بحث خامس من الإقحامات النافرة في الآيات والكلمات نجد في بعض الآيات أجزاء منها ليست منها في شئ ، وهي تتنافر معها موضوعا ومناسبة ، ولا تدري ما الحكمة في اقحامها في غير موضعها . 1 – من ذلك قوله : " واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى " ، في قصة ابراهيم واسماعيل والبيت العتيق : "واذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا – واتخذوا من مقالم ابراهيم مصلّى – وعهدنا الى ابراهيم واسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والرُكَّع والسجود" (البقرة 125) ومن المعروف في (اسباب النزول) أنها نزلت كما قال بها عمر بن الخطاب : فما دخلُها في قصة أمر الله لابراهيم ببناء الكعبة ؟ 2 – ومن ذلك قوله : " وأمرهم شورى بينهم " في صفات المؤمنين : "وما عند الله خير وأبقى ، للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون أو الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش واذا ما غضبوا هم يغفرون ، والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة – وأمرهم شورى بينهم – وممّا رزقناهم ينفقون" (الشورى 36 – 38) . فما معنى اقحام نظام الشورى في الحكم الاسلامي بصفات المؤمنين التي يقوم عليها المصير ما بين الجنة والنار ؟ فهل نظام الشورى من ضرورة صفات المؤمنين ؟ والمسلمون الذي عاشوا بدون نظام الشورى في الحكم ، فهل يكفَّرون باسم الشورى ، وهل سقطت عنهم صفة من صفات المسلمين الضرورية لصحة الايمان والاسلام ؟ إن مقالة الشورى دخيلة من وحي آخر على الآية وتتنافر معها موضوعا ومعنى 3 – ومن ذلك قوله : "اليوم أكملت لكم دينكم" وهو من حجة الوداع عام 631 م ، في آية تشريع الحرام في الأنعام وهو من حجة القضاء عام 629 م : "حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلّ لغير الله به ... وما ذُبح على النُصب ، وأن تستقسموا بالأزلام ، ذلك فسق – اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون ! اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتى ورضيت لكم الاسلام دينا – فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم" (المائدة 3) . فالإقحام النافر ظاهر لا يحتاج الى بيان . وهذا الاقحام أفسد المعنى مرتين : أولا لأنه يُشتبه بأن كمال الدين والاسلام في هذه التحريمات . ثانيا لأنه يُشتبه بأن من اضطر الى المروق من الاسلام ، فإن الله غفور رحيم . 4 – ومن ذلك اقحامهم " الأذان " في البراءة من المشركين ، " إلاَّ الذين عاهدتم من المشركين " (براءة 3 – 4) ، في "براءة من الله ورسوله الى الذين عاهدتم من المشركين : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين (1 – 2) فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" (5) . إن الأذان بمنى يوم الحج الأكبر يستثني من البراءة المعاهدين من المشركين ؛ أمّا البراءة الكبرى من المشركين فهي مطلقة ، وتنص على البراءة "الى الذين عاهدتم من المشركين" . فاقحام الأذان في البراءة يفسد التأليف موضوعا وتشريعا . 