التالي

بحث تاسع

القرآن ما بين التنزيل والتفصيل

في القرآن نوعان من التصاريح عن مصدره : نوع أول يصرّح بأنه تنزيل ربّ العالمين ؛ ونوع آخر يصرّح بأنه "تفصيل الكتاب" (يونس 37) ، وفي لغة القرآن "تفصيل" يعني التعريب . وقد جمع المصدرين في قوله : "وإنه لتنزيل رب العالمين ... وإنه لفي زُبر الأولين : أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني اسرائيل" (الشعراء 192 – 197) ؛ "بل هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم" (العنكبوت 49) . ان علماء بني اسرائيل من النصارى لا يمكنهم ان يطّلعوا على تنزيل نازل من السماء على قلب النبي ؛ إنما يقدرون أن يشهدوا لتنزيل يُفصّل من الكتاب آيات بينات في صدورهم ، "يعرفونه كما يعرفون أبناءَهم" : فالراسخون في العلم هم الشهود العيان في التنزيل القرآني . فهم صلة الوصل بين "تنزيل رب العالمين" و "زبر الأولين" .

هذا ما يكشف لنا سر القرآن ما بين التنزيل والتفصيل .

يقول ابن الخطيب : " كان القرآن أعجميًّا وتُرجم الى العربية . قال تعالى : "وانه لفي زُبر الأولين" (الشعراء 196) أي ان هذا لفي كتب المتقدمين (التوراة والانجيل والزبور وغيرها من الكتب) . ولا يخفى أن الكتب المنزلة كان بعضها عبريًّا وبعضها سريانيًّا (نضيف : وبعضها يونانيًّا كالعهد الجديد كله) ، وهي لغات أعجمية ؛ وقد ترجمها الله تعالى لنا إلى العربية " .

وبما أن القرآن تنزيل بالواسطة ، فقد يكون تفصيلا بالواسطة : "لقد آتينا موسى الكتاب : فلا تكن في مرية من لقائه . وجعلناه هدى لبني اسرائيل (النصارى) . وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا" (السجدة 23 – 24) . إن الإشارة صريحة : محمد يلتقي بالكتاب المنزل من قبله بواسطة أئمة بني إسرائيل من النصارى ؛ لذلك فتنزيل الرحمان الرحيم هو " كتاب فُصّلت آياته قرآنًا عربيًّا لقوم يعلمون" (فصلت 3) ؛ فهو "كتاب أُحكمت آياته ، ثم فُصّلت من لدن حكيم خبير" (هود 1) . فما القرآن العربي إلا الكتاب مفصلا : "أنزل اليكم الكتاب مفصلا" (الأنعام 114) ، فهو "تفصيل الكتاب" (يونس 37) . فالقرآن العربي تنزيل رب العالمين لأنه تفصيل التنزيل الكتابي .

وها نحن نفصّل ما أجملناه .

أولا : التنزيل القرآن ومصادره

نستبين معنى التنزيل القرآني من لغته وتصاريحه .

1– التصريح المتواتر بأنه "تنزيل رب العالمين" (192:26) ، "تنزيل الكتاب" (2:32؛ 1:39؛ 2:40؛ 2:45؛ 2:46) ، "تنزيل العزيز الرحيم" (5:36) ، "تنزيل من الرحمان الرحيم" (2:41) ، "تنزيل من حكيم حميد" (42:41) ، تنزيل من رب العالمين" (80:56؛ 43:69) ، "تنزيلا ممن خلق الأرض" (4:20) – لا يبَيّن كيفية التنزيل ولا واسطته ولا مصدره . فقد يكون بالواسطة ، ومن مصدر كوسط له . فلا يُبنَ على مثل هذه التصاريح الكثيرة حكم .

2– كذلك التصريح المتواتر : "نزّل عليك الكتاب" (3:3) ، "نزّل الفرقان على عبده" (1:25) ، "ممّا نزّلنا على عبدنا" (23:2) ، "ونزّلنا عليك الكتاب" (89:16) ، "نزّلنا عليك القرآن" (23:76) ، "وننزّل من القرآن ما هو شفاء" (82:17) ، "هو الذي

أنزل عليك الكتاب" (7:3) ، "وأنزل الله عليك الكتاب" (113:4) ، "وهو الذي أنزل اليكم الكتاب مفصّلا" (114:6) ، "أنزل على عبده الكتاب" (1:18) ، "أنزلنا اليك الكتاب" (105:4؛ 48:5؛ 47:29؛ 2:39) ، "وأنزلنا اليك الذكر" (44:16) "وما أنزلنا عليك الكتاب .." (64:16) ، "ما أنزلنا عليك القرآن" ... (2:20) ، "أنزلنا عليك الكتاب" (51:29؛ 41:39) ، "شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن" (185:2) ، "كتاب أُنزل اليك" (207) ، "نزّلنا عليك القرآن تنزيلا" (23:76) ... لا يبيّن كيفية التنزيل ولا واسطته ولا مصدره .

