السابق

بحث رابع

هل القرآن العربى أسلوب جديد فى النبوة و المعجزة

إن المدرسة العصرية فى علوم القرآن ثبت لها موقف القرآن السلبى من كل معجزة حسية : فلا معجزة حسية فى السيرة النبوية و الدعوة القرآنية ، مهما ماحك المماحكون الرجعيون .

و كان رد القرآن العربى على تحديهم له بمعجزة " كما أرسل الأولون " ( الأنبياء 5 ) ، العجز المطلق عن كل معجزة حسية ، كما يقرر : " و ما منع الناس أن يؤمنوا ... إلا أن نأتيهم سنة الأولين " ( الكهف 55 ) ، المعجزة التى يشهد بها الله لأنبيائه . لذلك ظلوا دائما يقولون : " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله " ( الانعام 124 ) . لكن لما أتاهم

محمد بمعجزة " الحديد الذى فيه بأس شديد ، و منافع للناس " ( الحديد 25 ) دخلوا فى دين الله أفواجا ( النصر 2 ) .

تجاه هذا الواقع القرآنى قال الأقدمون بأعجاز القرآن فى النظم و البيان معجزة له . و سنرى أمرها بعد حين .

و لعدم اقتناع المدرسة العصرية بصحة اعجاز القرآن و البيان معجزة له – و قد حطمها المرحوم فريد وجدى تحطيما – قالوا : ليست المعجزة بلازمة لصحة النبوة و التنزيل ؟ و قالوا مع الاستاذ دروزة 1 :

" و هذه النواحى الايجابية فى النصوص القرآنية يصح أن تكون مفسرة لحكمة ذلك الموقف السلبى ( من المعجزات ) ، بحيث يصح أن يستلهم منها و أن يقال – و قد ألمع الى ذلك غير واحد من الباحثين أيضا – إن حكمة الله اقتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبوة سيدنا محمد عليه السلام ، و برهانا على صحة رسالته ، و صدق دعوته التى جاءت بأسلوب جديد :

" هو اسلوب لفت النظر الى الكون و ما فيه من آيات باهرة ، و البرهنة بها على وجود الله ، و قدرته الشاملة ، ووحدته ، و استحقاقه وحده للخضوع و العبادة و الاتجاه ، و بطلان الشرك و الوثنية أو سائر العقائد و التقاليد المتناقضة مع هذا الأصل النقى البسيط .

" ثم اسلوب مخاطبة العقل و القلب ، فى الحث على الفضائل ، و التنفير من الرذائل ، و إثبات قدرة الله على الحياة الأخرى ، و فكرة الحق و العدل فيها .

" و على اعتبار ان الدعوة التى تقوم على تقرير وجود الله و استحقاقه وحده للعبودية ، و اتصافه بجميع صفات الكمال ، و على التزام الفضائل ، و اجتناب الفواحش ، هى فى غنى عن معجزات خارقة للعادة ، لا تتصل بها فى الذات .

" و فى هذا ما فيه من وضوح ميزة الرسالة المحمدية و ترشيحها للخلود و التعميم . و آيات الأنبياء السابقين الخارقة حادثات وقعت و انقضت . و لكن اسلوب الدعوة القرآنية – هذا الذى اختلف كل الاختلاف عن اسلوب الكتب المنزلة على بعض اولئك الأنبياء – هو


1 سيرة الرسول 1 : 226 . فى هذا البحث تكرار للتقرير ، و استكمال الموضوع و التقدير

اسلوب خالد حى فى كل زمان و مكان ببراهينه و دلائله ، و حيويته و فصاحته و معقوليته و سموه . و لذلك كلن و ظل معجزة النبوة الخالدة الكبرى ، من هذه النواحى " .

– هذا موجز مواقف المدرسة الحديثة فى النبوة و المعجزة . نقول :

أولا : ليس هذا الاسلوب القرآنى ، " اسلوب لفت النظر الى الكون ... ثم اسلوب مخاطبة العقل و القلب ، فى الحث على الفضائل و التنفير من الرذائل " ، بجديد . إنه اسلوب الكتاب من قبله . و قد جعله القرآن نفسه فى ذلك أيضا " إمامه " فى الهدى و البيان ( هود 17 ، الاحقاف 12 ) . و إنه اسلوب أشعيا فى القسم الثانى من نبوءته ( ف 40 – 55 ) . إنه اسلوب سفر الامثال فى قسمه الأول ( ف 1 – 9 ) ، إنه اسلوب سفر ابن سيراخ فى كثير من فصوله . إنه خصوصا أسلوب سفر الحكمة ، و الزبور كله . إنه اسلوب الانجيل ، مع الكشف عن سر الله و الكون و الانسان ، كقوله فى خطابه على الجبل : " انظروا الى طيور السماء فإنها لا تزرع و لا تحصد و لا تجمع الى أهراء ، و أبوكم السماوى يقوتها : أفلستم أنتم أفضل منها ؟ ... تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو ، إنها لا تتعب و لا تغزل ! و أنا أقول لكم ، إن سليمان فى كل مجده لم يلبس كواحدة منها فإذا كان عشب الحقل ، الذى يكون اليوم ، و يطرح غدا فى التنور ، يلبسه الله هكذا ، فكم بالأحرى يلبسكم أنتم ، يا قليلى الايمان ... " ( متى 6 : 24 – 34 ) .

