بحث خامسالآيات البينات التى يذكرها القرآنلقد ثبت لنا أنه ليس فى القرآن ، أى فى السيرة و الدعوة ، من معجزة حسية ، " و من المتأكد انه ليس لهم سند من قرآن صريح أو حديث صحيح " 1 على ادعاء معجزة لمحمد . أمام هذا الواقع القرآنى المذهل – و المعجزة دليل النبوة الأوحد – يتساءل بعضهم : كيف ينكرون على القرآن و نبيه المعجزات ، و هو الذى يصرح بتواتر : " و لقد أنزلنا اليك آيات بينات " ( البقرة 99 ) . و يردد ذلك فى كل سورة ( البقرة 118 و 151 ، الانعام 4 و 5 و 25 و 49 و 55 ، الاعراف 182 ، يونس 15 و 20 ، الأنبياء 37 ، الانفال 31 ، الحج 72 الخ ) . أجل يردد القرآن أن محمدا أوتى " آيات بينات " ، لكنها آيات قرآنية خطابية ، لا معجزات حسية كالأنبياء الأولين . ففى القرآن ، ان تعبير " آية " ، " آيات " هو من كلماته المتشابهة ( آل عمران 7 ) . فهو يأخذ تعبير " آيات " بمعان ثلاثة : المعنى الأول عبارة عن أقوال الكتاب و القرآن . 1 محمد عبد الله السمان : محمد ، الرسول البشر ، ص 21 . المعنى الثانى عبارة عن خوارق الكون و عجائب المخلوقات . المعنى الثالث عبارة عن المعجزات الحسية . و هى " الآيات " المعجزات حصرا . و يظهر المعنى المقصود من القرائن اللفظية و المعنوية القريبة و البعيدة . و القرآن كله شاهد عدل على أن " الآيات البينات " التى ينسبها القرآن لنفسه و لنبيه هى آيات خطابية لا معجزات حسية ، بسبب موقفه السلبى العام من كل معجزة ، و بسبب تصريحه القاطع أن المعجزات منعت عن محمد منعا مطلقا : " و ما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون " ( الاسراء 59 ) .
ففى سورة ( البقرة ) يأتى التعبير " آيات بينات " بالمعانى الثلاثة . فهو قد
يعنى خوارق الطبيعة : " إن فى خلق السموات و الأرض ... لآيات لقوم يعقلون " (
164 ) . و قد يعنى التعبير عند إسناده لموسى و عيسى معنى المعجزات : " و لقد
جاءكم موسى بالبينات " ( 92 ) أى " المعجزات كالعصا و اليد و فلق البحر " (
الجلالان ) ، و هو مثل قوله : " سل بنى اسرائيل كم آتيناهم من آية بينة " (
211 ) . كذلك بالنسبة إلى عيسى : " و آتينا عيسى ابن مريم البينات ، و أيدناه
بروح قدس " ( 87 و 253 ) . لكن إذ ينسب " الآيات " إلى محمد ، فالقرآن يشير
الى أنها آيات خطابية ، كما فى هذا الجدول : ( فى شرعة الطلاق ) " و لا
تتخذوا آيات الله هزوا ، و اذكروا نعمة الله عليكم و ما أنزل عليكم من الكتاب
و الحكمة يعظكم به " ( 231 ) ، " و قال الذين لا يعلمون ( المشركون ) : لولا
يكلمنا الله – أو تأتينا آية ( معجزة ) ؟ - كذلك قال الذين من قبلهم مثل
قولهم ، تشابهت قلوبهم : قد بينا الآيات لقوم يؤمنون ، إنا أرسلناك بالحق
بشيرا و نذيرا " ( 118 – 119 ) : ففى التحدى و فى الجواب يظهر معنيان لكلمة "
آيات " ، فهم يتحدونه بمعجزات ، فيجيب ببيان آيات الحق بشيرا و نذيرا . و
رسالة محمد كلها تظهر فى قوله : " كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم
آياتنا ، و يعلمكم الكتاب و الحكمة ، و يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون " (
