بحث رابعالتأييدات الربانية للنصر فى الح رب
" قل : يوم
الفتح لا ينفع الذين كفروا ايمانهم " يعتبر بعضهم الفتوحات النبوية فى الجهاد معجزات ندل على صحة النبوة و صدق الدعوة ، لقوله : " و لقد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة " ( آل عمران 123 ) ، " لقد نصركم الله فى مواطن كثيرة " ( التوبة 25 ) ، " إذا جاء نصر الله و الفتح ، فسبح بحمد ربك " ( النصر 1 و 3 ) . أجل من يؤمن بالله الرحمان الرحيم يؤمن بعنايته بخلقه . و هذه العناية الإلهية تشمل البشر أفرادا و جماعات . و كل انسان له نصيب من فضل الله و لطفه و عطفه . فكم بالأحرى ينعم بتأييد الله من يدعو الى سبيل الله ! فالدعاة لدين الله بصدق و اخلاص ، يشملهم الله تعالى بفضل خاص يمكنهم من دعوة الناس الى الصراط المستقيم . لذلك لا شك ان الله آتى محمدا فضلا عظيما : " و كان فضل الله عليك عظيما " ( النساء 113 ) ، كذلك " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " ( الفتح 1 ) . و هذا ما يسمونه " التأييدات الربانية " فى السيرة و الرسالة ، و يرون فيها معجزات قرآنية للنبى . إن تلك التأييدات الربانية ، خصوصا فى الفتوحات النبوية ، قائمة لا شك فيها . و لكن هل يصح ، كما وهم بعضهم ، أن نجعل منها معجزات خارقة لسنن الطبيعة و النعمة ؟ و الجميع يعلمون أن المعجزة أمر خارق للطبيعة ، مقرون بالتحدى ، سالم عن المعارضة . فهل نجد هذه الاركان الثلاثة فى الفتوحات النبوية ليصح اعتبارها معجزة ؟ إن القرآن ، بعد عجز النبى عن معجزة حسية طول العهد بمكة ، و بعد أن نسخ التحدى باعجاز القرآن فى المدينة ( آل عمران 7 ) ، و جاء نصر الله فى معركة بدر ، أخذ يرى فى الفتوحات النبوية آية له على صحة رسالته و صدق دعوته . لكن القرآن لا يعتبرها معجزات من دلائل النبوة ، كما سنرى . أولا : نصر الله فى مواطن كثيرة " لقد نصركم الله فى مواطن كثيرة " . منها هذه المواطن الأربعة الكبرى . 1 – " يوم الفرقان " فى معركة بدر ( الانفال 41 ) . يعتبر القرآن معركة بدر " فرقانا " بين الايمان و الكفر . ففيه ظهر الاسلام الجديد على خصومه مشركى مكة . فهل يعتبر ذلك النصر معجزة إلهية ؟ و هل فيه شروط المعجزة ؟ نقلنا قوله فيها فى ( سورة الانفال ) . و رأينا أنه يعتبر مساعدة الملائكة ، و مساعدة الطبيعة من نعاس و مطر قبل المعركة ، و حنكة القائد يرمى الحباء لبدء القتال ، من آيات التأييد الربانى . لكن هذا التأييد لا يتخذ صفة المعجزة : فليس العمل بخارق للعادة ، قبل المعركة : " و ان فريقا من المؤمنين لكارهون " ( 5 ) ، " يجادلونك فى الحق ، بعدما تبين ، كأنما يساقون الى الموت و هم ينظرون " ( 6 ) ، و يستغيثون ربهم من رعبهم ( 9 ) – ليست هذه حال من يقبل على مشاهدة معجزة . و ليس من تحد بالمعركة لإثبات صحة الرسالة . و بعد المعركة نشبت بينهم الفتنة ( 25 ) حتى حذرهم من الخيانة ( 27 ) و اختلفوا فى مصير الأسرى ( 67 ) . و اختلفوا فى قسمة الغنائم ( 1 و 41 ) و تنازعوا ( 46 ) . و لو كان فى المعركة شىء خارق للعادة لما قال بعضهم : " اذ يقول المنافوق و الذين فى قلوبهم مرض : غر هؤلاء دينهم " ! ( 49 ) . و اختلاف التفسير الصوفى لأحداث الغيب يمنع من رؤية معجزة فيها . ففى ( الأنفال ) يقول : " إذ تستغيثون ربكم ، فاستجاب لكم : انى ممدكم بألف من الملائكة مردفين " ( 9 ) . لكن فى ( آل عمران ) يقول ، تعزية لهم عن خذلانهم فى معركة أحد : " و لقد نصركم الله ببدر ، و أنتم أذلة ! فأتقوا الله لعلكم تشكرون . إذ تقول للمؤمنين : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ؟ بلى ، إن تصبروا و تتقوا – و يأتوكم من فورهم هذا – يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " ! ( 123 – 125 ) . و فى الحالين يعتبر الإخبار بذلك " بشرى " للاطمئنان ، لا معجزة للتحدى ( الانفال 10 = آل عمران 126 ) . اختلاف فى رؤيا الغيب ، و اختلاف فى رؤية المشهود : " و اذ يريكموهم إذ التقيتم فى أعينكم قليلا ، و يقللكم فى أعينهم ، ليقضى الله أمرا كان مفعولا " ( الانفال 44 ) . لكنه فى ( آل عمران ) يقول : " قد كان لكم آية فى فئتين التقتا : فئة تثاتل فى سبيل الله ، و أخرى كافرة : يرونهم مثليهم 1 رأى العين . و الله يؤيد بنصره من يشاء ، إن فى ذلك لعبرة لأولى الأبصار " ( 13 ) – فهل كانت الآية فى رؤية العدو " قليلا " ، أم فى رؤيته " مثليهم لعبرة العين " ؟ يتطور التفسير الصوفى مع تطور الأحوال ، و ليس فى ذلك شىء من المعجزة . و لو رأى القرآن نفسه فى نصر بدر معجزة لتحدى بها المشركين كلما أحرجوه بمعجزة . و لو رأى العرب فيها معجزة لما ظلوا يحرجون النبى بمعجزة ، بمثل هذا التحدى الصارخ : " و اذ قالوا : اللهم ، إن كان هذا هو الحق من عندك ، فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم " ( الانفال 32 ) . و لو كان نصر بدر معجزة ، لما تواعدوا على اللقاء فى بدر الأخرى و فى أحد . أجل لقد كان نصر بدر " فرقانا " بين الحق و الباطل ، لكن هذا " الفرقان " لا يحمل شيئا من معانى الحادث المعجز ، و لا من أشراط المعجزة . نصر بدر بطولة ، لا معجزة . 2 – يوم " الزلزال الشديد " فى غزوة الخندق كانت غزوة المشركين للمدينة و الرسول ، فى يوم الخندق ، ذروة هجوم أهل الشرك ، انتقل بعدها المسلمون الى الهجوم حتى فتح مكة . لذلك رأى بعضهم أيضا فى معركة الخندق معجزة إلهية تؤيد الرسالة و الدعوة . لكن ليس فى الحادث شىء من أركان المعجزة ، 1 فسره البيضاوى : " يرونهم مثليهم : يرى المشركون المؤمنين مثلى عدد المشركين و كان قريب ألف ، أو مثلى عدد المسلمين و كانوا ثلاثماية و بضعة عشر . و ذلك كان بعد ما " قللهم " فى أعينهم حتى اجترأوا عليهم و توجهوا اليهم . فلما لاقوهم كثروا فى أعينهم حتى غلبوا مددا من الله تعالى للمؤمنين . أو يرى المؤمنون المشركين مثلى المؤمنين و كانوا ثلاثة أمثالهم " . فالتفسير الثانى " ثلاثة أمثالهم " ينقض حرف القرآن " مثليهم " و التفسير الأول هو الصحيح ، و تخريج البيضاوى للتعارض بين " يقللكم " و بين " يرونهم مثليهم " متهافت لا يستقيم . بل " هناك ابتلى المؤمنون و زلزلوا زلزالا شديدا " ( الأحزاب 11 ) . و لم يتم النصر بمعركة ، بل تم بفشل حصار المشركين للمدينة . لقد