التالي

بحث رابع

نزول القرآن على سبعة أحرف

تنزيل القرآن بالمعنى ، من دون حرفه ، يزيده إشكالا و إحراجا و شبهة نزول القرآن على " سبعة أحرف " كلها شاف كاف ، ما لم يختم آية عذاب برحمة ، و آية رحمة بعذاب . و حديث الاحرف السبعة المشهور المتواتر شبهة ضخمة على سلامة التنزيل ، و على صحة حفظ القرآن

ــــــــــــــــــــــــ

( 1 ) السيوطى : الاتقان 1 : 44 .

كما أنزل ، و على إعجازه . و اختلفوا على نوع الاختلاف بين هذه الاحرف السبعة : أهو اختلاف فى الألفاظ أم اختلاف و تعدد فى المعانى . و أكثر العلماء على أنه " اختلاف الألفاظ باتفاق المعانى " ، بحسب تحديد الطبرى ، إمام المفسرين بالحديث .

أولا : حديث الأحرف السبعة و التنزيل

عقد السيوطى فى ( الاتقان 1 : 47 ) فصلا قيما أكد فيه صحة الحديث بشهادة واحد و عشرين صحابيا ، و ينقل لنا خبر استفتاء جماعى أجراه الخليفة عثمان بن عفان فى المسجد ، فشهد جميع الحاضرين بصحته ، و شهد هو معهم علنا على الاجماع عليه .

ثم يفسر الحديث الغريب بأغرب منه . قال : ليس المراد بالأحرف السبعة اقتصار العدد على سبعة ، بل المراد التيسير و التسهيل و السعة . فقد يكون أكثر من سبعة .

و قال : " اختلف فى معنى هذا الحديث على نحو أربعين قولا ... و أنه من المشكل الذى لا يدرى معناه ، لأن الحرف يصدق ، لغة ، على حرف الهجاء و على الكلمة و على الجهة " . و يجزم أن أكثر العلماء على رأى ابن جرير الطبرى : " إن المراد به سبعة أحرف من المعانى المتفقة بألفاظ مختلفة نحو : أقبل و تعال و هلم و عجل و أسرع ... " .

و هذه هى مقالة الطبرى ( 1 ) التى أجمعوا عليها : " إن اختلاف الاحرف السبعة هو اختلاف الألفاظ باتفاق المعانى " ( 1 : 48 ) . ثم يرد على المقالات المخالفة .

يرد أولا على من رد حديث الأحرف السبعة المختلفة بحسب الآية : " أفلا يتدبرون القرآن ، و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " ( النساء 82 ) ، بقوله : " إنها تقصد اختلاف الأحكام و المعانى ، لا اختلاف الألفاظ و التعابير ، بدليل اختلاف الصحابة ، كل فى قراءته ، و تصويب النبى لهم جميعا " ( 1 : 48 ) .

ثم يرد على التفاسير الخاطئة للحديث المشهور .

يرد على من قال : " إنه اختلاف فى التأويل أى فى المعانى المتعددة – إن الذى تمارى فيه الصحابة كان اختلافا فى اللفظ ، دون ما تدل عليه التلاوة من التحليل و التحريم و ما أشبه " ( 1 : 49 ) .

ــــــــــــــــــــــــ

( 1 ) تفسير الطبرى : اخراج الأخوين شاكر ج 1 .

و يرد على من قال : انها لغات أى لهجات سبع ، فى حرف واحد ، و كلمة واحدة – " بأنها باختلاف الألفاظ ، و اتفاق المعانى " ( 1 : 57 ) .

و يرد على فهم الأحرف السبعة بأنها القراءات السبع الشائعة على المصحف العثمانى – " ان اختلاف القراءة فى الرفع و الجر و النصب ، و نقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة ، كما هى القراءة اليوم اليس من الاحرف السبعة فى شىء . و ان المراء فيها لا يوجب كفرا " ( 1 : 65 ) .

و يرد تأويل الأحرف السبعة بمعانى القرآن المتعددة من الأمر و النهى ، و الوعد و الوعيد ، و الجدل و القصص و المثل ( 1 : 62 – 66 ) – بأن تمارى الصحابة كان بالإلفاظ المختلفة ، و تصويب النبى لها جميعا .

أخيرا يقص كيف أتلف عثمان بن عفان ستة من الأحرف ، و جمع الأمة على حرف واحد ، من السبعة ، هو الحرف العثمانى الوحيد الباقى الى اليوم ، و عليه اختلاف القراءات السبع بعد الجمع .

