بحث عاشر التنزيل ما بين القرآن والإنجيل نختم هذا الفصل ببحث التنزيل ما بين القرآن والانجيل ، على هدى القرآن والانجيل . نرى فيه مدى التفاوت الواسع ما بين التنزيل القرآني والتنزيل الانجيلي . أولا – يجزم القرآن عن نفسه أنه تنزيل بالواسطة : "نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين" (الشعراء 193 – 194) ؛ "قلْ : نزّله روح القدس من ربك بالحق" (النحل 102) . وبما أنه تنزيل بالواسطة فهو كلام الملاك باسم الله لا كلام الله مباشرة : "يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء" (الشورى 51) . أمّا الانجيل فهو وحي مباشر من الله ، بدون وسيط ، ولا حجاب ؛ فهو كلام الله نفسه . وبحسب الانجيل إنه كشف من الله بالمشاهدة العيان . فالسيد المسيح ، في الانجيل والقرآن هو "كلمة الله" ، من ذاته ؛ فكأن كلام الله صار فيه "كلمة الله" ذاته : فالوحي والذات فيه واحد . ثانيا – إن التنزيل القرآني من وَسَطٍ قائم بين الله وبين نبيّه : فهو على "لوح محفوظ" ، في "كتاب مكنون" ، ضمن "صحف مطهّرة ، بأيدي سفرة ، كرام برَرة" . أمّا بين الله ومسيحه فليس من وسيط ولا وَسَط ، ولا كتاب ولا حجاب : "إننا نشهد بما شاهدنا" يقول كلمة الله النازل من ذات الله (يوحنا 11:3) . ثالثا – بحسب الحديث المتواتر المشهور كان جبريل يعارض القرآن كل سنة في رمضان مع محمد . وهذه العرْضات السنوية للقرآن تدل حتما على تنقيحه . أما الانجيل ، فليس في القرآن والانجيل ، ولا في الأخبار والآثار ، من عرْض له على مخلوق ؛ فهو ليس بحاجة الى تنقيح . رابعا – كان القرآن ، على ما يقولون وكما هو المشاهَد فيه ، ينزل بحسب الحاجة الطارئة ، " نزّله جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم " (عن ابن عباس) ، على مقتضى الحال ، كما يصرّح : "ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيرا" (الفرقان 33) فكأن جبريل يتبارى مع العرب في الاعجاز والبيان . أما الانجيل ، وإن جاء فيه بجواب كلام العباد وأعمالهم أحيانا ، فهو ينزل مبتدِئا بكشف من الله ، وتشريع يفرضه فرضا على العباد بحسب مقتضى الحال والمآل . لمّا نزلت في القرآن آية المحاسبة على الوسوسة (البقرة 284) قالوا لمحمد : نزلت عليك هذه الآية ، ولا نطيقها ، فنسخها للحال . ولمّا نسخ السيد المسيح الطلاق وتعدد الزوجات بحسب شريعة موسى ، استنكر ذلك صحابته قبل غيرهم ، فقال لهم : "مَن استطاع أن يحتمل فليحتمل" (متى 1:19 – 12) . خامسا – في التنزيل القرآني ناسخ ومنسوخ في آيه . وقد رفع جبريل في العرضة الأخيرة ، على ما يقولون ، كثيرا من المنسوخ . وعند جمع القرآن أسقط عثمان المنسوخ الباقي الذي أثبته علي في مصحفه . وبقي في المصحف العثماني ناسخ ومنسوخ يؤلفون فيه الكتب الى اليوم . أما الوحي الانجيلي فليس فيه ناسخ ومنسوخ . وليس من شاهد في الانجيل ، ولا في الأخبار والآثار ، على شئ من ذلك . فقد نزل الانجيل بالوحي مبتدئا محكما . سادسا – بقسم القرآن التنزيل فيه الى محكم ومتشابه : "هو الذي أنزل عليك الكتاب : منه آيات محكمات ، هنّ أمّ الكتاب ؛ وأُخر متشابهات" (آل عمران 7) . والمتشابهات أكثر القرآن ؛ فكأنهنّ من المهملات ، أو من الوسائل التدعيمية . ولا ينص الانجيل على أن فيه "آيات محكمات وأخر متشابهات" . فكله محكم . قد يفصّل الانجيل بعضه بعضا ويفسّر بعضه بعضا ؟ ولكن ليس فيه آيات متشابهات يجب الرجوع فيها الى المحكمات لبيان مدلولها ومعانيها . فآيات الانجيل كلها محكمات . سابعا – حديث صحيح نقله واحد وعشرون صحابيًّا(1) : " إن القرآن أُنزل على سبعة أحرف ، كلها شاف كاف" . واختلفوا في معنى هذا الحديث على نحو أربعين قولا ، لما فيه من شبهات على صحة التنزيل وصحة الحفظ وصحة الاعجاز . لكن أكثر العلماء على تفسير الطبري أنه "باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني" أي سبعة نصوص أو سبعة قرائين . يقول الطبري(2) : فإن قال قائل : ما بال الأحرف الستة غير موجودة ؟ إن كان الأمر على ما وصفت أو قد أقرّهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر بالقراءة بهنّ الأمة ، وهي مأمورة بحفظها ، فلذلك تضييع ما قد أُمروا بحفظه ؟ أم ما القصة في ذلك ؟ – قيل له : لم تُنسخ فترفع ؛ ولا ضيّعتها الأمة ؛ ولكن الأمة أُمرت بحفظ القرآن ، وخُيّرت في قراءته وحفظه بأيّ تلك الأحرف شاءت . فرأت ، لعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد ، قراءته بحرف واحد ، ورفض القراءة بالأحرف الستة الباقية" (59:1) . والعلة الموجبة كانت اختلاف الأمة المبكر على نص القرآن ، واقتتال الغلمان في المدارس ، والجيوش في ساحات ــــــــــــــــــــــــ السيوطي : الاتفاق 46:1 – 48 الطبري : تفسير القرآن – نشر الأخوين شاكر 59:1 ؛ 62:1 ؛ 66:1 القتال (62:1) . ثم " إن الأحرف الستة الأخر أسقطها عثمان ومنع من تلاوتها" (66:1) وأتلفها بالحديد والنار . فحفظ القرآن على حرف أي نص واحد ليس بمعجزة في الحفظ ولا في الأمانة لتنزيل الله . ودوّن صحابة المسيح الانجيل على أربعة أحرف : الانجيل بحسب متى ، وبحسب مرقس ، وبحسب لوقا ، وبحسب يوحنا . وحفظها المسيحيون جميعا ، لأنهم لم يختلفوا فيها ولم يقتتلوا عليها ، مع تفرقهم طوائف وشيعا . ثم رأى بعض المسيحيين من التابعين كتابة أحاديث وردت عن صحابة المسيح وآل بيته ، فوضعوها وسموها أناجيل ، ونحلوها الى رسل المسيح ، فسمّيت " الاناجيل المنحولة " . وهذه أيضا لم يتلفها المسيحيون لأنهم لم يخشوا منها على " الاناجيل الأربعة الصحيحة " وهكذا نزل القرآن على سبعة أحرف أتلف صحابة محمد منها ستة ! ونزل الانجيل على أربعة أحرف فحفظها صحابة المسيح جميعا ! ففي تلك المقارنات السبع في التنزيل ، ما بين القرآن والانجيل ، أين هو الاعجاز الإلهي الحق في التنزيل ؟ |