بحث خامسكيفية الوحى القرآنى – " برحاء الوحى "إن " الاسلوب الجديد " الحق ، فى الوحى و التنزيل ، هو ما أسموه " برحاء الوحى " ، اى كيفيته و حالاته عند النبى العربى . و قد نقل لنا السيوطى أقوالهم فى حالة الوحى ( الاتقان 1 : 45 – 46 ) : " فصل : و قد ذكر العلماء للوحى كيفيات : " احداهما : أن يأتيه الملاك فى مثل صلصلة الجرس ، كما فى الصحيح . و فى مسند أحمد عن عبد الله بن عمر : سألت النبى ص هل تحس بالوحى ؟ فقال : أسمع صلاصل ثم اسكت عند ذلك ، فما روى مرة بوحى إلا ظنت نفسى تقبض ... و فى الصحيح ان هذه الحالة أشد حالات الوحى عليه . " الثانية " أن ينفث فى روعه الكلام نفثا ... " الثالثة " أن يأتيه فى صورة الرجل فيكلمه ، كما فى الصحيح : " و أحيانا يتمثل لى الملاك رجلا فيكلمنى فأعى ما يقول " . زاد أبو عوانه فى صحيحه : " و هو أهونه على " . " الرابعة : ان يأتيه الملاك فى النوم . " الخامسة " أن يكلمه الله إما فى اليقظة ، كما فى ليلة الاسراء ، أو فى النوم كما فى حديث معاذ : " أتانى ربى فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى " ... نقول : 1 ) ان القرآن كله وحى بالواسطة ( الشورى 52 ) : فلم يكلم الله محمدا مباشرة أبدا : " قل : نزله روح القدس " ( النحل 102 ) ، " قل : من كان عدوا لجبريل ، فإنه نزل على قلبك بإذن الله " ( البقرة 97 ) . 2 ) و ان القرآن وحى ليلى : " حم . و الكتاب المبينإنا أنزلناه فى ليلة مباركة " ( الدخان 1 – 3 ) ، " إنا أنزلناه فى ليلة القدر " ( القدر 1 ) . لاحظ الاطلاق فى التعبير : " أنزلناه " . فلا مجال لجميع الحالات التى يصفون . حتى الاسراء كان ليلا : " سبحان الذى أسرى بعبده ليلا " ! ( الاسراء ) . حتى البشرى بفتح مكة – كانت رؤيا ليل : " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق : لتدخلن المسجد الحرام ، إن شاء الله " ( الفتح 27 ) . حتى البشرى بالنصر فى بدر كانت رؤيا منام : " إذ يريكهم الله فى منامك قليلا " ( الانفال 43 ) . فالقرآن جملة و تفصيلا وحى ليلى ! و يذكر السيوطى ( الاتقان 1 : 46 ) من أمثلة الوحى النومى سور الكوثر و الضحى و الشرح ، و آخر سورة البقرة – فما صح فى بعضه جاز فى كله . 3 ) و ان القرآن وحى فى حالة " البرحاء " و " الإغماء " : يقول ( الاتقان 1 : 23 ) : " أما النومى فمن أمثلته سورة الكوثر ، لما روى مسلم عن أنس قال : بينا رسول الله ص بين أظهرنا إذ غفا إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسماً فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: أنزل على آنفا سورة، فقرأ " باسم الله الرحمن الرحيم. إنا اعطيناك الكوثر ، فصل لربك و انحر ، إن شانئك هو الابتر " . و قال الامام الرافعى فى ( أماليه ) : " فهم فاهمون من الحديث ان السورة نزلت فى تلك الاغفاءة ، و قالوا : من الوحى ما كان يأتيه فى النوم ، لأن رؤيا الانبياء وحى . قال : و هذا صحيح ، لكن الأشبه ان يقال ان القرآن كله نزل فى اليقظة ... قال: وورد فى بعض الروايات أنه أغمى عليه، و قد يحمل ذلك على الحالة التى كانت تعتريه عند نزول الوحى و يقال لها: برحاء الوحى. ( قلت ) الذى قاله الرافعى فى غاية الاتجاه ، و هو الذى كنت أميل اليه قبل الوقوف عليه ، و التأويل الأخير ( حال الاغماء ) أصح من الاول ( حال النوم ) لأن قوله " أنزل على آنفا " يدفع كونها نزلت قبل ذلك . بل نقول : نزلت فى تلك الحالة ( الاغماء ) ، و ليس الاغفاء اغفاء نوم ، بل الحالة التى كانت تعتريه عند الوحى ، فقد ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا " . يستدل من ذلك ان محمدا كانت تعتريه حالة الاغماء ، ففسروها بحالة صوفية " أنه كان يؤخذ عن الدنيا " و سموها " برحاء الوحى " . 