى عليه السلام الموتى"؛ "وكان لا يفارقه ساعة" (الرازى على البقرة 253)، "يسير معه حيث سار" (الجلالان).
ويفصّل القرآن معجزات المسيح البينات بقوله: "ورسولاً الى بنى اسرائيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم: أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله،؛ وأبرئ الأكمه والأبرص، وأحيى الموتى بإذن الله؛ وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون فى بيوتكم. إن فى ذلك لآية لكم، إن كنتم مؤمنين ... وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون" (آل عمران 49 – 50 قابل المائدة 110).
لاحظ عنصر التحدّى فى معجزات المسيح: فالقرآن يكرر ثلاث مرات ان معجزاته دلائل نبوته ورسالته ودعوته.
والقرآن يحكى أربعة أنواع من المعجزات للمسيح: نوعان شاركه فيها غيره من الأنبياء، وهما معجزات الابراء، ومعجزات الانباء بالغيب؛ ونوعان انفرد بهما على المرسلين أجمعين، وهما الإحياء والخلق.
النوع الأول من معجزات المسيح: الابراء، كان فى السيد المسيح قدرة خارقة على ابراء المرضى، لم تعرف لها البشرية مثيلاً: "روى أنه عليه الصلاة والسلام، ربما اجتمع اليه خمسون ألفاً من المرضى، مَن أطاق منهم أتاه، ومَن لم يطق أتاه عيسى. وما كانت مداواته إلاّ بالدعاء وحده" (البيضاوى). والقرآن يخص بالذكر شفاء الأبرص، والأكمه اى الأعمى منذ مولده
والنوع الثانى هو الانباء بالغيب: "وأنبئكم بما تأكلون، وما تدخرون فى بيوتكم". هذا عن غيب المخلوق؛ وأما عن غيب الخالق فهو الكشف عن الله واليوم الآخر. بينما يعلن القرآن عن محمد: "ولا أعلم الغيب" (الانعام 50)، "ولو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّنى السوء" (الاعراف 188). فالسيد المسيح كان عنده "علم الغيب"من دون العالمين.
والنوع الثالث هو احياء الموتى (آل عمران 49؛ المائدة 110). والإحياء عمل الهى مباشر فوق طاقة المخلوق. وقد كانت هذه القدرة الإلهية فى السيد المسيح. ولا يُنقص منها فيه تكرار وصفها " بإذن الله" (آل عمران 49)، "بإذنى" (المائدة 110)، لأن العمل المعجز واحد فى الله ومسيحه.
والنوع الرابع، وهو الاعظم، القدرة على الخلق: " واذ تخلق من الطين كهيئة الطير، بإذنى، فتنفخ فيها فتكون طيراً، بإذنى" (المائدة 110)، "انى اخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً، بإذن الله" (آل عمران 49). إنه يملك قدرة الله على الخلق، وان كان ذلك بإذن الله. فالله يقول "تخلق"، والمسيح يقول "أخلق"، ولا يستعمل القرآن لفظ الخلق بحق أحد من المخلوقين على الاطلاق، إلاّ بحق المسيح وحده، بعد الخالق سبحانه. بسلطان الخلق يرفع القرآن السيد المسيح من رتبة المخلوق الى رتبة الخالق؛ هذا رباه، بدون شرك ولا كفر.
وهناك نوع خامس، المعجزة من السماء. لقد تحداه الحواريون بتنزيل مائدة من السماء عليهم، "نأكل منها وتطمئن قلوبنا، ونعلم ان قد صدقتنا، ونكون عليها من الشاهدين": فقبل التحدى: "قال عيسى، ابن مريم: اللهم ربنا، أنزل علينا مائدة من السماء". ولبى الله تعالى الدعاء: إنى منزلها عليكم" (المائدة 112 – 115). لقد رأى صحابة عيسى منه معجزات أرضية، وهنا يطلبون منه معجزة من السماء (الرازى). فنزلت وصارت "عيداً لأولهم وآخرهم". فآمن الحواريون ومعهم العالم، حتى الاستشهاد.