3 – والظاهرة العامة على مثل تلك التصاريح أن القرآن العربي خبر عن نزول "القرآن" على محمد – لا هذا "القرآن" المعروف نفسه .

ونلاحظ في تلك التصاريح الترادف بين القرآن والكتاب والذكر والفرقان . وهذا الترادف عنوان انتساب القرآن الى الكتاب المنزل قبله : "هذا ذكر من معي وذكر من قبلي" .

4 – ليس تنزيل القرآن من السماء ، بدليل قوله : "... أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزّل علينا كتابا نقرأه – قل : سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولا" (الاسراء 93) . كان هذا التحدي من المشركين ، ومن اليهود أيضا : "يسألك أهل الكتاب أن تنزّل عليهم كتابا من السماء (مثل ألواح التوراة) – فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ، فقالوا : أرنا الله جهرة ! فأخذتهم الصاعقة بظلمهم" (النساء 153) . فليس القرآن كتابا منزلا من السماء ؛ انما سرّ تنزيله في غير اتجاه .

5 – يقول ان مصدره في لوح محفوظ : "بل الذين كفروا في تكذيب ! – والله من ورائهم محيط ؛ بل هو قرآن مجيد ، في لوح محفوظ " (البروج 19 – 22) . يُخبر بأن ما يدعو اليه "هو قرآن مجيد محفوظ في لوح" : فالقرآن العربي خبر عن هذا القرآن المجيد المحفوظ في لوح . ولا شئ في الآيات يشير الى المكان حيث اللوح محفوظ .

ويقول : "فلا! أقسم بمواقع النجوم – وإنّه لقسم ، لو تعلمون ، عظيم – إنه لقرآن كريم ، في كتاب مكنون لا يمسّه إلاّ المطهّرون : تنزيل من رب العالمين" (الواقعة 75 – 80) هنا يصير اللوح المحفوظ كتابا مكنونا . والقرآن العربي يخبر عن "قرآن كريم ، في كتاب

مكنون ... تنزيل من رب العالمين" : فالتنزيل من رب العالمين هو "قرآن كريم في كتاب مكنون" . فهل في الآيات من إشارة الى مكان الكتاب المكنون ؟ رآها بعضهم في "مواقع النجوم" فخرقوا رواية تنزيل القرآن الى "مواقع النجوم" في السماء الدنيا . ولكن ليس من تطهير عند الملائكة حتى نرى فيهم "المطهّرين" ! إن التطهير من ضرورات الدين للبشر ؛ فقوله : "لا يمسّه إلاّ المطهّرون" فيه إشارة إلى أهل الأرض الذين عندهم كتاب الله محفوظا لا يمسه إلاّ المطهّرون منهم ، المطهرون من الشرك ومن النجاسات ومن الذنوب . وأهل الكتاب كانوا يحفظون كتاب الله في مكان مقدّس ، ولا يمسه منهم إلاّ المطهّرون . فالقرآن العربي يخبر ان مصدره "قرآن كريم ، في كتاب مكنون" ، محفوظ بعيدا عن غير المطهّرين من أهل الأرض .

ويقول : "كلاّ ! إنا تذكرة – فمن شاء ذكره – في صحف مكرّمة ، مرفوعة مطهّرة ، بأيدى سفرة ، كرام بَرَرة" (عبس 11 – 16) . هنا يصير اللوح المحفوظ ، والكتاب المكنون صحفا مكرمة . وهذه الصحف "مرفوعة مطهّرة" : وليس في السماء نَجَسٌ حتى يكون فيها "صحف مرفوعة مطهّرة" عن مسّ كل مَن به نَجَس . فالنجاسة التي تمنع من مسّ كتاب الله في صحفه هي من صفات أهل الأرض . وليس أهل السماء ، وهم في نور الله ، بحاجة الى صحف ، ولا إلى سَفرَة يكتبون : فكل هذا من ضرورات أهل الأرض . فالقرآن المجيد الذي يدعو اليه القرآن العربي ، هو كتاب مكنون على الأرض ، "في صحف مطهّرة ، بأيدي سفرة كرام بررة" ، كما يطالبه اليهود "بالبيّنة : رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة" (البينة 2 – 3) هذه هي الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة .

ويقول : "لكل أجل كتاب : يمحو الله ما يشاء ويثبت ، وعنده أم الكتاب " (الرعد 38 – 39) . لان "عند" الله هو في السماوات والأرض : فليس مخصوصا بالسماء ؛ بل "عند" الله يكون أيضا على الأرض ، حيث " كتاب الله " (75:8؛ 36:9؛ 56:30؛ 6:33) محفوظ يتلونه (29:35) ويدعون اليه (23:3) ، "بما استُحفظوا من كتاب الله" (44:5) ، وإنْ "نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم" (101:2) . إن "أم الكتاب" أي أصله ومصدره "عند الله" على الأرض ، اليه يرجع ، وبه يتحدّى : "قلْ : فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه ، إن كنتم صادقين" (القصص 49) . فالقرآن العربي ينتسب الى كتاب الله الذي عند أهل الكتاب ، حيث "أم الكتاب" في

كتاب مكنون ، على لوح محفوظ في صحف مطهّرة ، بأيدي سفرة بررة . فلا شئ يشير الى صلة مباشرة بالسماء .

6 – لا يذكر القرآن العربي لنبيّه من صلة بملاك الوحي سوى مرّة أو مرّتين . والقرآن العربي كله ينتسب الى هذه الرؤيا الوحيدة التي تصفها سورة (النجم) ، وهي أول سورة أعلنها رسول الله ، لذلك فيها مصدر رسالته ودعوته :

"والـنــجــم اذا هـوى ما ضـلّ صاحـبـكـم ومـا غوى

وما يــنــطــق عــن الهوى إنْ هو إلاّ وحــــــي يُوحـى

عــلّــمــه شديـد القــوى ذو مرّة فاستــــــــوى

وهو بالأفــــق الأعـــلى ثم دنا فــــــــــتدلّى

فـــــكان قاب قوسين أو أدنـى فأوحى الى عــــــبده ما أوحى

ما كذب الـــفؤادُ ما رأى أفتمارونـــه علـــى ما يـرى

ولـــــــقد رآه نزلة أخـرى عــــــــند سدرة المنتهى

عــــندها جَــــنة المـأوى اذ يــغشى الــسدرة ما يـــغشى

ما زاغ الــبــصر وما طــغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى"

(النجم 1 – 18) .

هذا هو النظم القرآني في أصالته . وهو رباعيات أرامية تصير ثنائيات عربية في ميزان القريض العربي من صدر وعجز . وفي هذا النظم كان خرْق العادة العربية .

إن سورة النجم تصف رؤيا محمد لملاك الوحي بغار حراء . وهي الرؤيا الوحيدة التي يذكرها القرآن العربي كله . وفيها " أوحى الى عبده ما أوحى ... لقد رأى من آيات ربه الكبرى" .

وما أجملته سورة النجم فصّلته سورة الشورى عند ذكر طرق الوحي الرباني وموقف محمد ونصيبه منها :

"وما كان لبشر أن يكلم الله إلاّ وحياً – أو من وراء حجاب – أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ، إنه عليٌ حكيم ؛ وكذلك أوحينا اليك روحًا من أمرنا : ما كنت تدري ما

الكتاب ولا الايمان ، ولكن جعلناه نورًا نهدي به مَن نشاء من عبادنا ؛ وإنك لَتُهدى الى صراط مستقيم ، صراط الله" (الشورى 51 – 53) .

ففي غار حراء أرسل الله الى محمد في حال وحي اليه "روحا من أمرنا" أي ملاكا مخلوقا (لا الروح غير المخلوق) . وملاك الوحي هدى محمدا الى الايمان بالكتاب والدعوة له . هذا كل ما في الأمر .

نرى مصداق ذلك في السورة نفسها : "شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا – والذي أوحينا اليك – وما وصّينا به ابراهيم وموسى وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه ... وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب ، وأمرت لأعدل بينكم" (الشورى 13 و 15) . فالقرآن العربي يدعو الى دين موسى وعيسى دينا واحدا ، وهذا هو العدل الذي معه . أو كما يقول مرارا : "ويعلمهم الكتاب والحكمة" أي التوراة والانجيل معا" (البقرة 129 و 151 ؛ آل عمران 164 ؛ الجمعة 2) . "لا نفرّق بين أحد من رسله ونحن له مسلمون" (البقرة 285 و 136 ؛ آل عمران 84 ؛ النساء 152) . هذه هي الطريقة والشريعة من أمر الدين التي وضعه عليها ملاك الوحي في غار حراء (الجاثية 18) .

فليس في رؤيا محمد من تنزيل جديد . إنما هي هداية الى التنزيل الوحيد في كتاب الله ، والأمر بالدعوة اليه على طريقة مخصوصة بالجمع بين موسى وعيسى معًا والكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل معا. وهي طريقة النصارى من بني إسرائيل .