فوجىء المشركون ، فى زحفهم على المدينة ، بالخندق الذى أشار بحفره سلمان الفارسى " النصرانى " . و لا عهدة للعرب بمثلها . فوقفوا تجاهه جامدين . و تم الفشل بهذين السببين : " يا أيها الذين آمنوا ، اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود ، فأرسلنا عليهم ريحا ، و جنودا لم تروها ، و كان الله بما تعلمون بصيرا " ( 9 ) . علق عليها الاستاذ السمان 1 : " إن نزول الملائكة ، فى حد ذاته ، لا يعتبر معجزة . لأن المعجزة أمر خارق للعادة يجريه الله على يدى رسوله ، و تراه العين للرد على التحدى ، أو للدليل على أن رسالته حق . و الملائكة لم يرها الكفار حتى تكون آية عليهم ، و لم يرها المسلمون حتى تكون تثبيتا لإيمانهم . و لذلك أكد القرآن فى الآية : ( و أيدكم بجنود لم تروها ) . " و الريح التى أرسلها الله فى يوم الخندق ، من الحوادث العادية التى يمكن حدوثها فى أية ساعة ، و ان كان الله عز و جل جعلها فى هذه المرة وسيلة لهزيمة الأعداء " . لكن السبب الأكبر ، بعد حفر الخندق ، فى فشل الغزو كانت مهارة محمد فى الايقاع بين الاحزاب ، كما نقلته سيرة ابن هشام على ابن اسحاق . فلما جاءه نعيم بن مسعود مسلما ، أوصاه أن يكتم إسلامه ورده الى المشركين يوقع بينهم . و قال له : " إنما أنت فينا رجل واحد فخدل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة " . فقام نعيم الى يهود بنى قريضة ثم الى قريش و عطفان فأخلف بينهم . و قد كانوا توافقوا على أن يطبقوا من داخل و من خارج على المسلمين ، ففشلت خطتهم . و أفلح محمد فى فصم عرى التحالف بين الاحزاب المجتمعة فتخاذلت و ارتحلت . و كان شعار محمد فى هذه الدبلوماسية : " الحرب خدعة " . و هذا حديث صحيح متواتر رواه الشيخان من حديث جابر و أبى هريرة . لكن الخدعة فى الحرب ليست معجزة . فليس فى فشل الغزو حادث خارق للعادة ، و لا سبق به التحدى دليلا على النبوة ، و لا هو سالم من المعارضة . كان براعة من محمد لا معجزة من الله . و قد يكون فى الريح أو الجدرى عناية إلهية ظرفية ، لا معجزة للتحدى و إثبات النبوة . 1 محمد ، الرسول البشر ، ص 84 . 3 – الفتح الأكبر ، فتح مكة ، عاصمة الشرك العربى بعد فتح مكة نزلت سورة ( الحديد ) بنشيد النصر ، و جاء فيها : " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط ، و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد ، و منافع للناس ، و ليعلم الله من ينصره و رسله بالغيب . إن الله قوى عزيز " ( 25 ) . لقد أخذ القرآن منذ نصر بدر يرى فى " الحديد " أى السيف آيته الكبرى . فهل فى فتح مكة حادث خارق للعادة ، سبق به التحدى ، و هو سالم عن المعارضة ، حتى يصح ما زعمه بعضهم أنه معجزة النبوة والرسالة؟ قال محمد الغزالى 1 : " ان فتح مكة جاء عقب ضربة خاطفة . و لقد أفلحت خطة حتى يصح ما زعمه بعضهم أنه معجزة النبوة و الرسالة ؟ المسلمين فى تعمية الأخبار على قريش ، حتى بوغتوا فى عقر دارهم بعشرة آلاف محارب ، فلم يجدوا مناصا من الاستسلام ، فما استطاعوا الجلاد ، و لا استجلاب الأمداد " . لكن زعماء مكة كانوا قد أدركوا الخطر . فخرج العباس بن عبد المطلب ، عم النبى ، يريد الاسلام ، و خرج زعيم مكة أبو سفيان ، ابن عم محمد ، و عبد الله بن أبى أمية ، ابن عمة محمد ، يستدركان الأمور . فاستعرض أبو سفيان معسكر المسلمين فوجد أن لا طاقة لهم بحرب الرسول ، فاستسلم و أسلم . و اجتمع بالعباس فقال له : " و الله يا أبا الفضل ، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما . قال العباس : يا أبا سفيان ، إنها النبوة ! قال : فنعم إذن " ! فأبو سفيان يرى فى المشهد ملكا لا نبوءة . و سألوا محمدا الأمان لقريش ، فقال رسول الله ، كما فى حديث صحيح : " من دخل دار أبى سفيان فهو آمن ! و من دخل المسجد فهو آمن ! و من أغلق عليه بابه فهو آمن " ! فذهب أبو سفيان ، قبل دخول الجيش مكة ، ينادى فيها : يا معشر قريش ، هذا محمد جاءكم بما لا قبل لكم به ! فتخاذل القوم . ثم أخذ أبو سفيان يصيح بالناس : " من دخل دار أبى سفيان فهو آمن ! و من دخل المسجد فهو آمن ! و من أغلق عليه بابه فهو آمن " ! – فتفرق الناس إلى دورهم و إلى المسجد . فدخل جيش المسلمين مكة آمنين مطمئنين ، بدون . ان فتح مكة كان كثرة جيش ، و براعة مناروة ، و تخاذل قادة أمام حرب أهلية ، و عبقرية عسكرية من محمد ، لا معجزة من الله . 1 فقه السيرة ، ص 419 . هذا هو الواقع التاريخى . فليس الحادث فى نفسه معجزا . لكنه كان فى معناه عظيما : انه الفتح الأكبر الذى فتح الحجاز و الجزيرة للدين الجديد . فليس فى هذا الفتح الأكبر شىء من أركان المعجزة : فلا الحادث فى ظروفه خارق للعادة ، و لا تحدى به النبى دليلا على نبوته ، و لا هو سالم عن المعارضة فى تاريخ الفتوحات . و كلام الزعماء المسلمين الجدد فى هزيمة حنين يدل على أنهم لم يروا فى فتح مكة معجزة . 4 – معركة حنين وصفها القرآن بقوله : " لقد نصركم الله فى مواطن كثيرة ، يوم حنين ، إذ أعجبتكم كثرتكم ، فلم تغن عنكم شيئا ، و ضاقت عليكم الأرض بما رحبت . ثم وليتم مدبرين . ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين ، و أنزل جنودا لم تروها ، و عذب الذين كفروا ، و ذلك جزاء الكافرين " ( التوبة – براءة 25 – 26 ) . تجمعت قبائل غطفان من الاعراب ، و قبيلة ثقيف من الطائف ، للذود عن نفسها فى وجه ملك النبوة الزاحف . و اجتمعوا فى وادى حنين ، يستقبلون جيشا يقوقهم عددا و عدة . ذلك أن المسلمين بلغوا اثنى عشرألفا ، بمن انضم إليهم من أهل مكة . فلما توغلت المقدمة فى الوادى أمطرهم المحاصرون على جنباتة وابلآ من السهام.فارتاع المسلمون وولوا الأدبار .وركبت الإبل بعضها بعضا وهى مولية بأصحابها تطاردها خيل ثقيف وهوازن. حينئذ انفجر ما فى القلوب . فقال أبو سفيان : لا تنتهى هزيمتهم دون البحر ! و قال كلدة بن الجنيد : ألا بطل السحر اليوم ! فأجابه صفوان بن أمية : صه ، فض الله فاك ، فوالله لئن يربنى رجل من قريش أحب إلى من أن يربنى رجل من هوزان . فالقصة فى نظرهم دولة لا نبوة . فى هذه اللحظة التى فيها يتقرر المصير ، صعد محمد شرفا يحف به بعض المهاجرين و بعض أهل بيته و صاح : " هلموا إلى ! أن رسول الله ! أنا محمد بن عبد الله ! " . ثم أمر العباس