طلب المشركون من محمد ان ينزّل عليهم كتاباً من السماء يقرأونه، فصاح: قل سبحان ربى هل كنت إلا بشراً رسولاً" (الاسراء 93). وتحدى الحواريون عيسى بمائدة من السماء، فاستنزلها عليهم وصارت "عيداً لأولهم وآخرهم". هذا منتهى الاعجاز، فى التحدى بالمعجزة الإلهية.
يهذه المعجزات العظام والتى لم يستجمعها نبى ولا رسول فضّل القرآن السيد المسيح على الرسل أجمعين: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض: منهم مَن كلّم الله، ورفع بعضهم درجات، وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس" (البقرة 253). لقد فضل موسى على غيره بالتكليم؛ وادريس "رفعناه مكاناً علياً" (مريم 56 – 57)؛
وفضّل عيسى على سائر الانبياء والرسل "بالبينات" من أقوال واعمال معجزة، وخصوصاً باختصاصه من دون المرسلين أجمعين بتأييد روح القدس له. قال البيضاوى: "وجعل معجزاته (اى عيسى) سبب تفضيله، لأنها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره" . وقال الزمخشرى: "وهذا دليل بيّن أن مَن زيد تفضيلاً بينهم بالآيات، فقد فُضّل على غيره". فالقرآن لذلك يفضّل المسيح على الرسل أجمعين بلا استثناء. واختصاصه فى سيرته ورسالته بتأييد روح القدس، يجعله فى مرتبة فريدة فوق الرسل كلهم؛ فروح القدس هو "الاسم الأعظم الذى كان عيسى يحيى به الموتى" (عن ابن عباس بالاجماع)، "وكان لا يفارقه ساعة" (الرازى)، "يسير معه حيث سار" (الجلالان). ولا يذكر القرآن لنبى أو رسول حتى ولا "لخاتم النبيين" شيئاً من مثل هذا.
هذا هو الاعجاز المطلق فى المعجزة، برهان الدعوة والشخصية.
4 - إعجاز الانجيل فى البيان والتبيين
إن القرآن يستخدم تعبير "البينات" بالنسبة الى معجزات المسيح: "وآتينا عيسى ابن مريم البينات، وايدناه بروح القدس" (البقرة 87 و 253 قابل المائدة 110)؛ وبالنسبة الى تعليمه واسلوبه فى البيان والتبيين: "ولمّا جاء عيسى بالبينات ، قال: قد جئتكم بالحكمة" (الزخرف 63)، "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا (اليهود) من بعد ما جاءَهم البينات" (آل عمران 105 قابل البقرة 213 و253).
فآيات المسيح فى الانجيل "بيّنات". يقول القرآن ذلك أيضاً بحق التوراة: "جاءَكم موسى بالبيّنات" (البقرة 92 قابل العنكبوت 39)؛ وبحق القرآن: "وشهدوا ان الرسول حق، وجاءَهم البينات" (آل عمران 86؛ البقرة 209)، والنعت له متواتر؛ وبحق الرسل كلهم: "أرسلنا رسلنا بالبينات" (الحديد 25)، "تأتيهم رسلهم بالبينات" (المؤمن 22 : 50) والنعت أيضاً متواتر. فالاعجاز البيانى صفة التنزيل كله عند الرسل كلهم.
لكن البيّنات فى الانجيل تمتاز على بيّنات الكتب المنزلة كلها، بأنها بيان وتبيين بروح القدس: "وآتينا عيسى ابن مريم البينات، وايدناه بروح القدس" (البقرة 87 و 153)، "وإذ أيدتك بروح القدس تكلّم الناس فى المهد وكهلاً" (المائدة 110). فكلام المسيح معجز ليس بالنطق فى المهد فقط، بل هو أيضاً معجز ببيانه الذى يبيّنه روح القدس.
وبيان الانجيل لا يتفاوت فى المهد والكهولة. قال الرازى: "فى المهد وكهلاً: وذلك من غير أن يتفاوت كلامه فى هذين الوقتين؛ وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له، وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده".