فالوحي الوحيد الذي ناله محمد في رؤيا الوحيدة نزلتين هو الأمر بأن يكون من المسلمين النصارى وأن يتلو معهم قرآن الكتاب : "وأُمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن" (النمل 91 – 92) : فالمسلمون موجودون قبل محمد وهو ينضم اليهم بأمر الله ويتلو معهم كتاب الله على طريقتهم .

7 – هذا هو "القرآن" الذي نزل على محمد في غار حراء : إنه أمر بالهداية الى الايمان بالكتاب (الشورى 52) ، وأمر بالانضمام الى النصارى المسلمين (النمل 91) ، وأمر بالرسالة والدعوة الى كتاب الله الذي معهم وعلى طريقتهم : "حم ، والكتاب المبين إنّا أنزلناه في ليلة مباركة ... أمرًا من عندنا : إنّا كنا مرسِلين" (الدخان 1 – 5) .

فالأمر بالرسالة والدعوة لكتاب الله المنزل من قبله هو الخبر العظيم الذي يردّده القرآن العربي في انتسابه الدائم الى الكتاب وأهله المسلمين المقسطين : "وأمرتُ أن أكون من
المسلمين وأن اتلو القرآن" (النمل 91 – 92) ، "وأمرتُ أن أكون من المؤمنين " (يونس 104) ، "قل : اني أمرتُ أن اعبد الله مخلصا له الدين ، وأُمرت لأن أكون أول المسلمين" (الزمر 11 – 12) – أُمِر في رؤيا غار حراء أن ينضم الى المسلمين "النصارى" ، وأن يتزعّم دعوتهم – "قل : إني أمرتُ أن أكون أوّل مَن أسلم ، ولا تكونَنّ من المشركين" (الانعام 14) ، "قل : انني هداني ربّي الى صراط مستقيم ، دينا قيما ، ملة ابراهيم حنيفا ، وما كان من المشركين . قل : إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ، بذلك أمرتُ وأنا أول المسلمين " (الأنعام 161 – 163) . إن الصراط المستقيم ، والدين القيم ، وملة ابراهيم حنيفا هي أن يكون من المسلمين ؛ لذلك هداه ربه في رؤيا غار حراء ؛ وبذلك أُمر ، يتزعّم الدعوة الى اسلام "النصارى" المسلمين المقسطين . هذا الأمر المتواتر هو القرآن والتنزيل والذكر والكتاب الذي أُنزل عليه في ليلة مباركة (الدخان) هي ليلة القدر (سورة القدر) من شهر رمضان (البقرة) . أُمر بالهداية الى الايمان بكتاب الله (الشورى 52) وأُمر بالدعوة له مع "النصارى" المسلمين (النمل 91 – 92) وأُمِر بتزعّم الحركة "النصرانية" الاسلامية في مكة والحجاز بعد موت زعيمها ورقة بن نوفل استاذه الى هذه الرسالة . تلك هي رسالته ونبوته التي تلقاها من ملاك الوحي في غار حراء : "حم . والكتاب المبين إنّا أنزلناه في ليلة مباركة ... أمرا من عندنا : إنّا كنا مرسلين " (الدخان 1 – 5) .

فليس من تنزيل جديد في القرآن العربي ؛ انما هو نقل التنزيل الكتابي "بلسان عربي مبين" . وقد جمع رسالته كلها وقرآنه كله في قوله : " وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ؛ وانه لفي زبرُ الأولين : أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل" (الشعراء 192 – 197) . يصرّح بأن تنزيل رب العالمين الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد هو في زبر الأولين أي "كتبهم كالتوراة والانجيل" (الجلالان) ، ويشهد بذلك علماء بني إسرائيل ، وشهادتهم آية لهم . فالروح الأمين نزل على قلبه بتنزيل التوراة والانجيل معا ، وهذا ما يسميه هداية الى الايمان بالكتاب (الشورى 52) ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين ، لأنه "ولو نزّلناه على بعض الأعجمين قرأه عليهم ، ما كانوا به مؤمنين" (الشعراء 198 – 199) .

فالقرآن العربي من تنزيل الكتاب لأنه "تفصيل الكتاب" (يونس 37) .
ثانيا : القرآن العربي هو "تفصيل الكتاب" للعرب

إن تعبير (التنزيل) في لغة القرآن متشابه ، لا يُعرف معناه إلاّ بالقرائن القرآنية المحكمة . وما يسميه تنزيلا يصفه بأنه "تفصيل الكتاب" المنزل قبله ، و "تصريف آياته" ، و"تيسيره" قرآنا عربيا ، و "تبيان" ما نُزّل من قبل .