5 – وهناك اقحام كلمة " النصارى " على اليهود في آيات إقحاما تنقضه القرائن القريبة والبعيدة . منها آية تحريم الموالاة : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ! بعضهم أولياء بعض" (المائدة 51) . وفي السورة عينها يجمع اليهود والمشركين في أشد العداوة للمسلمين ، ويجمع النصارى والمسلمين على أقرب مودة (المائدة 82) . فالتناقض بين الآيتين مكشوف ، لأنهم استبدلوا في الآية (51) كلمة المشركين بكلمة "النصارى" . والقرآن والسيرة وتاريخ الجزيرة تشهد بأن اليهود والنصارى لم يكونوا على الاطلاق "بعضهم أولياء بعض" ، فالاقحام والاستبدال ظاهر مفضوح . وفي رده على محاولة اليهود من أهل الكتاب ردّ المسلمين عن إيمانهم (البقرة 109 – 113) بادعائهم ، "وقالوا : لن يدخل الجنة إلاّ مَن كانوا هودًا – أو نصارى – تلك أمانيهم ! قل : هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين" (البقرة 111) ، فقد أقحموا "أو نصارى" ، والاقحام ظاهر : فإن الخطاب لليهود وحدهم (109 – 113) ؛ واليهود وحدهم يتآمرون في المدينة على الاسلام ؛ ويستحيل ان يقول اليهود : لن يدخل الجنة إلاّ مَن كانوا نصارى ! ويرد القرآن عليهم : "بلى مَن أسلم وجهه لله ، وهو محسن ، أفله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (البقرة 112) . فهو يقسم أهل الكتاب الى محسنين وظالمين ؛ فالظالمون هم اليهود الذين يصح جدالهم بالسيف ، أما النصارى المحسنون فلا يصح جدالهم إلاّ بالحسنى (العنكبوت 46) . فالنصارى هم المقصودون باصطلاحه : "مَن أسلم وجهه لله وهو محسن" . فهذه الآية (البقرة 112) تنقض أيضا اقحام "أو نصارى" في الآية السابقة (111) . 7 – وفي جدال اليهود على الهدى ، أهو في اليهودية أم في ملة ابراهيم ، أقحموا "أو نصارى" في قولهم : "وقالوا : كونوا هودًا – أو نصارى – تهتدوا ! قل : بل ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين" (البقرة 135) . فالجدال قائم مع اليهود وحدهم ، ولا خطاب فيه للنصارى ، فلِمَ اقحامهم ؟ ويستحيل أن يقول اليهود : كونوا نصارى تهتدوا ! إنما يشتقون الهدى من اسمهم "وقالوا : كونوا هودًا تهتدوا " فالجناس والمعنى برهانان على اقحام "أو نصارى" . وتأتي الآية التالية (136) باعلان الإيمان "بما أوتي موسى وعيسى" ، وبالاسلام القائم عليه " لا نفرق بين أحد منهم ونحن لهم مسلمون" . فاليهود كانوا يفرّقون ، والنصارى يجمعون فهم من أهل الايمان على ملة ابراهيم . فالقرائن كلها شواهد على الاقحام المفضوح . 8 – وفي الجدال ذاته مع اليهود ، يستشهدون ، "أم تقولون : ان ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودًا – أو نصارى – قلْ : أأنتم أعلم أم الله ؟ ومَن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ؟" (البقرة 140) . ان اليهود يدعون أن الآباء والاسباط كانوا هودًا فالهدى في اتباعهم على يهوديتهم . ولا اليهود يقولون بأنهم كانوا نصارى ؛ ولا النصارى يقولون بأنهم كانوا نصارى ؛ ولا القرآن يقول بأنهم كانوا نصارى . إنما هي دعوى اليهود وحدهم للشهادة على أن هداهم هو هدى اليهود ، لا هدى سواه . فيستشهد القرآن بالتوراة التي تذكرهم قبل الموسوية التي هي دين اليهود . فإقحام "أو نصارى" ظاهر مفضوح . ففي سورة البقرة ليس من جدال بين القرآن والنصارى ، انما الجدال المتواصل هو بين القرآن واليهود ، فإقحام النصارى في هذا الجدال دخيل عليه تنقضه كل قرائن السورة ، ونص الآيات التي ورد فيها وهكذا نجد في تأليف الآيات اقحام بعض من أجزاء الآية ، أو كلمة "النصارى" في بعض الآيات ، ممّا يجعل نص الآية يتنافر معنى وموضوعا ونظما ، كما فسد الجناس في قولهم "كونوا هودًا تهتدوا" باقحام "أو نصارى" . فهل هذه الاقحامات من الاعجاز في التأليف ؟ |