وقد حاول الاستاذ العقاد وصف بيان المسيح فى الانجيل، فقال:
" وقد كان ولا ريب فصيح اللسان ، سريع الخاطر، يجمع الى قوة العارضة سرعة الاستشهاد.
"وكان له قدرة على وزن العبارة المرتجلة، لأن وصاياه مصوغة فى قوالب من الكلام الذى لا يُنظم كنظم الشعر، ولا يُرسل إرسالاً على غير نسق ... ويغلب عليه إيقاع الفواصل، وترديد اللوازم، ورعاية الجرس، فى المقابلة بين السطور.
" وذوق الجمال باد فى شعوره، كما هو باد فى تعبيره وتفكيره ... عنوان لما طُبع عليه من ذوق الجمال ...
"لقد كانت اللغة التى حملت بشائر الدعوة الأولى لغة صاحبها بغير مشابهة ولا مناظرة فى القوة والنفاذ. كانت لغة فذة فى تركيب كلماتها ومفرداتها؛ فذة فى بلاغتها وتصريف معانيها؛ فذة فى طابعها الذى لا يشبهه طابع آخر فى الكلام المسموع أو المكتوب. ولولا ذلك لما أُخذ بها السامعون ذلك المأخذ المحبوب مع غلبته القوية على الأذهان والقلوب.
"كانت فى نمطها بين النثر المرسل والشعر المنظوم، فكانت فناً خاصاً ملائماً لدروس التعليم والتشويق، وحفز الذاكرة والخيال ...
"وكان اسلوبه فى ايقاع الكلام اسلوباً يكثر فيه الترديد والتكرير ...
"أما اسلوب المعنى فقد اشتهر منه نمط الامثال، فى كل قالب من قوالب الأمثال. ومنه القالب الذى يعوّل على الرمز ، والقالب الذى يعول على الحكمة ، والقالب الذى يعوّل على القياس ، والقالب الذى يعوّل على التشبيهات ... وكلها تتّسم بطابع واحد، هو طابعه الذى انفرد به بين انبياء الكتب الدينية بغير نظير - وان كانوا قد اعتمدوا مثله على ضروب شتى من الأمثال ...
_____________________________
(1) حياة المسيح، 170 – 177
___________________________
"وبحق سُمّى ( المعلم) . ونودى به فى مختلف المجامع والمحافل ... ولم تكن كفاية المعلم الذى يبث الحياة الروحانية فى النفوس، وينفث فى الخواطر تلك الراحة التى تشبه راحة السريرة، حين تتناسق فيها الأنغام التى كانت متنافرة قبل أن تُجمع ...
"والواقع أيضاً ان الناس حين يستمعون اليه يرونه غريباً وقريباً فى وقت واحد: غريباً لأنه كان يُساورهم ولا يدركونه؛ وقريباً لأنهم تمثلوه بفضل بلاغة القائل بعد استعصائه على الادراك ...
"والأمر المحقق ان سامعى ذلك العصر لم يعرفوا قط أريحيّة كتلك الأريحية التى كانت تشيع فى أطوائهم، وهم يصغون بأسماعهم وقلوبهم الى ذلك المعلم المحبوب، الذى كان يناجيهم بالغرائب والغيبيات مأنوسة حية، يحسبون أنها حاضرة فى أعماقهم لم تفارقهم ساعة، أو بعض ساعة، لفرط ما كان يغمرهم من حضوره المشرق أو يستولى عليهم من عطفه الطيب، وحنانه الطهور ...".