1 – فهو يصرّح أولا بأن القرآن العربي ، انما هو تنزيل الرحمان الرحيم ، لأنه من كتاب الله الموجود قبله ، وفيه ؛ فالقرآن ينتسب الى الكتاب نسبة مصدرية :

يقول : "إن هذا (القرآن) لفي الصحف الأولى ، صحف ابراهيم وموسى" (الأعلى 18 – 19) ؛ "أم لم يُنبأ بما في صحف موسى وابراهيم الذي وفّى ... وأن الى ربك المنتهى" (النجم 36 – 42) – ففي سورة النجم ، بعد ان ذكر قصة رؤياه في غار حراء ، يصرح بمصدر دعوته في صحف ابراهيم وموسى وعيسى – "وقالوا : لولا يأتينا بآية من ربه ؟ – أولم تأتهم بيّنة ما في الصحف الأولى " (طه 133) . فالقرآن الذي نزل عليه (طه 1) انما هو "بيّنة ما في الصحف الأولى" . فليس من تنزيل جديد ، ولا من تنزيل من السماء ؛ انما هو بيان ما في تنزيل الصحف الأولى . بذلك يردُ على المشركين المكذبين : "فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفِرة فرت من قَسْورة ! بل يريد كلُ امرئ أن يُؤتى صحفا منتشرة ... كلا إنه تذكِرة ، فمن شاء ذكره" (المدثر 49 – 55) فليس القرآن العربي صحفا مقدسة منشرة ، بل هو تذكرة منها . وبذلك يردّ على أهل الكتاب من اليهود : "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب (اليهود) والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة : رسول من الله يتلو صحفا مطهّرة فيها كتب قيّمة – وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب (من اليهود) إلاّ من بعد ما جاءَتهم البيّنة " (البينة 1 – 4) لأن القرآن "بيّنة ما في الصحف الأولى" (طه 133) .

ويقول : "إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا – وانْ من أمة إلاّ خلا فيها نذير – وإن يكذّبوك فقد كذّب الذين من قبلهم جاءَتهم رسلهم بالبينات والزُبرُ والكتاب المنير" (فاطر 24 – 25) . فالعرب المشركون يكذبون محمدا كما كذّب اليهود رسلهم ، وبيّنات موسى ، وزبور داود ، والكتاب المنير لعيسى المسيح . لكن النصارى من بني اسرائيل لم يكذبوا عيسى ، ولا هم يكذبون محمدا ؛ لذلك يستشهد بهم : "فاسألوا أهل الذكر ؛ إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر" (النحل 43 – 44) . ويستعلي على المشركين بتلك الزبر : "أم لكم
براءة في الزبر" (القمر 43) لأن "كل شئ فعلوه في الزبر" (القمر 52) . ويندّد بأهل الكتاب الذين اختلفوا في المسيح : "فقطعوا أمرهم بينهم زبرًا ، كل حزب بما لديهم فرحون" (المؤمنون 53) "فآمنت طائفة من بني اسرائيل (النصارى) وكفرت طائفة (اليهود) : فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين" (الصف 14) . فالقرآن ينتسب دائما الى زبر الأولين ، وما هو تنزيل إلاّ لأنه منها وفيها : "وانه لتنزيل رب العالمين ... وإنه لفي زبر الأولين" (الشعراء 192 و 196) .

وهكذا فما محمد إلا "نذير من النذر الأولى" (النجم 56) ينذر العرب ، في القرآن ، بالنذر الأولى .

2 – فما القرآن العربي سوى "تفصيل الكتاب" بلسان عربي مبين

ما يصفه عامةً بالتنزيل في القرآن العربي ، يسميه على التخصيص تفصيلا : "ما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله ، ولكن تصديق الذي بين يديه (قبله) ، وتفصيل الكتاب ، لا ريب فيه ، من رب العالمين" (يونس 37) . هذا هو التعريف الحق ، والقول الفصل في القرآن العربي : إنه "تفصيل الكتاب" ، لا الكتاب الذي في السماء ، بل الكتاب الذي من قبله ، فهو "تصديق الذي بين يديه" . والتفصيل في لغته يعني التعريب ، بحسب قوله : "ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا : لولا فُصّلت آياته" (فصلت 44) .

فالتنزيل في القرآن يعني "تفصيل الكتاب" فيه : "أفغير الله أبتغي حَكَمًا وهو الذي أنزل اليكم الكتاب مفصلا ؛ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق ، فلا تكونَنَّ من الممترين ! وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا ، لا مبدّل لكلماته ، وهو السميع العليم" (الانعام 114 – 115) . هذا هو تحديد كيفية التفصيل والتعريب : إن القرآن العربي منزّل من ربك بالحق لأنه "الكتاب مفصلا" ، بكل صدق وعدل ، لا مبدّل لكلماته ؛ ويشهد أهل الكتاب على صحة التنزيل في صحة التفصيل والتعريب . فالقرآن تنزيل لأنه "تفصيل الكتاب" . لذلك "ما كان حديثا يُفترى ، ولكن تصديق الذي بين يديه ، وتفصيل كل شئ ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون" (يوسف 111) .