و قد أوجز بولس الرسول اسلوب لفت النظر الى الكون ، و البرهنة بالخليقة عن خالقها فى الهيته و قدرته : " إن ما يعرف عن الله واضح لهم ، إذا إن الله قد أوضحه لهم : فإن صفاته غير المنظورة ، و لا سيما قدرته الأزلية و الهيته تبصر منذ خلق العالم مدركة " بمروءاته . فهم اذن بلا عذر هم الذين استبدلوا حقيقة الله بالباطل ، و اتقوا المخلوق و عبدوه من دون الخالق ، تبارك الى الدهور آمين " ( الرسالة الى الرومانيين 1 : 18 – 28 )

فالكتاب و أهله يعرفون ان الله تعالى قد وضع كتاب الخلق ، قبل كتاب الوحى ، للكشف به عن نفسه ، و ان كان " ليس كمثله شىء " . فليس اسلوب القرآن بجديد .

ثانيا : ان اسلوب الدعوة القرآنية لم يختلف كل الاختلاف عن اسلوب الكتب المنزلة من قبله ببراهينه و دلائله و حيويته و فصاحته و معقوليته و سموه . فالقرآن يشهد ، و هو خير الشاهدين ، ان الكتاب " إمامه " فى الهدى و البيان ، " و شهد شاهد من بنى اسرائيل على مثله " ( الاحقاف 10 – 12 قابل هود 17 ) : إن " مثل " القرآن موجود قبله

ثالثا : ان البرهنة بكتاب الخلق عن الخالق اسلوب فى النبوة و الكتاب ، و اسلوب كل منطق عند الانسان و علماء الكلام فى كل الاديان . و مع ذلك لا يدعى اصحابه انه تنزيل من الله ، و لا يكفى صدقه للايمان بوحيه ، فلا بد له من قرين معه يشهد له انه وحى من الله : و هذه هى المعجزة ، سلطان الله المبين .

و الأعجاز فى النظم و البيان " سر محجوب " ، " السر الذى حير الناس " فى كل زمان ، فلم يتهدوا فيه الى وجه المعجز فى البيان . فلا يصلح فى النبوة و التنزيل للبرهان ، حتى يكون " معجزة النبوة الخالدة الكبرى " .

رابعا : إن " آيات الأنبياء السابقين الخارقة حادثات وقعت و انقضت " . لكنها أدت دورها فى الشهادة على صحة الرسالة و صدق الدعوة ، عند الذين جاؤوا بها : و ما نزل تاريخها الصحيح الصادق خير برهان على ضرورة الايمان .

خامسا : اقتصار الوحى على لفت النظر الى آيات الكون الباهرة ، هو تنزيل الوحى من " علو الجهة المنزل منها " الى مرتبة وحى الفطرة . و ما يدرك بالفطرة ، لا حاجة لنا به الى وحى منسوب الى الله . إن " الاسلوب الجديد " فى الوحى القرآنى يجعله وحى الفطرة ، لا وحى التنزيل .

سادسا : لو لم يكن عند الله ، جل جلاله ، شىء يقوله لنا غير ما فى كتاب الخلق ، لما أنزل الينا كتاب الوحى .

يقول السيد قطب 1 : " فالذهن الانسانى خليق بأن يدع للمجهول ( و الغيب ) حصته ، و ان يحسب له حسابه : لا يدعو الى هذا مجرد القداسة الدينية ، و لكن يدعو اليه اتساع الآفاق النفسية ، و تفتح نوافذ المعرفة . " فالمعقول " فى عالم الذهن ، و " المحسوس " فى تجارب العلم ، ليسا هما كل " المعروف " فى عالم النفس . و ما العقل الانسانى – لا الذهن وحده – إلا كوة واحدة من كوى النفس الكثيرة . و لن يغلق انسان على نفسه هذه المنافذ إلا و فى نفسه ضيق ، و فى قواه انحسار ، لا يصلح للحكم فى هذه الشئون الكبار . فلندع الذهن يدبر امور الحياة اليومية الواقعة ، أو يتناول من المسائل ما هو بسبب من هذه الحياة . فأما العقيدة ، فهى فى افقها العالى ، هناك "


1 سيد قطب : التصوير الفنى فى القرآن ص 186

و هكذا فلا جدة ، و لا مخالفة ، و لا ميزة ، و لا اعجاز ينفرد به القرآن فيما وصفوه " اسلوب جديد " فى النبوة و المعجزة . فقد " شهد شاهدين من بنى اسرائيل على مثله " ، و الكتاب " إمامه " فى الهدى و البيان ( الاحقاف 10 – 12 ) : " قل : فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما اتبعه إن كنتم صادقين " . فالقرآن و الكتاب ، كلاهما فى الهدى واحد ، فليس القرآن " أسلوبا جديدا " فى النبوة و المعجزة

السابق