بحث ثالث ترتيب السور في المصحف العثماني أولا : الإجماع بأنه من الصحابة جاء في (الاتقان 63:1) : "وأما ترتيب السور فهل هو توقيفي ؛ أو هو باجتهاد من الصحابة ؟ – فيه خلاف ! فجمهور العلماء على الثاني . " ولذلك اختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور : فمنهم من رتبها على النزول ؛ وهو مصحف علي ... وكان أول مصحف ابن مسعود : البقرة ثم النساء ثم آل عمران ، على اختلاف شديد ؛ وكذا مصحف أُبي وغيره" . ومَن قال منهم بأن ترتيب السور توقيفي عن النبي قال : " فمن قدَّم سورة أو أخّرها فقد أفسد نظم القرآن " . والبرهان المزدوج الذي أعطاه السيوطي هو القول الحق في أن ترتيب السور كان باجتهاد الصحابة : فجمهور العلماء عليه ، واختلاف مصاحف السلف قبل الجمع العثماني شاهد عليه . وكان اختيار الصحابة لترتيب السور على مبدأ التنسيق في الطول : الطوال ، فالمئين (لأن كل سورة منها تزيد على مائة آية أو تقاربها) ، فالمثاني (ما ولى المئين لأنها ثَنَتْها) ، فالمفصَّل (سمي بذلك لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة) . "للمفصل طوال وأوساط وقصار . قال ابن معن : فطواله الى (عم) ؛ وأوساطه منها الى (الضحى) ؛ ومنها الى آخر القرآن قصاره" . وربما اختاروا في ترتيب السور مبدأ التنسيق في الطول لأن السبع الطوال فيها التشريع والجهاد وجدال أهل الكتاب أي جوهر القرآن ومحوره ؛ وربما لتحدّي العرب في المعلّقات السبع بالسور السبع ثانيا : شهادة التاريخ والواقع القرآني وهكذا فاعتبار تنسيق القرآن الحالي ، حيث ترتيب التلاوة على غير ترتيب النزول ، توقيفا على النبي وبأمره ، ينقضه التاريخ والواقع القرآني . فالتاريخ يشهد بأن القرآن لم يكن مجموعا ولا مكتوبا كله على عهد النبي ، كما في حديث زيد : "قُبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جُمع في شئ" . ولو جرت محاولة من النبي في آخر أمره ، كما يشهد زيد أيضا ، على شرط الشيخين : "كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع" . فلو كان مجموعا ، لما احتاجوا الى جمع من بعده ؛ ولا تفرّق الى سبعة أحرف ؛ ولا اختلفت مصاحف الصحابة في ترتيبه ؛ ولا قال زيد قوله المشهور : "فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان عليّ أثقل ممّا أمراني به من جمع القرآن" . والسبب الذي يعطيه الخطابي مذهل : "إنما لم يجمع صلى الله عليه وسلم القرآن في المصحف ، لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته . فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك".(1) فلم يدوّن القرآن على حياة النبي لأنه كان يترقب رفع تلاوة بعضه ، ونسخ أحكام بعضه . والواقع القرآني يشهد بأن أكثر سوره جمع متفرّقات موضوعا وزمنا . فالسور المتبعّضة ، التي بعضها مكي وبعضها مدني ، لا يعقل أن يكون جمعها على هذه الحال بتوقيف عن النبي . وسور العهد المكي الثالث ، التي يختلف العلماء على ترتيبها بحسب النزول في العهد المكي الأول أم العهد المكي الثالث ، إنما هي تجمع قسمين من العهدين ، يدل عليهما اختلاف الاسلوب ما بين العهد الأول والعهد الثالث ، وأحيانا اختلاف الموضوع . والسور التي يختلفون فيها ، أهي مكية أم مدنية (الاتقان 12:1 – 14) شاهد آخر على أن جمع السور في القرآن كان باجتهاد الصحابة . والسور المكية التي فيها آيات مدنية (الاتقان 15:1 – 17) شاهد خاص على أن جمع الآيات في السور ، وجمع السور في القرآن كانا كلاهما بتوفيق الصحابة . ــــــــــــــــــــــــ (1) الاتقان 58:1 ثالثا : النتائج الحاسمة لهذا الواقع القرآني في المصحف العثماني 1 – إن ترتيب القرآن على مبدأ التنسيق في الطول أضاع علينا الترتيب التاريخي بحسب النزول . وهم ربما عمدوا الى التنسيق بدل التاريخ لاستحالة جمعه بحسب نزوله . قال محمد بن سرين لعكرمة : " ألّفوه كما أُنزل الأول فالأول . قال : لو اجتمعت الانس والجن على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا"(1) ومما لا ريب فيه أن الإعجاز الحق في تأليف القرآن أن يكون بحسب تاريخ نزوله . فلمّا ضاع علينا هذا الترتيب الزمني ، ضاعت ناحية من الاعجاز في تأليف القرآن . 2 – ان ترتيب القرآن الحالي ، على التنسيق بحسب الطول ، مزج سور القرآن مزجا ، فخلط بين أزمانها ومواضيعها . والمبدأ المتواتر عندهم أنه " مَن قدّم سورة أو أخّرها فقد أفسد نظم القرآن " . فكما يصح أن يقوله أهل التنسيق ، يصح أيضا أن يقوله أهل الترتيب التاريخي . وبما أن الترتيب التنسيقي موضوع نظر ؛ وبما أن الترتيب التاريخي مستحيل ؛ فعلى كلا الحالين ضاع الإعجاز الحق في تأليف القرآن "كما أنزل ، الأول فالأول" . 3 – وأخيرا بما أن ترتيب السور في القرآن توفيقي من الصحابة – والترتيب المنزل في سوره ناحية من إعجازه – فهل من إعجاز في التأليف ، في ترتيب المصحف الأميري الشريف ؟ |