فهذه هي قصة التنزيل الرباني : "حم . تنزيل من الرحمان الرحيم : كتابٌ فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون" (فصلت 1 – 3) . هذا هو التعريف الفصل في القرآن العربي : ان
تنزيل الرحمان الرحيم هو في الكتاب ، وقد "فُصّلت" اي عُرّبت آياته قرآنا عربيا . وقوله : "لقوم يعلمون" فيه سرٌ لطيف ؛ إن أولي العلم ، القوم الذين يعلمون ، هم أهل الكتاب ، والمقسطين منهم هم النصارى من بني اسرائيل ؛ لذلك كان تعريب الكتاب أولا لهم كما فعل قس مكة ورقة بن نوفل ، ومحمد من بعده يبلّغه الى العرب ، " وقد شهد شاهد من بني اسرائيل على مثله " (الاحقاف 10) . فمثل القرآن عند النصارى من بني اسرائيل . وهو "كتاب أحكمت آياته – ثم فُصّلت من لدن حكيم خبير" (هود 1) ؛ لذك ما كان لمحمد نفسه أن يشك من مطابقة القرآن العربي "للمثل" الذي عند النصارى من بني اسرائيل : "أفمن كان على بيّنة من ربه – ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمة – أولئك يؤمنون به ؛ ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده ؛ فلاتكُ في مرية منه " ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون" (هود 17) . إن شاهدا من قِبَل الله يتلو "مثل" القرآن على محمد ، "ومن قبله كتاب موسى إماما" ، "فلاتك في مرية منه" ، لأن أهل الكتاب المقسطين هم على بيّنة من ربهم ، وهم يؤمنون به ، فآمن على ايمانهم .

إن كتاب الله قد فصلت آياته قرآنا عربيا . لذلك فما القرآن العربي سوى "تفصيل الكتاب" بلسان عربي مبين . وهو يقسم بالكتاب نفسه أنه جعله قرآنا عربيا : "حم . والكتاب المبين : إنا جعلناه (الكتاب) قرآنا عربيا ألعلّكم تعقلون" (الزخرف 1:1–3) . هذا هو تحديد التفصيل والتعريب .

3 – القرآن العربي "تصريف" آيات الكتاب ، بعد الدرس

يقول : "انظر كيف نصرّف الآيات ، ثم هم يصدِفون" (الانعام 46) ، "انظر كيف نصرّف الآيات لعلهم يفقهون" (الانعام 65) ؛ "وكذلك نصرّف الآيات – وليقولوا : درست ! – ولنبيّنه لقوم يعلمون" (الانعام 105) . يقول "بتصريف" الكتاب قرآنا عربيا ، فيردون عليه ، ويقولون : "درست" كتب الماضين وجئت بهذا منها (الجلالان) . فردّ على تهمة الدرس بقوله : "ولنبيّنه لقوم يعلمون" ؛ فسكوته عن الردّ عليم في ذلك ، وعدوله الى بيان حكمة الدرس دليل على صحته . فقد درس محمد الكتاب ، وهو يصرّف آياته في القرآن العربي .

ويقول : "تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا" (الفرقان 1) . وكان هذا التنزيل بالتصريف : "ولقد صرّفناه بينهم ليذّكّروا ، فأبى أكثر الناس إلاّ كفورًا" (الفرقاء 50) .

فالتنزيل يعني التصريف في لغته : "وكذلك ، أنزلناه قرآنا عربيا وصرّفنا فيه من الوعيد لعلهم يتّقون ، أو يُحدث لهم ذكرا ، (طه 113) ، "ولقد صرّفنا في هذا القرآن ليذّكّروا ، وما يزيدهم إلا نفورا" (الاسراء 41) ؛ "ولقد صرّفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل ، وكان الانسان أكثر شئ جدلا" (الكهف 54) . لقد درس محمد الكتاب وصرّفه وفصله قرآنا عربيا ، أو فصّله له "حكيم خبير" . فالتصريف ، في لغته ، مرادف للتفصيل أي للتعريب .