و تابع الطبرى فى تفسيره أكثر الأثمة . منهم أبو عبد الله الزنجانى . قال : " المراد بالأحرف السبعة أوجه من المعانى المتفقة بالألفاظ المختلفة " . و هذا مما يجعلها سبعة نصوص مختلفة لقرآن واحد . فهل أنزل الله سبعة قرائين ؟ !

و من الغرابة ان يستصوب النبى ذاته التلاوة لقرآن واحد ، بأحرف سبعة مختلفة يقول أبو جعفر النحاس (1) : " يفهم من سلف الأمة ، و خيار الأئمة أن معنى ( نزل القرآن على سبعة أحرف) من أنه نزل بسبع لغات ، و أمر بقراءته على سبعة ألسن ، باختلاف الألفاظ و اتفاق المعانى . و من الروايات الثابتة عن عمر بن الخطاب ، و عبد الله بن مسعود ، و أبى بن كعب ، و سائر من قدمنا الرواية عنهم ، أنهم تماروا فى القرآن ، فخالف بعضهم بعضا فى نفس التلاوة ، " دون ما فى ذلك من المعانى ! و أنهم احتكموا الى النبى ص فاستقرأ كل رجل منهم ، ثم صوب جميعهم فى قراءتهم على اختلافها ، حتى ارتاب بعضهم لتصويه إياهم . فقال رسول الله صلعم للذى ارتاب منهم ، عند تصويبهم جميعهم : ان الله أسرنى أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف " .

ــــــــــــــــــــــــ

( 1 ) فى كتابه : الناسخ و المنسوخ .

فهذه الشهادة عن " سلف الأمة و خيار الأئمة " تؤكد ان أحرف القرآن السبعة قبل جمعه على حرف واحد ، لم تكن فى التنزيل نفسه ، بل فى اختلافهم على قراءة القرآن الواحد .

و هذه القراءات المختلفة ، بنصوص مختلفة لقرآن واحد ، بتصويب النبى لها جميعا شهادة قائمة على أن القرآن الواحد أمسى ، على عهد النبى نفسه ، سبعة قرائين . و لتستير هذه الشبهة الضخمة على صحة التنزيل و سلامته ، كان حديث نزول القرآن على سبعة أحرف .

و تعدد النص الواحد الى سبعة نصوص شبهة ضخمة على صحة التنزيل .

ثانيا : حديث الأحرف السبعة و التاريخ

لذلك يرى اليوم علماء الاسلام الأعلام ان حديث الأحرف السبعة ليس قضية تنزيل ، بل قصة تاريخ وواقع بعد التنزيل .

نقل محمد صبيح (1) عن الدكتور طه حسين : " – و قد أحاط فى موضوعه بآراء المحدثين و القدماء من المسلمين ، كما أحاط بآراء المستشرقين – إن القرآن الذى تلى بلغة واحدة و لهجة واحدة هى لغة قريش و لهجتها ، لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته ، و تعددت اللهجات فيه ، و تباينت تباينا كثيرا ... و ليست القراءات السبع المتواترة الى يومنا ، بالأحرف السبعة التى أنزل عليها القرآن ، و انما هى شىء و هذه الأحرف السبعة شىء آخر ... و قد اتفق المسلمون على أن أصحاب النبى تماروا فى هذه الأحرف ، و النبى بين أظهرهم ، فنهاهم عن ذلك و ألح فى نهيهم فلما توفى استمر أصحابه يقرأون القرآن على هذه الأحرف السبعة ، كل يقرأ على الحرف الذى سمعه من النبى . فاشتد الخلاف و المراء فى ذلك ، حتى كادت تقع الفتن بين الناس و لاسيما فى جيوش المسلمين . فرفع الأمر الى عثمان فجزع له و أشفق . فجمع لهم المصحف الإمام ، و أذاعه بالأمصار ، و أمر بما عداه من المصاحف فمحى محوا . و على هذا محيت من الأحرف السبعة ستة أحرف ، و لم يبق إلا حرف واحد ، هو الذى نقرأه فى مصحف عثمان ، و هو حرف قريش . و هو

ــــــــــــــــــــــــ

( 1 ) فى كتابه : عن القرآن ص 101 الذى ينقل عن : الأدب الجاهلى ص 29 .

الحرف الذى عادت فاختلفت لهجات القراء فيه ، فمد بعضهم و قصر بعضهم ، و فخم فريق و ر قق فريق ، و نقلت طائفة و أثبتت طائفة ...

" ثم أورد الاستاذ طه حسين ما ورد فى الجزء الأول من تفسير ابن جرير الطبرى لتأييد رأيه . و قال : و الحق أن ليست هذه القراءات السبع ( الأحرف السبعة ) من الوحى فى قليل و لا كثير . و ليس منكرها و لا فاسقا و لا مغتمزا فى دينه . و إنما هى قراءات مصدرها اللهجات و اختلافها . للناس أن يجادلوا فيها ، و أن ينكروا بعضها و يقبلوا بعضها . و قد جادلوا فيها بالفعل و تماروا و خطأ بعضهم بعضا . و لم نعرف أن أحدا من المسلمين كفر أحدا لشىء من هذا " .