151 ) . فالآيات البينات عند محمد كذلك فى سورة ( آل عمران ) نجد المعانى الثلاثة لتعبير " الآيات " . انها خوارق الطبيعة : " إن فى خلق السماوات و الأرض ، و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولى الألباب " ( 190 ) . إنها معجزات الأنبياء الأولين : " قال ( زكريا ) : رب اجعل لى آية ! – قال : آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " ! ( 41 ) ، و الآية ، أو الآيات هى معجزات عيسى : " إنى قد جئتكم بآبة من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير ... " ( 49 ) . لكن بالنسبة إلى محمد فآياته خطابية : " منه ( القرآن ) آيات محكمات هن أم الكتاب ، و أخر متشابهات " ( 7 ) ، " قد بينا لكم الآيات " ( 118 ) ، " و كيف تكفرون و أنتم تتلى عليكم آيات الله و فيكم رسوله ... " ( 101 ) ، و رهبان عيسى " يتلون آيات الله آناء الليل و هم يسجدون " ( 113 ) . و حملته المتواصلة على الذين " كفروا بآيات الله " ( 4 ) : " من يكفر بآيات الله " ( 19 ) ، " يكفرون بآيات الله " ( 21 و 112 ) ، " تكفرون بآيات الله " ( 70 و 98 ) ، " لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا " ( 199 ) ، هى حملة على الكافرين بآيات خطابية ، لا بآيات المعجزات الحسية . كذلك فى سورة ( الانعام ) نجد المعانى الثلاثة : فالآيات هى عجائب المخلوقات : " الحمد لله الذى خلق السماوات و الأرض ... و ما تأتيهم من آية من ربهم إلا كانوا عنها معرضين " ( 1 – 4 ) ، " إن الله فالق الحب و النوى ، يخرج الحى من الميت ... و هو الذى جعل لكم النجوم لتهتدوا بها ... و هو الذى أنزل من السماء ماء ... إن فى ذلكم لآيات لقوم يؤمنون " ( 95 – 99 ) .. و الآيات هى أيضا المعجزات التى يتحدون محمد بها : " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة ، أو يأتى ربك ، أو يأتى بعض آيات ربك – يوم يأتى بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها " ( 158 ) ، فيعجز عنها . " و ان كان كبر عليك أعراضهم ، فإن استطعت أتن تبتغى نفقا فى الأرض أو سلما فى السماء ، فتأتيهم بآية " ! ( 35 ) بسبب " إنما الآيات عند الله " ( 109 ) . لكن بالنسبة إلى محمد فالآيات البينات هى خطابية : " كذلك نصرف الآيات " ( 105 ) ، فهو من الذين " يقصون عليكم آياتى " ( 130 ) ، فانظر " كيف نصرف الآيات " ( 46 و 65 ) . و يحمل على الذين " يخوضون فى آياتنا " ( 68 ) ، " يصدفون عن آياتنا " ( 157 ) ، " كذبوا بآياتنا " ( 39 ) ، " و الذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب " ( 49 ) ، يتبعون " أهواء الذين كذبوا بآياتنا " ( 150 ) ، " عن آياته تستكبرون " ( 93 ) . لا معجزة عند محمد ، بل دعوة ، لذلك " إذا جاءتهم آية ( خطابية ) قالوا : لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله " ( 124 ) . كذلك فى سورة ( الاعراف ) نجد المعانى الثلاثة . يذكر عجائب المخلوقات و يختم بقوله : " كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون " ( 54 – 58 ) ، و يذكر عناية الله بآدم و يقول : " ذلك من آيات الله " ( 26 ) . و بالنسبة إلى الأنبياء الأولين يأتى تعبير ( الآيات " بمعنى أقوال الله : " يا بنى آدم ما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتى ، فمن اتقى و أصلح فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون ، و الذين كذبوا بآياتنا و استكبروا عنها ، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " ( 35 – 36 ) ، و بمعنى معجزات الأنبياء : " فأرسلنا عليهم الطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم آيات مفصلات ، فاستكبروا و كانوا قوما مجرمين " ( 133 ) ، " ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون و ملئه " ( 103 ) . و بيناته آياته ( 105 – 106 ) . و سحرة مصر بعد معجزات موسى يخاطبون فرعون : " وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا " ( 126 ) . لكن بالنسبة إلى محمد " فالآيات " التى يتحدونه بها هى معجزات : " و إذا تأتهم بآية ، قالوا : لولا اجتبيتها " ( 203 ) . فيجيبهم بآيات الأقوال ، كالقصص : " إن الذين كذبوا بآياتنا و استكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء " ( 40 ) ، " و الذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ... أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ، إن هو إلا نذير مبين " ( 182 – 184 ) ، و يرد على التحدى بمعجزة ( 203 ) بهذا القرآن : " قل : إنما أتبع ما يوحى إلى من ربى : هذا بصائر من ربكم و هدى و رحمة لقوم يؤمنون " ( 203 ) . فمعجزات محمد آيات أقوال ، ى آيات أعمال خارقة العادة . كذلك فى سورة ( يونس ) ترد كلمة " الآيات " بمعناها الثلاثى . انها خوارق الكون : " إن فى اختلاف الليل و النهار ، و ما خلق الله فى السموات و الأرض ، لآيات لقوم يتقون " ( 6 ) . و يفضل آيات الخليقة و يختم بقوله : " يفصل الآيات لقوم يعلمون " ( 5 ) . و إنها أقوال " الكتاب الحكيم " ( 1 ) و القرآن الكريم : " و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات ، قال الذين لا يرجون لقاءنا : ائت بقرآن غير هذا ، أو بدله ... قل لو شاء الله ما تلوته عليكم " ( 15 – 16 ) . فليس عند محمد سوى أقوال الكتاب والقرآن ، لذلك يتحدونه بمعجزة حسية : " و يقولون : لولا أنزل عليه آية من ربه ! – فقل : إنما الغيب لله ! فانتظروا إنى معكم من المنتظرين " ( 20 ) . و يحمل على الذين " عن آياتنا غافلون " ( 7 ) الذين " لهم مكر فى آياتنا " ( 21 ) ، و عند قصص القرآن هم " عن آياتنا لغافلون " ( 92 ) . فتجد دائما تعبيرا متشابها ، و موقفا سلبيا من المعجزة ، واحدا . كذلك فى سورة ( الاسراء ) تظهر كلمة " الآيات " بمعناها الثلاثى : إنها عجائب الله فى كونه : أسرى بعبده " لنريه من آياتنا " ( 1 ) ، " و جعلنا الليل و النهار آيتين : فمحونا آية الليل و جعلنا آية النهار مبصرة " ( 12 ) . و انها عند الأنبياء الأولين المعجزات الحسية دليل النبوة : " و لقد آتينا موسى تسع آيات بينات " ( 101 ) . فالأنبياء الأولون يجمعون الى الأقوال المعجزة أعمالهم المعجزة . لكن عند محمد ليست " الآيات البينات " سوى أقوال بيانية ، و ذلك لأن المعجزات منعت عنه منعا مبدئيا مطلقا : " و ما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون " (59). ولو كذبوا بها ، فقد كانت براهين الله على صحة نبوتهم. وتحدوا محمداٍٍٍٍ بمثلها ، "وقالوا لن نؤمن بك حتى..." ، فعجز وأقر بالعجز : " قل : سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا " (90 – 93) . و فى سورة ( العنكبوت ) يتحدونه بمعجزة : " و قالوا : لولا أنزل عليه آيات من ربه " ! ( 50 ) ، فيعجز عن التحدى ، و يقدم آيات القرآن : " قل : إنما الآيات عند الله ، و إنما أنا نذير مبين ! أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ؟ " ( 50 – 51 ) ، فيكفر بها المشركون : " و ما يجحد بآياتنا إلا الكافرون " ! ( 47 ) ، و يسعى فى ابطالها اليهود ، " إذا لارتاب بها المبطلون " ( 48 ) ، و لا يقبل بها إلا النصارى أولى العلم ، من دون اليهود الظالمين : " بل هو آيات بينات فى صدور الذين أوتوا العلم ، و ما يجحد بآياتنا إلا الظالمون " ( 49 ) . فحتى آخر العهد بمكة ليس عند محمد من آية سوى القرآن : " أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم " ! ( 51 ) . و فى سورة ( الرعد ) ، إن " الآيات البينات " هى عجائب المخلوقات ، فالله " يدبر الأمر ، يفصل الآيات " ( 2 ) فى كونه العجيب : " إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون " ( 3 ) ، " ان فى ذلك لآيات لقوم يعقلون " ( 4 ) . و هى أيضا المعجزات التى يتحدونه بها : " و يقول الذين كفروا : لولا أنزل عليه آية من ربه " ( 7 و 27 ) ، و يعددون له منها : " و لو أن قرآنا سيرت به الجبال ، أو قطعت به الأرض ! أو كلم به الموتى " ! فيجيب جواب العجز و اليأس : " بل لله الأمر جميعا ! أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا " ! ( 31 ) . تجاه هذا العجز المشهود المعهود ، " يقول الذين كفروا : لست مرسلا ! – قل كفى بالله شهيدا بينى و بينكم ، و من عنده علم الكتاب " ( 43 ) . ان شهادة النصارى أولى العلم له مشبوهة عندهم لأن دعوته من دعوتهم ، و شهادة الله لأنبيائه هى المعجزة ، و ليس عند محمد من معجزة ! و فى سورة ( الحج ) ، " الآيات البينات " ليست المعجزات ، بلا آيات القرآن : " و كذلك أنزلناه آيات بينات ، و إن الله يهدى من يريد " ( 16 ) ، فلا يقبلونها كمعجزة : " و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف فى وجوه الذين كفروا المنكر " ( 72 ) ، " سعوا فى آياتنا معاجزين " ( 51 ) ، لأنها أقوال بيانية ، لا معجزات حسية يطلبونها منه فمثل الأنبياء الأولين . و ظل حتى النهاية لا يعطى فى " الآيات البينات " سوى أقوال بيانية لا معجزات عملية كالأنبياء الأولين : فالمشركون " اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله " ( التوبة 9 ) ، " و يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبأهم بما فى قلوبهم ! – قل : استهزئوا ، إن الله مخرج ما تحذرون ، و لئن سألتهم ليقولن : إنا كنا نخوض و نلعب ! – قل : أبالله و آياته و رسوله كنتم تستهزئون " ؟ ( التوبة 64 – 65 ) . و هكذا فأهل مكة و المدينة و العرب أجمعين لم يروا فى " الآيات البينات " فى القرآن سوى أقوال خطابية من سحر البيان ، لا أعمالا معجزة كالأنبياء الأولين . و القرآن نفسه لا يعطى " آياته البينات " كمعجزات حسية ، بل " تنزيل الكتاب " . لكن تواتر المعانى الثلاثة فى تعبير " الآيات البينات " هو الذى القى عليها شبهة المعجزات . قبل سورة ( آل عمران ) قد يفهم التشابه فى التعبير القرآنى . لكن بعد ان صرح أن فى القرآن آيات " متشابهات " ( آل عمران 7 ) ، ما كان له أن يبقى على التشابه فى معنى " الآيات البينات " . و هذا التشابه المتواتر فى القرآن كله لمعنى " الآيات البينات " ، هو الذى جعل بعضهم يشتبه بين المعجزة و بين الخطابة و البيان . لكن ، ليس فى " الآيات البينات " التى ينسبها القرآن إلى نفسه أو إلى نبيه ، من معجزات حسية كالأنبياء الأولين . إنما هى أقوال فى الهدى و البيان . و ما كان لمحمد أن يأتيهم بمعجزة كالأنبياء الأولين ، فإن المعجزات قد منعت عنه منعا مبدئيا قاطعا ( الاسراء 59 ) . و قد أقر القرآن نفسه بتعجيز محمد و عجزه عن كل معجزة ( الانعام 35 ) . |