4 – القرآن العربي هو "تيسير" الكتاب بلسان محمد

في سورة مريم يقول : "واذكر في الكتاب مريم" (16) ، "واذكر في الكتاب ابراهيم" (41) ، "واذكر في الكتاب اسماعيل" (54) ، "واذكر في الكتاب ادريس" (56) : "أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم ، وممن حملنا مع نوح ، ومن ذرية ابراهيم واسرائيل ، وممّن هدينا واجتبينا ، إذا تُتلى عليهم آيات الرحمان خرّوا سُجّدا وبُكيّا" (58) . ويختم بقوله : "فإنما يسّرناه بلسانك لتبشّر به المتّقين ، وتنذر به قوما لُدّا" (97) . فالقرآن العربي تيسير الكتاب المقدس بلسان محمد ، بحسب "المِثْل" الذي مع النصارى من بني إسرائيل (الاحقاف 10) . والكتاب هو الذكر وهو القرآن على الاطلاق ؛ وما القرآن العربي سوى تيسير القرآن العظيم : "ولقد يسّرنا القرآن للذكر ، فهل من مذّكر" (القمر 17 و 22 و 32 و 40) . ومنذ رؤيا غار حراء ، في تلك الليلة المباركة ، أمر ملاك الوحي محمدا بتيسير الكتاب المُبين بلسانه العربي المُبين : "حم . والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة ... أمرا من عندنا : إنّا كنا مرسلين" (الدخان 1– 5) ، " فإنّما يسّرناه بلسانك لعلّهم يتذكّرون" (الدخان 58) .

فرسالة محمد هي تيسير الكتاب المبين باللسان العربي .

5 – القرآن العربي هو "بيان" الكتاب بلسان عربي

يتحدّى المشركون الذين لا يعلمون ، واليهود الذين من قبلهم ، محمدا بآية ، فيُجيب أن آيته بيان آيات الكتاب لأنه بشير ونذير ، لا نبي بمعجزة : "وقال الذين لا يعلمون : لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ؟ – كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ، تشابهت قلوبهم ‍ ! قد بيّنا الآيات لقوم يوقنون ! إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ، ولا تُسأل عن أصحاب الجحيم" (البقرة 118 – 119) .

ومن صفات النبي أن يُرْسَل بلسان قومه : "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم" (ابراهيم 4) . ورسالة محمد أن يبيّن للعرب ما نُزِّل من قبله بلسانهم : "وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالا نوحي اليهم : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزُبر ! وأنزلنا اليك الذكر ، لتُبيّن للناس ما نُزِّل إليهم ، ولعلّهم يتفكّرون" (النحل 43 – 44) . إن الذكر الإلهي لواحدٌ ، وهو أولا عند أهل الذكر ، فهم أهله من دون الناس أجمعين ؛ ثم نزل هذا الذكر – لاحظ التعبير المطلق في قوله : "وأنزلنا اليك الذكر – الى محمد – لتبيّن للناس (العرب) ما نُزِّل اليهم" من قبل . فالقرآن العربي هو "بيان" الذكر الذي عند أهل الذكر للعرب بلسان عربي .

ومن رسالته أيضا أن يُبيّن لأهل الكتاب ما اختلفوا فيه ، على هدى القوم المؤمنين ، أولي العلم المقسطين ، النصارى من بني اسرائيل المسلمين : "وما أنزلنا عليك الكتاب (فهو واحد عنده ومع مَن قبله) إلاّ لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون" (النحل 64) . فالقرآن العربي هو أيضا "بيان" الكتاب لأهل الكتاب الذين اختلفوا فيه الى يهود ومسيحيين ، على هدى النصارى من بني اسرائيل ، القوم المؤمنين "الذين يتلونه (الكتاب) حقَّ تلاوته" (البقرة 121) .

6 – في القرآن على محمد أن "يقتدي" بهدى الكتاب وأهله المقسطين

يذكر الأنبياء جميعهم من نوح الى عيسى ، "ومن آبائهم وذريتهم واخوانهم ؛ واجتبيناهم وهديناهم الى صراط مستقيم – ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده" (الأنعام 84 – 88) . ثم يقول : "أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحُكم (الحكمة) والنبوة – فإن يكفر بها هؤلاء ، فقد وكّلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين – أولئك الذين هدى الله ، فبهداهم اقتدِه " (الأنعام 89 – 90) . إن هدى الله هو عند أهل الكتاب "الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة" ؛ لاحظ تعبير "الحُكم" أي الحكمة ، وقد استخدم بحرفه العبري والأرامي زيادة في الانتساب اليهم والى لغتهم . والحكمة في التعبير المتواتر "الكتاب والحكمة" هي الانجيل . فهدى الله هو عند الذين يقيمون التوراة والانجيل معا بدون تفريق بينهما ، وهم النصارى من بني إسرائيل . فعلى محمد أن "يقتدي" في القرآن العربي بهداهم . فليس هدى القرآن العربي نازلا من السماء مباشرة ، بل هو من هدى النصارى من بني إسرائيل

"الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة" معا . والأمر لمحمد ان "يقتدي بهداهم" برهان على أن هداه من هداهم ، والتنزيل اليه من تنزيلهم ؛ فلو كان من السماء مباشرة لَمَا صحّ لهذا الأمر من معنى .