تلك هى قصة الأحرف السبعة قبل التوحيد العثمانى : انها قصة تاريخ و أمر واقع لا قصة تنزيل على أحرف سبعة . فوجود احرف أى نصوص سبعة لقرآن واحد ، على زمن النبى و صحابته من بعده ، باختلاف الألفاظ و اتفاق المعانى ، ليس من التنزيل فى شىء : فهل يعقل أن ينزل الله على نبى واحد كتابا واحدا بسبعة نصوص ؟

إن حديث الأحرف السبعة المشهور المتواتر يصور لنا الحالة التعسة التى وصل اليها نص القرآن قبل جمعه . أجل " إن القرآن الذى تلى بلغة واحدة ، و لهجة واحدة ، لم يكد يتناوله القراء حتى كثرت قراءاته ، و تعددت اللهجات فيه ، و تباينت تباينا كثيرا " . فاقتتل عليه الغلمان فى المدارس ، و الجنود فى الحروب .

ان هذا الحديث يصور أمرا واقعا مفجعا : ففى زمن النبى ، و بحضرته ، يختلفون فى نص القرآن الواحد ، و يضطر محمد الى تصويبهم جميعا . و زاد الخلاف ، فى زمن الخلفاء الراشدين ، حتى كاد نص القرآن يضيع . إن هذا التعدد فى نص القرآن الواحد ، على حياة النبى نفسه ، ثم من بعده ، برهان قاطع للاشتباه اللازم على صحة النص المنزل . و لو كانت الأحرف السبعة من التنزيل فى شىء ، لما تجرأ عثمان على إبادة ستة منها ! و لما وافقته الأمة على فعلته . و لكنه فعل برضى الأمة و قبول الأئمة ، لرفع خطر الاختلاف على سلامة النص القرآنى . لكن الواقع التاريخى كان قد تخطاه فى الاختلاف الى سبعة نصوص ، فما فوق . و كانت براعة فائقة من النبى ان ينسب هذه الفوضى فى نص القرآن إلى تدبير إلهى ،

و تنزيل ربانى . هذا إن صح الحديث ، كحديث نبوى . و لكن من السذاجة الجاهلة ان يتستر السلف الصالح بحديث شريف لستر أمر خطير . أجل لقد اختلف نص القرآن الواحد اختلافا كثيرا ، على حياة النبى و على حياة صحابته و على حياة الخلفاء الراشدين ، قبل اختيار عثمان و لجانه المختلفة للحرف العثمانى الناجى ، الذى نجا بقوة الحديد و النار .

هذا الواقع التاريخى يفرض النتائج التالية :

أولا : إن نص التنزيل قد فسد على حياة محمد و صحابته قبل جمعه . و فى هذا الواقع شبهة ضخمة قائمة ، لا مرد لها ، على سلامة النص المنزل من التحريف .

ثانيا : إن معجزة " حفظ " القرآن من التحريف اسطورة . فهل كان عثمان ، و هل كانت لجانه المختلفة المتتابعة ، معصومين حتى يختاروا النص الصحيح من الأحرف السبعة المتداولة ؟ و هل كان بوسعهم أن يفعلوا بعد أن صار القرآن الواحد قرائين ؟ أمن الممكن ، بعد نصف قرن تقريبا ، من تلك الفوضى ، الرجوع الى النص المنزل ، بدون تحريف . هذه معجزة إلهية ، و قد منعت المعجزات مبدئيا منعا مطلقا على النبى ( الإسراء 59 ) ، و لا شاهد ان جماعته من بعده كانوا من أهل المعجزة و من أهل العصمة .

ثالثا : إن هذا الواقع التاريخى شبهة ضخمة قائمة على صحة التنزيل و على صحة الاعجاز معا : إن نصا منزلا على صحته شبهة لا يقوم التحدى به و بإعجازه .

و هكذا فإن حديث الأحرف السبعة التاريخى ينقض اعجاز القرآن من أساسه ، لأنه مبنى على حرفه المنزل ، و هذا الحرف قد صار " سبعة أحرف " أى سبعة قرائين فما فوق ، قبل توحيده العثمانى بالحديد و النار ، و تدوينه على ثلاثة اصدارات ، لأبى بكر ثم لعثمان ثم للحجاج بن يوسف . فحق لهم أن يقولوا : " إن الله لم يجعل القرآن دليل النبوة " .

التالي