أن ينادى بصوته الجهير : يا معشر الانصار ، يا أصحاب البيعة يوم الحديبية ، فأدركه بعض الأبطال يشق الموج المتلاطم ، و قد اختلط القوم و ساد الهرج و المرج فى قعر الوادى. ووسط هذه الفوضى أنقذ محمد و من حوله الموقف . فارتد المسلمون على المشركين و قد صاروا جمعيا فى وسط الوادى ، فهزموهم شر هزيمة . و جاء وقت اقتسام الغنائم الكثيرة . فأجزل محمد العطاء لزعماء مكة لتأليفهم ، فسموا " المؤلفة قلوبهم " و خمس الرسول وزعه على الأعراب . فارتاحوا الى الاسلام و مكاسبه . إنه لموقف بطولى فى الشجاعة و الكرم ! و لكن هل فيه معجزة ؟ قال الجلالان : " أعجبتكم كثرتكم : كانوا أثنى عشر ألفا ، و الكفار أربعة آلاف . فانهزم المسلمون أولا ، و ثبت النبى صلعم على بغلته البيضاء ، و ليس معه غير العباس و أبى سفيان . فردوا الى النبى لما نداهم العباس بإذنه " . موقف بطولى لكن ليس فيه من خارق المعجزات شىء . قال البيضاوى : " و أنزل جنودا لم تروها – بأعينكم ، أى الملائكة ، و كانوا خمسة آلاف ، أو ثمانية ، أو ستة عشر ، على اختلاف الأقوال " . هذا أمر غيبى غير مشهود ، فلا يصح التحدى به . و ليس الملائكة بحاجة الى مثل هذا العدد الموهوم للقضاء على بشر ! فالنبى ، مثل كل مؤمن ينظر الى الأمور نظرة صوفية ، يرد كل شىء فى سيرته الى الله . و هذه المواقف البطولية يرى فيها يد الله ، و لكن ليس فى النص القرآنى ، و لا فى الواقع التاريخى ، من ركن من أركان المعجزة . و القول الفصل فى معنى التأييد الربانى للنبى فى تلك المواطن الكبرى من الجهاد و القتال هو نظر القرآن المتواتر فيها : " فأرسلنا عليهم ريحا و جنودا لم تروها " ( الأحزاب 9 ) ، " و أنزل جنودا لم تروها " ( التوبة 26 ) ، " و أيده بجنود لم تروها " ( التوبة 40 ) . إن تأييد الله لمحمد كان " بجنود لم تروها " . فهذا التواتر فى التعبير يدل على رؤية صوفية " للتأييدات الربانية " فى سيرته و جهاده ، لا إلى معجزة مشهودة تحدى بها فوقعت كما تحدى بها . لذلك ليس فى النصر بمواطن كثيرة من شروط المعجزة ، و لا من معناها ، شىء . فنص القرآن القاطع " لم تروها " يقطع عليها سبيل المعجزة . ثانيا : فلسفة القرآن فى الجهاد و النصر و الفتح و هكذا فالنصوص القرآنية فى البطولات الجهادية ، حيث " نصرهم الله فى مواطن كثيرة " ، تشهد من ذاتها أنه لا معجزة فيها تحدى بها النبى للبرهان على صحة رسالته و صدق دعوته 1 – لكن ميل القرآن إلى إسناد كل عمل إلى الله ، و هو المصدر و المعاد ، حمل بعض القوم الى رؤية معجزات فى موقف البطولات . و فلسفة القرآن فى الجهاد و النصر و الفتح تشابهت عليهم . فالقرآن نفسه أخذ نصر بدر ، بعد عجز محمد عن كل معجزة حسية ، و بعد نسخ اعجاز القرآن كمعجزة ( آل عمران 7 ) يعتبر آية " الحديد " أى السيف ( الحديد 25 ) آيته الكبرى فى رسالته . لكن " من الجدير بالتنبيه أن آيات وقائع الجهاد النبوى قد نزلت بعد الوقائع ، مما يسوغ القول : ان الوقائع قد كانت بأمر النبى صلعم و رأيه ، و بدون وحى قرآنى كما هو شأن أكثر احداث السيرة النبوية " 1 . و هذا يخرج وقائع الجهاد من شروط المعجزة : التحدى بها قبل وقوعها . كانت الدعوة بمكة ، على طريقة الأنبياء الأولين ، " بالحكمة و الموعظة الحسنة " ، فصارت الدعوة بالمدينة عسكرية بالجهاد . و تشريع الجهاد مع المبدأ : " لا اكراه فى الدين " لا ينسجمان . لنا على ذلك اسلام أهل مكة أنفسهم : فلم يسلموا إلا بالفتح العسكرى . لكن بعد ذلك صح إسلامهم و فتحوا الدنيا للإسلام . 