7 – القرآن يشهد للاسلام بشهادة أولي العلم المقسطين

منذ رؤيا غار حراء جاءَه الأمر أن ينضمّ الى المسلمين من قبله ، وأن يتلو قرآن الكتاب على طريقهم : "وأُمرتُ أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن" (النمل 91 – 92) . فإسلام المسلمين من قبله هو القرآن كله . وهذا الاسلام هو الدين عند الله . بذلك يشهد الله وملائكته "وأولو العلم قائما بالقسط" – وأولو العلم مرادف لأهل الذكر ، وأهل الكتاب . لكنه يقسمهم الى طائفتين : المقسطين منهم وهم النصارى من بني اسرائيل ، والظالمين وهم اليهود (العنكبوت 46) . فالقرآن يشهد بشهادة هؤلاء النصارى "أن الدين عند الله الاسلام " : "شهد الله أن لا إله إلاّ هو ، والملائكة ، وأولو العلم قائما بالقسط – لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم – أن (1) الدين عند الله الاسلام" (آل عمران 18 – 19) .

قالوا إن آخر آية عهدا بالعرش آية الدين هذه ، فهي آخر ما نزل على محمد . لكن القرآن يشهد أن آية الدين هي شهادة النصارى الإسرائيليين ، وشهادتهم للاسلام من شهادة الله وملائكته .

ولذلك اختلف أهل الكتاب من اليهود بعد "العلم" الذي جاءهم به المسيح في الانجيل ؛ وأخذوا يقتلون النصارى المقسطين بسبب شهادتهم بالاسلام النصراني ، كما كانوا يقتلون النبيين بغير حق : "وما اختلف الذين أوتوا الكتاب (اليهود) إلاّ من بعد ما جاءهم العلم ، بغيًّا بينهم ! ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ... إن الذين يكفرون بآيات الله ، ويقتلون النبيين بغير حق ، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ، فبشّرهم بعذاب أليم" (آل عمران 19 و 21) .

إن النصارى من بني اسرائيل يشهدون مع الله وملائكته ان الدين عند الله الاسلام ؛ ويأمرون الناس بالقسط ؛ فهم أولو العلم قائما بالقسط ؛ لذلك يقتلهم بنو قومهم اليهود ،

ــــــــــــــــــــــــ

(1) أنّ ؛ هناك قراءة أخرى على الاستئناف : "إنّ" ، لكنها لا تغيّر المعنى لأن الاسلام هو الشهادة "أنّ لا إله إلاّ هو" .

فيموتون شهداء الاسلام الذي له يشهدون . والقرآن كله يشهد بشهادتهم : فهو تنزيل من تنزيلهم .

والقرآن تأييد لهؤلاء النصارى من بني إسرائيل حتى ظهورهم على عدوّهم اليهود : "يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ، كما قال عيسى ، ابن مريم ، للحواريين : مَن أنصاري إلى الله ؟ قال الحواريون : نحن أنصار الله . فآمنت طائفة من بني اسرائيل ، وكفرت طائفة : فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين" بالحجاز والجزيرة (الصف 14) . فالقرآن يشهد للاسلام بشهادة النصارى من بني إسرائيل ، أولي العلم المقسطين ؛ ويؤيّد دعوتهم ، وينتصر لهم على عدوهم . فالدعوة القرآنية دعوة "نصرانية" . النتيجة الحاسمة : ان التنزيل يعني في اصطلاحه "التفصيل" .

هذا هو التنزيل القرآني ، بتعابيره المتشابهة . ويصرّح بتواتر ان هذا التنزيل القرآني إنما هو "تفصيل الكتاب" وتصريفه وتيسيره وبيانه للعرب ، على طريقة النصارى من بني اسرائيل ، "الذي يتلونه حقَّ تلاوته" ، ويشهدون مع الله وملائكته بالاسلام ، فيشهد به معهم محمد بالقرآن العربي ، فقد "أُمرتُ أن أكون من المسلمين ، وأن أتلو القرآن" (النمل 91 – 92) على "المثل" الذي معهم : "وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله" (الاحقاف 10) . فتنزيل القرآن هو "تفصيل الكتاب" . ويسمي القرآن العربي نفسه تنزيلا لأنه تفصيل التنزيل عن "مثله" الذي عند النصارى من بني اسرائيل . وتنزيل هو "تفصيل" التنزيل الكتابي ، هل يكون من الإعجاز بذاته في التنزيل ؟

التالي