5 - الإعجاز فى الرسالة والرسول معاً
يجمع القرآن بين الاعجاز فى الرسالة، والاعجاز فى الرسول، عند السيد المسيح؛ وينسب هذا الاعجاز فى الرسالة والرسول معاً الى روح القدس؛ وهذا ما يرفعه فوق قدرة البشر والمرسلين أجمعين: "واذ ايدتك بروح القدس، تكلم الناس فى المهد وكهلاً" (المائدة 110)؛ "وآتينا عيسى ابن مريم البينّنات، وأيدناه بروح القدس" (البقرة 87 و 253) فالاعجاز الخارق فى الرسول يظهر من نطقه بالنبوة وهو طفل؛ والاعجاز الخارق فى الرسالة أنها كاملة منذ الطفولة، لا تفاوت فيها بين الطفولة والكهولة.
والجامع المانع للاعجاز المطلق عند المسيح فى الرسول والرسالة هو روح القدس العامل فى الرسول والرسالة فى كل الاحوال والأقوال والاعمال، "لا يفارقه ساعة" (الرازى)، "يسير معه حيث سار" (الجلالان).
فالقرآن ينسب الاعجاز للمسيح والانجيل ليس فقط فى التنزيل، كما فى كل تنزيل؛ بل الى الرسول والرسالة ايضاً، ممّا انفرد به المسيح والانجيل على الرسل والرسالات، بتأييد روح القدس الخاص المعجز.
والاعجاز المطلق فى الرسول والرسالة عند المسيح يظهر أيضاً من الاسم الفريد الى ميّز به القرآن السيد المسيح على العالمين والمرسلين. أجل " ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" (المائدة 75)، وذلك من حيث هو "ابن مريم"، لكن من حيث هو "كلمته القاها الى مريم وروح منه" (النساء 171) فهو سيد الرسل والرسالات. شخصيته الكامنة فيه من قبل إلقائها الى مريم أنه "كلمته وروح منه" اى نطق الله الذاتى القائم فى ذات اله "روحاً منه" يصدر منه وفيه كالنطق الذاتى من الذات وفى الذات. فالرسول فى المسيح هو " كلمة الله وروح منه". والرسالة فى المسيح هى أيضاً "كلمة الله" الذاتية نزلت الينا بإلقائها الى مريم؛ فليست كلمات قولية فقط، بل "كلمة الله" الشخصية. إن "كلمة الله" فى المسيح ليس فقط كتاباً منزلاً فى الانجيل، بل هو شخص منزل ، تتوحّد فيه الرسالة والرسول، بما لا يمكن ان يجرى لأحد من العالمين والمخلوقين. إن الرسالة والرسول هما فى المسيح "كلمته وروح منه"، وهذا ممّا يرفعهما فوق طاقة المخلوقين أجمعين وبما أن السيد المسيح هو "كلمته وروح منه"، فقد توحدت الرسالة والرسول فى شخصه، أكثرمن إنجيله؛ وهذا أيضاً ناحية اخرى من الاعجاز المطلق الذى انفرد به على الخلق.
وقد لاحظ الاستاذ العقّاد فضل الرسول فى الرسالة عند السيّد المسيح: ":وفى وسعنا أن نتخيّل من ثمّ فضل الرسول فى الرسالة. فلا رسالة فى الحق بغير رسول. ولا سبيل الى قيام المسيحية بغير مسيح. فإن مصدر الرسالة الروحية هو زبدتها وجوهرها وهو الأصل الأصيل فى قوتها ونفاذها. وكل ما عداه فروع وزيادات. لقد كان لبّ الرسالة المسيحية، فى لبّ رسولها المسيح".
وقال أخيراً: "ومن بعد فمن الحق أن نقول: ان معجزة المسيح الكبرى هى هذه المعجزة التاريخية التى بقيت على الزمن؛ ولم تنقض بانقضاء ايامها فى عصر الميلاد: رجل ينشأ فى بيت نجار، فى قرية خاملة، بين شعب مقهور، يفتح بالكلمة دولا تضيع فى أطوائها دولة الرومان! ولا ينقضىعليه الزمن، فى انجاز هذه الفتوح، ما قضاه الجبابرة فى ضم اقليم واحد، قد يخضع الى حين ثم يتمرد ويخلع النير! ولا يخضع كما خضع اناس للكلمة بالقلوب والاجسام".
____________________________________
(1) سيرة المسيح، ص 177 |