2 – و فلسفة الجهاد فى القرآن ، لا تسمح أن نرى فيه معجزة . يقول : " كتب عليكم القتال ، و هو كره لكم ! و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم ، و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم ، و الله يعلم و أنتم لا تعلمون " ( البقرة 216 ) . فكانوا يكرهون قتال قومهم . و يقول : " فلما كتب عليهم القتال ، إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله ، أو أشد خشية ! و قالوا : ربنا ، لم كتبت علينا القتال ؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب " ؟ ( النساء 77 ) . فلو كان فى الجهاد معجزة إلهية لما خشى بعضهم الناس كخشية الله أو أشد خشية ! و يقول و يكرر : " و الفتنة أشد من القتل " ( البقرة 191 و 217 ) ، " و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين لله " ( البقرة 193 ) . إن اتقاء الفتنة فى الدين يكون بالإيمان لا بالقتال . 1 دروزة : سيرة الرسول 2 : 221 بدأ العهد فى المدينة بقوله : " لا اكراه فى الدين " ( البقرة 256 ) ، و ختمه بعد الفتح مكة بقوله : " براءة من الله و رسوله الى الذين عاهدتم من المشركين : فسيحوا فى الأرض أربعة أشهر ، و اعلموا أنكم غير معجزى الله ، و أن الله مخزى الكافرين ... فإذا انسلخ الأشهر الحرام ، فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ... " ( التوبة – براءة 1 – 2 و 5 ) . فلم يشرع الجهاد للدفاع فقط ، بل للهجوم أيضا و فرض الدين ، حتى التبرئة من كل عهد مع المشركين . فقد فرض القتال ليظهر الاسلام على الدين كله : " هو الذى أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله ، و كفى بالله شهيدا " ( الفتح 28 ) ، " هو الذى أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله ، و لو كره المشركون " ( الصف 9 ، التوبة 33 ) . يتم هذا الاظهار بالجهاد و الفتح ، مع الدعوة بالقرآن . هذه هى فلسفة الجهاد فى القرآن : فهل فيها معجزة إلهية ؟ 3 – ثم يقرن فلسفة الجهاد بفلسفة النصر و الفتح : " يا أيها الذين آمنوا ، هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ؟ تؤمنون بالله و رسوله ، و تجاهدون فى سبيل الله بأموالكم و أنفسكم ... يغفر لكم ذنوبكم و يدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار ، و مساكن طيبة فى جنات عدن . ذلك الفوز العظيم . و أخرى تحبونها نصر من الله ، و فتح قريب . و بشر المؤمنين " ( الصف 10 – 13 ) . الجهاد يفتح السماء ، و يفتح الأرض ، مع غنائم فى الدارين . هذه هى البشرى للمؤمنين . فالغنائم كانت هدفا من أهداف الجهاد ، و تجارة دينية رابحة . و يقول : " و لقد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة : فاتقوا