4 ) و ينقلون عن عائشة فى وصف " برحاء الوحى " حديثا قالت : " كان رسول الله ص إذا نزل عليه الوحى يغط فى رأسه و يتربد وجهه أى يتغير لونه بالجريدة ، و يجد بردا فى ثناياه ، و يعرق حتى يتحدر منه مثل الجمان " ( الاتقان 1 : 46 ) و ينقل الاستاذ دروزة 1 : " قالت عائشة : ( و لقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فينفصم عنه ، و إن جبينه ليتفصد عرقا ) ... أخبر صفوان بن يعلى : ( فإذا بالنبى محمر الوجه يغط كذلك ساعة ) ... أخبر زيد بن ثابت ( فأنزل الله على رسوله و فخذه على فخذى فثقلت على حتى خفت ان ترض فخذى ، ثم سرى عنه فانزل الله " غير اولى الضرر " . فما أسموه " برحاء الوحى " وصفه الشهود بأنه حالة إغماء ، من أوصافها : " محمر الوجه يغط كذلك ساعة " ، " يغط فى رأسه و يتربد وجهه " ، " و ان جبينه ليتفصد عرقا " ، " فثقلت فخذه على حتى خفت أن ترض فخذى " . يسمى الأطباء هذا الإغماء داء الصرع . و المرض لا يتنافى و النبوة . لكن من الغريب ان يقرنوا ذلك الداء بحالة الوحى ، و يسموه " برحاء الوحى " ، و قد بدأ معه فى سن الطفولة لما كان معه مرضعه ، و هو دون الخامسة ، و سموا الحادث اسطورة " شق الصدر " . 5 ) إن ما اسموه " برحاء الوحى " كان مرض الإغماء اى داء الصرع الذى اعتراه منذ الصغر . و لعلهم أخذوا الاسم عن الاقدمين الذى كانوا يسمون الصرع " المرض الإلهى " . يقول العقاد 2 : 1 القرآن المجيد ص 22 – 23 . " كان الغالب على الرائين انهم قوم تملكهم حالة " الوجد " أو " الجذابة " أو " الصرع " . يتدفقون بالوعد و الوعيد ، و ينذرون الناس بالويل و الثبور ، و يقولون كلاما لا يذكرونه و هم مفيقون . فيحسب السامع ان الوثن المعبود يجرى هذا الكلام على ألسنتهم للموعظة و التبصرة . و سمى الصرع من أجل هذا بالمرض الإلهى فى الطب القديم " . نجل النبى العربى عن مثل ذلك ، لكن حالة " المرض الإلهى " واحدة . و العرب سموا صاحب هذا " المرض الإلهى " من " به جنة " ، فهو فى عرفهم " مجنون اى تسكنه جنة . و القرآن ينقل شهادتهم و تفسيرهم البسيط البدائى لداء النبى : " أم يقولون : به جنة " ( 23 : 71 ) ، " إن هو إلا رجل به جنة " ( 23 – 25 ) " أم به جنة " ( 34 : 8 ) . فلا ينكر القرآن المرض ، لكن يرد على تفسيرهم له : " ما بصاحبكم من جنة " ( 34 – 46 ) ، " ما بصاحبهم من جنة " ( 7 : 184 ) . كان العرب يشاهدون اغماء محمد فينسبونه " للجنون " اى به جنة ، " و يقولون : انه لمجنون " ( 68 : 51 ) ، " إنك لمجنون " ( 15 : 6 ) ، " قالوا : مجنون و ازدجر " ( 54 : 9 ) . و بعضهم شك ما بين السحر و " الجنون " : " قالوا : ساحر أو مجنون " ( 51 : 52 ) ، " قال : ساحر أو مجنون " ( 51 : 39 ) . و بعضهم خلط بين الشعر و " الجنون " : " و يقولون : أإنا تاركوا آلهتنا لشاعر مجنون " ( 37 : 36 ) . و بعضهم زاد التعلم من الغير على " الجنون " : " و قالوا : معلم مجنون " ( 44 : 14 ) . و بعضهم نسب حاله الى الكهانة أو الجنون ( 52 : 29 ) . فيجيبهم دائما بسماحة و حزم : " فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن و لا مجنون " ( 52 : 29 ) ، " ما أنت بنعمة ربك بمجنون " ( 68 : 2 ) ، " و ما صاحبكم بمجنون " ( 81 : 22 ) . فالقرآن ينفى تفسير حال النبى " بالجنون " ، لكنه لا ينفى مرض الاغماء الذى يشاهدون . ففى تهمة " الجنون " الشعبية دليل على صحة المرض – و بما ان التهمة متواترة فى القرآن كله ، فهى الدليل على ان حالات الصرع رافقت تنزيل سورة ، فسموها " برحاء الوحى " . تلك هى كيفية الوحى القرآنى بحسب القرآن و الحديث . لكن ذلك المرض لم يمنع العبقرية و البطولة فى الدعوة ، و لا الاستبسال و الاستماتة فى الرسالة حتى النصر المبين خاتمة" برحاء الوحى " ليست من الإعجاز فى النبوةإن كيفية الوحى القرآنى التى أسموها بسبب مرض النبى الذى رافقها " برحاء الوحى " جعلت النبى العربى " بدعا من الرسل " . فها تاريخ أنبياء الكتاب ، إننا لا نجد فيهم من أوصاف " برحاء الوحى " شيئا . نكتفى بذكر أقربهم عهدا اليه . ان السيد المسيح يعلم الانجيل أيام السبت فى جوامعهم . و يدعو فى الساحات و البيوت ، على البحر و فى البر ، فى السهل و على الجبل . و لا نلحظ فى الانجيل ، و لا فى ما نقلوه فى " العهد الجديد " شيئا من حالات النبى العربى ، من إغماء و صرع و " برحاء الوحى " . لا نراه يخرج عن الفطرة إلا مرة واحدة ، فى حالة " التجلى " و هو يناجى الحق سبحانه على قمة جببل الشيخ الفاصل بين لبنان و دمشق : " تجلى أمامهم فأضاء وجهه كالشمس ، و صارت ثيابه بيضاء كالنور " ( متى 17 : 2 ) . هذا هو الأعجاز المطلق فى كيفيات النبوة و حالات الكشف الإلهى . أجل أن " برحاء الوحى " كما وصفوها لنا ليست من الأعجاز فى النبوة ، و لا هى معجزة لمحمد كما يتوهمون و يوهمون . |