الله لعلكم تشكرون " ( آل عمران 123 ) . فالنصر من الله يرفع الذل عن المسلمين ، و يوجب " الرضاء عليهم بقسمة الغنائم ، أو بتعبير أدق بفرز الخمس منها " لله والرسول 1 ، " و ان الآيات تلهم أن الخلاف فى صدد لغنائم ، إنما كان على فرز الخمس أكثر منه على طريقة التوزيع و مقداره ، لأن الكلام فيها مصبوب على ذلك ، و أكثر ما جاء فى صدد نصر الله و تأييده قد استهدف تشريع الخمس و ايجاب قبوله و الرضاء به " . و يظل الفىء كله – أى ما استحوذوا عليه بدون قتال – الرسول وحده . 1 دروزة : سيرة الرسول 2 : 267 ، 271 و يقول : " لقد نصركم الله فى مواطن كثيرة " ( التوبة 25 ) . لكن نصر الله لهم مقرون بنصرهم لله : " إن تنصروا الله ينصركم " ( 47 : 7 ) ، " و لينصرن الله من ينصره " ( 22 : 40 ) ، " و ليعلم الله من ينصره " ( 57 : 25 ) . و الفتح مقرون بمغفرة ذنوب النبى : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك ز ما تأخر " ( الفتح 1 – 2 ) . مهما كان الذنب المتقدم و الذنب المتأخر ، فإن الغفران منه مقرون بالفتح : فهل فى الفتح من ذنب يقتضى الغفران ؟ و فى ( اسباب نزول ) آية التوبة : " و منهم من يقول : ائذن لى و لا تفتنى " ( 49 ) نقل السيوطى : " أخرج الطبرانى عن ابن عباس أن النبى صلعم قال : أغزوا تغنموا بنات الأصفر ! فقال ناس من المنافقين : إنه ليفتنكم بالنساء ! فنزلت " . و آخر ما نزل من القرآن على قول بعضهم سورة النصر : " إذا جاء نصر الله و الفتح ، و رأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا ، فسبح بحمد ربك ، و استغفره ، إنه كان توابا " . نفهم الأمر بالتسبيح لله إذا جاء نصر الله و الفتح ، لكن لا نفهم الأمر بالاستغفار بعد نصر الله و الفتح ؟ و هذا الأمر بالاسغفار ، بعد النصر و الفتح ، له فى آخر القرآن ، يجعل آية الحديد و السيف مشبوهة . فليس فى فلسفة الجهاد و النصر و الفتح من معجزة إلهية : " قل : يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم " ( السجدة 29 ) . أجل إن الفتوحات النبوية كانت بطولات : لكن " التأييدات الربانية " فيها لم تكن معجزات . و المبدأ القرآنى القاطع أن المعجزات منعت عن محمد منعا مبدئيا وواقعيا ، يمنع أن نرى فى إشارة القرآن إلى تلك " التأييدات الربانية " معجزة . قال الاستاذ دروزة 1 : " أما التأييدات الربانية للنبى صلعم و المسلمين التى تضمنت اخبارها آيات قرآنية عدة ، مثل آيات سورة الانفال ( 9 – 13 ) و مثل الذى جاء فى سورة الاحزاب ( 9 ) فإنها ، كما هو ظاهر من نصوصها و روحها ، لا تدخل فى عداد معجزات التحدى . و بالتالى فإنها ليس من شأنها نقض الموقف السلبى العام الذى تمثله الآيات القرآنية " . 1 سيرة الرسول 1 : 229 – 230 فليس فى الوقائع الجهادية ، و لا فى " التأييدات الربانية " للنصر فى الحرب ، من معجزة أعطيت برهانا على صحة النبوة و الدعوة . و الواقع القرآنى المتواتر أن السور التى تذكرها نزلت بعد الوقائع الجهادية ، فارتفعت بذلك صفة التحدى بالمعجزة . إن الجهاد آية محمد ، و فيه تأييد ربانى ، لكن ليس فيه معجزة من الله تشهد للنبوة . |